قد بلغت من عمري الثاني و الثلاثون, و أذكر بعض القليل من إنتفاضة الحجارة التي أنطلقت بتاريخ 8/12/1987 , و قدم الشعب الفلسطيني في تلك الإنتفاضة درساً للعرب و العالم بأنه شعبُ حر , شعب حي يتنفس , يشعر يتألم و يفرح , قد قال للعالم إننا هنا , أحياءُ نرزق , نرفض و نقاوم , لا خنوع أو إستسلام , و قد أنطق هذا الشعب الحجر , و لأول مرة في التاريخ يصبح للحجر قيمة كبيرة في المواجهة بين الحق و الباطل .. أصبح الحجر رصاصاً .. صاروخاً أو هكذا تخيله جيش الإحتلال و أنزل في قلوبهم الرعب , أي معركة هذه التي تقف فيها تراسنة حربية لأقوى جيوش العالم مقابل حجر ؟!
و مرت الأيام و أستمرت الإنتهاكات , على الأرض و الشجر و المقدسات و الإنسان , و لم أسمع بشيخٍ من شيوخ السلاطين و الفتن قد أفتى للجهاد في فلسطين , أو حاول بنفسه الذهاب إلى هناك و المشاركة في مقاومة المحتل !
كلُ منهم يجلس في برجه العاجي , و يَلوحون بالعالم العربي و الإسلامي في حرب الطوائف , أنهم يُرجعون زمن سقط الأندلس حين بدأت رسم معالم ذاك السقوط المذل و بدأ ملوكها القتال فيما بينهم , و تركوا أعداء الخارج يتربصون بالدولة الأسلامية , لتذهب الأندلس فريسة تلك الصراعات الداخلية البغيضة , و يتلقفها الملك فيرديناند و الملكة إليزابيث على طبق من ذهب .
قد خسر الكثير من الأباء و الأمهات أبناءاً لهم و قُدِموا كقرابين على المذابح بسبب هؤلاء الشيوخ بعيداً عن أرض الجهاد فلسطين , فتنوا الأمة و شبابها و أختلف معنى الجهاد على أيديهم , دنسوا هذا الواجب الديني في نصرة الدين و الحق , و أصبحت أمانيهم و دعواتهم الصلاة في المسجد الأموي في دمشق و لم تعد الغاية الصلاة في المسجد الأقصى أو الإنتفاض لقدسيته .
لم أكن مع النظام السوري يوماً سواءً على زمن حافظ الأسد أو إبنه بشار , و لن أكون ما حييت في صفهم , لكن أيعقل أن يسكت مشايخ الضلال عن فلسطين لا يصدرون أي فتوة للجهاد فيها من بعد ما خسر العرب معاركهم مع العدو الصهيوني في أعوام 48 و 67 ؟! هل يجد أحدكم أن في الأمر منطق أن تنصب كل دعوات الجهاد و النفير إلى سوريا , و بالمقابل توضع فلسطين على الرف و كأنها باتت قضية للإستهلاك القصصي و سرد الحكايا التاريخية و إستذكار ما كانت عليه قبل دخول الصهيونية إليها ؟
أعجب ما في كل هذا أنك تجد المدافعين ممن يُشفَق عليهم , فهم لا يتركون باباً إلا و يطرقونه بحثاً عن تبريرٍ لهذه الحالة و تبرير وصايا شيوخهم , كمن يقول : الطريق لتحرير فلسطين هو دمشق , و بتحريرها سوف نقوم بإذن الله للإنتفاض نحو فلسطين , أو كما حدث مع الأخوان المسلمين و من أقتنعوا بخزعبلاتهم , حين قالوا نسقط حكم مبارك و من ثم ( للقدس رايحين ,, شهداء بالملايين ) و ماذا شاهدنا بعد سقوط حكم مبارك ؟ أعلنوا بحسب إرشادات المرشد الأعلى أمريكا و نائبها في المنطقة عبدالله آل سعود أن النفير و الجهاد وجب إلى سوريا !
أي وقتٍ هذا الذي نمر فيه و نعايش أحداثه ؟! لعمري أنه الأسوء على الإطلاق في تاريخ الشعوب العربية و الإسلامية و هذه حقيقة لا تقبل الجدال !
أرهقوا عقولنا بأنهم من أهل الخير و التواضع , و هم يعيشون في نعيم و رغدٍ كالملوك , قصور و سيارات فارهة , و ينسبون أنفسهم إلى السلف الصالح , و كل أمرٍ يبررونه و يردونه إلى أنهم على نهج السلف الصالح , و الحقيقة أن الأمر مضحك برمته , و قد تذكرت حادثة غزوة تبوك حين حث الرسول عليه أفضل الصلاة و السلام على الصدقة و الإنفاق , فأتى أبا بكر رضي الله عنه و قال هذا مالي يا رسول الله , فسأله الرسول الأكرم : هل أبقيت يا أبا بكر, شيئاً لأهلك ؟ فرد أبا بكر : أبقيت لهم الله و رسوله !
مثل هذا لا يأخذونه عن أبا بكر , ومثل شجاعة معلمهم الأكبر إبن تيمية حين وقف وقفة عز في وجه السلطان و حثه على القتال و الجهاد , و على عدم التخاذل في نصرة المسلمين و من ثم وقف على الجبهة بسيفه يقاتل حاله كحال الجنود الذين أتخذوه قدوة حتى كتب الله لهم رد التتار عن أرض الإسلام و تحقق النصر.
محمد العريفي و محمد حسان , كنت أرى بهم علماء , من شأنهم أن ينهضوا بالأمة بلا دجل أو رياء و لا يأخدهم في الحق لومة لائم , لكن البراويز تساقطت, و ظهرت الصورة القاتمة لأمثال هؤلاء , و كما ذكر صحفي سعودي , بأن العريفي بعدما أعلن و حث على الجهاد في سوريا من البوابة المصرية و برضا الأخوان المسلمين , طار إلى لندن بحثاً عن جهادٍ جديد !
و للمرة التي لا أعرف عددها , بقي الجهاد في فلسطين ممنوعاً , لا يقربه علماء السلاطين , و لا يذكرونه في كلمة حق أمام الحكام أو أمام الملأ و بات حديثهم عنه خافتاً يُخجل صاحبه و يوقعه في الحرج , إنني وعلى مدار الأزمة السورية تسألت في مواقع كثيرة و قلت : أن السلفية الجهادية جابت الأرض طولاً بعرض و هي تحارب في شرق آسيا و أوروبا و البلاد العربية المختلفة و حتى وصلت أمريكا , لكنها أبداً لم تتخذ يوماً طريقاً إلى فلسطين ! ترى ما السبب ؟ أليس في الأمر غرابة و علامات إستفهام كثيرة ؟
و لتزداد الدهشة أن أول المجاهدين العرب في أفغانستان عبدالله عزام هو فلسطيني , و لم يحارب في فلسطين , و تبعه خلفه بن لادن و الزرقاوي و الظواهري و لم يحارب أحدهم في فلسطين على الأطلاق ! أليس هذا غريباً ؟ بل لنزيدكم من الشعر بيتاً , حتى أثناء أجتياح لبنان في عام 78 و 82 , لم يحارب الصهاينة سوى العلمانيون و الشيوعيون و قوى اليسار بكافة إتجااتها الأيدولوجية و الشيعة و بعض من لا ينتمون لأي حزب أو مذهب ! هؤلاء من تصدوا لآلة الحرب الصهيونية في إجتياحها لبنان .. أليس من حقي و حق عقولكم عليكم أن تتسائل لماذا ؟!
أصبت بالإعياء و الكره و الحقد من كثرة هذه التساؤلات , لأنها أوصلتني إلى أن هؤلاء ساهموا في تدمير أمة العرب و الإسلام و ساهموا مع الغرب و الصهاينة في قتل المسلمين لبعضهم , و أثبتوا أن لا نوايا شريفة يمتلكونها , و أن المكاسب الدنيوية التي يبحثون عنها أكبر بكثير مما يظهر لنا , و ربما فكرت أنا مؤخرأ , أن أعمل في مهنة شيخ دين أو داعية حيث من الواضح جداً انها مهنة تدر دخلاً عظيماً على صاحبها .... إنهم تجار دين يا سادة .
جهاد لا يبدأ في فلسطين ... باطل ثم باطل .. ثم باطل !