~عاشقة تحت المطر~
أحدّق في المطر وهو يلتهم النافذة،
والليل يتدفق نهراً من الظلال...
أحدّق... كما أفعل منذ ألف عام،
وللمرة الأولى.. أرى الأشباح بوضوح تام
وهي تتابع حياتها خارج الغرف الموصدة على الصدأ...
أفتح النافذة، وأمد يدي إليها
فتضمها - بأصابعها الدخانية - بحنان...
وأمضي معها إلى غابة المجهول
نتسامر بحكايا ما وراء المألوف..
آه كيف قضيت عمري كالحمقى
أخاف من الأشباح، وهم مفتاح الليل
و "كلمة السر"؟...
~عاشقة حبر على ورق!~
لأني لا أبحث عن أحد،
ذهلت حين وجدتك!
على الآلة الكاتبة السرية في قاعي
أضرب لك رسائل الحب المغفلة من التوقيع!
لا أريد حباً مدججاً بالوعود الكبيرة كبيان وزاري
مزيّناً بالآمال المستقبلية كالمارشات العسكرية..
عصفور ينقر حبة قمح من يدك
ثم يعاود طيرانه في المدى... هكذا الحب
لحظة فرح كونية هاربة، كنجم اشتعل ثم هوى.
***
لا تتنصل ممن أحببتَ قبلي، وستحب بعدي
واعطنا حبنا كفاف يومنا،
لحظة صدق عابرة تدوم أطول من عمرٍ من الأكاذيب المرصّعة!
***
بلا وجل، أمدّ يدي إلى صدرك
وأثقب قلبك بمخلبي
ليهطل دمك البنفسجي على ورقتي
وتولد النجوم والفراشات والقصائد..
ما الذي يبقى من قصص الحب غير الحب على ورق الرسائل؟
ما الذي يخلد أكثر من "حبر على ورق" يتندرون به؟
ومن قال إن الجسد أكثر حقيقة من الظل؟
***
قلبي ممتلئ بحضورك وأنت غائب،
وأنا محاطة بالحاضري - الغائبين في السهرة.
تسيل فوقي أصواتهم وألوانهم مطراً خارج زجاج نافذة منيعة،
ويهطل حضورك من جلدي إلى قاعي...
***
أحب الكلمات التي كادت أن تُقال بيننا،
ثم امتنعنا عن إطلاقها إلى العدم،
واحتفظنا بها أسماكاً ملوّنة مضيئة داخل دورتنا الدموية...
وها أنا أتأمل أصابعي وأنا أكتب رسالة لك
تتحول إلى خمسة عصافير
وتطير..
_________
~عاشقة نسيها النسيان~
* أيتها الغريبة،
أما زال في قلبك متسع لحبّي؟
- حبك لا يتسع له النسيان يا سيدي...
* ولكنك تحاولين مسح توقيعي عن جلد زمنك
بممحاة الزمن...
- أقتلك عند منتصف الليل،
وأتركك في الحي اللاتيني تتخبط بدمائك،
وحين أعود منهكة لأنام،
أجد شبحك متربعاً فوق وسادتي..
وعلى فمه ابتسامة انتصار.. وأنهار..
* وحينما أرحل، هل تفلحين في إلغائي؟
- ليل نهار، حضورك مهيمن في كل لحظة،
وإن كنت أعجز عن لقائك ورؤيتك
عجز العين عن رؤية الحاجب...
ما هو النسيان يا سيدي،
وأنت حين تزورني في كهفي الباريسي وتمضي،
تنمو شجرة ياسمين قرب مقعدك الخاوي،
وتفوح رائحة البحر البيروتي من آثار أقدامك...
***
* ولكنك متمردة حتى على حبّي...
- وهل عليّ أن أقيد الغجرية التي تقطنني
بالسلاسل، إلى حجارة سجنها..
وأجلدها بسياط الرياء لتتعلم الطاعة للتثاؤب؟
أم أعلن على الملأ
أن حياتي تزوجت من موتي، على قارعة التمرد،
فأنجبا طوفاناً من الحبر
راكضاً كالنمل على أوراق الدهشة والفضول...
متمردة؟ ربما، على المنطق اللامنطقي للأشياء...
ولأنني أصدق حبنا،
أقسم بالتحليق أن بساط الريح حقيقة واقعية،
حينما تمسك بيدي،
ونقلع معاً على شواطئ لبنان المقمرة، إلى القمر نفسه...
* متمردة مثلك، كيف تحب حرفي "التراثي" الصياغة؟
- عشق النجوم، رغم أنها "كلاسيكية"!...
هكذا أحب رياحك التي تتقن عربية أجدادي
وتعيدني في كل سطر
حبة رمل مطيعة في صحارى بلادي..
***
* ترحلين كثيراً، فهل نسيت لبنان؟
- أرحل وأنا أخبئ في قلبي
قرى متوّجة بالقرميد الأحمر،
تقطنها عصافير الذكريات وفراشاتها الذهبية..
أرحل بدروب جبلية لهثنا معاً
ونحن نتسلق أشواقنا وجموحنا فيها،
وشطآن اخترعت أبجدية الأفق...
أرحل ببيوت خضر احتوتنا معاً،
أغلق عليها ضلوعي بعد أن أقفل أبوابها جيداً
بمفاتيح صمت يشبه البكاء المتعجرف بكبريائه..
أرحل وأنا أخبئ في قلبي وجوهك وأصواتك
ويدهشني كيف لا تصفّر الماكينات الأمنية في المطارات
حين أعبر مضائقها ووطني في شراييني،
وكيف لا ترتسم صورتك في قاع ذاكرتي
على شاشات أجهزة كشف الخفايا والدواخل...
لا أريد أن أنفش الحروف كالقطن
حين أتحدث عنك وعن وطني،
ولكن حين تهرول أحصنة الليل السود فوق رأسي،
ماذا أقول لك، وأنا أتناول ذكرياتي
كالخبز المسموم على موائد الفراق؟
***
* وبيروت؟
- آه كيف يتكوم البكاء في حضن الليل ويبكي
ويرتجف كقط صغير مذعور،
كلما نسي نسياني بيروت...
وأنا أتابع عبثاً مشيتي المتعجرفة على الذكريات
في مدن جديدة، أصرّ على أن أتعلم حبها
كلما تعلمت لغاتها، وعبثاً أحاول،
فالمرء لا يملي على نفسه أحلامه وكوابيسه!...
بيروت؟ ثمة ضوء في آخر النفق،
فلنصلّ من أجله ليلة رأس السنة بخشوع،
بدلاً من هستيريا سيمفونية "الزمامير" والبالونات المفقوءة..
* وكيف ترين ما حولك؟
- أراه مصحاً عقلياً للسوريالية السياسية...
من رسم هذا الشطرنج الجهنمي وخلط أوراق اللعب
ولم نعد نميز بين "الثوار" ويسار الكافيار والدولار؟
لماذا تقيم نفرتيتي في برلين،
وما الذي أفعله أنا في الحي اللاتيني الباريسي،
وكيف تناثرنا هكذا بين القارّات غربة مغتربة؟
* ماذا تخبئ الأيام لحبنا؟
- لك أن تختار،
بين أن تظل هكذا، نجماً بعيداً يضيء حياتي بهدوء
وبين أن تهوي مرتطماً بأيامي كشهاب مجنون
لنحترق معاً...
لك أن تختار، بين مباهج البعد والشفافية والأبحدية
وبين محرقة العابر المشتعل الشهي كمذاق الفطر الشيطاني...
* وأنت ماذا تقولين؟
أقول كجدي الشاعر: "أمران أحلاهما مر" فراقك ولقاؤك...