بسم الله الرحمن الرحيم
"البَشَائِرُ بِمَا فِي رِحْلَتِي إلَى بِلاَدِ الْجَزائِرِ" - للشيخ عبدالله بن عبدالرحيم البخاري.
(تَمْهِيدٌ)
إنَّ الْحَمْدَ لله، نَحمَدُهُ، وَنَستَعِينُهُ، وَنَستَغفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِالله مِن شُرُورِ أَنفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعمَالِنا، مَن يَهدِهِ الله فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضلِل فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَن لا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.
أمَّا بَعدُ:
فَإِنَّ أَصدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيرَ الهَدي هَديُ مُحَمَّدٍ ص، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَةٌ وَكُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالةٍ فِي النَّارِ.
وَ بَعْدُ:
فَإنَّ نِعَمَ اللهِ عَلَى عِبَادهِ لاَ تُحصى، فَواجِبُ العَبْدِ تجاهَها أنْ يَشْكُرهُ وَلا يَكْفرهُ، قَالَ سُبحانه {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، ونِعَمهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علَى عِبَاده تَنْقَسمُ إلى قِسْمَين، قَالَ الإمَامُ ابنُ القَيِّم فِي كتابه العظيم (اجتماع الْجُيوش الإسلاميّة)(ص5-9):" والنِّعْمَةُ نِعْمَتَان: نعمةٌ مطلقة، ونعمة مقيَّدة.
فالنِّعمةُ الْمُطْلَقة هي: الْمُتَّصلةُ بِسَعادةِ الأبد، وهي نِعْمةُ الإسْلامِ والسُّنَّة، وهي النّعمةُ الَّتي أَمَرنا اللهُ سُبحانَهُ وتَعالَى أنْ نَسألَهُ فِي صَلواتنا أنْ يَهدينَا صِرَاطَ أهْلِها، ومَنْ خَصَّه بها و جَعلهم أهل الرَّفيقِ الأعْلَى حَيثُ يَقول الله تعالى دوَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًاج؛ فَهؤلاء الأصْنَاف الأربعة هُم أهْل النِّعمة الْمُطلَقة، و أَصْحَابها أيضاً هُم الْمَعْنِيُّونَ بقولِ الله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فأضافَ الدِّين إليهم إذْ هُم الْمُخْتصُّون بهذا الدِّين القَيِّم دُونَ سَائِرِ الأُمَم.....- إلى أنْ قَال- والمقْصُودُ أنَّ هَذه النّعمة هي النِّعمة المطلَقة، وهي الّتي اختصّت بالمؤمنين، وإذا قيلَ: لَيسَ لله علَى الكَافِرِ نِعمة، بهذا الاعتبارِ فهو صحيحٌ.
والنِّعمةُ الثَّانية: النِّعْمَةُ المقيَّدة،كنعمةِ الصِّحَّة والغِنَى، وعافية الْجَسدِ, وتَبسّط الجاه وكثرة الوَلدِ والزَّوجة الحسَنة، وأمثال هَذا، فهذه النّعمةُ مُشتركةٌ بين البَرِّ والفَاجرِ، والمؤمنِ والكَافرِ، وإذا قيلَ لله على الكَافر نِعْمة بهذا الاعتبار، فهو حقٌّ، فلا يصحُّ إطلاق السَّلب والإيجاب إلا على وجهٍ واحدٍ، وهو أنَّ النِّعمَ المقيَّدةَ لَمَّا كانت اسْتِدراجاً للكافر ومآلها إلى العَذاب والشَّقاء، فكأنَّها لم تكن نِعمة وإنَّما كانت بَليَّةً،كما سَمَّاها الله تعالى في كتابهِ كَذلك فقالَ تعالَى {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} أي ليس كلُّ مَنْ أكرمته فِي الدُّنيا ونَعَّمته فيها فقد أنعمتُ عليه، وإنَّما كانَ ذَلك ابتلاءً منِّي له واختباراً، ولا كلُّ مَنْ قَدرتُ عليه رِزْقَهُ، فَجعلتُه بِقَدْرِ حَاجتهِ مِنْ غَيرِ فَضيلةٍ أكونُ قَد أهنْتُه، بَلْ أبْتَلي عبدي بالنِّعمِ كما أبتليهِ بالْمَصائبِ... - إلى أن قال- وهذه النِّعمةُ الْمُطْلَقةُ هي الَّتي يُفْرَحُ بِها فِي الْحَقيقةِ، والفَرَحُ بِهَا مِمَّا يُحبّه الله ويَرْضَاهُ، وهو لا يُحبُّ الفَرحين، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، وقد دارتْ أقوالُ السَّلفِ عَلى أنَّ فَضْلَ الله ورحمته: الإسْلام والسُّنَّة، وعَلى حَسب حياةِ القَلبِ يَكون فَرحهُ بِهما، وكلَّما كانَ أرْسَخ فيهما كان قَلبهُ أشدّ فَرحاً، حتَّى إنَّ القَلْبَ إذَا باشرَ رُوحَ السُّنَّةِ لَيَرْقُص فَرحاً أخوف مَا يكونُ النَّاس، فإنَّ السُّنَّة حِصْنُ الله الحصين الَّذي مَنْ دَخلَهُ كانَ مِنَ الآمنين... وهي الْحَياةُ والنُّور الَّلذين بهما سَعاَدة الأبَد وَهُداه وفوزه، قَال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}، فصاحبُ السُّنَّة حَيُّ القَلْبِ مُسْتَنِيرُ القَلْب، وصاحبُ البِدَعَةِ مَيت القَلب مُظْلمهُ، وقَد ذكر سُبحانه هَذين الأصْلَين في كتابهِ فِي غَير موضعٍ، وجعلهما صفة أهل الإيمان، وجعلَ ضدَّهما صفة مَنْ خَرج عنِ الإيْمَان؛ فإنَّ القلب الْحيَّ المستنير هو الَّذي عَقل عَن الله وفَهِمَ عنْه، وأذعنَ وانْقَادَ لِتوحيده، ومتابعةِ مَا بعث به رَسوله صلى الله عليه وسلم، والقَلْبُ الْمَيّت الْمُظْلِم الَّذي لَم يَعقل عن الله، ولا انْقَاد لِما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يَصفُ سبحانه هذا الضَّرب من النَّاس بأنَّهم أمواتٌ غَيْرُ أحياء، وبأنَّهم في الظُّلمات لا يَخرجُون منها، ولهذا كانت الظُّلمةُ مُسْتَوليةً عَليهم فِي جميع جهاتهم، فَقُلُوبهم مُظْلمة ترَى الحقَّ في صُورةِ البَاطلِ، والبَاطلَ فِي صُورةِ الحقِّ، وأعمالهم مُظْلمة، وأقوالُهم مظْلمة، وأحوالُهم كلُّها مُظْلمة، وقبورهم ممتلئة عَليهم ظلمة، وإذا أقيمت الأنْوار دُون الجسر للعبورِ عليه بقوا في الظُّلمات، ومَدخلهم في النَّار مُظْلمٌ، وهذه الظُّلمة هي التي خُلقَ فيها الْخَلْقُ أوَّلاً، فمنْ أرادَ الله سُبحانه وتعالى به السَّعادة أخرجه منْها إلى النُّور، وَمَنْ أرادَ بِه الشَّقاوة تَركهُ فيها... والخارجونَ عن طَاعَةِ الرُّسلِ صلوات الله وسلامه عليهم ومُتابعتهم يَتَقلَّبونَ فِي عَشر ظُلمات: ظُلْمة الطَّبع، وظُلمة الْجَهل، وظُلمة الْهَوى، وظلمة القَول، وظُلمة العمَل، وظُلمة الْمَدْخَل وظُلمة الْمَخْرَجِ، وظُلْمة القَبر، وظُلمة القِيَامة، وظُلْمَة دَار القَرار، فَالظُّلمةُ مُلازمة لهم في دُورهم الثَّلاثة.
وأتْبَاع الرُّسُل صلوات الله وسلامه عليهم يَتَقلَّبونَ فِي عَشرةِ أنْوارٍ: ولهذه الأُمَّة مِنَ النُّورِ مَا ليسَ لأُمَّةٍ غَيرها، ولنبيّها صلى الله عليه وسلم مِنَ النُّور ما ليس لِنبيٍّ غيره..." انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنْ كَلامِهِ رحمه الله.
وَبِفَضْلٍ مِنَ الله ومنَّتهِ أنْ تَمَّت زيارتِي العِلْميَّة الدَّعويَّة للدِّيار الْجَزائريّة، واجتمعتْ لأهلِ السُّنَّةِ الْمَحضةِ فِي هَذهِ الرِّحلة العلميَّة الدَّعويَّةٍ النِّعمتان: النِّعْمَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَالْمُقيَّدة؛ لذا كان لِزاماً عَليْنَا جَميعاً شُكره سُبْحَانَهُ بالقَلْبِ وَالقَول والعَمَلِ؛ وذَلِكَ بِأنْ نُحَقِّق العُبوديّة لَه سُبحانه، ونُخْلِصَ الشُّكر لَه سِرَّاً وعلانية، هَذا بِالقَلبِ، وأمَّا بالقَولِ بأنْ نَذْكُرهُ ونُثْني عليهِ الْخَيرَ كُلَّه، فلاَ خير يُدْرَكُ إلا بعَونهِ سُبْحَانه، فَلَهُ الْحَمدُ فِي الأُولَى وَالآخِرة، وأمَّا بالعَملِ بِأنْ نُسَخِّر هَذه الجوارح الَّتي مَنَّ بِهَا عليْنَا فِي مَراضيهِ وَمَحابِّهِ سُبْحَانَهُ، فَلاَ نَنْطِقُ إلا فِيْمَا يُحبُّ أيْ فِي الْحَقِّ وبالْحقِّ وفِي نُصْرةِ الْحَقِّ، ولاَ نَرَى وَلاَ نَسْمَعُ ولاَ نَمْشِي وَلاَ نَأْخُذ ولا نُعْطي إلا فِيْمَا يُحبُّه وَيُقَرِّبُ إليهِ سُبْحَانه، فَاللهَ أسألُ لِلْجميعِ التَّوفيق والسَّداد في الدَّارين، آمين.
أَوَّلاً: أقسامُ النَّاس تجاه هذه الرِّحلة؟
في الحقيقةِ تَأمَّلتُ ونظرتُ فِيْمَا صَرخت به نُفُوسُ بَعضِ النَّاسِ - هَدَاهم الله - تجاه هَذه الرِّحلة العِلميَّة الدَّعوية، وآلَمني كَثيراً أنْ آلَ أمرُ هَذه القلِّةِ! إلى هذا الْمُسْتَوى مِنْ مُجانبةِ الْحَقيقةِ وَ الوَاقعِ؛ بلْه الكَذب؟! - وحسبُك بها جريمة -، فَأسِفْتُ لِحَالِهمِ؛ وقلتُ: هَلَّا سَأَلُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟ أَوَلاَ يَعْلَمونَ أنَّ شِفَاء العِيِّ السُّؤال؟ وقَديْمَاً قيل: (الْجَاهِلُ عَدوُّ نَفْسهِ)، وقيل أيضاً: (رُبَّ كَلِمَةٍ قَالَتْ لِصَاحبهَا دَعْنِي)، فَتَذكَّرتُ حِيْنَها مَقَالات عظيمة لعددٍ منَ أئمة أهل السُّنة والجمَاعة، يَحْسُنُ ذِكْرُها وَالتَّذكيرُ بِها؛ لَعلَّها تَبْلُغُ بَعْضَهُم فَيَتَذكَّرُ أو يَخْشَى! فَمِنْ تِلْك الكَلِمَاتِ العَظِمية:
1/ قولُ الإمامِ الْحَسن البَصريّ رحمه الله: (( نُفُوسُكم مَطَايَاكُم، فَأصْلِحُوا مَطَايَاكُم تُبلغكمْ إلَى ربِّكُم عزَّ وجلَّ )) (فتح الباري) للإمام ابن رجب (1 /153).
2/ قَولُ الإمام محمَّد بن إدريس الشَّافعي رحمه الله لِصاحبهِ وَتِلميذهِ الرَّبيع بن سليمان: (( يا رَبيع لاَ تَتَكلَّم فيْمَا لاَ يَعْنِيك، فإنَّك إذَا تكلَّمتَ بالكَلِمَةِ مَلَكتْكَ ولَمْ تَمْلكها )) (مناقب الشَّافعي) للبيهقي (2 /174) و(الأذكار) للنَّووي (ص 454) وينظر (السير)(10 /98).
وقوله رحمه الله أيضاً: (( لاَ يَكْمُلُ الرُّجلُ إلا بأربعٍ: بالدِّيانةِ والأمانَةِ وَالصِّيانةِ وَالرَّزانَةِ )) (السير) (10 /98).
وقَوله أيضاً : (( العَاقِلُ مَنْ عَقَلَهُ عَقْلُهُ عَنْ كُلِّ مَذْمُومٍ)) (المصدر السَّابق).
3/ وقَولُ الإمام ابن القيَّم رحمه الله في (الفوائد)(ص 133-134): (( إيَّاك والكذبَ؛ فإنَّه يُفْسِدُ عليك تَصوّر المعلومات علَى ما هيَ عليه، ويُفسِدُ عليك تَصويرها وتعليمها للنَّاس.
فإنَّ الكاذبَ يُصوِّرُ المعدومَ مَوجوداً، والموجودَ مَعْدوماً، والْحَقَّ باطلاً والباطلَ حقَّاً، والخيرَ شرَّاً، والشرَّ خيراً، فَيَفْسُدُ عَليه تَصوُّرُه وعلمه، عُقوبةً لَهُ، ثم يُصوِّر ذلكَ في نفس المخَاطَبِ الْمُغترِّ به الرَّاكن إليه؛ فيُفْسِدُ عَليه تَصوُّرَه وعِلمهُ.
ونَفْسُ الكاذب مُعْرِضةٌ عَن الحقيقةِ الموجودة، نزَّاعةٌ إلى العَدم، مُؤثِرةٌ للبَاطلِ.
وإذَا فَسدت عليه قُوَّةُ تَصوُّرهِ وعِلمهِ الّتي هي مَبْدَأُ كُلِّ فِعْلٍ إراديٍّ؛ فَسدتْ عليه تِلك الأفعالُ، وَ سَرَى حُكْمُ الكَذِب إليْهَا، فصَارَ صُدُورها عنْهُ كَمَصْدَرِ الكَذِبِ عَن الِّلسانِ؛ فَلا ينتفعُ بِلسَانهِ ولا بأعْمَالهِ.
ولهذَا كَانَ الكَذِبُ أسَاسَ الفُجُور، كمَا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم (إنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلَى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهدي إلى النَّار) - قلتُ: هو حديث متفقٌ عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه -.
وَ أوَّلُ مَا يَسري الكَذبُ مِنَ النّفسِ إلَى الِّلسان فيُفْسِدهُ، ثُمَّ يَسري إلَى الْجَوارحِ فيُفْسِدُ عليها أعمالها كمَا أفسدَ على الّلسان أقوالَه، فَيَعُمُّ الكَذبُ أقوالَه وأعمالَه وأحوالَهُ، فيَسْتَحْكِمُ عليه الفَسَادُ، وَ يَترامى دَاؤهُ إلى الهلكة إنْ لَم يَتداركه اللهُ بِدواءِ الصِّدقِ يَقلَعُ المادة منْ أصْلِها.
ولهذا كانَ أصلُ أعمَالِ القُلوبِ كُلِّها الصِّدْق، وأضدادُها منَ الرّياء والعُجب والكِبْر والفَخْر والْخُيلاء والبَطَر والأَشر وَالعَجْر والكَسَل والْجُبْن والمهَانة وغيرها أصلها الكذبُ؛ فَكلُّ عملٍ صالح ظاهرٍ أو باطنٍ فمنْشَؤُه الصّدقُ، وكلُّ عَملٍ فاسدٍ ظاهرٍ أو بَاطنٍ فَمنشؤُهُ الكذبُ.
والله تَعالى يُعاقبُ الكذَّابَ بأنْ يُقْعِده وَيُثَبِّطَهُ عنْ مَصالِحه ومَنَافعهِ، ويُثيبُ الصَّادقَ بأنْ يُوفِّقه للقيامِ بِمَصالح دُنْياه وآخرته؛ فمَا اسْتُجِلبتْ مصالِحُ الدُّنيا والآخرة بِمثل الصِّدقِ، وَلا مَفَاسدُهُما ومضارُّهما بمثل الكَذب، قال تعالى: {يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا اتّقوا الله وكُونوا مع الصَّادقين}، وقال تعالى: {هَذا يومُ ينْفَعُ الصَّادقينَ صِدْقُهُم}، وقال: {فإذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لكانَ خَيراً لَهُم} وقال: {وجاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذين كَذَبُوا اللهَ وَرَسولَهُ سَيُصيبُ الَّذين كَفَرُوا مِنْهُم عَذابٌ أليمٌ})).
ويُنظر تعليق الحافظ الذَّهبي - رحمه الله - على قولِ أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -: (إيَّاكم والكذب فإن الكذب مجانبٌ للإيمان)، في (تذكرة الحفاظ)(1 /3).
وفيْمَا سَأَذْكُره بِحَولِ الله حَول هَذهِ الرّحلةِ مَا يَدلُّ عَلَى مُجَانَبَةِ مَنْ ذَكَرْتُ لِلحقِّ وَالصَّواب - هَدانِي اللهُ وَإيَّاهم إلَى الرَّشد -؛ لذَا فَالنَّاسُ فِي هَذهِ الرِّحلةِ عَلَى أقْسَامٍ:
القِسْمُ الأوَّلُ: أهلُ الإفْرَاطِ.
والقِسْمُ الثَّانِي: أهْلُ التَّفريطِ.
ولاَ أرى حَاجة ماسَّةً الآن لِذِكْرِ مَنْ يُمثِّل كُلَّ قِسْمٍ، لكنْ يَجْمَعهما أنَّ كلَّ قسمٍ مِنْهُما: حَاولَ الصَّدَّ عَنْ إتْمَامِ هَذه الرِّحلة العِلميّة الدَّعوية الْمُبَارَكَةِ إنْ شَاء الله تعالى، وَ لكلٍّ وَسَائِلُهُ إلَّا أنَّ الغَايَةَ الَّتي تَجْمَعُهم وَاحدة هِي مَا ذَكْرتُ، عَفَا الله عنَّا وعَنِ الْجَميعِ بِمنِّه وكَرمهِ، ومَا كُنْتُ أتَمَنَّى لَهُمْ ذَلِكَ وَ الَّذي رَفعَ السَّمَاء بِغَيرِ عَمَدٍ، لَكِنْ قَدَرُ اللهِ نَافِذٌ، و هو سُبْحَانَه مِنْ وَرائِهم مُحِيطٌ.
والقِسم الثَّالِثُ: أهلُ الوَسَطِ والاعْتِدَالِ، الّذين يَهُمهم أمْرُ الدَّعوة إلى اللهِ تَعالَى عَلَى مِنْهَاجِ النُّبوَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ اهْتِمَامهمْ بِهَذه الرِّحلة العلميَّة الدَّعوية مُنْذ أنْ كانتْ فكرة مَطروحة مِنْهُم - وفقهم الله-، حتَّى قَامت على الأرض، وتَمَّتْ بِحمدِ الله وتوفيقه، وهُؤلاء هُمُ السُّواد الأعظم، ولله الحمدُ والمنَّة.
و هُنا أُذكِّرُ مَنْ يَبْحَثُ عن التَّذكير، بكلامٍ مُهمٍ للإمام ابن القيم رحمه الله فِي هذا المقام، حيثُ قال كما في (رسالته التَّبوكية) (ص84-85- ط عالم الفوائد): (( المقصودُ أنَّ القَلبَ لَمَّا تَحوَّل لهذا السَّفر، طَلبَ رفيقاً يأنسُ به في السَّفر، فلم يَجد إلَّا مُعَارِضَاً مُنَاقِضَاً.
أو: لائماً بِالتَّأنِيبِ مُصرِّحاً ومُعَرِّضاً.
أو: فارغاً عَن هذه الحركات مُعْرِضاً، وليتَ الكلَّ كانوا هكذا، فلقد أحسنَ إليكَ مَنْ خلاَّكَ وطريقكَ ولَمْ يَطرح شرَّه عليك، كما قال القائل:
إنَّا لفي زمنٍ تركُ القبيح به....من أكثر الناس إحسانٌ وإجمالُ)).
فتمنَّيتُ مِنْ أهلِ القِسْمَين الأَوَّلَين أنْ لَوْ كَانُوا مِنْ أهلِ القِسْمِ الثَّالثِ فِي كلام الإمَامِ ابنِ القيِّم - رحمه الله تعالى - وهو مَنْ كانَ (فَارِغَاً عَنْ هَذهِ الْحَركَاتِ مُعْرِضاً)، فَمَنْ فَعلَ فَلَقَدْ أحْسنَ إلى نَفْسهِ وَ إلَى غَيره، ولَمْ يَطْرَح شَرَّه عَليْنَا، كفانا الله شرَّ الأشْرَار وكيْدَ الفُجَّار، ووقَانا الفتن مَا ظَهرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن.
ثُمَّ ليُعْلَم أنَّ مِنَ المتقرِّر عند أهل الحقِّ: أنَّ سلوكَ سبيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في التَّعلُّم والتَّعليم والدَّعوة، وبيان الحقِّ للخَلقِ، والرَّدّ علَى البَاطلِ وأهلهِ، يَغِيظُ أهْلَ البَاطل بِكُلِّ طَوائِفهم، سواء كانُوا أهل شَهواتٍ أو شُبهاتٍ، ويَجْلِبونَ عَلَى سَالِكِ هَذا السَّبِيلِ القَويْمِ بِخَيلِ كَبِيْرهِم وَرَجْلِه!! قَال الإمام ابن القيِّم - رحمه الله - في (الفوائد)(ص 82) مُبيِّناً أنواعَ هَجر القُرآن والحرج منهُ: ((...فكلُّ هَؤلاء في صُدُورهم حَرجٌ منَ القُرآن، وهم يَعْلَمونَ ذَلكَ فِي نُفُوسهم، ويَجدُونَهُ فِي صُدُورهم، ولا تَجِدُ مُبْتَدِعاً فِي دِينه قَطُّ إلا وفِي قَلْبهِ حَرجٌ مِنَ الآيات الَّتي تُخَالِفُ بِدْعَتَهُ، كمَا أنَّك لا تَجِدُ ظَالِمَاً فَاجِراً إلَّا وفِي صَدرهِ حَرجٌ مِنَ الآياتِ الَّتي تَحُولُ بَيْنَهُ وبَين إرَادَتهِ، فَتَدبَّر هَذا المعنى ثُمَّ ارْضَ لِنَفْسِكَ بِمَا تَشَاءُ)).
ثَانياً: السَّبب في زيارتي للجزائر.
قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في (الرِّسالة التَّبوكية)(ص 4): (( قد اشْتملت هَذه الآيةُ عَلى جَميعِ مَصالِحِ العِبَادِ فِي مَعَاشِهم ومَعَادِهم، فِيْمَا بَيْنَهُم فِي بَعْضِهم بَعضاً، وفيما بَيْنَهُم وَبَيْنَ رَبِّهم؛ فإنَّ كلَّ عَبدٍ لاَ يَنْفكُّ مِنْ هَاتين الْحَالَتَين، وهَذين الوَاجِبَين: وَاجبٌ بَينهُ وبينَ الله، وواجبٌ بَينهُ وبين الْخَلق.
فأمَّا مَا بَينَهُ وبَيْنَ الْخَلْق: مِنَ الْمُعَاشَرةِ وَالْمُعَاونَةِ وَالصُّحبةِ، فَالواجبُ عَليهِ فِيْهَا أنْ يكون اجْتِماعهُ بِهم وصُحْبتُه لَهم تَعَاوناً على مَرْضَاةِ اللهِ وَطاعتهِ، الّتي هي غَايةُ سَعَادةِ العَبْدِ وَفَلاحهِ، ولاَ سَعَادةَ لَهُ إلا بِها....))، وينظر فيه أيضاً (ص 14).
فانْطلاقاً من هذه الآية الكريمة، ومِنْ تَقرير أهل العلمِ ومِنْهُم الإمام ابن القيّم كما مضَى، كان قَد زارني في بيتي بالمدينة النَّبويَّة أثناء الفَصل الدِّراسي الثاني من هذه السَّنة الهجريّة 1432هـ، أخونا الفَاضل الْمُهَذَّبُ الشّيخُ الدُّكتور عبدالمجيد جمعة الجزائري - حفظه الله ورعاه -، وهي زيارتُه الثَّانية لِي إذ الأولى كانت فِي شَهر ذي الْحِجَّة عام 1431هـ، وتَشَرَّفْتُ بِزِيَارتَيْهِ، وكانَ أنْ عرضَ عليَّ في اللقاء الثاني زيارة الجزائر، زيارة علميَّة دَعويَّة، وأنَّه لو وجِّهت إليَّ دعوة في ذلك هل أقبل؟ فأجبتُه بقولي: إنْ تيسَّر ذلك فَلا بأس إن شاء الله، وفي الحقيقةِ هو طَلبٌ عزيزٌ؛ لصدورهِ مِنْهُ - حَفظه الله -، وردُّه في غاية مِنَ الصُّعوبة؛ كما هو مَعْلُومٌ لدى مَنْ لَهُ مَعرفة بمقاماتِ الرِّجالِ، كيفَ وهو مِنْ أهْلِ السُّنَّة والفَضْلِ، جَزاه الله خيراً.
ثُمَّ باشرَ بعد وقتٍ يسير نَحواً من شهر ونصف تقريباً، بمكاتبتي عبر البريدِ، وطلبَ إرسال صورة جواز السَّفر؛ لتقديم طلبِ اسْتِخراج تأشيرةٍ بِهذا الخصوص، فأرسلتُها له، ومن المعلوم أنَّ استخراجَ تأشيرةٍ لغرض إقامةِ دُروس علميَّة ومُحاضرات دعويّةٍ، لابد أنْ تكون ذات طابعٍ خاص، وهو المسمَّى بـ(التأشيرة الثَّقافية)، وأظنُّ أنَّه لا يَخفى على مَنْ له إلمام بنَشاطٍ كهذا النَّشاط، أنَّ الدُّول لا تقبلْ إقامة مثل هذه الدَّورات إلا عبر الجهاتِ الرَّسمية في الدَّولة التي تَنْزِلُ فيها، كما هو الحالُ في الدَّورات العلميَّة التي كانت - ولا زالت - تعقدها الجامعة الإسلاميَّة في دولٍ شتى، وفعلاً تمَّ تقديمُ الطَّلبِ إلَى وزارة الشؤون الدّينية والأوقاف لاستخراج ترخيصٍ لمثل هذا النَّشاط فوافقتْ مشكورة، وتَمَّتْ مُخاطبة القنصلية الجزائرية العامّة بِجدّة، واتَّصل بي هاتفياً نَائب القُنْصل العام بقنصلية الجزائر، علَى مَا بُلَّغتُ، وكانَ في غايةٍ من الاحترامِ والتَّقديرِ - شكرَ الله له - وَرَغِبَ إلِيَّ أن أرسلَ أحداً لِتَسليمه جواز سفري، وبه (التأشيرة الثَّقافية)، ورحَّب بي ترحيباً يُشْكَرُ عليه جدَّاً، وفعلاً تم الأمر ولله الحمدُ والمنَّة.
وهُنا أُنبِّه إلى أمرٍ كثُر فيه لَغَطُ اللاغطين؛ وهو أنَّ (جمعية الفرقان) هي الَّتي دعتني واستضافتني، وقامت بأمرِ الدَّورةِ.
فأقول: حَنَانَيْكُم إذ الْحُكم على الشَّيء فرعٌ عن تصوِّره؛ فالأمرُ فيه حقٌّ يسير، وباطلٌ كثير؛ فالحقُّ اليسير هو: أنَّ هذه الجمعيَّة قامتْ بتقديم خطاب دعوتي إلى وزارة الشؤون الدينية والأوقاف فَقط.
والباطلُ الكثير هو: ادِّعاء أنَّ الجمعيَّةَ هي الَّتي قامتْ بِكُلِّ الدَّورةِ مِنْ ضِيَافةٍ وَتَنْسيقٍ وغيرهِ، والْحَقُّ الَّذي لا مريةَ فيهِ أنَّ الدَّورةَ كَاملة مِنْ ضِيافَةٍ وتنسيقٍ وغيره، كانت برعاية من "وزارة الشؤون الدينية والأوقاف" وَ"والِي ولاية أم البواقي"، ومثَّل الوزارة فِي ذلك: مُديرية الشؤون الدينية والأوقاف بولاية أم البواقي، والجمعيةُ ليس لها فيها قَليلٌ ولا كثير!
ومما يدلُّ على أنَّ الأمرَ بات رسميَّاً كُليَّاً:
1/ أنَّ الذي اتَّصل بي هاتفياً مُرحِّباً وطالباً إرسال مَنْ يأخذ التأشيرة، هو نَائب القنصل العام بالقنصلية العامة الجزائرية بجدة، كمَا مرَّ، فهل الجمعية لَهَا أمرٌ عليه أيضاًَ؟!
2/ أنَّه كان في استقبالي عند نزولي مطار هواري بومدين الدولي بالعاصمة، الدُّكتور شفيق، وهو مندوبٌ عن الوزارة، بالسَّيارة الرسميَّة والسَّائق الرسمي!
و استقبلني أيضاً لفيف من الإخوة السَّلفيين وفي مقدمتهم فضيلة الشيخ الدكتور عبدالمجيد جمعة - وفقه الله -، علماً بأنَّ الدُّكتور شفيقاً، لم يَنْتَهِ أمرهُ باستقبالي فقط بل كان مُرافقاً لي طوال الرِّحلةِ! فهل تكليفه أيضاً مِنْ مَهامِ الجمعيّة!
3/ عند نزولي مطار قسنطينة، كان أول مَنْ استقبلني وَفدٌ رسميٌّ أمني مُكلَّف بالحمايةِ، فمَا أنْ وَطِئت قَدامي بوَّابة الوصول إلا وخرجوا بي إلى سيَّارةٍ خاصَّة، وكانوا نَحواً من خمسة أو ستَّة أشخاصٍ من أفرادِ الأمن (الحراسة)، فَسِرْنا مباشرةً من المطار إلى ولاية أم البواقي، والمسافة قرابة (80) كيلو، وهم بسيارتهم الأمنيَّة (الشُّرطة) يسيرون أمامي، حتَّى وصلنا الولاية، فهل الجمعية أيضاً لَها أمرٌ وإمْرَةٌ على جهاز الأمن (الشُّرطة)؟!!.
4/ عند وصولي إلى الولاية مباشرةً توجَّهتُ إلى مَقرّ (ضِيَافة) والي ولاية أمّ البواقي - وفَّقه الله -، فكانت إقامتي كلِّها فِي ضيافتهِ وأمرُ حراستي منْهُ - وفّقهُ الله -، فهل الجمعية أيضاً لها سُلطانٌ على وَالِي الولاية وأمن ومقار ضيافة الولاية؟!
5/ في صبيحة يوم الجمعة الموافق 22/ رجب/ 1432هـ، السَّاعة العاشرة صباحاً زارني في مَحلِّ الإقامة، سعادة مدير مديرية الشؤون الدينية والأوقاف بولاية أم البواقي ومعه مُستشاره بالمديريّة الأستاذ عبدالحميد، ومُعْتَمِدُ الأئمَّة بالمديريَّة وإمام المسجد العتيق الشَّيخ العربي، وثالث نسيتُه، مُقَدِّراً استجابتي للدَّعوة الرسمية ومرحِّباً بزيارتي لبلدي الثاني الجزائر، وسألني عن مدى راحتي في مقر الإقامة، ثم تبادلنا أطراف الحديث، ثم انصرف، وسبَقَني إلى المسجد العتيق ليحضر خطبتي للجمعة فيه، فهل الجمعية أيضاً قامت بهذا؟
6/ لَمْ أر إعلاناً قطُّ في كُلِّ المدنِ والمسَاجدِ الَّتي ألقيتُ فيها دروسي ومحاضراتي يَحْمِلُ اسم الجمعيَّة! فلو كانت هي المسؤولة عن ذلك فأين هي إعلاناتُها؟ بل قال لي الأخ الشيخ عبدالمجيد - حفظه الله -: يا شيخ لو رأيتَ إعلاناً عن مُحاضرةٍ لك في أيِّ مَسجدٍ يَحْمِلُ اسم الجمعيَّة، فَلا تُحاضرْ فيهِ؟ فمَاذا بَعد هَذا أيُّها العُقلاء؟
7/ أُقيمتْ الْمُحاضرات في مُدنٍ ومَساجدَ مُختلفةٍ، والْمُقِدِّمُ لِي فيْهَا هُو إمام المسجد الّذي أحاضرُ فيه؛ لأنَّ الوَزارة تَنُصُّ على ذلك، وفعلاً كان الأمرُ كَذلك، مع العلمِ بأنَّ أحداً من الجمعيَّة لَمْ يُقدِّمْ لي أي تَقدمةٍ في أيِّ مَسْجدٍ، فمَا لكم كيفَ تَحْكُمونَ؟
8/ الفريقُ الأمني صَحبني في كُلِّ المحاضراتِ؛ لِحِرَاستي وتأمينِ الحمايةِ، وفي المسافاتِ البَعيدة التي كُنَّا نَنْتَقلُ فيها بين المدنِ، كانت تصحبنا فرقة من الدَّرك الوطني الجزائري، زيادة على حُراس الشُّرطة، فهل الجمعية أيضاً لها سُلطان على جهاز الدَّرك الوطني؟!
وفي الحقيقة إنَّ الفريق الأمني ما تَركني طِوَال الرِّحلة كاملة، وفي نهاية الرِّحلة عَادوا معي حتَّى غَادَرتُ صَالَةَ صُعُودِ الطَّائرةِ! فهل الجمعيَّة أيضاً ألزمتهم بذلك؟
عَلى كُلِّ حالٍ هذا بعض ما أردتُ بيانَهُ حَول هذه المزاعم الْمُدَّعاة، الَّتي لا أساس لَهَا مِنَ الصِّحَّةِ أبداً، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟
وأمَّا عَن الجمعيَّة نفسها، فهي جمعيَّةٌ خيريَّةٌ لا يَتعدَّى نشاطها ولاية أم البواقي! ليس لها توجُّه سياسي أو حزبي - فيما ظهر لي، وما سمعته من بعض أهالي الولاية من السَّلفيين -، وهي غير معروفة في بلادها الجزائر، وقد جلستُ مع رئيسها إمام المسجدِ العتيق بأم البواقي، ونصحتُ لَهُ صراحةً لَمَّا زارني في مقر إقامتي، وقُلْتُ له بالحرف الواحدِ:
مَنْ رأى ما أقدمتُم عليه مُنْذُ زمنٍ مِنْ جَلْبِكم لأمثال محمَّد حسان والنَّجَّار ونحوهما يحكم عليكم بأنَّكم من الإخوان المسلمين!
فقال لي حرفيَّاً: أنَّنا في الحقيقة ما كُنا نَعرفُ عن هُؤلاء القَوم أي شيء، غاية ما في الأمر أنَّنا تأثَّرنا بما رأيناه في التلفاز، فأحسنا بهم الظَّنَّ، ونَحن نستغفر الله مما فعلنا، وقد علمتُ عن محمَّد حسان الآن وبيَّن لِي بعض المشايخ حقيقتَهُ، ولا يمكن أن نَتَعاون معه أبداً، بل إنَّ محمَّد حسان اتصل بي، وطلب مني أن أدعوه فرفضت ذلك، ورددتُه.
ثُم بيَّنتُ له حقيقةَ بعض مَنْ دعاهم أيضاً، وقُلتُ له: هل أنتَ دعوتَ وجدي غنيم والعريفي؟ فنفىَ ذلك بشدَّةٍ، وقال دعتهما جمعية حزبية لها توجه سياسي وهي جمعية تابعة لمحفوظ نحناح.
وللأمانةِ ذَكرَ لِي اسم الجمعيّة المستضيفة لكنَّني نسيتُ اسمها، وهي معروفة لدى الجزائريين، والله المعين.
وعَلى كُلٍّ كانَ مِنْ وَاجبي تجاهه أنْ أنصحَ وأبيّن لَهُ، تبرئةً للذِّمة ونصحاً للأمَّة؛ مَسائلَ عَديدة منها وجوبُ الْحرص علَى لُزُومِ السُّنَّةِ وَالدَّعوة إليها، والحذر مِنَ البَاطل كُلّه وأهلهِ، وتَنبيهه بأهميَّة تواصلهِ مَعَ مَشايخِ أهل السُّنَّة فِي بَلدهِ وَفِي غَيرهِ مِنَ البِلادِ؛ ليعينوه عَلى الْحَقِّ ويرشدوهُ إلَى طَريقِ السَّلامةِ بإذن الله، و الْحقُّ يُقالُ: لَمْ أجد منه إلَّا كُلّ استجابةٍ، والإخْوَة الذين جَلسوا إليه بعدَ تِلك المجالس والمحاضرات ظَهر لهم تأثُّره واستجابته، والله بصيرٌ بالعباد.
وأقول: قد صرَّح لي بأن هَذه المحاضرات والدُّروس، أزْعَجَتْ أهل الأهواء، و أنَّ رجلاً إخوانياً - هكذا بالحرف - قال لَه: أنت جئت بهذا الشَّيخ ليُنَظِّر للسَّلفية هُنا؟ فأجابه بقوله: هذا يتكلم بالأدلة، عندك أدلة على خلاف ما يقول هَاتها، فبُهت الذي ظلم!.
هذا ما لديَّ عن الجمعية ورئيسها، {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ}، فنسألُ الله لنا وللجميع التَّوفيق والسَّداد في القَولِ والعَمَلِ.
ثالثاً: الزِّياَرةُ ومَا فيها مِنْ لقاءات علميَّة، ومحاضراتٍ ودُروس.
سأذكرُ ما يَتعلَّقُّ بالرِّحلة في نقاطٍ، وهناك أمور دونتها في (كُنَّاشة) خاصَّةٍ بالرحلات، لا أرى حاجة لذكرها، كمثل أسماء بعض الأحياء بالجزائر، وسبب تسميتها، والأسئلة المتعلقة بالخصائص الزراعية ونحو ذلك من أمور لا تخصُّ القارئ اللبيب، والله المعين.
1/ لا يوجدُ حَاليَّاً طيران سعودي مباشر إلى الجزائر، فركبنا الخطوط التُّركيَّة، فبدأتُ الرِّحلة من مطار المدينة النَّبوية يوم الأربعاء ليلاً الموافق 20/ رجب/ 1432هـ، حوالي السَّاعة ( 3:20 ) قبل فجر يوم الخميس، واتجهت بنا إلى مطار (إسطنبول) بتركيا، وكانت مدة الرحلة (3) ساعات تقريباً، ثم بعد أن هبطت الطائرة، بقينا في المطار نحواً من (3) ساعات أخرى، ثم غادرنا من (إسطنبول) إلى (الجزائر- العاصمة) مطار هواري بو مدين الدولي، واستغرقت الرحلة نحواً من (3,5) ثلاث ساعات ونصف تقريباً.
وصلتُ السَّاعة (2,30) بعد الظهر بتوقيت الجزائر، وهناك فارق توقيت بين المملكة العربية السعودية وبين الجزائر نحواً من (ساعتين)، وقد استقبلنا في المطار مَنْ ذكرتُهم سابقاً، وأيضاً مدير مكتب الخطوط الجوية السعودية بالمطار، ومعه الأخ نبيل.
2/ التقينا بـفضيلة الشَّيخ لزهر سنيقرة - حفظه الله -، وكنتُ برفقة الشِّيخ الدكتور عبدالمجيد جمعة، وبقيَّة المرافقين الَّذين تقدَّم ذكرهم فيمن استقبلنا في المطارِ، ثم ذهبنا كلُّنا لتناولِ طعام الغَداء الَّذي أعدَّهُ الإخوة المشايخ - جزاهم الله خيراً -، وكانَ فِي الاستقبالِ عَددٌ منهم و بَعض طَلبة العِلمِ، علماً بأنَّ بعضهم منْ أعضاء مَجلَّة "الإصلاح"، فَمِمّن استقبلني: الشَّيخ عبدالغني عوسات، والشَّيخ الدُّكتور مُحمَّد علي فركوس، والشَّيخ عِزّ الدين رمضاني، والشَّيخ توفيق عمروني، والشيخ عمر الحاج مسعود، والشيخ عثمان عيسي، والدكتور رضا أبوشامة، والدكتور عبدالخالق ماضي، والشيخ نجيب جلواح، حفظهم الله، هذا الذي أذكرهُ وهناك غيرهم لكنَّني في الحقيقةِ لَمْ أحفظ جميع الأسماء ، فالمعذرةَ ثم المعذرة مِنْهم ممن فاتني ذكره، وفَّق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
ثم كان بعد الغداء لقاء مُشتركٌ بالمشايخ، حوت تَرحيب الجميع بمقدمي، وأكَّد الجميع على أنَّ هذه الدَّعوة الموجَّهة إلي هي دعوة رسمية - كما سبق أن ذكرتُ -، ثُمَّ تَكلَّم بعض المشايخ مُعرِّفاً بِحالِ الدَّعوة في الجزائر، وما تَمرُّ به الآن، ونَحو ذلك، ثُمَّ شَكرتهم جميعاً على حُسنِ وكَرمِ ضيافتهم، وترحيبهم الحار بهذه الزِّيارة، وبلغتهم سَلام مشايخنا جَميعاً، ثم انصرفنا إلى المطار مغادرين إلى مدينة قسنطينة.
3/ غَادرنا مطار العاصمة إلى مدينة قسنطينة الساعة (6,40) قُبيل المغرب بتوقيت الجزائر، واستمرَّت نحواً من (ساعة)، ثُمَّ وصلنا، واستقبلنا هناك الوفد الرسمي المكلَّف مِنْ قِبَلِ والي ولاية أم البواقي - كما سبق أن ذكرتُه -، فَسِرْنَا مباشرةً إلى ولاية أم البواقي، وهي تبعد نحواً من (80) كيلو عن قسنطينة تقريباً، وأدركتنا صلاة المغرب والعشاء في الطَّريق فصليناهما ثُمَّ تابعنا المسير، حتَّى وصلنا الولاية، وكان جمعٌ من الإخوة في الانتظارِ فتناولنا طعَام العشاء، ثم انتقلتُ إلى (ضيافة والي ولاية أم البواقي)، وكان الوصول السَّاعة الحادية عشرة ليلاً.
4/ الجمعة: 22/ رجب/ 1432هـ، زارني في العاشرة صباحاً سعادة مدير مديريّة الشّؤون الدِّينيَّة والأوقاف بولاية أم البواقي، كما سبق أنْ ذكرتُ، وخطبتُ الجمعة بالمسجد العتيق بأم البواقي، والصَّلاة بالنَّاس.
وبعد العصر من اليوم نفسهِ، كانت لي محاضرة بـ"مسجد أبي ذرٍّ الغفاري - رضي الله عنه - بأمِّ البواقي"، وكانتْ عن (أثر التَّمسُّك بالسُّنَّةِ في أوقاتِ الفِتَن).
وكان عددٌ من المشَّايخ بالعاصمةِ على تواصل مُستمرٍّ وفَّقهم الله هاتفيَّاً معي ومع الأخ المرافق نبيل - وفَّقه الله - للسُّؤال والاطمئنَان، جزاهم الله خيراً.
5/ السَّبت: 23/ رجب/ 1432هـ، الصَّباح السَّاعة (9)، درسٌ بـ"المسجدِ العتيق" في (أصول السُّنة) للإمام أبي بكر الحميدي - رحمه الله -، واستمرَّ قرابة السَّاعتين.
وعند عودتي لمقرّ الضِّيافة للاستراحة بعد الدَّرس، التقيتُ مَعالي وزير الاتّصالات - وفَّقه الله - وبرفقتهِ سَعادة والي ولاية أم البواقي، ومعهما الوفْدُ المصاحب، فسلَّمتُ عليهما وشكرتُ الوالي والمسؤولين عموماً على هذه الْخِدمة للعلمِ وأهلهِ، ثُمَّ صعدتُ الغرفة.
وبعدَ العَصرِ مِنَ اليومِ نَفْسِهِ كانت لِي مُحاضرة بعُنوان (التَّقوى حَقِيقتُها وأَثَرُ تَحقيقهَا) في (الْمَسِجِدِ العَتيقِ) بِمَدينةِ (عَين البَيْضَاء)، التَّابعة لولاية أمّ البواقي، وتبعد عن أمّ البواقي قرابة (25) كيلو تقريباً، ثم بعد المحاضرة دعانَا أحد الإخوة هناك لتَناول طعام العشَاء، فأجبتُه، ثُمَّ رجعنا إلى مقرِّ الإقامة.
6/ الأحد: 24/ رجب/ 1432هـ، الصَّباح السَّاعة (8)، ذهبنا إلى مقرِّ الإذاعة الرسْميَّة بولاية أمِّ البواقي، لطلبهم تَسجيل لقاءٍ معي ومِنْ ثَمَّ نشره عبر الأثير تحت برنَامج أسبوعيّ باسم: (دينٌ ودُنيا)، وهذا البرنامح مُباشرٌ، ووقته الدَّائم يوم الإثنين السَّاعة (11) قبلَ الظهر، لكن لضيق وقتي، رَغبوا في التَّسجيلِ ثُم إذاعته فِي وقتهِ المعتاد؛ فوافقتُ وتَمَّ الَّلقاء قُرابة السَّاعة وزيادة تقريباً، وكان عَن (استغلال الوقت في الصَّيف)، ثُمَّ خَرجتُ إلى المسجدِ، لإلقاء الدَّرس، والذي استمرَّ قُرابة السَّاعتين أيضاً، وتَمَّ إنهاء الكتابِ بِحمد الله وتوفيقه.
ثم انصرفنا ظهراً إلى الغَداء، ورجعتُ مقرَّ الضِّيافة استعداداً لِمُحَاضَرَتَيّ العَصر وَالمغْرِب، وفعلاً فَفي عصر الأحد ذهبنا إلى مدينة تُسمَّى بـ(عين فكرون)، وهي تبعد عن (أم البواقي) قرابة (30) كيلو تقريباً، وكانت المحاضرةُ في مَسْجدِها الكبير المسمى بِـ(مسجد أول نوفمبر) - هَكَذا؟ - وعُنوانها (وصايا سُنِّية لِمَنْ أراد النَّجاة)، وانْتَهت المحاضرة قُبَيل المغرب، ثُمَّ سِرْنا بَعدها مباشرةً إلى مدينة (عين مليلة) وهي تبعد عن مدينة (عين فكرون) قرابة (25) كيلو تقريباً، وتبعد عن (أم البواقي) أكثر من (55) كيلو تقريباً، فَوصلناها قُبيل أذان المغرب بيسير، ودَخلنا مسجدها الَّذي فيه المحاضرة، وهو يُسمى بـ(مسجد الصَّحابة)، ثُمَّ صلَّينا المغرب وبدأتُ المحاضرة وكانتْ بعُنوان (أثرُ العِلْم الشَّرعي في تَحقيق الأمن)، وانتهيتُ منها عَلَى أذان العِشَاء، فصلَّينا العِشَاء ثُمَّ دُعينا لتناول طعامِ العَشَاء، فأجبتُ الدَّاعين، وكان أنْ حَضَر الْمُحَاضَرةَ والعَشَاء الدُّكتور الشَّيخ عبدالمجيد جمعة - حفظه الله -، ثُمَّ عُدنا إلى ولاية أمّ البواقي، فما وصلنَاها إلا قرابة السَّاعة (12) ليلاً، والحمدُ الله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات.
7/ الإثنين: 25/ رجب/ 1432هـ، الصَّباح السَّاعة الثَّامنة، خرجنا مَع الأخ العربي والإخوة المرافقين والْحُرَّاس إلى جبلٍ مُرتفعٍ بأمِّ البَواقي، شَربنا الشَّاهي، وشرحوا لي شيئاً من جغرافية المنطقة، والجبال المحيطة بِها، ثُمَّ عدنا، وفي طريقنا كانْ أن طلبَ سعادة مدير مديرية الشُّؤون الدِّينية والأوقاف اللقاء بِي قَبْلَ السَّفر، وبالفعل التقيتُه فِي مَكتبه بالمديريَّة وشكرني شُكْراً بَالغاً عَلى ما بُذل مِنْ تَعليم وإرشادٍ للنَّاس في هذه الأيام الماضية، وذكر لِي أنَّ والي ولاية أمِّ البواقي قد كلَّفه أنْ يُبلِّغني شكرهُ وتقديره وسروره البَالِغ بِما تَمَّ في هذه الزِّيارة الدَّعوية العلميَّة، وتَمنَّى تِكرار الزِّيارة. وَ بِدَوري رغبتُ منْهُ إيْصَال شُكري البَالغ لسعادةِ الوالي عَلَى حُسْنِ وَكَرمِ ضِيَافتهِ، وَتَقديري لَهُ وَ لِجَميعِ المسؤولينَ بِالولاية والوزَارة علَى مَا بَذلوه مِنْ جُهْدٍ وَتَنْسيقٍ وَحِرَاسةٍ وَضِيَافَةٍ، واحترامٍ وَتَقديرٍ وَ تَعاونٍ، اَّلذي كان سَبباً بعد تَوفيق الله وكرمه في إنْجَاحِ هَذه الدَّورة، والحمدُ لله.
ثُم غادرنا مباشرةً إلى مطارمدينة قسنطينة، إذ سَفرنا ظهراً تقريباً، وَ التَقينا في الْمَطار بالأخ الشَّيخ عبدالمجيد جمعة، وسافرَ مَعنا في الطائرة إلى العَاصمة، فوصلناها قبل العَصر، ثُم تناولنا طعام الغَداء، ثُم أخذني الشيَّخْ لزهر سنيقرة - حفظه الله - إلى أحد الفَنادقِ، للاسْتِرَاحة، وفعلاً نزلتُ فيها.
لَمَّا وَصلنا العَاصِمة كلَّمني الأخ الشَّيخ عبدالمجيد جمعة عَن رغبةِ بَعض مُشرفي (منتديات التَّصفية والتَّربية السَّلفيَّة) زيارتي لإجراء لقاءٍ وتَسجيله خَاص بالموقع، فوافقتُ، فجَاءَ الإخوة وسجَّلوا معي تسجيلاً، طَرحوا فيه بعض الأسئلة وأجبتهم عنْها.
8/ بعد العِشَاءِ مِنْ يَوم الإثنين، تَمَّ الِّلقاء الثَّاني بِجمعٍ مِنَ المشَايخ بالعَاصمة - وفَّقهم الله - مِنْهُم الشِّيخ الأُسْتَاذ الدُّكتور مُحمَّد بن علي فَركُوس والشَّيخ عبدالغني عوسات والشَّيخ الدُّكتور عبدالمجيد جمعة والشَّيخ لزهر سنيقرة والشَّيخ عزّ الدين رمضاني والشَّيخ توفيق عمروني والشَّيخ الدُّكتور عبدالخالق ماضي والشَّيخ نَجيب جلواح وآخر نَسِيتُه - عَفى الله عنِّي وعنْهُ -، وفَّقهم الله جميعاً لما يحبه ويرضاه، وكان مَجْلِساً مُفيداً تَناولنا فيه عَدَداً من المسَائل الدَّعوية الْمُهِمَّة، و رَغِبُوا فِي سَمَاعِ انْطَباعي عَنِ الدَّورةِ، و أَمِلُوا أنْ تَكون هَذه الزّيارة فاتحة لِزَياراتٍ أُخْرَى، ثُمَّ تكلَّمتُ وكرَّرتُ شُكْري لهم ما بذلوهُ ويبذلونَهُ، وأيضاً شكرتُهم عَلى حِرصهم ورغبتهم فِي تِكْرارَ الزِّيارة، وَ ذكرتُ مَا رَأيتُ ولَمستُ مِنْ خَيرٍ وحِرصٍ عَلَى تَعَلُّمِ السُّنُّة، وحَمدتُ الله على منِّهِ وَكرمهِ، وسألتُهُ الْمَزيدَ مِنْ فَضْلهِ، وأنْ يَقيَ هَذه الدَّعْوة الْمُبَارَكة كَيْدَ الكَائِدين ومَكْرَ الْمَاكِرينَ، و مِمَّا قلتُه لهم: هو أنَّني ذَكرتُ للإخوة الَّذين سَجَّلوا معيَ الِّلقاء مِنْ (مُنتديات التَّصفية والتَّربية)، أنَّ مَا رأيتُه مِنْ حِرْصِ الإخوةِ الطُّلاب على الْحُضُور والمسَابَقةِ فِي الْخَير، دَليلٌ عَلى حُسنِ تَربية وتَعليمِ الْمَشَايخِ - وفَّقهم الله -، إذْ أثرُ ذَلكَ ظَاهرٌ فِي هَؤلاء الطُّلابِ، و هو أمرٌ يُذكرُ لهم ويشكرون ويُعانون عليه، فالله أسألُ لنَا ولَهُم ولِلْجميعِ التَّوفيق والسَّداد والثَّبات عَلى الإسْلامِ والسُّنَّة.
ومِمَّا قُلتُه لَهُم أيضاً، أنَّني ذكرتُ لغيرِ واحدٍ مِنَ المعْنيِّين بالأمرِ: أنَّ الدَّعوةَ السَّلفيَّة الْمُبَاركة دَعوةُ خَيرٍ وأمنٍ، مَثَلُهَا مَثَلُ الغَيْثِ أيّنما حَلَّ نَفَعَ بأمرِ اللهِ.
وَكمَا يُقالُ الشَّيءُ بالشَّيءِ يُذكَرُ: أنَّ مِمَّا ذَكَرتُهُ لِمَنْ يَعْنِيهِ الأَمْر زَيَادةً علَى مَا سَبَقَ، قلتُ: أنتَ تَرىَ هَذه الْجُموع الكَثَيرة وَالغَفيرة الْمُؤَلَّفَة، لَمْ يُسَجَّل عَلَى أَحَدِهمْ مَا يُخِلُّ بِأَدَبٍ عَامٍّ أو بِأَمْنٍ، مِمَّا يَدُلُّ دلالةً واضحةً عَلى أنَّ هَذِه الدَّعوة الْمُبَاركة تَحْمِلُ صَاحبهَا عَلَى الْهُدَى وَالْخَيرِ وَالفَلاحِ، فَيَأْمَنُ هُو فِي نَفْسهِ وَيَأمنهُ النَّاسُ بَلْ وَالشَّجرُ وَالْحَجَرُ وَالدَّواب، فَلَكَ أنْ تَتَصوَّر كَمْ هِيَ سَعَادة النَّاس وَفَلاحهم وأَمْنُهم أن لّوِ اسْتَقَامُوا علَى هَذه الدَّعْوَةِ السُّنّية السَّلفيَّةِ الْمُبَارَكَة قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}.
و عودٌ على بدء: ففي يوم الثُّلاثاء 25/ رجب/ 1432هـ، الثَّامنة صباحاً حضر إلِيَّ فِي الفُندق بعض المشْرِفين على مُنْتَديات البيضاء العلميَّة، ودارَ حِوارٌ حول بعض المسائل الدَّعوية الخاصَّة بمواقعِ الإنترنت وغيرها، والحمدُ لله ربِّ العالمين، ثُمَّ وصلني الشّيخ لزهر سنيقرة - حفظه الله -، وأفطرنا سويَّاً، ثُمَّ زُرْنَا مَقرّ مَجلَّة "الإصلاح" وَ"دَار الفَضيلةِ"، ولقيتُ بها عدداً من الإخوة أعضاء المجلة كالشَّيخ عزَّالدين رمضاني والشَّيخ توفيق عمروني والشَّيخ عُمر الحاج مَسْعُود والشَّيخ نجيب جلواح، وبَعض الإخوة من طلبة العلم أيضاً، ثُمَّ استأذنْتُهم لِقُربِ مَوعدِ السَّفر، فانْطَلقنا إلى المطار برفقةِ الشَّيخ لزهر سنيقرة والشِّيخ الدُّكتور عبدالمجيد جمعة - وفَّقهما الله -، والأخ نبيل، فغَادرتُ الجزائر العاصمة السَّاعة (3) قبل العصر، وتأخَّرت الطَّائرة عن الإقلاع سَاعةً ونصف تقريباً، فوصلنا تركيا، وبقيتُ في المطار نَحواً مِنْ ثَلاث سَاعاتٍ، ثُمَّ غَادرتُ إلَى طَيْبَةَ، الْمَدينة النَّبويَّة، فوصلتها بِحمدِ الله السَّاعة (2,30) بعدَ مُنْتَصفِ الّليل بتوقيتِ الْمَمْلَكةِ، و (12,30) ليلاً بتوقيت الجزائر.
9/ أمَّا عَنِ الْحُضُور وَمَا رَأيتُه مِنْ إقبالٍ على الْخُطبة والدُّروس والْمُحَاضَراتِ، فَتَبارك الرَّحمن، حُضورٌ قَلَّ نَظيرهُ، إذْ قَد حضرَ إلَى الدَّورة - كمَا أفادني بذلك عَددٌ منَ الإخْوَةِ - مِنْ جَميعِ وِلاَيَاتِ الْجَزائر الـ(48) ولاية!.
ولَمَّا سألني بعضُ الإخوةِ مِنَ السُّعوديةِ هَاتفياً؟ قُلْتُ: لَهُ يُشابِهُ حُضور الإخوة السَّلفيين فِي إنْدُونيسيا، فِي الدَّوراتِ الَّتي شاركتُ فيها قَبْلُ.
فالْحُشودُ غَفيرةٌ جدَّاً، وَحدَّثني الشَّيخ العربي إمام المسجد العتيق أنَّه دخل المسجد لِصلاة الفجر يوم الجمعة فرأى المسجدَ مُكتظَّاً بالطُّلاب، لا يَكَادُ يوجدُ مَكانٌ فِي داخلهِ، وأخبرني رجلٌ مُسِنٌ من جماعةِ المسجدِ قال: أتيتُ المسجد لصَلاة الفجر فلم أجد مكاناً، وقال: لم أرَ مثل هذا الحضور من قبل. قلتُ: هذا الاكتظاظ المبكّر مِنْهُم إنَّما هو استعداد لسَماعِ الخطبة!!
وأما وقْتُ الْخُطْبَة فَالمسجدُ لاَ تكاد تَجد مكاناً فيه لطفلٍ فَضْلاً عن رجلٍ، والسَّاحات المحيطة بالمسجد كذلك، وخارج المسجد حتى الشَّارع الرئيسي، ممن اضطر الأمن لإغلاق الشارع حفاظاً على المصلين.
وفي المسجدِ أيضاً مُصلَّى النِّساء قد امتَلأ عن بكرة أبيه، وهو يسعُ (600) امرأة تقريباً.
فالحمدُ الله الذي بنعمته تتم الصالحات، علماً بأنَّ هذه الحشود الغفيرة والَّتي تعدُّ بالآلاف مِنَ الإخوة السَّلفيين كانت في كلِّ المساجدِ الَّتي حاضرتُ فيها بلا استثناءٍ؛ وهَذا ما أغاظ أهلَ الأهواء والمندسِّين والكذَّابين الَّذين قَالُوا بالباطلِ وَروَّجوا لَه ظنَّاً منْهُم أنَّ ذلك يغيرُ من الحقيقة شيئاً، والله مِنْ وَرائهم مُحيطٌ.
ومِنْ جَميل ما حَصَلَ في هذه الَّلقاءات الْخيِّرة:
أ/ مُسْابَقةُ ومُسارعةُ أهْل الإحسان والخير مِنْ أهْلِ أمِّ البَواقي وفَّقهم الله مِن جِيران الجامع العتيق وغيرهم، فِي تقديمِ جميع أوجه المُسَاعدة الطُّلاب التي يستطيعونها من توفير الأطعمة وغيرها لهم، رغبةً منهم في الخير، ولو بشق تمرةٍ!
ب/ حدَّثني الأخ العربي أنَّ مُحْسِناً استأجر دَاراً مُخصَّصة للنُّزَلاء، وطلبَ مِنْهُ أنْ يُخْبِرَ الطُّلاب إنْ رَغِبُوا الانتقالَ إليها، فاعْتَذَروا عددٌ كبيرٌ منهم، وآثروا البَقَاء فِي المسجدِ حتَّى لا تَذهب عليهم الأمَاكن!
ج/ أنَّه أُعلن غَيرَ مَرَّةٍ لِجَميع الإخوة أنَّ بَاصات وسيَّارات مَوجُودة لِنَقْلِهم إلى أماكنِ المحاضراتِ، في كُلَّ المسَاجدِ الَّتي حاضرتُ فيها، على تَباعدٍ بينها كمَا مرَّ! جَزاهم الله خيراً.
د/ ومنه أيضاً: أنَّ والي ولاية أمّ البواقي - حفظه الله - أمرَ بِفَتحِ المسجد العتيق ومسجد أبي ذر الغفاري لِلطُّلاب مِمَّن أراد المبيت فيه، وكلَّف الأمن بحراستهم حفاظاً عليهم، وهذا عملٌ يُشكر عليه جداً ونَسأل الله أن يجزيه خيراً.
وفي الحقيقة: إنَّه قَد تَجَسَّد التَّعاون على البِرِّ والتَّقوى في هذه الدورة بِصُورٍ شَتَّى، تَنُمُّ عن حرصٍ على السُّنَّةِ وَنَشرِ الْخَيرِ، فَالَّلهم بارك لهم في أعمالهم وأعمارهم وأرزاقهم وأولادهم، وآمنهم والمسلمين يارب العالمين.
هـ/ وأمَّا عن حرَّاس الأمن المرافقين لي طلية الرِّحلة، فَلمَّا أوصلوني إلى المطار لمغادرة قسنطينة، وكنتُ قد شكرتهم على ما بذلوه، وتأسفتُ لَهُم مِمَّا لاقوه مِنْ مَشقَّةٍ وعناء، فكانَ جَوابهم – وبعضهم يبكي - أنَّنا والله يا شيخ شَرُفنا بالعملِ مَعَك، وأَلِفْنَاك، فلا نَدري كيفَ الآن؟ وقد استفدنا كثيراً والحمد لله، وكُنَّا نعملُ ونَحنُ في غاية مِنَ السُّرور والفَرح، فَجزاهم الله خيراً وبارك فيهم.
و/ وكما يقال: الشيءُ بالشيء يذكرُ: فَقد ذكر لي غيرُ واحدٍ أنَّ المنطقة قد انْتَعشت تِجَاريَّاً، فمحال النُّزَلاء وَالمطاعم والمخَابز والهواتف وغيرها من المحال التِّجارية كلّها عملت ونشطت، فهذه أيضاً من حَسَنَاتِ نَشْرِ السُّنَّة، فلله الحمدُ والمنَّة.
ي/ ومِنْ حَسَنَاتِ نَشْرِ السُّنَّة وتَعليمها أنْ قَدْ أبلغني الإخوة مِنْ أهل المنطقة وغيرهم باخْتِفَاءِ جُملةٍ مِن مَظاهر المعاصي، والله الحمدُ.
وختاماً: أقولُ: قد تبَّين لي في هذه الزِّيارة المباركة - إن شاء الله - مَدى حُبِّ وتقديرِ وتَعْظيمِ أهلِ السُّنَّة الْمَحضَةِ فِي تِلْك الدِّيار - مِنْ مَشايخ وطُلَّاب عِلمٍ - لشيخنا العَلامة المحدِّث المجاهد أبي مُحمد ربيع بن هادي المدخلي - حفظه الله - وردَّ عنه كيد الأعادي، فَلا أكادُ أحصي كَم الّذين حَمَّلوني تَبْلِيغَ سلامهم وحبِّهم للشِّيخِ، وهذا يدلُّ على عِظمِ مَكانَتهِ فِي نُفوس أهلِ الْحقِّ وطُلاّبه، معَ يَتعرَّض إليهِ - حفظه الباري -، هُو وإخوانه مِنْ عُلمَاء وَمَشايخِ أهلِ السُّنَّة السَّلفيين مِنْ حَربٍ ضَروسٍ، تَنُمُّ عَنْ حِقْدٍ دَفينٍ عَلى السُّنَّةِ وَأهلها، ولكنْ يأبى اللهُ إلَّا أنْ يُظهر الْحَقّ بكلماتهِ وَلو كَرهَ الْحَاقدونَ الْمُتَربِّصونَ، وتذكَّرتُ في هَذا المقام قولَ الإمام ابن القيِّم - رحمه الله تعالى - فِي (مَدارج السَّالكين)(3 /196-200) شَارحاً حديث (الغُرباء) قال: (( ... والمؤمنونَ فِي أهْلِ الإسلام غُرباء وأهْلُ العِلْمِ فِي المؤمنين غُربَاء وأهلُ السُّنَّة الَّذين يُميِّزونَها مِنَ الأهواء والبِدَعِ فيهم غُرباء، والدَّاعُون إليها الصَّابرونَ عَلى أذى الْمُخَالِفين هُم أشدّ هَؤلاء غُربة، ولكن هَؤلاء هم أهلُ الله حقَّاً فلا غُربة عليهم وإنَّما غُربتهم بين الأكثرين الَّذين قال الله عز وجل فيهم {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فأولئَك هُم الغُربَاءُ مِنَ اللهِ وَرسولهِ وَدينهِ، وغُرْبتُهمْ هِي الغُربةُ الموحِشَة وإن كَانوا هُم المعروفين المشار إليهم…
فالغُربة ثلاثة أنواع: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله أهلها وأخبرَ عن الدِّين الذي جاء به أنه بدأ غريباً وأنَّه سيعود غريباً كما بدأ وأنَّ أهله يصيرون غرباء، وهذه الغربة قد تكون في مكانٍ دون مكانٍ ووقتٍ دون وقتٍ وبين قومٍ دون قوم، ولكن أهل هذه الغُربة هم أهل الله حقاً فإنَّهم لم يأووا إلى غير الله ولم ينتسبوا إلى غير رسوله ولم يَدْعُوا إلى غير ما جاء به…ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: التَّمسُّك بالسُّنَّةِ إذا رغبَ عنْها النَّاس وتَرك ما أحدثوه وإنْ كانَ هو المعروف عنْدهم.
وتَجريد التَّوحيد وإن أنكر ذلك أكثر النَّاس... وهؤلاء هم القَابِضونَ عَلى الجمر حقَّاً، وأكثر النَّاس بل كُلّهم لائمٌ لهم؛ فلغربتهم بين هذا الخلق يَعُدُّونهم أهل شُذوذ وبدعة ومُفَارقةٍ للسَّواد الأعظم … بل الإسلام الْحقّ الَّذي كان عليه رسول الله وأصحابه هو اليوم أشدّ غُربة منه في أوّل ظهوره وإنْ كانت أعلامه ورسومه الظَّاهرة مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقيّ غَريبٌ جدِّاً، وأهله غرباء أشد الغربة بين النَّاس.
وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدّاً غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة، ذات أتباع ورئاسات ومناصب وولايات، ولا يقومُ لها سوق إلا بمخالفةِ ما جاء به الرَّسول؛ فإنَّ نفس ما جاء به يُضاد أهواءهم ولذَّاتهم وما هم عليه من الشُّبُهات والبِدعِ الَّتي هي مُنْتَهى فضيلتهم وعملهم، والشَّهوات الَّتي هي غايات مقَاصدهم و إراداتهم، فكيفَ لا يكون المؤمن السَّائر إلى الله على طريقِ المتابعة غريباً بين هؤلاء الَّذين قد اتَّبعوا أهواءهم وأطاعوا شُحَّهم …
فإذَا أراد المؤمن الَّذي قد رزقه الله بصيرة في دينه وفقهاً في سُنَّةِ رسوله وفهماً في كتابه وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضَّلالات وتَنَكُّبهم عن الصِّراطِ المستقيم الَّذي كان عليه رسول الله وأصحابه، فإذَا أرادَ أنْ يَسْلُكَ هَذا الصِّراط فليُوطِّن نفسه على:
قَدحِ الجُهَّالِ وأهلِ البدعِ فيهِ، وطعْنهم عليه، وإزْرَائهم به، وتَنفير النَّاس عنه، وتَحذيرهم منه كما كانَ سَلفهم من الكفَّار يفعلون مع مَتبوعهِ وَ إِمامهِ، فأمَّا إنْ دعاهم إلى ذلك وقَدَحَ فيما هم عليه فُهَنالك تَقُومُ قيامتهم ويبغونَ لَه الغوائل ويَنْصِبون له الْحَبائل ويَجْلِبُون عَليه بَخَيْلِ كَبيرهم وَرَجْلهِ.
فَهو غريبٌ في دينهِ لفسادِ أديانهم، غَريبٌ في تمسُّكهِ بالسُّنَّةِ لتَمَسُّكِهم بالبدع، غريبٌ في اعتقادهِ لفسادِ عقائِدِهم، غريبٌ في صَلاتهِ لسُوءِ صلاتهم، غريبٌ في طريقه لضلالِ وفسادِ طرقهم، غريبٌ في نسبتهِ لمخالفةِ نِسَبِهِم، غريبٌ في معاشرتهِ لهم لأنَّه يُعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم، وبالجملة: فهو غريبٌ في أمورِ دنياه وآخرته، لا يَجِدُ مِنَ العامَّةِ مسَاعِدَاً ولا معيناً، فهو عالمٌ بين جُهَّالٍ، صاحبُ سُنَّةٍ بين أهلِ بدعٍ، داعٍ إلى الله ورسولهِ بين دعاةٍ إلى الأهواءِ والبدعِ، آمرٌ بالمعروفِ ناهٍ عن المنكر بين قومٍ المعروف لديهم منكر والمنكر معروف)). وَ هَذا المسلكُ الَّذي أشار إليه الإمام ابن القيِّم مِنَ التَّنْفيرِ مِنْ عُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ المحضةِ هُو مَسْلَك أهل البِدَعِ قديْماً وحديثاً! وَ تَأمل - أيُّها المحب - هَذا النَّقل عَنِ العَلامة الشَّاطبي - رحمه الله - واصِفاً بعض طَرائق أهل الأهواء والَّتي منْهَا تقبيح فتاوى العلماء لدى العامة تنفيراً عن السُّنَّة وَأهلها! حيثُ قالَ في كتابهِ (الاعتصام) (2 /52-ط التوحيد): ((وربَّما ردُّوا فَتَاويهم وقبَّحوها في أسْمَاع العامَّةِ؛ ليُنفِّروا الأمَّةَ عن اتِّباعِ السُّنَّةِ وأهلها)).
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أنَّ الصِّراعَ بَين الْحَقِّ والباطل قَديِمٌ، ومِنْ ذَلكَ بَيان السُّنَّة وَرَدّ البِدَع، وقَد شبَّه شيخُ الإسلام ابن تيميَّة غفر الله لَه هَذا الصِّراعَ بِقَولهِ: ((وأهلُ السُّنَّة إذَا تَقَابلوا هُمْ وَ أهْل البِدَعِ، فَلَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ تَقَابِل الْمُؤْمنينَ وَالكُفَّارِ...)) (الرد على البكري) (2 /693).
لكنَّ الذي يَجِبُ أنْ يَسْتَقرَّ لَدى أهْلِ الْحَقِّ: أنَّ الغلبَةَ هي لِلْحَقِّ وأهلهِ، وأنَّ مَا يَجري هُو تَمْحِيصٌ لهم، أَيصبرونَ؟ قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وقال سُبحانه:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
وأخيراً: هَذا ما رغبتُ ذكرهُ عَن هَذه الزِّيَارة العلميَّة الدَّعوية إلى الدِّيار الْجَزائرية، والَّتي أسألُ الله بأسمائه الحُسنى وصفَاتهِ العُلَى أنْ يَنْفَعنِي بِهَا يوم لا ينفعُ مَالٌ ولا بنون إلَّا مَنْ أتَى الله بقلبٍ سليمٍ، كما أسألهُ سبحانه أنْ يَجْزي الإخْوَةَ الْمَشايخ في الْجَزائِر عَلَى مَا بَذَلُوهُ وَيَبْذلونُه، وكَذَا الجميعِ مِنْ مَسؤولين وَطلَّابٍ خَيرَ الْجَزاء وَأوفاه، وأنْ يُثَبِّت الجميع علَى الإسلام والسُّنَّة حَتَّى نَلقاهُ إنَّهُ سُبْحانه نِعْمَ الْمَولى وَنِعْمَ النَّصير، وصلَّى الله على نبيّنا مُحمَّد وآله وصحبه وسلَّم.
وكتب
عبدالله بن عبدالرحيم بن حسين السَّعدي ثم البخاري
- كان الله له -
قباء/ المدينة النَّبوية
الجمعة 7/ شعبان/ 1432هـ
عبدالله بن عبدالرحيم بن حسين السَّعدي ثم البخاري
- كان الله له -
قباء/ المدينة النَّبوية
الجمعة 7/ شعبان/ 1432هـ