بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جميلة بو حيرد
جميلة بو حيرد" المناضلة الجزائرية الشهيرة، جسدتها أعمال سينمائية أشهرها فيلم "جميلة بوحيرد" للممثلة القديرة ماجدة الصباحي، إضافة إلى القصص العديدة والمسرحيات، وآخرها مسرحية جزائرية بعنوان "إسمي جميلة" عرضت في المكتبة الوطنية الجزائرية قبل أيام، على هامش ملتقى "سرديات الكاتبة العربية".
من فكرة للأديب أمين الزاوي، اختار المخرج الجزائري عبد الناصر خَلاف نصوصاً شعرية كتبها شعراء من أنحاء الوطن العربي: سليمان العيسى، نزار قباني، بدر شاكر السياب، محمد الفيتوري، صالح باوية، عبد القادر حميدة، سعد دعيبس، محمد عادل سليمان وجمال العمراني فكانت قصائدهم بمثابة النص الذي بنى عليه خَلاف رؤيته الإخراجية لسيرة سيدة تعدّ إحدى أبرز الشخصيات الجزائرية خلال القرن العشرين.
حاول خَلاف تجسيد ساعات أليمة ولحظات عصيبة عاشتها المناضلة في السجن وأثناء التعذيب القاسي الذي مارسه سجّانوها على جسدها الغض، كانت في الثانية والعشرين حين تم القبض عليها عام 1957 بعد عملية "ميلك بار" الشهيرة.
في صور تشكيلية شبه معتمة، إلا من بعض ومضات شموعٍ توحي بدموية ذاك الواقع، وتبرز نتانة السجن، إذ تكاد رائحة الموت تزكم الأنوف، تزيدها واقعيةً أصوات السجانين المشحونة بالقسوة والوحشية والسكر، وصولاً إلى لحظات الاغتصاب الوحشي، ذروة المشاهد الأليمة، في محاولة لانتزاع اعترافات السجينة، من دون جدوى. إذ يقابل تلك العربدة، صلابة، وإصرار على الموقف، وجلَد واحتمال للعذابات على أنواعها، ورغم انهيار الجسد الطري المنتهك، الذي يكاد يختفي تحت رداء أسود مهلهل، ممزق، ورغم سلاسل الحديد التي تكبل يديها ورجليها إلى قضبان السجن، ينطلق صوت الأنين في شجن موجع من روح مغتصبة، صوت جميلة (جسدتها لينا عمارة) رافضاً، يخترق جنبات السجن يدين سجانيها ويواجه القتلة والمحتلين بثقة المحارب من أجل قضية إنسانية عادلة.
أجواء محتقنة أخذت المشاهدين إلى مطارح الظلم تحت الأرض وزوايا القمع والتعذيب بعيداً عن عيون تشهد على الاعتداء تذيب الأجساد وتُذهب بالعقول وتستلب الإرادات، لكن شاء القدر أن يفضح كل ما يمارس بحق الثوار والمعترضين على سياسيات المحتل، لتبرز بالتالي قضية جميلة إلى العلن ويتم الدفاع عنها بقوة من قبل المحامي الشهير جاك فرجيس الذي أنقذها من حبل المشنقة بعد أن كانت محكومة بالاعدام.
أحداث دارت على الخشبة في وقت كانت نقرات عود شجية، ونغمات من الموسيقي العراقي أحمد مختار تتوازى أحياناً، تتماهى أحياناً أخرى مع القصائد. ومرات كان صوتها المتألم يعلو فوق صوت الكلمة، فتبلغ الحضور، القريب، الملاصق للمؤدين، تقريباً، وبوضوح صارخ، إذ جسدت موسيقى حزينة، بليغة، الحدث بتفاصيله العميقة، للسجينة، ولذاك الواقع العام حتى الثورة في الشارع، فأصبحت جزءاً مكملاً، وركناً هاماً في رسم المشهد صورة وصوتاً، وتمنينا لو اكتفى المخرج بهذه العناصر لتشكيل سينوغرافيا المسرحية ( أي الإضاءة وصوت الموسيقى والدفوف الكبيرة وغيرها من صور كمؤثرات) من دون وضع تلك اللوحة في خلفية المسرح، والتي بدت الرسوم المباشرة التي مثلت المجازر والقتل خارج رمزية العمل، بل ومن دون تأثير يذكر، فأحداث الخشبة والمؤثرات الأخرى كانت أكبر تأثيراً، وبخاصة تحريك حيوي للممثلين الذين كانوا يمسرحون الشعر في دراما مؤثرة وأداء متقن، بوجوه مموهة بالأبيض الشفاف، لتبدو خالية من الملامح وكأن القصد بها وجوه من هم بلا هوية، وجوه شعب مقهور، مظلوم، ينوء تحت الاحتلال، فيما نستمع في الختام إلى صوت وردة الجزائرية تتغنى بقصة جميلةبو حيرد، وما يزال الشعب يعبّر عن امتنانه، بالاحتفاء في كل مناسبة بواحدة من الشجعان، من أوائل المحرضين على الثورة ضد الاستعمار، امرأة شهيدة حية، باتت رمزاً للثورة الجزائرية والاسم الأشهر بين الثوار وستبقى الحاضرة الغائبة أبداً.
جميلة بو حيرد تعيش اليوم في مدينة الجزائر العاصمة وبالتحديد في حيّ حيدرة، اختارت العزلة والانزواء، لا ترغب في أحاديث صحافية بل تحرص على أن لا تظهر صورتها وفي المرات القليلة التي سلطت عليها أضواء الكاميرات رغماً عنها، كانت ترجو الصحافيين عدم التحدث عن ماضيها الثوري والسياسي، وعن انطباعها حول فيلم "جميلة بو حيرد" ذكرت أحدى الصحف الجزائرية قولها بتلقائية: "إن الفيلم لا يمثلني في شيء ولا يشبهني في شيء"، ترى ما رأيها بمسرحية "إسمي جميلة"؟
مع كل ذلك ستبقى "جميلة بو حيرد" أسطورة حقيقية، وعلامة فارقة في الأدب والسينما كما في المسرح.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جميلة بو حيرد
جميلة بو حيرد" المناضلة الجزائرية الشهيرة، جسدتها أعمال سينمائية أشهرها فيلم "جميلة بوحيرد" للممثلة القديرة ماجدة الصباحي، إضافة إلى القصص العديدة والمسرحيات، وآخرها مسرحية جزائرية بعنوان "إسمي جميلة" عرضت في المكتبة الوطنية الجزائرية قبل أيام، على هامش ملتقى "سرديات الكاتبة العربية".
من فكرة للأديب أمين الزاوي، اختار المخرج الجزائري عبد الناصر خَلاف نصوصاً شعرية كتبها شعراء من أنحاء الوطن العربي: سليمان العيسى، نزار قباني، بدر شاكر السياب، محمد الفيتوري، صالح باوية، عبد القادر حميدة، سعد دعيبس، محمد عادل سليمان وجمال العمراني فكانت قصائدهم بمثابة النص الذي بنى عليه خَلاف رؤيته الإخراجية لسيرة سيدة تعدّ إحدى أبرز الشخصيات الجزائرية خلال القرن العشرين.
حاول خَلاف تجسيد ساعات أليمة ولحظات عصيبة عاشتها المناضلة في السجن وأثناء التعذيب القاسي الذي مارسه سجّانوها على جسدها الغض، كانت في الثانية والعشرين حين تم القبض عليها عام 1957 بعد عملية "ميلك بار" الشهيرة.
في صور تشكيلية شبه معتمة، إلا من بعض ومضات شموعٍ توحي بدموية ذاك الواقع، وتبرز نتانة السجن، إذ تكاد رائحة الموت تزكم الأنوف، تزيدها واقعيةً أصوات السجانين المشحونة بالقسوة والوحشية والسكر، وصولاً إلى لحظات الاغتصاب الوحشي، ذروة المشاهد الأليمة، في محاولة لانتزاع اعترافات السجينة، من دون جدوى. إذ يقابل تلك العربدة، صلابة، وإصرار على الموقف، وجلَد واحتمال للعذابات على أنواعها، ورغم انهيار الجسد الطري المنتهك، الذي يكاد يختفي تحت رداء أسود مهلهل، ممزق، ورغم سلاسل الحديد التي تكبل يديها ورجليها إلى قضبان السجن، ينطلق صوت الأنين في شجن موجع من روح مغتصبة، صوت جميلة (جسدتها لينا عمارة) رافضاً، يخترق جنبات السجن يدين سجانيها ويواجه القتلة والمحتلين بثقة المحارب من أجل قضية إنسانية عادلة.
أجواء محتقنة أخذت المشاهدين إلى مطارح الظلم تحت الأرض وزوايا القمع والتعذيب بعيداً عن عيون تشهد على الاعتداء تذيب الأجساد وتُذهب بالعقول وتستلب الإرادات، لكن شاء القدر أن يفضح كل ما يمارس بحق الثوار والمعترضين على سياسيات المحتل، لتبرز بالتالي قضية جميلة إلى العلن ويتم الدفاع عنها بقوة من قبل المحامي الشهير جاك فرجيس الذي أنقذها من حبل المشنقة بعد أن كانت محكومة بالاعدام.
أحداث دارت على الخشبة في وقت كانت نقرات عود شجية، ونغمات من الموسيقي العراقي أحمد مختار تتوازى أحياناً، تتماهى أحياناً أخرى مع القصائد. ومرات كان صوتها المتألم يعلو فوق صوت الكلمة، فتبلغ الحضور، القريب، الملاصق للمؤدين، تقريباً، وبوضوح صارخ، إذ جسدت موسيقى حزينة، بليغة، الحدث بتفاصيله العميقة، للسجينة، ولذاك الواقع العام حتى الثورة في الشارع، فأصبحت جزءاً مكملاً، وركناً هاماً في رسم المشهد صورة وصوتاً، وتمنينا لو اكتفى المخرج بهذه العناصر لتشكيل سينوغرافيا المسرحية ( أي الإضاءة وصوت الموسيقى والدفوف الكبيرة وغيرها من صور كمؤثرات) من دون وضع تلك اللوحة في خلفية المسرح، والتي بدت الرسوم المباشرة التي مثلت المجازر والقتل خارج رمزية العمل، بل ومن دون تأثير يذكر، فأحداث الخشبة والمؤثرات الأخرى كانت أكبر تأثيراً، وبخاصة تحريك حيوي للممثلين الذين كانوا يمسرحون الشعر في دراما مؤثرة وأداء متقن، بوجوه مموهة بالأبيض الشفاف، لتبدو خالية من الملامح وكأن القصد بها وجوه من هم بلا هوية، وجوه شعب مقهور، مظلوم، ينوء تحت الاحتلال، فيما نستمع في الختام إلى صوت وردة الجزائرية تتغنى بقصة جميلةبو حيرد، وما يزال الشعب يعبّر عن امتنانه، بالاحتفاء في كل مناسبة بواحدة من الشجعان، من أوائل المحرضين على الثورة ضد الاستعمار، امرأة شهيدة حية، باتت رمزاً للثورة الجزائرية والاسم الأشهر بين الثوار وستبقى الحاضرة الغائبة أبداً.
جميلة بو حيرد تعيش اليوم في مدينة الجزائر العاصمة وبالتحديد في حيّ حيدرة، اختارت العزلة والانزواء، لا ترغب في أحاديث صحافية بل تحرص على أن لا تظهر صورتها وفي المرات القليلة التي سلطت عليها أضواء الكاميرات رغماً عنها، كانت ترجو الصحافيين عدم التحدث عن ماضيها الثوري والسياسي، وعن انطباعها حول فيلم "جميلة بو حيرد" ذكرت أحدى الصحف الجزائرية قولها بتلقائية: "إن الفيلم لا يمثلني في شيء ولا يشبهني في شيء"، ترى ما رأيها بمسرحية "إسمي جميلة"؟
مع كل ذلك ستبقى "جميلة بو حيرد" أسطورة حقيقية، وعلامة فارقة في الأدب والسينما كما في المسرح.