السنن المنسية
للشيخ محمد ناصر الدين الألباني
إن الحمد لله نحمده سبحانه وتعالى ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.للشيخ محمد ناصر الدين الألباني
أما بعد:
إن من السنن التي ينبغي تذكير الناس بها تعليمهم إياها ، إنما هي ما كان من السنن المدروسة التي أصبحت عند كثير من الناس نسياً منسياً ، وكأنما رسولنا صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يعلمها الناس مطلقاً أيضاً.
هكذا تموت السنن وتحيى البدع حتى يعود الأمر غريباً ، وكما جاء في كثير من الآثار: (تموت السنن وتحيى البدع فإذا أحييت سنة قيل: أحييت سنة قيل: بدعة ، وإذا انتشرت بدعة قيل: إنها سنة) ولذلك الواجب على كل مسلم حريص على معرفة السنن واتباعها أن يتنبه لها ، فإذا كان من طلاب العلم أحياها ، وإذا كان ليس منهم سأل عنها حتى يحييها ، فيكتب له أجر من أحيى سنة أميتت بعده عليه الصلاة والسلام ، وذلك من معاني الحديث المشهور الذي أخرجه الإمام مسلم وغيره من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أجرهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عملا بها إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أوزارهم شيء}.
هذا الحديث من سن في الإسلام سنة حسنة فإنما يعني من فتح طريقا إلى سنة مشروعة ، لأن كون السنة حسنة أو سيئة يمكن معرفتها إلا من طريق الشرع وليس من طريق العقل ، فلا ينبغي لإنسان أوتي ذرة من إيمان أن يحسن أو يقبح بعقله ، لأن ذلك من مذهب المعتزلة سواء من كان منهم قديماً أو كان من أذنابهم حديثاً ، أولئك هم الذين يُشرعون للناس بأهوائهم وليس بآيات ربهم وبأحاديث نبيهم ، ولذلك كان لزاما على كل داعية حقاً إلى الإسلام أن يُعنى بتذكير الناس ما كان من هذه السنن التي سنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم أصبحت نسيا منسياً كما ذكرت آنفاً.
من هذه السن التي أصبحت غريبة عن المصلين فضلاً عن غيرهم ، والتي عمت وطمت البلاد الإسلامية التي طفت فيها أو جئت إليها ، من هذه السنن سنة الصلاة إلى سترة ، وأقول سنة على اعتبار أنها سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لكل مصل ، ولست أعني أنها لا تجب ، ذلك لأن السنة لها اصطلاحان:
أحدهما: اصطلاح شرعي لغوي هو
الآخر: اصطلاح فقهي.
السنة في اللغة العربية التي جاء بها الشرع الكريم هي المنهج والسبيل الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم هي تنقسم إلى ما هو فرض وإلى ما هو سنة في الاصطلاح لفقهي.
واصطلاح الفقه كما تعلمون يعني بالسنة، ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وهي ليست بالفرض، وقد تنقسم إلى سنة مؤكدة وإلى سنة مستحبة، هذا هو الفرق بين السنة الشرعية وبين السنة الاصطلاحية الفقهية، أي أن السنة في لغة الشرع تشمل كل الأحكام الشرعية، فهي الطريق التي سار عليها نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وتقسيم ذلك إنما يُفهم من نصوص الكتاب والسنة.
أما السنة الفقهية فهي محصورة مما ليس بفريضة، رغم ذلك إلى ما كنت في صدد التنبيه عليه والتذكير به من السنن التي أماتها الناس وصارت غريبة أمام الناس، وكلما تحدثنا بها جرى جدلٌ طويلٌ حولها، وما ذاك إلا لعدم قيام أهل العلم بواجبهم من تعليم الناس وتبليغهم وعدم كتمانهم للعلم إلا من شاء الله تبارك وتعالى وقليل ما هم، هؤلاء القليل هم الغرباء الذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي ربما قد سمعتموه قليلاً أو كثيراً وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء} وهناك روايتان أو حديثان آخران جاء فيهما بيان أو صفة هؤلاء الغرباء الذين لهم طوبى وحسن مآب، جاء في أحدهما أنهم قالوا: {يا رسول الله من هم هؤلاء الغرباء؟ قال: هم أناس قليلون صالحون بين ناس كثيرون من يعصيهم أكثر ممن يُطيعهم}، ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين من يعصيهم أكثر ممن يُطيعهم، وأنتم تشاهدون وتلمسون لمس اليد هذا الوصف الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الغرباء ـ فإن أكثر الناس لا يعلمون، وإن أكثر الناس لا يتقون، فهؤلاء الغرباء ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، والحديث الآخر: سئل عليه الصلاة والسلام أيضاً عن الغرباء فأجاب بقوله صلى الله عليه وسلم: {هم الذين يُصلحون ما أفسد الناس من سنتي من بعدي}.
وهنا الآن موضوعنا، فإن من السنن التي أفسدها الناس بإعراضهم عن العمل بها حتى كثير من أئمة المساجد الذين ينبغي ويُفترض فيهم أن يكونوا قدوة للناس، قد أعرضوا عن هذه السنة بالمعنى الشرعي، وصاروا يصلون في كثير من الأحيان في منتصف المسجد ليس بين أيديهم سترة، وقليل جداً لأنهم من هؤلاء الغرباء الذين نراهم يضعون بين أيديهم سترة يصلون إليها، لا يجوز للمسلم إذا دخل المسجد وأراد أن يصلي تحية المسجد مثلاً أو سنة الوقت، أن يقف حيثما تيسر له الوقوف وصلى وأمامه فراغ، ليس أمامه شاخص يُصلي إليه، هذا الشاخص الذي يصلي إليه هي السترة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيما يتعلق بالصلاة إلى السترة، فكثير منها من فعله عليه الصلاة والسلام وبعضها من قوله، ولعلكم سمعتم أو قرأتم حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد إلى المصلى، والمصلى كما تعلمون هو غير المسجد، عبارة عن أرض فسيحة اتُخذ لإقامة صلاة الأعياد فيها وللصلاة على الجنازة فيها، ففي هذا المكان أو المسمى بالصلاة عادة لا يكون هناك جدار ولا سارية عمود ولا أي شيء يمكن أن يتوجه إليه المصلي وأن يجعله سترة بين يدي صلاته، ففي الحديث المشار إليه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى صلاة العيد خرج ومعه العنزة – وهي عصاة لها رأس معكوف- فيغرس هذه العصا على الأرض ثم هو يصلي إليها}.
هكذا كان عليه الصلاة والسلام إذا سافر أو خرج إلى العراء فحضرته الصلاة صلى إلى سترة، فقد تكون هذه السترة هي عَنزَته، وقد تكون شجرة يصلي إليها، وكان أحيانا يصلي إلى الرَّحل، وهو ما يُرمى على ظهر الجمل يضعه بين يديه ويصلي إليه.
هذا هو السترة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إليها في كل صلواته ، فنرى المسلمين اليوم قد جهلوا هذه السنة وأعرضوا عن فعلها ، وإذا كنتم تلاحظوا فيما بعد وادخلوا أي مسجد فترى الناس هنا وهناك يصلون لا إلى سترة ، هذا مع أن فيه مخالفة صريحة لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: {صلُّا كما رأيتموني أصلي} ففيه مخالفة أصْرح من ذلك وأخص من ذلك وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة ، لا يقطع الشيطان عليه صلاته}.
وفي رواية أخرى هما روايتان يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا صلى أحدكم فليدنو من سترته لا يقطع الشيطان عليه صلاته} ففي هذين الروايتين الأمر لأمرين اثنين:
الأمر الأول: أن المسلم إذا قام يصلي فيجب أن يصلي إلى شيء بين يديه.
والأمر الثاني: أن لا يكون بعيدا عن هذه السترة ، وإنما عليه أن يدنو منها ، هذا الدنو قد جاء تحديده في حديث سها بن سعد رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري في صحيحه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى كان بينه وبين سترته ممرُّ شاةٍ} ممر شاة تكون عادة في عرض شبر أو شبرين بكثير ، وإذا سجد المصلي فيكون الفراغ الذي بينه وبين السترة مقدار شبر أو شبرين ، هذا هو الدنو الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الثاني: {إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدنو منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته} فإذا صلى المسلم في هذا المسجد أو في غيره فهو على خيار ، إن شاء أن يتقدم إلى الجدار القبلي فيجعل بينه وبين قيامه نحو ثلاثة أذرع ، بحيث إذا سجد لا يكون بعيداً عن الجدار إلا بمقدار المذكور آنفا شبر أو شبرين.
كما أن بعض الناس يُبالغون في التقرب إلى السترة حتى ليكاد أحدهم أن ينطحَ الجدار برأسه ، هذا خطأ مخالف للحديث.
الناس كما تفهمون ما بين إفراط وتفريط ، ما بين مُهمل للسترة أو يصلي في منتصف المسجد والسترة بعيدة عنه كلَّ البعد ، وما بين مُقترب إلى سترة حتى لا تجد بين رأسه وبين السترة مقدار ممر شاة.
الصلاة إلى السترة قد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها وجعل بينها وبين المصلي مقدار ممر شاة.
وهنا يأتي السؤال الذي يفرض نفسه كما يُقال ، ما حكم الصلاة إلى السترة؟ وعلى العكس من ذلك ما حكم هذه الصلوات التي يصليها جماهير الناس لا إلى السترة؟
الجواب: حكم هذه الصلاة إلى السترة أنها واجبة.
وكثير ما يقع ويُفاجأ المصلي بمرور شيء ما ، قد يكون كلب أسود أو كلب غير أسود ، الكلب الأسود إذا مر وهو عادة يمرُّ سريعا فقد بطلت صلاة المصلي ، أما إذا كان قد صلى إلى سترة ومرَّ هذا الكلب أو غيره ممن ذكر معه فصلاته صحيحة ، لأنه ائتمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة: {إذا صلى أحدكم فليصلي إلى سترة} ، {إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدنو منها} ، ويترتب على اتخاذ السترة حكم شرعي ينتفي هذا الحكم بانتفاء السترة.
جاء في بعض الأحاديث الصحيحة: {إذا صلى أحدكم فأراد أحدٌ أن يمر بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان} ، وهذا معناه أنه إذا كان يصلي لا إلى سترة فليس له أن يدفعه فضلا عن أنه ليس له أن يقاتله، هذا وذاك من آثار اتخاذ هذه السترة أو الإعراض عنها.
وأخيراً لابد من التذكير بأمر يخالف هذه الأحاديث كلها ، وهذا الأمر خاص في بيت الله الحرام ، ثم سرى إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، إن عامة الناس حتى بعض الخاصة يذهبون إلى أن السترة في المسجد الحرام غير واجبة ، حكم خاص زعموا في المسجد الحرام ، ثم صارت هذه العدوة إلى المسجد النبوي الكريم ، ينبغي أن تَعلموا أن الحكم السابق في كل الأحاديث التي مضت تشمل المسجد الحرام كما تشمل مساجد الدنيا ، وإنما صارت فكرة استثناء المسجد الحرام من وجوب السترة من حديث أخرجه النسائي في سننه وأحمد في مسنده وغيرهما: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوماً في حاشية المطاف والناس يمرون بين يديه} هذا الحديث أولاً لا يصح من حيث إسناده ، وإن فيه جهالة كما هو مذكور في بعض كتب التخريجات المعروفة ومنها أذكر (إرواء الغليل)ولو صح فليس فيه دليل على أن المرور كان بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام ، فقد ذكرنا آنفاً أن المرور الممنوع إنما هو بين المصلي وبين موضع سجوده ، ولم يذكر في هذا الحديث الذي يحتجون به على أن المصلي في المسجد الحرام لا يجب عليه أن يتخذ سترة ، لو صح هذا الحديث كان يُمكن أن يكون حجة لو صرَّح بأن الناس كانوا يمرون بين يديه عليه السلام ، أي بينه قائماً وبين موضع سجوده ، هذا لم يذكر في هذا الحديث ، ولذلك لا يجوز الاستدلال به من الناحيتين :
1- من ناحية الرواية
2- ومن ناحية الدراية
- أما الرواية فلضعف إسنادها.
- وأما الدراية فلعدم دلالة الحديث لو صح أن المرور كان بينه عليه السلام وبين موضع سجوده ، ولذلك فالواجب على كل مصل أن يستتر أيضا ولو في مسجد الحرام ، نحن نشعر بسبب غلبة الجهل لهذه المسألة بصورة عامة ، وفي غلبة الاحتجاج بهذا الحديث فيما يتعلق بالمسجد الحرام بصفة خاصة ، أن المصلي في المسجد الحرام لكي يتحاشى أخطاء النار للمرور بين يديه ، لأنه ينصرف عن الصلاة وهو في كل لحظة يجب أن يعمل بيده هكذا ويُخاصم الناس ، والناس اليوم في الخصومة ألداء ، ولذلك فينبغي للمسلم أن يبتعد عن المكان الذي يغلب على ظنه أنه مكان متروك الناس يمرون بين يديه لا يابلون بصلاته أية مبالاة ، ولكن عليه أن يصلي في مكان وإلى سترة لكي يحقق أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
أما المسجد النبوي فأمر الناس فيه أعجب لأنه إن كان لهم عذر فيما يتعلق بالمسجد الحرام ، وإن كان هذا العذر عند كرام الناس غير مقبول ، لأنه مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالعجب أن مسجد الرسول منه انطلقت كل هذه الأحاديث التي سمعتموها ، وإذا بها تعطل لدعوى أن مسجد الرسول هو كمسجد الحرام ، فكلاهما مستثنا منهما وجوب السترة ، فإذا عرفتم أن المسجد الحرام حديث الوارد في خصوص عدم اتخاذ السترة ضعيف ، ولو صح لم يدل على المقصود ، فاعلموا أن المسجد النبوي لا شيئا يُلحقه بالمسجد الحرام ، بل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة} {إذا صلى أحدكم فليدنو من سترته يقطع صلاة أحدكم إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل المرأة والحمار والكلب الأسود} ، ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الأحاديث وما تستره بالجدار وجعل بينه وبين سترته ممر شاة إلا في مسجده ، هذا من غربة الإسلام وإماتة السنن مع ممر الزمان.
ولذلك أحببت أن أذكركم بأني كلما دخلت مسجدا كهذا أو غيره أرى الناس يصلون صلاة لا إلى سترة ، لأننا قد يرد إشكال وهو كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء ، وهو أن بعض المساجد كهذا المسجد الإمام يصلي في منتصف المسجد والعشاء إلى المحراب.
وبمناسبة المحراب ، لا بد من التذكير بهذه النصيحة ، وإن كان الناس عنه غافلون ، أن المسجد النبوي لم يكن له محراب ، وإنما جدار القبلي كسائر الجدر هكذا مسحاً ، ليس فيه هذا إطلاق وبخاصة أن الناس اليوم تفننوا جدا جداً ، بحيث جعلوا عمق المحراب إلى القبلة لو أن الإمام وقف فيه غرق ولم يظهر شخصه للمصلين خلفه من يمين أو يسار ، هذا المحراب إنما تسرَّب إلى المسلمين مع الأسف من كنائس النصارى ، فالمحاريب هذه لم يكن من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من عهد الصحابة ، وإنما حدث ذلك فيما بعد ، وللحافظ السيوطي رسالة لطيفة مفيدة سماها بـ(تنبيه الأريب في بدعة المحاريب) وهذه الرسالة نافعة يحسن لطلاب العلم أن يطلعوا عليها ، ولكن حذاري من بعض التعليقات التي كُتبت عليها بقلم أحد الغُماريين المغاربة ، لأن هؤلاء الغماريين وإن كان لهم مشاركة في علم الحديث ولكنهم من أهل الأهواء والبدع الذين تؤثر فيهم علمهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ودراستهم لأحاديثه ، ويكفي في ذلك أنهم هم مشايخ الطرق ، فكيف يجتمع أن يكون محدثاً وطرقياً ، والطرق كلها ضلالة لأدلة الكتاب والسنة ، ولسنا الآن في هذه الحاجة ، إنما القصد الاعتماد على ما ذكره السيوطي في هذه الرسالة دون الاغترار بما جاء في تلك الحواشي التي خلاصتها تمرير وتسليط ما اعتاده المسلمون من هذه محاريب المساجد وبخاصتها في هذا الزمان الذب نفننوا في بناء المحاريب فيها.
من تلك الشبهات أن المحراب يدلُّ الغريب على جهة القبلة ومن هنا قد يأخذ بعض الناس من هذه الحواشي ، فنحن نقول الغاية لا تبرر الوسيلة ، إذا كان المسجد النبوي لم يكن فيه هذا المحراب ، أليس قد كان هناك ما يدل على سنة القبلة وجهاتها؟ لا شك من ذلك فما هو؟ هو الشيء الذي كان يومئذ ينبغي علينا أن نتخذه كعلامة لجدار القبلة يصلي المصلي الغريب إلى هذا الجدار وليس إلى الجدر الأخرى.
من الواضح جداً كما أنتم تشاهدون حتى اليوم أن المنبر يُبنى لنفس الجهة التي يكون فيها المحراب ، فإذا ما ادَّاعي من جعل علامتين اثنتين تدل كل منهما على القبلة ؟ فالمنبر لا بد منه ، ها هو يدل إذاً على جهة القبلة فطاح ذلك الذي يتكئ عليه هؤلاء الذين يريدون تشبيك الواقع ولو كان مخالفاً للسنة.
فإذاً حينما لا يصلي الإمام إلى الجدار ، وإنما يقف بعيداً عنه لعدة صفوف ، فعلى هذا الإمام أولاً أن يضع سترة بين يديه كما رأيت في هذا المسجد والحمد لله ، ثم على المصلين الذين يريدون أن يصلوا السنة ، إما أن يتقدموا إلى الجدار القبلي و يصلون على النحو الذي وصفنا آنفاً ، وإما أن يتسترون ببعض هذه القوائم التي هي مثل هذه الطاولات التي توضع عليها المصاحف والكتب أو يستترون ببعض الأعمدة ، أخيراً قد يكون هناك بعض المصلين صلوا جلسوا ينتظرون إقامة الصلاة ، فمن الممكن أن يتخذ الداخل للمسجد سترة أحد هؤلاء الجالسين المنتظرين للصلاة.
ذكرت هذا لأن بعض الناس وأنا بالسترة الإمام يصلي في منتصف المسجد تقريباً ، فهو إذا تقدم إلى الجدار وأُقيمت الصلاة وقف الصف حائلاً بينه وبين أن يمر فيتخذ مكاناً في الصف ، هذه شبهة يبنى حكايتها على الجد عليها لوهائها وضعفها ، فلو صلى أحدهم إلى جدار القبلة ثم أقيمت الصلاة يا ترى؟ ورجع القهقري لا يفصحون له المجال ليصلي حتى في الصف الأول؟ إذا فرضنا أنهم لا يفسحون له مجالاً ، فسيجد فراغاً يمررونه فيه حتى يقف في الصف الثاني أو الصف الثالث على حسب الازدحام الذي يكون في المسجد.
إذا خلاصة القول ، يجب الانتباه لهذه المسألة لأنها مهجورة في أكثر المساجد لغفلة الناس عنها وقلة من يذكر بها ، حتى لو كان في المسجد الحرام على التفصيل الذي ذكرته آنفاً ؛ وقد ذكرت بعض الآثار الصحيحة عن بعض السلف الصالح ومنهم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: {أنه كان إذا صلى في المسجد الحرام وضع بين يديه سترة} هذا من فعل السلف ، وذلك تطبيق لكل هذه الأحاديث التي سبق ذكرها ، وهذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين.
المصدر ..موقع الشيخ ناصر الدين الالباني رحمه الله