التنبيه الحسن في موقف المسلم من الفتن ـ فضيلة الشيخ محمد الإمام ـ حفظه الله
التنبيه الحسن في موقف المسلم من الفتن ـ فضيلة الشيخ محمد الإمام ـ حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
[آل عمران].
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي يتساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء].
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} [الأحزاب].
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعـد:
فقد تكفل الله بحفظ دينه فقال جل في علاه :{إنا نحن نزلنا الذكر وإناله لحافظون} وإن من حفظ الله لهذا الدين أن أوجد علماء راسخين يذبون عن هذا الدين ما علق به من شوائب أيا كان نوعها ، وصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) ففي هذا العصر انتشرت دعوة أهل السنة والجماعة في العالم عموماً وفي اليمن خصوصاً ، والفضل في هذا لله عز وجل ، ثم لجهود علماء أهل السنة والجماعة ، نسأل الله أن يجزل لهم المثوبة ويعظم لهم الأجر إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
فقد قيض الله لأهل اليمن في هذا العصر والدنا وشيخنا الإمام المحدث العلامة/أبا عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي ـ يرحمه الله ـ الذي بذل نفسه وماله ووقته وعرضه في خدمة الإسلام والمسلمين ، فأحيا به الله معالم الدين وقمع به الباطل والمبطلين، فاشتغل بالتأليف والتحقيق والتعليم والدعوة إلى الله على بصيرة ، فاستفاد الناس منه في مشارق الأرض ومغاربها ، ورُحل إليه من الداخل والخارج بل لا أعلم عالماً رُحـل إليه مثل ما رُحـل إلى هذا الإمام في هذا العصر ، وقد انتشرت مؤلفاته في شتى بقاع الأرض ، وكذا طلبته، وكان هو وأمثاله باباً مغلقاً دون الفتن فرحمه الله رحمة واسعة ، وأسكنه فسيح جناته ، فلما توفي ـ رحمه الله ـ حصلت بعض الفتن بين بعض طلبة العلم ، فقمت بكتابة رسالة مختصرة مشاركة مني في بيان بعض الأمور التي لا ينبغي جهلها أو تجاهلها ولا أعتبر ما كتبته خاصا بهذه الفتنة بل هو علاج لجميع الفتن في كل زمان ومكان .فالله أسأل أن ينفع بما كتبته الإسلام والمسلمين .
والحمد لله رب العالمين.
وكتب/ محمد بن عبد الله الإمام .
الإقبال على عبادة الله كفيل بالنجاة من الفتن
روى الإمام مسلم (18/392) عن معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (( العبادة في الهرج كهجرة إليّ)) والهرج : القتل والقتال ، وماله من مقدمات من عصبية وحزبية ، وغير ذلك ، ولفظ العبادة هنا يشمل جميع أنواع العبادة من صدق وإخلاص ، ومراقبة لله وتقوى ، وورع وصبر وثبات على الحق ، ومحافظة على تعلم العلم النافع ، وتعليمه ، والعمل الصالح من صلاة وصيام ، وحسن معاملة ، وحسن خلق ، كل هذه وأمثالها من العبادات . فلو أقبل المسلم على العبادة كما أراد الله لم يبق معه وقت لضياعه مع الفتن والمراء والجدال ، وصدق النبي صلى الله عليه و سلم إذ يقول : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)) من حديث ابن عباس عند البخاري.
وقال صلى الله عليه و سلم : ((بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا )) عن أبي هريرة عند مسلم (2/300).
الفضل لله وحده في النجاة من جميع الفتن
الفتن كثيرة ومتنوعة ومستجدة ما بين الحين والآخر ، وكل واحد من المسلمين المتمسكين بدين الله معرض في كل وقت للفتن ، فمن نجا من الفتن فذلك بشيئين عظيمين: فضل الله عليه ، واستمرارية توفيق الله له. قال تعالى مخاطبا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد حادثة الإفك :{ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء} [النور]، ولما حصلت الشائعة بين الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم طلق نساءه جرى للصحابة ما جرى فذهب عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقال : ((أطلقت نساءك ؟ قال : لا ، قال عمر : فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم نساءه ونزلت هذه الآية {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} قال عمر : فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر ، وأنزل الله عز وجل آية التخيير)) رواه مسلم رقم (1479) بهذا اللفظ .
فهنيئا لمن وفقه الله لتجنب الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الفرار من الفتن ولزوم كل امرئ عمله
روى الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)).
وروى مسلم برقم (2887) عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، قال: فقال رجل يا رسول الله : أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض ؟ قال : يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء ، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ فقال رجل يا رسول الله : أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين ، فضربني رجل بسيفه ، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار)) .
فهذا من العلاج العظيم وتعريف الناس ما ينفعهم فلو انصرف الناس إلى أعمالهم ما قامت فتنة كالمظاهرات والانقلابات ، فكل هذه من الفتن ، فما أعظم العلاج في الشرع ، وما أقل المنتفعين به.
موقف الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من الفتن
لقد كانت مواقف الصحابة عند الفتن مسدَّدة ، ومن أبرز ذلك عدم القبول للفتن والمشاركة فيها.
ولو جئنا إلى تفاصيل مواقف الصحابة في الاعتزال للفتنة لطال الكلام وخرجنا عن المقصود.
وانظر إلى موقف الصحابة في قتال الخوارج فقد اتفقوا على قتال الخوارج وقاموا بذلك حق قيام ، لأن الأحاديث واضحة جدا في الحث والأمر بقتالهم فلا شبهة في قتالهم.
وانظر إلى تنازلهم عن أمور عظيمة من أجل سلامتهم من الفتن وسلامة مجتمعاتهم ، فهذا الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ يتنازل عن الخلافة وهو أهل لها ، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه و سلم : ((إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) رواه البخاري (5/307) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
وانظر إلى هذا التفاني في الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه و سلم ، وانظر إلى هذا التواضع الجم فقد تنازل الحسن وليس عن قلة ولا عن ذلة ولكن فرارا من الفتن.
تنبيه:
عقيدة أهل السنة الكف عما نشب بين الصحابة لأنهم ما بين مجتهد مصيب فله أجران ، وما بين مجتهد مخطىء فله أجر ، فلا يجوز الطعن في أحد منهم.
تنبيه آخر
الذي عليه أهل السنة أن الصحابة الذين وقعوا في الفتنة هم أفضل ممن جاء بعدهم وخطؤهم مغمور في فضائلهم.
فائدة:
لقد ندم الصحابة الذين دخلوا في الفتن بما فيهم علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وعائشة رضي الله عنها .
أهل السنة أعظم الناس بعدا عن الخلاف
إن أهل السنة قد وجدوا برد اليقين في قلوبهم بسبب جلاء الحق عندهم واستقراره في قلوبهم ، وقبوله للعمل به ، وهذا لازم منهج أهل السنة والجماعة ، فإن لفظ (السنة) يعني العمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم وهو القرآن والسنة ، ولفظ (الجماعة) معناه الاجتماع على الحق والعمل به والسير على ما سار عليه السلف ، فلن يدخل الخلاف على أهل السنة من جهة منهجهم وإنما قد يحصل من جهة أنفسهم بحصول البغي والظلم والعدوان أو التعجل فيما يحتاج إلى تأني أو الجهل بحقيقة الشيء وما يؤول إليه ، بخلاف غيرهم من أهل البدع والضلالات فإنهم بسبب الخلل في منهجهم مهما أرادوا الوصول إلى الحق فلن يصلوا إليه عن طريق مناهجهم المنحرفة ، فقد يجتمعون ويتفقون ولكن على غير الحق ، ولا يصلون إلى الحق إلا إذا رجعوا إلى الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة.
الفتن تنسف المتطلعين لها
قال تعالى :{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال]، فتأمل كيف أمر الله باتقاء كل فتنة فمن لم يخضع لأمره سبحانه فالجزاء كما قال الله :{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور].
والله ثم والله إننا لا نطيق فتنة ولا العذاب الأليم ، فواعجبا لعاقل يقدم نفسه لما لا تحمد عقباه ، وقد جاء من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم...)) متفق عليه.
وكم رأينا ممن يستعجلون الفتن قد تغيروا عن الحق فبعد أن كانوا أهل صدق أُثر عنهم الكذب ، وبعد أن كانوا من أجل الإسلام فقد صاروا من أجل الأغراض النفسية ، وبعد أن كانوا يتحاشون مؤاذاة الناس والسب والشتم فقد صاروا يخوضون في أعراضهم.
فالله الله في دينك يا مسلم إذا جاءت الفتن فصن لسانك وحافظ على سلامة قلبك ، ونزه سمعك فلا تتصدى للجدال فيما لا تحسن ولا تتكلم في ما لا تعلم ، ولا تشغف بسماع كل ما يدور ويقال فتصير في اضطراب وحيرة وشكوك ، والله المستعان.
تحريم تتبع عورات الناس عامة والعلماء خاصة
جاء عند أحمد (4/420-421) عن أبي برزة الأسلمي ، وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عند الترمذي (1/365) أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته))
وجاء من حديث معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((أعرضوا عن الناس ألم تر أنك إن ابتغيت الريبة في الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)) رواه أبو داود رقم (4888) وابن حبان رقم (1495) ومن حديث جبير بن نفير وأبي أمامة وكثير بن مرة عند أحمد (6/4) وأبي داود رقم (4889) قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)).
قال المناوي في قول الرسول صلى الله عليه و سلم : ((إن الأمير...)) أي: طلب الريبة أي: التهمة في الناس بنية فضائحهم فسدهم وما أمهلهم وجاهرهم بسوء الظن فيهم فيؤديهم ذلك إلى ارتكاب ما ظن بهم ـ إلى أن قال : ـ ومقصود الحديث حث الإمام على التغافل وعدم تتبع العورات فإن بذلك يقوم النظام ويحصل الانتظام ...بل يستر عيوبهم ويتغافل ويصفح ولا يتتبع عوراتهم ولا يتجسس اهـ من "فيض القدير" (2/323) فإذا كان الأمير مطالبا بالكف عن تتبع عورات رعيته فما بالك بمن يذهب ويتتبع عورات العلماء لغرض الطعن فيهم والتشويه بهم؟!.
الذنوب داء الأخوة في الدين
روى البخاري في "الأدب المفرد" من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما)) وهو حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم .
فانظر حفظك الله كيف يجلب الذنب الواحد الفرقة بين المتحابين ، فيكف إذا كثرت الذنوب ؟!، وسواء كان الذنب في حق أخيه أو كان في حق أخ آخر ، أو كان بين العبد وربه.
فيا لله ما أخطر الذنوب علينا ، فيا علام الغيوب جنبنا الذنوب وسهل لنا أن نتوب ، وقنا شر أنفسنا والقلوب.
فاحذر أخي أن تتعامل مع أخيك المسلم بالظلم أو الغيبة والنميمة ، أو سوء الظن أو الكذب عليه أو الغش له.
ومما يجلب العداوة بين الأخ وأخيه التداخل في أمور الدنيا ، فكم من إخوة كانوا أحبابا فلما دخلوا في الشركة صاروا أعداء. قال تعالى :{وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم} [ص]
عدم الإخلاص من أسباب السقوط في الطريق
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ : (إنما يتعثر في الطريق من لم يخلص عمله لله ) فلله در ابن الجوزي كيف كان خبيرا بالداء والدواء . والتعثر هذا قد يختم به للإنسان ، قال الرسول صلى الله عليه و سلم : ((إن العبد ليعمل عمل أهل النار وهو من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنما الأعمال بالخواتيم)) رواه البخاري عن سهل بن سعد رقم (6607) وهو عند مسلم بنحوه رقم (112)
قال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ : (خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك ، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت ـ إلى أن قال: ـ فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر) اهـ من كتاب "قال ابن رجب" (151-152) .
قلت : الله الله في إخلاص العمل لله في قلبك وقالَبك.
التفقه في الدين
إن من فوائد التفقه في دين الله سلوك طريقة النجاة من الفتن ، وهي منحة إلاهية يتفضل الله بها على من يشاء من العباد ، قال الرسول صلى الله عليه و سلم : ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) متفق عليه من حديث معاوية.
فإياك إياك واحتقار الفقه في الدين ، فقد قال بعض العلماء : (إن الله يرفع عن هذه الأمة العذاب برحلة أصحاب الحديث) نعم إن عظمة دين الإسلام تكمن في كل آية من كتاب الله وفي كل حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فالأمة الإسلامية قد تتجرع أنواعا من المصائب ، والحل موجود في أكثر من آية أو حديث ، والآية الواحدة والحديث الواحد فيه حل برأسه ، ولقد جاء الإسلام لكل فتنة بدواء ولكن قلَّ المداوون ، ولنضرب لذلك مثلا لما مات الرسول صلى الله عليه و سلم اختلف الصحابة في تجريده من الثياب فسمعوا قائلا يقول: لا تجردوا رسول الله صلى الله عليه و سلم . فتركوا تجريده ، واختلفوا فيمن يكون الخليفة بعده فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ((قريش ولاة هذا الأمر )) رواه أحمد (1/5) ، فسلم الصحابة الإمامة لأبي بكر لأنه قرشي ، فانظر كيف حُسِم الاختلاف بسبب التفقه في الدين والتسليم للدليل ، وكم جرت من خلافات في الصحابة وكانت تزول وتنتهي إذا جاء الدليل والبرهان الشرعي ، فالتفقه في الدين أساس كل خير ولكن على يد من صح معتقده وسلم منهجه وحسن مقصده ، فاختيار الكتاب القيم والعالم الفطن للتفقه في الدين مطلب كل باحث عن الحق.
الاعتصام بحبل الله
وحبل الله هو اتباع القرآن الكريم والسنة المطهرة على فهم السلف الصالح ، والاعتصام بهما أمان من الزيغ والضلال ، قال تعالى :{فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}.
والاعتصام بكتاب الله كما أراد الله يكون بثلاثة أمور:
1- قبول آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم الصحيحة قبولا صادقا ظاهرا وباطنا فلا تردد في قبول شيء من ذلك ، وهذا القبول لا بد أن يكون قائما على الاعتقاد الجازم أن القرآن الكريم والسنة المطهرة محفوظان بحفظ علام الغيوب ، قال تعالى :{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر].
2- فهم القرآن والسنة على فهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان إذ لا عصمة من الانحراف في فهم القرآن والسنة إلا بهذا ، وأكثر الفرق التي ضلت عن سبيل الله كان من أسباب ذلك عدم اعتمادها على فهم السلف الصالح ، وأهل السنة أسعد الناس بفهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
3- العمل بالقرآن الكريم والسنة المطهرة ظاهرا وباطنا على ما كان عليه عمل الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
والقيام بهذا أصعب من القيام بالذي قبله ، والمفرطون في هذا أكثر من المفرطين بالذي قبله ، ولم ينج من هذا التفريط إلا أفراد من عباد الله الصالحين ، والرجوع إلى ما كان عليه السلف من العمل عند الفتن أمر مهم ، وبالالتزام بهذه الأمور في جميع شؤون الحياة يتحقيق الاعتصام الحق بكتاب الله عز وجل .
جمع كلمة أهل السنة أصل من أصول الإسلام
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : (إن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين ، والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع) "مجموع الفتاوى" (22/254).
وقال أيضا : (فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما أمر به باطنا وظاهرا ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه ، ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول صلى الله عليه و سلم منه) "مجموع الفتاوى" (1/17).
وقال أيضا : (والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله صلى الله عليه و سلم ، قال تعالى :{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ـ إلى قوله تعالى ـ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران] ، وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا نتفرق هو من أعظم أصول الإسلام).
وقال أيضا: (البدعة مقرونة بالفرقة كما أن السنة مقرونة بالجماعة ، فيقال: أهل السنة والجماعة كما يقال: أهل البدعة والفرقة) كتاب "الاستقامة" (1/42).
وقال السعدي في "تفسيره" (352) : (إن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وأتلافهم ينبغي اتباعها والأمر بها والحث عليها).
قلت: وشرط ذلك أن لا تخرج عما كان عليه السلف ، وبالمقابل كل حالة يحصل بها التفريق للمؤمنين ، فلا يجوز سلوكها.
الله ، الله يا أهل السنة في جمع كلمتكم على الحق.
مكانة علماء الحديث
إن مما ينبغي أن يدرك أن مكانة علماء أهل الحديث في مرتبة عظيمة من الاحترام والتقدير والتلقي عنهم ، فمن شهد له علماء الحديث بأنه من أهل السنة فقد حاز مرتبة عظيمة ، ولا يعني كلامنا هذا أن أفراد علماء السنة لا يتفاضلون بخصائص تخص كل واحد منهم بل هذا هو الحاصل ولكن لا يجوز أن نجعل الخصائص غرضا للطعن في بعضهم ، فمن المعلوم أن الصحابة كلهم في مرتبة واحدة وهي أن الله قد زكاهم بل رضي عنهم مع العلم أن مناقبهم وخصائصهم تتفاوت ، فالخلفاء الأربعة أفضل من كل من عداهم من الصحابة ولكن لا يجوز أن يستغل هذا للطعن في الصحابة الذين لم ينالوا المناقب التي نالها الخلفاء الأربعة ، ولهذا فالصحابة عند أهل السنة هم في مرتبة واحدة وهي الاحترام والتقدير ولم يعرف الطعن في بعضهم أو كلهم إلا من قبل دعاة البدع والضلالات.
أهمية الرجوع إلى علماء الأمة عند الفتن
إن علماء السنة والجماعة هم أعظم من يقف ضد الفتن قديما وحديثا ، وكم من فتن ظهرت في عصرنا فتصدى لها العلماء وكشفوا عوارها وأوضحوا أضرارها.
فهم الذين وقفوا ضد الدعوات البدعية والأفكار المنحرفة بالمرصاد ينافحون في الليل والنهار عن الحق الذي جاء في القرآن والسنة المطهرة وسار عليه السلف الصالح ، فالذي لا يرجع إليهم إما أن يقول الكل على خير وحق . وهو يعني بالكل أهل السنة ودعاة البدع والتحزب وهو في الحقيقة يسوي بين الحق والباطل ، وإما أن ينحاز إلى فئة من فئات البدع والحزبيات ويحارب دعوة الحق ودعوة الله ورسوله صلى الله عليه و سلم وهو سائر في ذلك كما تريد الفرقة التي ارتمى بين أحضانها ، أما من رجع إلى علماء الحديث فإنه ينجو بحمد الله رب العالمين ، قال تعالى :{وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء].
قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ : العالم يرى الفتنة وهي مقبلة والناس لا يرونها إلا وهي مدبرة .قال تعالى مخبرا عن موقف عامة الناس في قارون :{فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم} [القصص].
وقال في موقف أهل العلم من قارون : (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون} [القصص].
ثم تغير موقف عامة الناس ولكن بعد أن أهلك الله قارون ، قال تعالى :{وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون} [القصص].
ومواقف العلماء المعاصرين في إدراك الفتن والتحذير من الوقوع فيها كثيرة
واعتبر بفتنة جهيمان وفتنة جبهة الإنقاذ في الجزائر ، وفتنة الانتخابات والتحزبات ، وغير ذلك كثير مما حذَّر منه العلماء فلم يقبل نصحهم فكان ما كان من المصائب العظام ، والغالب على المحبين للخير أنهم يستعجلون كما قال الرسول صلى الله عليه و سلم لبعض أصحابه : ((والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلى الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)) رواه البخاري (7/209) من حديث خباب.
طلبة العلم واسطة بين العلماء والمجتمع
من المعلوم أن طلاب العلم يتلقون عن العلماء العلم والتوجيهات وينطلقون إلى قومهم دعاة ومدرسين فمن شهد له أهل العلم أنه على خير وأنه يُتلقى عنه ، فالمطلوب المناصرة له وحسن الظن به.
والخطأ الملاحظ أن بعض المسلمين يقف منفرا ومحذرا من هؤلاء بحجة أنهم ليسوا علماء وأنهم يرفعون أنفسهم إلى مقام العلماء وأنهم يتصدرون للفتاوى ولا يحسنون ذلك ، فهذا الكلام يحتاج إلى تمحيص فقد يكون منه الحق وقد يكون منه الباطل ، فينصحون بقدر ما يتأكد من حصوله منهم ويذكرون بخير بقدر ما يدفع عنهم من التهم والانتقاص فلهذا على طلبة العلم أن يكون ارتباطهم بأهل العلم قوياً قدر المستطاع خصوصا عند الفتن المستجدة فثباتهم على الحق من ثبات أهل العلم ، وسدادهم من سداد أهل العلم ، وسلامتهم من الفتن من سلامة أهل العلم ، فليس من صالح العلماء أن يفرطوا في هؤلاء وليس من صالح طلبة العلم أن يشذوا عن أهل العلم.
التمحيص للأخبار الشائعة خصوصا عند الفتن
يجب على المسلم أن يتثبت من الأخبار الشائعة وأن لا يحدث بكل ما سمع وأن يردها إلى أهل العلم ، قال تعالى :{ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} ولهذا قال الرسول صلى الله عليه و سلم : ((كيف بكم بزمان يغربل الناس فيه غربلة وتبقى حثالة قد مرجت عهودهم وأماناتهم فاختلفوا وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه قالوا كيف بنا يا رسول الله ؟ قال تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون)) رواه ابن ماجه (2/3956) من حديث عبد الله بن عمرو .
فالأخبار التي تنقل عبر كثير من الصحف والمجلات لايعتمد عليها لأن هذه المصادر ليست محل ثقة، وأيضا الكُّّتاب عندهم أفكار دخيلة واتجاهات في الغالب .
فالأخطاء التي يتحدث بها الثقات عن فلان المعروف بعدم الوقوع فيما ينسبونه إليه يطالبون بالمصادر والنظر فيها ، وإذا لم يكن عندهم مصدر إلا الشخص يسأل عما نسب إليه فهذه الضوابط تقصم ظهور المروجين للفتن والساعين في الفرقة، فتسد عليهم الطرق وتغلق دونهم الأبواب وتفوت عليهم الفرص التي ينتظرونها ، والالتزام بهذه الضوابط شاق جدا لا يوفق لذلك إلا من وفقه الله ، ولا يستمر على ذلك إلا من ثبته الله رب العالمين جعلنا الله منهم.
التحلي بالصبر
روى أبو داود (4/99) من حديث المقداد ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ((إن السعيد لمن جنب الفتن ، إن السعيد لمن جنب الفتن ، إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلي فصبر فواها)) أي: عجباً لأمره كيف يبتلى فيصبر. فما أكثر الذين يختل صبرهم ويعظم جزعهم وتنهار قواهم عند نزول الفتن.
أخي المسلم ، يقول الله تعالى :{وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت].
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في "الفوائد" (ص144) ترتيب الأخ الفاضل/ علي بن حسن الحلبي : (ثم أمر نبيه بالتأسي به سبحانه في الصبر على ما يقوله أعداؤه فيه كما أنه سبحانه صبر على قول اليهود إنه استراح ) اهـ .
فقد جاء في مسلم (17/284) عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم هو يعافيهم ويرزقهم)).
والصبر من أعظم الأسباب التي يدفع بها حسد الحاسدين كما ذكر ذلك ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" ، ولله در من قال :
اصبر على كيد الحسود فإن صـبرك قاتله
فالنار تأكــل بعضها إن لم تجد ما تأكلـه
فما استعان العبد المسلم على دفع حسد الحاسدين عنه بشيء ما ، كاستعانته بملازمة الصبر والتقوى.
فمن الدعاة من إذا أوذي أقام الدنيا ولم يقعدها ، وربما سخَّر كل ما عنده من طاقة وكل ما في وسعه في الدفاع عن نفسه، والأمر لا يحتاج إلى هذا كله فالدفاع عن النفس مطلوب بحدوده وضوابطه الشرعية مع المراعاة للمصالح الشرعية والنظر للحال والمآل.
الحلم
إن الحلم محمود في الأوقات كلها وهو أكثر محمدة عند الفتن إذا كان حلما مقرونا بالعلم الشرعي ، قال الرسول صلى الله عليه و سلم مادحا الأشج : ((إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة)) رواه مسلم (1/156-158) عن ابن عباس رضي الله عنهما .
والحلم من صفات خواص خلق الله ، قال تعالى :{إن إبراهيم لأواه حليم} [التوبة].
وقد وصف بالحلم هنا لأنه ـ عليه السلام ـ كان مع الحق ، قال تعالى :{إن إبراهيم لحليم أواه منيب} [هود].
وقد وصف هنا بالحلم لأنه لم يستعجل نزول العقوبة على قوم لوط .
وقال سبحانه في إسماعيل عليه السلام :{فبشرناه بغلام حليم} وقد وصف بالحلم هنا لما قام به من التسليم لحكم الله مع الصبر وسعة الصدر وحسن الخلق ، قال تعالى :{فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات].
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في "الفوائد" (ص405) : (والحلم لقاح العلم فإذا اجتمعا حصلت سيادة الدنيا والآخرة وحصل الانتفاع بعلم العالم وإن انفرد أحدهما عن صاحبه فات النفع والانتفاع).
يا معشر الدعاة إلى الله ما الفرق بينكم وبين عامة الناس إن لم تتصفوا بالحلم والتأني وسعة التحمل ؟ ألم يقل الله لنبيه صلى الله عليه و سلم : {خذ العفو و أمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف].
ألم يقل الله :{ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} فالحلم والأناة من أوصاف العلماء.
التأني في إصدار الأحكام عند نزول الفتن
التعجل غريزة جبل عليها الإنسان ، قال تعالى :{خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء]، وقال تعالى :{وكان الإنسان عجولا} وكم خسرنا من خسارات بسبب عدم التأني في الأمور ، وقد قال صلى الله عليه و سلم لأشج عبد القيس : ((إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة)) رواه مسلم (1/156) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
أفلا يرضى الدعاة إلى الله أن يكونوا محبوبين عند الله وعند خلقه؟.
تنبيه : هناك فرق بين المبادرة والعجلة:
فالمبادرة: انتهاز الفرصة في وقتها ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها فهو لا يطلب الأمور في إدبارها ولا قبل وقتها بل إذا حضر وقتها بادر بانتهازها.
والعجلة: طلب الشيء قبل وقته ، فهي خفة وطيش وهي من وضع الشيء في غير موضعه وتعقبها الندامة.
العدل في التعامل والأحكام
العدل هو : وضع الشيء في موضعه . كما جاءت به الشريعة المحمدية.
اعلم أيها المسلم أن العدل نزر في أوساط المسلمين فإن وجدت عادلا فهذا أعز من الكبريت الأحمر ، قال تعالى :{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} [النساء].
وقال تعالى :{وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام] ، وقد أمر الله بالعدل مع الأعداء .
وقال تعالى :{ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة].
فهذه القاعدة فرض على كل مسلم ومسلمة وإلا وقع في الجور والظلم وهو يتنافى مع شريعتنا.
التعرف على من يذكي الفتن
من المعلوم أنه ما من فتنة تقوم بين مسلم وأخيه إلا ودخل فيها من ليس من أهلها بحسن قصد أو بسوء قصد ، والمطلوب هو البحث عن المتسببين في تهييجها ، وجعل الحواجز التي تحول بين المصلحين وبين المتخاصمين.
إن الساعين من وراء الفتنة هم:
1- من شياطين الجن.
2- من شياطين الإنس.
والكلام على شياطين الجن سيأتي . أما شياطين الإنس فمنهم السحرة والمنجمون والمنافقون ودعاة الضلال والجواسيس وغيرهم.
3- السماعون لشياطين الإنس الذين سبق ذكرهم ، وهذا الذي صرح به القرآن ، قال تعالى :{لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} أي: فسادا. {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} [التوبة].
وسماعون اسم فاعل من صيغ المبالغة ، وإذا كان الصحابة يعانون ممن هوسمَّاع لصنف المنافقين فما بالك بحال المسلمين اليوم؟! ولهذا نشاهد عند حدوث الفتنة وظهورها أناسا يتحمسون لنشرها ويظهرون غيرة على الدين منقطعة النظير مع أنهم لا يعرفون بسوابق حميدة بل يكونون بالتخبط والإقبال على الدنيا ، وما ندري إلا وهم يتكلمون مع الدعاة والعلماء ، ويواصلونهم بالأخبار ويحاولون أن يكونوا مقبولين عندهم ، وهمزه وصل بين العالم والمجتمع ، وبعد هذا يتفرغون للجدال في الساحة والإقناع لمن وقع في أيديهم.
فهذا الصنف لا تقدر على معرفته وتمييزه إلا عند الفتن ، فإذا تأملنا ذلك عرفنا من وراء الفتن ، وكون العلماء لا يعرفون كل الأعداء ليس مذمة لهم . قال تعالى :{والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وكيلا}[النساء]، وقال تعالى :{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}. وسورة التوبة قد سماها بعض السلف الفاضحة لأنها فضحت المنافقين ، ولا نذهب بعيدا أبدا فالفتن التي قامت بين الصحابة الكرام كان وراءها حزب عبد الله بن سبأ ، ومن أحسن الظن بهم . فمن أجل هذا كله طُلب من العقلاء التأني والتبصر والتدقيق في معرفة كيف نشبت الفتنة ومن وراءها؟.
أيها الدعاة: الله ، الله في الدعوة ، واجعلوا هذه الضوابط نصب أعينكم ، فزنوا الرجال بمواقفهم السابقة واللاحقة ، في السراء والضراء ، في الاتفاق والاختلاف ، والله الهادي إلى سواء السبيل.
شياطين الجن وما لهم من سعي في إفساد أهل الإيمان
إن الذي نشاهده من أخطاء في المسلمين فإن لشياطين الجن الحظ الأكبر في ذلك ، وقد أشبعت هذا الموضوع في كتابي "موسوعة عالم شياطين الجن في مؤاذاة المؤمنين" يسر الله إتمامه ، ونذكر هنا ما تحصل به الفائدة.
فقد بين النبي صلى الله عليه و سلم ما يفعله الشيطان بأهل الإيمان ، روى مسلم من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم)) رواه مسلم (17/291-292) فالتحريش باب واسع له أساليب وطرق متشعبة ، وأساسها الوسوسة الشيطانية ، ومنها قوله تعالى :{الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس} [الناس] ، ومنها النـزغ ، قال تعالى :{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينـزغ بينهم} [الإسراء]، ومنها القذف ، قال الرسول صلى الله عليه و سلم للإنصاريين : ((إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شراً)) متفق عليه من حديث صفية.
ومنها التغرير بالمسلم ، قال تعالى :{فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} [الأعراف].
ومنها التخذيل والتثبيط والتنفير والإغواء والوعود الكاذبة ، فلو تصور أهل الإيمان هذه الأفاعيل بهم من قبل عدو الله لكانوا على حذر واحتراز من هذا العدو ، ولكن غفلة كثير من الناس سببت التسلط من قبل هذا العدو على بعضهم.
فالله المسئول أن يقينا شر أنفسنا وشر الشيطان وشركه.
فلنلازم أذكار الصباح والمساء والنوم واليقضة وغيرها ، ولنحافظ على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم كما أراد الله.
ولنتعرف على مداخل الشيطان الرجيم ، ونسعى في سد الثغور ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
التنبيه الحسن في موقف المسلم من الفتن ـ فضيلة الشيخ محمد الإمام ـ حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
[آل عمران].
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي يتساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء].
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} [الأحزاب].
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعـد:
فقد تكفل الله بحفظ دينه فقال جل في علاه :{إنا نحن نزلنا الذكر وإناله لحافظون} وإن من حفظ الله لهذا الدين أن أوجد علماء راسخين يذبون عن هذا الدين ما علق به من شوائب أيا كان نوعها ، وصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) ففي هذا العصر انتشرت دعوة أهل السنة والجماعة في العالم عموماً وفي اليمن خصوصاً ، والفضل في هذا لله عز وجل ، ثم لجهود علماء أهل السنة والجماعة ، نسأل الله أن يجزل لهم المثوبة ويعظم لهم الأجر إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
فقد قيض الله لأهل اليمن في هذا العصر والدنا وشيخنا الإمام المحدث العلامة/أبا عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي ـ يرحمه الله ـ الذي بذل نفسه وماله ووقته وعرضه في خدمة الإسلام والمسلمين ، فأحيا به الله معالم الدين وقمع به الباطل والمبطلين، فاشتغل بالتأليف والتحقيق والتعليم والدعوة إلى الله على بصيرة ، فاستفاد الناس منه في مشارق الأرض ومغاربها ، ورُحل إليه من الداخل والخارج بل لا أعلم عالماً رُحـل إليه مثل ما رُحـل إلى هذا الإمام في هذا العصر ، وقد انتشرت مؤلفاته في شتى بقاع الأرض ، وكذا طلبته، وكان هو وأمثاله باباً مغلقاً دون الفتن فرحمه الله رحمة واسعة ، وأسكنه فسيح جناته ، فلما توفي ـ رحمه الله ـ حصلت بعض الفتن بين بعض طلبة العلم ، فقمت بكتابة رسالة مختصرة مشاركة مني في بيان بعض الأمور التي لا ينبغي جهلها أو تجاهلها ولا أعتبر ما كتبته خاصا بهذه الفتنة بل هو علاج لجميع الفتن في كل زمان ومكان .فالله أسأل أن ينفع بما كتبته الإسلام والمسلمين .
والحمد لله رب العالمين.
وكتب/ محمد بن عبد الله الإمام .
الإقبال على عبادة الله كفيل بالنجاة من الفتن
روى الإمام مسلم (18/392) عن معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (( العبادة في الهرج كهجرة إليّ)) والهرج : القتل والقتال ، وماله من مقدمات من عصبية وحزبية ، وغير ذلك ، ولفظ العبادة هنا يشمل جميع أنواع العبادة من صدق وإخلاص ، ومراقبة لله وتقوى ، وورع وصبر وثبات على الحق ، ومحافظة على تعلم العلم النافع ، وتعليمه ، والعمل الصالح من صلاة وصيام ، وحسن معاملة ، وحسن خلق ، كل هذه وأمثالها من العبادات . فلو أقبل المسلم على العبادة كما أراد الله لم يبق معه وقت لضياعه مع الفتن والمراء والجدال ، وصدق النبي صلى الله عليه و سلم إذ يقول : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)) من حديث ابن عباس عند البخاري.
وقال صلى الله عليه و سلم : ((بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا )) عن أبي هريرة عند مسلم (2/300).
الفضل لله وحده في النجاة من جميع الفتن
الفتن كثيرة ومتنوعة ومستجدة ما بين الحين والآخر ، وكل واحد من المسلمين المتمسكين بدين الله معرض في كل وقت للفتن ، فمن نجا من الفتن فذلك بشيئين عظيمين: فضل الله عليه ، واستمرارية توفيق الله له. قال تعالى مخاطبا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد حادثة الإفك :{ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء} [النور]، ولما حصلت الشائعة بين الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم طلق نساءه جرى للصحابة ما جرى فذهب عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقال : ((أطلقت نساءك ؟ قال : لا ، قال عمر : فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم نساءه ونزلت هذه الآية {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} قال عمر : فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر ، وأنزل الله عز وجل آية التخيير)) رواه مسلم رقم (1479) بهذا اللفظ .
فهنيئا لمن وفقه الله لتجنب الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الفرار من الفتن ولزوم كل امرئ عمله
روى الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)).
وروى مسلم برقم (2887) عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، قال: فقال رجل يا رسول الله : أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض ؟ قال : يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء ، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ فقال رجل يا رسول الله : أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين ، فضربني رجل بسيفه ، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار)) .
فهذا من العلاج العظيم وتعريف الناس ما ينفعهم فلو انصرف الناس إلى أعمالهم ما قامت فتنة كالمظاهرات والانقلابات ، فكل هذه من الفتن ، فما أعظم العلاج في الشرع ، وما أقل المنتفعين به.
موقف الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من الفتن
لقد كانت مواقف الصحابة عند الفتن مسدَّدة ، ومن أبرز ذلك عدم القبول للفتن والمشاركة فيها.
ولو جئنا إلى تفاصيل مواقف الصحابة في الاعتزال للفتنة لطال الكلام وخرجنا عن المقصود.
وانظر إلى موقف الصحابة في قتال الخوارج فقد اتفقوا على قتال الخوارج وقاموا بذلك حق قيام ، لأن الأحاديث واضحة جدا في الحث والأمر بقتالهم فلا شبهة في قتالهم.
وانظر إلى تنازلهم عن أمور عظيمة من أجل سلامتهم من الفتن وسلامة مجتمعاتهم ، فهذا الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ يتنازل عن الخلافة وهو أهل لها ، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه و سلم : ((إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) رواه البخاري (5/307) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
وانظر إلى هذا التفاني في الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه و سلم ، وانظر إلى هذا التواضع الجم فقد تنازل الحسن وليس عن قلة ولا عن ذلة ولكن فرارا من الفتن.
تنبيه:
عقيدة أهل السنة الكف عما نشب بين الصحابة لأنهم ما بين مجتهد مصيب فله أجران ، وما بين مجتهد مخطىء فله أجر ، فلا يجوز الطعن في أحد منهم.
تنبيه آخر
الذي عليه أهل السنة أن الصحابة الذين وقعوا في الفتنة هم أفضل ممن جاء بعدهم وخطؤهم مغمور في فضائلهم.
فائدة:
لقد ندم الصحابة الذين دخلوا في الفتن بما فيهم علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وعائشة رضي الله عنها .
أهل السنة أعظم الناس بعدا عن الخلاف
إن أهل السنة قد وجدوا برد اليقين في قلوبهم بسبب جلاء الحق عندهم واستقراره في قلوبهم ، وقبوله للعمل به ، وهذا لازم منهج أهل السنة والجماعة ، فإن لفظ (السنة) يعني العمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم وهو القرآن والسنة ، ولفظ (الجماعة) معناه الاجتماع على الحق والعمل به والسير على ما سار عليه السلف ، فلن يدخل الخلاف على أهل السنة من جهة منهجهم وإنما قد يحصل من جهة أنفسهم بحصول البغي والظلم والعدوان أو التعجل فيما يحتاج إلى تأني أو الجهل بحقيقة الشيء وما يؤول إليه ، بخلاف غيرهم من أهل البدع والضلالات فإنهم بسبب الخلل في منهجهم مهما أرادوا الوصول إلى الحق فلن يصلوا إليه عن طريق مناهجهم المنحرفة ، فقد يجتمعون ويتفقون ولكن على غير الحق ، ولا يصلون إلى الحق إلا إذا رجعوا إلى الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة.
الفتن تنسف المتطلعين لها
قال تعالى :{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال]، فتأمل كيف أمر الله باتقاء كل فتنة فمن لم يخضع لأمره سبحانه فالجزاء كما قال الله :{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور].
والله ثم والله إننا لا نطيق فتنة ولا العذاب الأليم ، فواعجبا لعاقل يقدم نفسه لما لا تحمد عقباه ، وقد جاء من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم...)) متفق عليه.
وكم رأينا ممن يستعجلون الفتن قد تغيروا عن الحق فبعد أن كانوا أهل صدق أُثر عنهم الكذب ، وبعد أن كانوا من أجل الإسلام فقد صاروا من أجل الأغراض النفسية ، وبعد أن كانوا يتحاشون مؤاذاة الناس والسب والشتم فقد صاروا يخوضون في أعراضهم.
فالله الله في دينك يا مسلم إذا جاءت الفتن فصن لسانك وحافظ على سلامة قلبك ، ونزه سمعك فلا تتصدى للجدال فيما لا تحسن ولا تتكلم في ما لا تعلم ، ولا تشغف بسماع كل ما يدور ويقال فتصير في اضطراب وحيرة وشكوك ، والله المستعان.
تحريم تتبع عورات الناس عامة والعلماء خاصة
جاء عند أحمد (4/420-421) عن أبي برزة الأسلمي ، وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عند الترمذي (1/365) أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته))
وجاء من حديث معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((أعرضوا عن الناس ألم تر أنك إن ابتغيت الريبة في الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)) رواه أبو داود رقم (4888) وابن حبان رقم (1495) ومن حديث جبير بن نفير وأبي أمامة وكثير بن مرة عند أحمد (6/4) وأبي داود رقم (4889) قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)).
قال المناوي في قول الرسول صلى الله عليه و سلم : ((إن الأمير...)) أي: طلب الريبة أي: التهمة في الناس بنية فضائحهم فسدهم وما أمهلهم وجاهرهم بسوء الظن فيهم فيؤديهم ذلك إلى ارتكاب ما ظن بهم ـ إلى أن قال : ـ ومقصود الحديث حث الإمام على التغافل وعدم تتبع العورات فإن بذلك يقوم النظام ويحصل الانتظام ...بل يستر عيوبهم ويتغافل ويصفح ولا يتتبع عوراتهم ولا يتجسس اهـ من "فيض القدير" (2/323) فإذا كان الأمير مطالبا بالكف عن تتبع عورات رعيته فما بالك بمن يذهب ويتتبع عورات العلماء لغرض الطعن فيهم والتشويه بهم؟!.
الذنوب داء الأخوة في الدين
روى البخاري في "الأدب المفرد" من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما)) وهو حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم .
فانظر حفظك الله كيف يجلب الذنب الواحد الفرقة بين المتحابين ، فيكف إذا كثرت الذنوب ؟!، وسواء كان الذنب في حق أخيه أو كان في حق أخ آخر ، أو كان بين العبد وربه.
فيا لله ما أخطر الذنوب علينا ، فيا علام الغيوب جنبنا الذنوب وسهل لنا أن نتوب ، وقنا شر أنفسنا والقلوب.
فاحذر أخي أن تتعامل مع أخيك المسلم بالظلم أو الغيبة والنميمة ، أو سوء الظن أو الكذب عليه أو الغش له.
ومما يجلب العداوة بين الأخ وأخيه التداخل في أمور الدنيا ، فكم من إخوة كانوا أحبابا فلما دخلوا في الشركة صاروا أعداء. قال تعالى :{وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم} [ص]
عدم الإخلاص من أسباب السقوط في الطريق
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ : (إنما يتعثر في الطريق من لم يخلص عمله لله ) فلله در ابن الجوزي كيف كان خبيرا بالداء والدواء . والتعثر هذا قد يختم به للإنسان ، قال الرسول صلى الله عليه و سلم : ((إن العبد ليعمل عمل أهل النار وهو من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنما الأعمال بالخواتيم)) رواه البخاري عن سهل بن سعد رقم (6607) وهو عند مسلم بنحوه رقم (112)
قال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ : (خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك ، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت ـ إلى أن قال: ـ فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر) اهـ من كتاب "قال ابن رجب" (151-152) .
قلت : الله الله في إخلاص العمل لله في قلبك وقالَبك.
التفقه في الدين
إن من فوائد التفقه في دين الله سلوك طريقة النجاة من الفتن ، وهي منحة إلاهية يتفضل الله بها على من يشاء من العباد ، قال الرسول صلى الله عليه و سلم : ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) متفق عليه من حديث معاوية.
فإياك إياك واحتقار الفقه في الدين ، فقد قال بعض العلماء : (إن الله يرفع عن هذه الأمة العذاب برحلة أصحاب الحديث) نعم إن عظمة دين الإسلام تكمن في كل آية من كتاب الله وفي كل حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فالأمة الإسلامية قد تتجرع أنواعا من المصائب ، والحل موجود في أكثر من آية أو حديث ، والآية الواحدة والحديث الواحد فيه حل برأسه ، ولقد جاء الإسلام لكل فتنة بدواء ولكن قلَّ المداوون ، ولنضرب لذلك مثلا لما مات الرسول صلى الله عليه و سلم اختلف الصحابة في تجريده من الثياب فسمعوا قائلا يقول: لا تجردوا رسول الله صلى الله عليه و سلم . فتركوا تجريده ، واختلفوا فيمن يكون الخليفة بعده فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ((قريش ولاة هذا الأمر )) رواه أحمد (1/5) ، فسلم الصحابة الإمامة لأبي بكر لأنه قرشي ، فانظر كيف حُسِم الاختلاف بسبب التفقه في الدين والتسليم للدليل ، وكم جرت من خلافات في الصحابة وكانت تزول وتنتهي إذا جاء الدليل والبرهان الشرعي ، فالتفقه في الدين أساس كل خير ولكن على يد من صح معتقده وسلم منهجه وحسن مقصده ، فاختيار الكتاب القيم والعالم الفطن للتفقه في الدين مطلب كل باحث عن الحق.
الاعتصام بحبل الله
وحبل الله هو اتباع القرآن الكريم والسنة المطهرة على فهم السلف الصالح ، والاعتصام بهما أمان من الزيغ والضلال ، قال تعالى :{فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}.
والاعتصام بكتاب الله كما أراد الله يكون بثلاثة أمور:
1- قبول آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم الصحيحة قبولا صادقا ظاهرا وباطنا فلا تردد في قبول شيء من ذلك ، وهذا القبول لا بد أن يكون قائما على الاعتقاد الجازم أن القرآن الكريم والسنة المطهرة محفوظان بحفظ علام الغيوب ، قال تعالى :{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر].
2- فهم القرآن والسنة على فهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان إذ لا عصمة من الانحراف في فهم القرآن والسنة إلا بهذا ، وأكثر الفرق التي ضلت عن سبيل الله كان من أسباب ذلك عدم اعتمادها على فهم السلف الصالح ، وأهل السنة أسعد الناس بفهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
3- العمل بالقرآن الكريم والسنة المطهرة ظاهرا وباطنا على ما كان عليه عمل الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
والقيام بهذا أصعب من القيام بالذي قبله ، والمفرطون في هذا أكثر من المفرطين بالذي قبله ، ولم ينج من هذا التفريط إلا أفراد من عباد الله الصالحين ، والرجوع إلى ما كان عليه السلف من العمل عند الفتن أمر مهم ، وبالالتزام بهذه الأمور في جميع شؤون الحياة يتحقيق الاعتصام الحق بكتاب الله عز وجل .
جمع كلمة أهل السنة أصل من أصول الإسلام
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : (إن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين ، والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع) "مجموع الفتاوى" (22/254).
وقال أيضا : (فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما أمر به باطنا وظاهرا ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه ، ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول صلى الله عليه و سلم منه) "مجموع الفتاوى" (1/17).
وقال أيضا : (والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله صلى الله عليه و سلم ، قال تعالى :{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ـ إلى قوله تعالى ـ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران] ، وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا نتفرق هو من أعظم أصول الإسلام).
وقال أيضا: (البدعة مقرونة بالفرقة كما أن السنة مقرونة بالجماعة ، فيقال: أهل السنة والجماعة كما يقال: أهل البدعة والفرقة) كتاب "الاستقامة" (1/42).
وقال السعدي في "تفسيره" (352) : (إن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وأتلافهم ينبغي اتباعها والأمر بها والحث عليها).
قلت: وشرط ذلك أن لا تخرج عما كان عليه السلف ، وبالمقابل كل حالة يحصل بها التفريق للمؤمنين ، فلا يجوز سلوكها.
الله ، الله يا أهل السنة في جمع كلمتكم على الحق.
مكانة علماء الحديث
إن مما ينبغي أن يدرك أن مكانة علماء أهل الحديث في مرتبة عظيمة من الاحترام والتقدير والتلقي عنهم ، فمن شهد له علماء الحديث بأنه من أهل السنة فقد حاز مرتبة عظيمة ، ولا يعني كلامنا هذا أن أفراد علماء السنة لا يتفاضلون بخصائص تخص كل واحد منهم بل هذا هو الحاصل ولكن لا يجوز أن نجعل الخصائص غرضا للطعن في بعضهم ، فمن المعلوم أن الصحابة كلهم في مرتبة واحدة وهي أن الله قد زكاهم بل رضي عنهم مع العلم أن مناقبهم وخصائصهم تتفاوت ، فالخلفاء الأربعة أفضل من كل من عداهم من الصحابة ولكن لا يجوز أن يستغل هذا للطعن في الصحابة الذين لم ينالوا المناقب التي نالها الخلفاء الأربعة ، ولهذا فالصحابة عند أهل السنة هم في مرتبة واحدة وهي الاحترام والتقدير ولم يعرف الطعن في بعضهم أو كلهم إلا من قبل دعاة البدع والضلالات.
أهمية الرجوع إلى علماء الأمة عند الفتن
إن علماء السنة والجماعة هم أعظم من يقف ضد الفتن قديما وحديثا ، وكم من فتن ظهرت في عصرنا فتصدى لها العلماء وكشفوا عوارها وأوضحوا أضرارها.
فهم الذين وقفوا ضد الدعوات البدعية والأفكار المنحرفة بالمرصاد ينافحون في الليل والنهار عن الحق الذي جاء في القرآن والسنة المطهرة وسار عليه السلف الصالح ، فالذي لا يرجع إليهم إما أن يقول الكل على خير وحق . وهو يعني بالكل أهل السنة ودعاة البدع والتحزب وهو في الحقيقة يسوي بين الحق والباطل ، وإما أن ينحاز إلى فئة من فئات البدع والحزبيات ويحارب دعوة الحق ودعوة الله ورسوله صلى الله عليه و سلم وهو سائر في ذلك كما تريد الفرقة التي ارتمى بين أحضانها ، أما من رجع إلى علماء الحديث فإنه ينجو بحمد الله رب العالمين ، قال تعالى :{وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء].
قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ : العالم يرى الفتنة وهي مقبلة والناس لا يرونها إلا وهي مدبرة .قال تعالى مخبرا عن موقف عامة الناس في قارون :{فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم} [القصص].
وقال في موقف أهل العلم من قارون : (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون} [القصص].
ثم تغير موقف عامة الناس ولكن بعد أن أهلك الله قارون ، قال تعالى :{وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون} [القصص].
ومواقف العلماء المعاصرين في إدراك الفتن والتحذير من الوقوع فيها كثيرة
واعتبر بفتنة جهيمان وفتنة جبهة الإنقاذ في الجزائر ، وفتنة الانتخابات والتحزبات ، وغير ذلك كثير مما حذَّر منه العلماء فلم يقبل نصحهم فكان ما كان من المصائب العظام ، والغالب على المحبين للخير أنهم يستعجلون كما قال الرسول صلى الله عليه و سلم لبعض أصحابه : ((والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلى الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)) رواه البخاري (7/209) من حديث خباب.
طلبة العلم واسطة بين العلماء والمجتمع
من المعلوم أن طلاب العلم يتلقون عن العلماء العلم والتوجيهات وينطلقون إلى قومهم دعاة ومدرسين فمن شهد له أهل العلم أنه على خير وأنه يُتلقى عنه ، فالمطلوب المناصرة له وحسن الظن به.
والخطأ الملاحظ أن بعض المسلمين يقف منفرا ومحذرا من هؤلاء بحجة أنهم ليسوا علماء وأنهم يرفعون أنفسهم إلى مقام العلماء وأنهم يتصدرون للفتاوى ولا يحسنون ذلك ، فهذا الكلام يحتاج إلى تمحيص فقد يكون منه الحق وقد يكون منه الباطل ، فينصحون بقدر ما يتأكد من حصوله منهم ويذكرون بخير بقدر ما يدفع عنهم من التهم والانتقاص فلهذا على طلبة العلم أن يكون ارتباطهم بأهل العلم قوياً قدر المستطاع خصوصا عند الفتن المستجدة فثباتهم على الحق من ثبات أهل العلم ، وسدادهم من سداد أهل العلم ، وسلامتهم من الفتن من سلامة أهل العلم ، فليس من صالح العلماء أن يفرطوا في هؤلاء وليس من صالح طلبة العلم أن يشذوا عن أهل العلم.
التمحيص للأخبار الشائعة خصوصا عند الفتن
يجب على المسلم أن يتثبت من الأخبار الشائعة وأن لا يحدث بكل ما سمع وأن يردها إلى أهل العلم ، قال تعالى :{ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} ولهذا قال الرسول صلى الله عليه و سلم : ((كيف بكم بزمان يغربل الناس فيه غربلة وتبقى حثالة قد مرجت عهودهم وأماناتهم فاختلفوا وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه قالوا كيف بنا يا رسول الله ؟ قال تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون)) رواه ابن ماجه (2/3956) من حديث عبد الله بن عمرو .
فالأخبار التي تنقل عبر كثير من الصحف والمجلات لايعتمد عليها لأن هذه المصادر ليست محل ثقة، وأيضا الكُّّتاب عندهم أفكار دخيلة واتجاهات في الغالب .
فالأخطاء التي يتحدث بها الثقات عن فلان المعروف بعدم الوقوع فيما ينسبونه إليه يطالبون بالمصادر والنظر فيها ، وإذا لم يكن عندهم مصدر إلا الشخص يسأل عما نسب إليه فهذه الضوابط تقصم ظهور المروجين للفتن والساعين في الفرقة، فتسد عليهم الطرق وتغلق دونهم الأبواب وتفوت عليهم الفرص التي ينتظرونها ، والالتزام بهذه الضوابط شاق جدا لا يوفق لذلك إلا من وفقه الله ، ولا يستمر على ذلك إلا من ثبته الله رب العالمين جعلنا الله منهم.
التحلي بالصبر
روى أبو داود (4/99) من حديث المقداد ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ((إن السعيد لمن جنب الفتن ، إن السعيد لمن جنب الفتن ، إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلي فصبر فواها)) أي: عجباً لأمره كيف يبتلى فيصبر. فما أكثر الذين يختل صبرهم ويعظم جزعهم وتنهار قواهم عند نزول الفتن.
أخي المسلم ، يقول الله تعالى :{وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت].
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في "الفوائد" (ص144) ترتيب الأخ الفاضل/ علي بن حسن الحلبي : (ثم أمر نبيه بالتأسي به سبحانه في الصبر على ما يقوله أعداؤه فيه كما أنه سبحانه صبر على قول اليهود إنه استراح ) اهـ .
فقد جاء في مسلم (17/284) عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنه يشرك به ويجعل له الولد ثم هو يعافيهم ويرزقهم)).
والصبر من أعظم الأسباب التي يدفع بها حسد الحاسدين كما ذكر ذلك ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" ، ولله در من قال :
اصبر على كيد الحسود فإن صـبرك قاتله
فالنار تأكــل بعضها إن لم تجد ما تأكلـه
فما استعان العبد المسلم على دفع حسد الحاسدين عنه بشيء ما ، كاستعانته بملازمة الصبر والتقوى.
فمن الدعاة من إذا أوذي أقام الدنيا ولم يقعدها ، وربما سخَّر كل ما عنده من طاقة وكل ما في وسعه في الدفاع عن نفسه، والأمر لا يحتاج إلى هذا كله فالدفاع عن النفس مطلوب بحدوده وضوابطه الشرعية مع المراعاة للمصالح الشرعية والنظر للحال والمآل.
الحلم
إن الحلم محمود في الأوقات كلها وهو أكثر محمدة عند الفتن إذا كان حلما مقرونا بالعلم الشرعي ، قال الرسول صلى الله عليه و سلم مادحا الأشج : ((إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة)) رواه مسلم (1/156-158) عن ابن عباس رضي الله عنهما .
والحلم من صفات خواص خلق الله ، قال تعالى :{إن إبراهيم لأواه حليم} [التوبة].
وقد وصف بالحلم هنا لأنه ـ عليه السلام ـ كان مع الحق ، قال تعالى :{إن إبراهيم لحليم أواه منيب} [هود].
وقد وصف هنا بالحلم لأنه لم يستعجل نزول العقوبة على قوم لوط .
وقال سبحانه في إسماعيل عليه السلام :{فبشرناه بغلام حليم} وقد وصف بالحلم هنا لما قام به من التسليم لحكم الله مع الصبر وسعة الصدر وحسن الخلق ، قال تعالى :{فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} [الصافات].
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في "الفوائد" (ص405) : (والحلم لقاح العلم فإذا اجتمعا حصلت سيادة الدنيا والآخرة وحصل الانتفاع بعلم العالم وإن انفرد أحدهما عن صاحبه فات النفع والانتفاع).
يا معشر الدعاة إلى الله ما الفرق بينكم وبين عامة الناس إن لم تتصفوا بالحلم والتأني وسعة التحمل ؟ ألم يقل الله لنبيه صلى الله عليه و سلم : {خذ العفو و أمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف].
ألم يقل الله :{ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} فالحلم والأناة من أوصاف العلماء.
التأني في إصدار الأحكام عند نزول الفتن
التعجل غريزة جبل عليها الإنسان ، قال تعالى :{خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء]، وقال تعالى :{وكان الإنسان عجولا} وكم خسرنا من خسارات بسبب عدم التأني في الأمور ، وقد قال صلى الله عليه و سلم لأشج عبد القيس : ((إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة)) رواه مسلم (1/156) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
أفلا يرضى الدعاة إلى الله أن يكونوا محبوبين عند الله وعند خلقه؟.
تنبيه : هناك فرق بين المبادرة والعجلة:
فالمبادرة: انتهاز الفرصة في وقتها ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها فهو لا يطلب الأمور في إدبارها ولا قبل وقتها بل إذا حضر وقتها بادر بانتهازها.
والعجلة: طلب الشيء قبل وقته ، فهي خفة وطيش وهي من وضع الشيء في غير موضعه وتعقبها الندامة.
العدل في التعامل والأحكام
العدل هو : وضع الشيء في موضعه . كما جاءت به الشريعة المحمدية.
اعلم أيها المسلم أن العدل نزر في أوساط المسلمين فإن وجدت عادلا فهذا أعز من الكبريت الأحمر ، قال تعالى :{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} [النساء].
وقال تعالى :{وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام] ، وقد أمر الله بالعدل مع الأعداء .
وقال تعالى :{ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة].
فهذه القاعدة فرض على كل مسلم ومسلمة وإلا وقع في الجور والظلم وهو يتنافى مع شريعتنا.
التعرف على من يذكي الفتن
من المعلوم أنه ما من فتنة تقوم بين مسلم وأخيه إلا ودخل فيها من ليس من أهلها بحسن قصد أو بسوء قصد ، والمطلوب هو البحث عن المتسببين في تهييجها ، وجعل الحواجز التي تحول بين المصلحين وبين المتخاصمين.
إن الساعين من وراء الفتنة هم:
1- من شياطين الجن.
2- من شياطين الإنس.
والكلام على شياطين الجن سيأتي . أما شياطين الإنس فمنهم السحرة والمنجمون والمنافقون ودعاة الضلال والجواسيس وغيرهم.
3- السماعون لشياطين الإنس الذين سبق ذكرهم ، وهذا الذي صرح به القرآن ، قال تعالى :{لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} أي: فسادا. {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} [التوبة].
وسماعون اسم فاعل من صيغ المبالغة ، وإذا كان الصحابة يعانون ممن هوسمَّاع لصنف المنافقين فما بالك بحال المسلمين اليوم؟! ولهذا نشاهد عند حدوث الفتنة وظهورها أناسا يتحمسون لنشرها ويظهرون غيرة على الدين منقطعة النظير مع أنهم لا يعرفون بسوابق حميدة بل يكونون بالتخبط والإقبال على الدنيا ، وما ندري إلا وهم يتكلمون مع الدعاة والعلماء ، ويواصلونهم بالأخبار ويحاولون أن يكونوا مقبولين عندهم ، وهمزه وصل بين العالم والمجتمع ، وبعد هذا يتفرغون للجدال في الساحة والإقناع لمن وقع في أيديهم.
فهذا الصنف لا تقدر على معرفته وتمييزه إلا عند الفتن ، فإذا تأملنا ذلك عرفنا من وراء الفتن ، وكون العلماء لا يعرفون كل الأعداء ليس مذمة لهم . قال تعالى :{والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وكيلا}[النساء]، وقال تعالى :{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}. وسورة التوبة قد سماها بعض السلف الفاضحة لأنها فضحت المنافقين ، ولا نذهب بعيدا أبدا فالفتن التي قامت بين الصحابة الكرام كان وراءها حزب عبد الله بن سبأ ، ومن أحسن الظن بهم . فمن أجل هذا كله طُلب من العقلاء التأني والتبصر والتدقيق في معرفة كيف نشبت الفتنة ومن وراءها؟.
أيها الدعاة: الله ، الله في الدعوة ، واجعلوا هذه الضوابط نصب أعينكم ، فزنوا الرجال بمواقفهم السابقة واللاحقة ، في السراء والضراء ، في الاتفاق والاختلاف ، والله الهادي إلى سواء السبيل.
شياطين الجن وما لهم من سعي في إفساد أهل الإيمان
إن الذي نشاهده من أخطاء في المسلمين فإن لشياطين الجن الحظ الأكبر في ذلك ، وقد أشبعت هذا الموضوع في كتابي "موسوعة عالم شياطين الجن في مؤاذاة المؤمنين" يسر الله إتمامه ، ونذكر هنا ما تحصل به الفائدة.
فقد بين النبي صلى الله عليه و سلم ما يفعله الشيطان بأهل الإيمان ، روى مسلم من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم)) رواه مسلم (17/291-292) فالتحريش باب واسع له أساليب وطرق متشعبة ، وأساسها الوسوسة الشيطانية ، ومنها قوله تعالى :{الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس} [الناس] ، ومنها النـزغ ، قال تعالى :{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينـزغ بينهم} [الإسراء]، ومنها القذف ، قال الرسول صلى الله عليه و سلم للإنصاريين : ((إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شراً)) متفق عليه من حديث صفية.
ومنها التغرير بالمسلم ، قال تعالى :{فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} [الأعراف].
ومنها التخذيل والتثبيط والتنفير والإغواء والوعود الكاذبة ، فلو تصور أهل الإيمان هذه الأفاعيل بهم من قبل عدو الله لكانوا على حذر واحتراز من هذا العدو ، ولكن غفلة كثير من الناس سببت التسلط من قبل هذا العدو على بعضهم.
فالله المسئول أن يقينا شر أنفسنا وشر الشيطان وشركه.
فلنلازم أذكار الصباح والمساء والنوم واليقضة وغيرها ، ولنحافظ على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه و سلم كما أراد الله.
ولنتعرف على مداخل الشيطان الرجيم ، ونسعى في سد الثغور ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
آخر تعديل: