- إنضم
- 21 مارس 2010
- المشاركات
- 44,625
- نقاط التفاعل
- 68,163
- النقاط
- 696
- محل الإقامة
- عالم النسيان
- الجنس
- أنثى
تمثل السيرة الذاتية شكلاً من أشكال من الكتابة الأدبية التوثيقية ولا تزال تمثل منجزاً أدبياً لدى مختلف الثقافات فكل شخص في هذه الحياة لا بد له من ذكريات في أي ناحية من نواحيها العلمية والاجتماعية أو الفكرية أو السياسية.. هي حصيلة تجربة في الحياة التي لا تخلو من تجارب وعطاءات وعبر، وخاصة من بلغوا مرحلة الشيخوخة وتوقفوا عن العطاء وكان لهم دور مؤثر ومتميز..
\" السيرة \" في اللغة : هي الطريقة ، أو السنة والهيئة. و\" سار\" الوالي في الرعية \" سيرة\" حسنة، وأحسن \" السّيـْر\". وهذا في \" سِيَــر \" الأولين.
وقال خالد بن زهير:
فلا تغضبن من سنة أنت سرتها فأول راضي سنة من يسيرها
الترجمة الذاتية في مفهومها الحديث
( لن يحدد دارس الترجمة الذاتية الطريق أمامه ممهداً للوقوف على مفهوم لهذا المصطلح المستحدث. إذ أن القليل من الدراسات التي تتناولها. لا تفي بالحاجة التي يتطلبها البحث. هناك نماذج عديدة من التراجم الذاتية التي كتبها أعلام هذا الفن، غير أن ما بينها من الاختلاف أكثر ما بينها من الاتفاق.
على نحو ما يظهر عند الذين عرضوا لها بالنقد والتحليل والتفسير، كاختلافهم في معالمها الفنية ، وفي مدى دلالة الترجمة الذاتية على شخصية كاتبها وميوله وأفكاره وإرادته، ولا يتسع المقام هنا للإشارة إلى اختلافات النقاد حول\"مفهوم الترجمة الذاتية\".
ويكفي أن نصل إلى نتائج عامة توضح لنا هذا المفهوم، و يجدر التنبيه إلى أن وضع الصور المختلفة للإنتاج الأدبي في إطار واحد يطلق عليه ترجمة ذاتية مما يتنافى مع وطبيعة الأشياء، لأنها تتباين فيما بينها تبايناً غير قليل يؤيد ذلك القول بفردية العمل الأدبي ، على أن لكل عمل أدبي فرديته على ما نتوخاه \"نظرية الأدب الحديث\" التي تنظر إلى الدلالة الكلية للعمل الأدبي وترى لكل كاتب أسلوبه ، ولكن وأن كنا لا ننكر أن للكاتب أسلوبه الذي يجري فيه على تقاليد معينة، فإن هذه التقاليد ، لا تغض من الفردية الني يتسم بها كل عمل أدبي.
وعلى هذا يمكن أن ننتهي بشأن المفهوم الحديث للترجمة الذاتية إلى استخلاصه من السمات والملامح العامة التي تشترك في التراجم الذاتية. والترجمة الذاتية الفنية الفنية، ليست هي تلك التي يكتبها صاحبها على شكل \"مذكرات\" يعني بتصوير الأحداث التاريخية، أكثر من عنايته بتصوير واقعي الذاتي، وليست هي التي تكتب على صورة \"ذكريات\" يعني فيها صاحبها بتصوير البيئة والمجتمع والمشاهدات أكثر من عنايته بتصوير ذاته ، وليست هي المكتوبة على شكل\"يوميات\" تبدو فيها الأحداث على نحو متقطع غير رتيب، وليست في آخر الأمر\"اعترافات\" يخرج فيها صاحبها على نهج الاعتراف الصحيح، وليست هي الرواية الفنية التي تعتمد في أحداثها ومواقفها على الحياة الخاصة لكاتبها ، فكل هذه الأشكال فيها ملامح من الترجمة الذاتية ، وليست هي لأنها تفتقر إلى كثير من الأسس التي تعتمد عليها الترجمة الذاتية الفنية.
والترجمة الذاتية كجنس أدبي ، يمكن أن ننتهي إلى نتائج بشأنها، تصلح أسساً فنية لهذا الجنس ، وتمنحنا مفهوماً ، له خصائصه المميزة. وأخص ملامح الترجمة الذاتية التي تجعلها تنتمي إلى الفنون الأدبية أن يكون لها بناء مرسوم واضح ، يستطيع كاتبها من خلاله أن يرتب الأحداث والمواقف والشخصيات التي مرت به ، ويصوغها صياغة أدبية محكمة، بعد أن ينحى جانباً ، كثيراً من التفصيلات والدقائق التي استعادتها ذاكرته، وأفادها من رجوعه إلى ما قد يكون لديه من يوميات ووسائل ومدونات تعينه على تمثل الحقيقة الماضية. )
( فإذا كانت السيرة الإنسانية في تعريفها الشائع هي ذلك النوع الأدبي الذي يتناول بالتعريف حياة إنسان ما، تعريفاً يقصر أو يطول ، فإن جانباً كبيراً من جوانب \"الحياة\" في هذه السيرة يقوم على التفكير والتأمل من جهة، والسلوك والعمل من جهة أخرى. ولكنها - إلى جانب هذا وذاك- فن أدبي جوهره \" التواصل اللغوي \". )
السيرة الذاتية:
( تصور لنا أبعاد كاتبها الثلاثة من خلال رؤياه هو : الداخل ، والخارج ، والأعلى. والسيرة الذاتية تنبع من القاموس الإنساني ، الذي يحوي في معظم لغات البشر كلمات تعبر عن الوحدة ، والعزلة، والانطواء ، والتأمل، والاستبطان، والتفكير العقلي ، والضمير والوعي الفردي ، ومهما كان من أمر انشغال الإنسان بالعالم والآخرين، فإنه لا بد من أن تجيء عليه لحظه يجد نفسه فيها \" حوار مع نفسه \". وإذا كنا نقول إن الإنسان\" شخص \" وليس مجرد \"فرد\" فذلك لانه يملك حياة \" باطنية \" تحول بينه وبين الاستغراق في المجموع إلى أقصى حد. )
أقسام السيرة الذاتية:
( يمكن تقسيم التراجم الذاتية في التراث العربي – تبعاً لحوافزها – إلى الأنواع التالية:
التبريرية:
وهي التي كتبت للدفاع أو الاعتذار ، ومن أمثلتها ترجمة حنين بن إسحاق ، التي عبر فيها عما أصابه به حساده من نكبات وبرر أسباب كبدهم له ، مدافعاً عن نفسه.
الرغبة في اتخاذ موقف ذاتي من الحياة:
كأن يصل إلى مذهب خاص أو سلوك بعينه ، ومن أصدق الأمثلة في أدبنا العربي لهذا اللون الذي يصور الموقف الشخصي الذي اهتدى إليه صاحبه بعد طول بحث وتحري. ما كتبه عن نفسه كل من محمد بن زكريا الرازي في \" السيرة الفلسفية \" والغزالي في \" المنقذ من الضلال وابن الهيثم في سيرته التي احتفظ لنا بها ابن أبي أصبيعة في كتاب \" عيون الأنباء في طبقات الأطباء \"
التخفف من ثورة أو انفعال:
وممن أفصح عن ثورة نفسية على بيئته ومجتمعه، وصور صراعه الهادر ، أبو حيان في مثالب الوزيرين وفي رسالته في الصداقة والصديق، وفي كتابه الإمتاع والمؤانسة، رغم أنه لم يترك ترجمة ذاتية مستقلة ، وكذلك أبو العلاء المعري في بعض رسائله.
تصوير الحياة المثالية:
وهي أشبه بنجوى الذات رغم أنها كتبت لكي يحتذيها الناس والأتباع ، وهي تفصح لذلك عن حياة صاحبها وما أتيح له من خبرات روحية وخلقية وفكرية. ومن أمثلتها ما كتبه عن نفسه كل من عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه \" لفتة الكبد في نصيحة الولد\" و\" العلم الصوفي \" عبد الوهاب الشعراني في \" لطائف المنن \" وما كتبه عن نفسه كل من الحلاج وابن عربي والسهروردي.
تصوير الحياة الفكرية:
وهذا النوع يعمد فيه الكاتب إلى تسجيل كل ما أثر في تكوينه العقلي وتطوره الفكري، وأدبنا القديم والوسيط يحفل كثيراً بهذا النوع . وعى الكثيرون من الكتاب به، منهم البيروني وابن الهيثم والرازي والسيوطي وابن طولون الذي أفرد لهذه الغاية كتابه الفلك المشحون في أحوال محمد بن طواون ، وترجمات هؤلاء الذاتية ، تشبه ترجمات جيبون وجون ستيوارت ميل وهربرت سبنسر.
الرغبة في استرجاع الذكريات:
من أمثلتها في الأدب العربي كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ الذي قدم لنا فيه تصويراً حياً لشخصية الفارس الجسور، وللفروسية العربية، من خلال تصويره لحياته وشخصيته ومنها كتاب \" طوق الحمامة في الألفة والآلاف\" لابن حزم الذي يجري فيه مجرى الاعتراف حين يبوح بذكريات شبابه العاطفية ومنها كتاب النكت العصرية لعمارة اليمني الذي يتحدث فيه عن ذكرياته مع الوزراء والكبراء في أواخر العهد الفاطمي. )
لمحة عن الترجمة الذاتية في التراث العربي :
( لكي نقف على تطور الترجمة الذاتية في الأدب العربي ، منذ عصوره القديمة، يخلق بنا أن نشير إشارة موجزة إلى مدى معرفة القدماء لهذا اللون الأدبي وهي فيما يبدو إشارة لا غني عنها تضيء أمامنا السبيل لدراسة نماذجه في أدبنا الحديث.
حتى نلم بمدى تطور الترجمة الذاتية في أدبنا العربي في عصوره المختلفة، ونتعرف موقف كل من القدماء والمحدثين من إدراكهم لهذا الفن ، ونحصل بذلك على رصد أقرب إلى الدقة والوضوح لظاهرة من ظواهرنا الأدبية قد عرفناها منذ عصور بعيدة.
وإذا نحن تتبعنا تطور الترجمة الذاتية في الأدب العربي في عصوره القديمة والوسطى ، وجدنا أن لفظة \" ترجمة \" و \" سيرة \" كانتا تدوران على معنى \" تاريخ الحياة \" ، وقد اتخذ التاريخ للفرد ، صوراً مختلفة لدى العرب ، وكانت السيرة أولى هذه الصور ، وقصد بها حياة الرسول الكريم ومغازيه وإن لم يمنع ذلك وجود سيرة معاوية وبني أمية، لعوانة الكلبي ( المتوفى سنة 147هـ ) كما يذكر \" ابن النديم \" وقد ظهرت فيما يبدو في وقت ظهور \" سيرة ابن إسحاق \" ( المتوفى سنة 151 ) ، ثم تعددت أنواع التاريخ للأفراد بعد ذلك ، فكان \" الجرح والتعديل \" و \" الطبقات \" ثم \" التراجم \" في العصور المتأخرة التي تلت عصر الرواية والتدوين .
وكل هذه الأنواع هي الأقسام التي ينحل إليها التاريخ للأفراد عند العرب، وظلت السيرة عصوراً يقتصر استعمالها على بيان حياة الرسول ، ثم تطور الاستعمال في عصور تالية، فاستعملت بمعنى حياة الشخص بصفة عامة، بليل ما يذكره صاحب \" كشف الظنون \" من ظهور سير كثيرة منذ القرن الرابع الهجري، كسيرة \" أحمد بن طولون \" للابن الداية ( المتوفى سنة 334هـ ) و \" سيرة صلاح الدين \" لابن شداد ( المتوفى سنة 622هـ ).
أما كلمة \" الترجمة \" فهي دخلت إلى العربية عن اللغة الآرمية، ولم يكن الاصطلاح قد جرى على استعمالها، فيما يبدو إلى في أوائل القرن السابع الهجري ، حين استخدمها \"ياقوت \" في معجمه بمعنى حياة شخص ، ويرجح هذا الظن أن أبا الفرج في كتاب الأغاني لم يستعمل لفظة \" ترجمة \" عند كلامه على حياة الشعراء وغيرهم ، وكان يسبق كلامه بمثل قوله: خبر أبي قطيفة ونسبه أو أخبار بشار بن برد ونسبه.
وعلى مر العصور ، نرى كلمة \" ترجمة \" يجري الاصطلاح على استعمالها لتدل على \" تاريخ الحياة الموجزة للفرد \" وكلمة \" سيرة \" يصطلح على استعمالها لتدل على التاريخ المسبب للحياة. وإذا كان السابقون على ما نرى يفرقون في الاستعمال بين اللفظتين فإن الاصطلاح الحديث لا يفرق بينهما كثراً، بل يستخدم إحداهما مرادفة للأخرى، ومن ثم جاء الاصطلاح المعاصر \" الترجمة أو السيرة الذاتية \". )
الوظيفة الثقافية للسيرة الذاتية:
( وتتمثل هذه الوظيفة فيما تساعد عليه السيرة من خلال النشر الجماهيري من تطبيع وتنشئة اجتماعية، وتوحيد للمفاهيم وتقريب وجهات النظر ، بتوفير قاعدة عريضة مشتركة للاساليب أو الأنماط والقيم والخبرات المشتركة التي يتقاسمها أعضاء المجتمع.
ويظهرنا النموذج الثقافي وظيفياً على تأثير السيرة الذاتية على أخلاق الشباب ، بما تقدمه من نماذج للقدوة تتفق أو تختلف مع الأخلاق العامة والسيرة الذاتية في ضوء التفسير الإعلامي تقوم بدور هام في التنشئة الاجتماعية المعقدة، قصداً أو بدون قصد.)
العناصر الفنية للسيرة الذاتية :
( وإذا تساءلنا عن مدى حظ التراجم الذاتية في تلك العصور ، من العناصر الفنية التي تقربها من الترجمة الذاتية الحديثة، كان الجواب أ، كثيراً من هذه العناصر الأدبية، قد توافرت في بعضها ، وأن كثيراً مما كتبه العرب عن أنفسهم، صاغوه في أسلوب واضح سهل قائم على الإيجاز المحكم ، والعبارة العذبة وحسن العرض ، وسلاسة السرد القصصي ، والقدرة على إعادة الماضي وبعث الحياة والحركة والحرارة في تصوير الأحداث والتجارب والشخصيات.
وقد راعى كثير من هذه الترجمات الذاتية، الصراحة والصدق والتجرد في كثير من النظرات والآراء والتجارب المتصلة بالذات وبالشخصيات ، وبعضها صور أصحابها ما عانوه من صراع داخلي وخارجي ، تصويراً داففاً بالحيوية والنمو، يكشف عن مدى ما أصاب شخصية أحدهم من تحول وتغير وتطور.
وعنى كثير من هذه التراجم الذاتية ، بإثبات عنصري الزمان والمكان ، والكشف عن أسماء الشخصيات والأماكن ، وتعزيز الوقائع بإثبات التاريخ وبعض الوسائل والمدونات ، مع محافظة الاسترسال وعلى السرد الأدبي الجالب للمتعة المرادة من العمل الأدبي ، مما جعل الترجمة الذاتية تحظى بعناية عظيمة من جانب الأدباء ويقابلها الجمهور بإقبال شديد ، لأنها أرضت حاجة العرب إذ نقلت لهم الواقع الملموس في صورة قصصية سهلة ، عذبة ، وكانت تقوم إلى جانب السير والتراجم الغيرية، بهذا الدور الأدبي على مدى أجيال طويلة.
على أن أقرب التراجم الذاتية إلى الترجمة الذاتية الأدبية بمعناها الحديث ، هي تلك التي كتبها كل من المؤيد والأمير عبدالله وابن الهيثم والرازي وأسامة بن منقذ وابن خلدون والشعراني لأنها توافر فيها أكبر قدر من المتعة ، إلى جانب تصوير كل منها ، ما نستدل منه على السمات المميزة لشخصية صاحبها، وعلى مدى التطور الذي طرأ عليها ، وما دار في نفسه من ألوان مختلفة من الصراع ، مع مهارة السرد الأدبي الذي يعتمد على كثير من عناصر الفن ، وعلى الدقة والوضوح والسهولة والعذوبة ، ويعتمد أيضاً على قدر من الترابط في أجزاء كل ترجمة ذاتية، مما يجعلها عملاً يقوم على وحدة البناء في أكثر أجزائه.
وكلها من العوامل التي تحقق المتعة الأدبية، وتثير التعاطف الوجداني بين كاتب الترجمة الذاتية ، وبين متلقيها ، ويدعوه إلى المشاركة القوية في عديد من تجاربه وخواطره ومشاعره وانفعالاته. على أنه مما يقلل من هذه المتعة في السيرة الذاتية ، التي كتبها المؤيد ، ما كان يعمد إليه من محسنات لفظية وأسجاع ومجانسة، وصنعة وتكلف ، تجهد الذهن ، وتثقل حركته. )
( ويذهب أنصار السيرة إلى أنها تصلح للتدريس للأسباب التالية:
أولاً : أن الإنسان الفرد أبسط كموضوع للدراسة من القبيلة أو المدينة ، أو الأمة التي ينتمي إليها.
ثانياً : أن للأطفال ميلاً طبيعياً مفيداً نحو الشخصيات ، فهم يعيشون مع أبطالهم ويقاسمونهم، وبذلك تتسع دائرة خبراتهم بصورة لاتكاد تعقل في حالة دراسة الجماعات.
ثالثاً : أن تعرف الشخصيات العظيمة النبيلة في التاريخ يخلق رغبة في التشبه بهم ويبعث على بغض سلوك الشخصيات الشريرة.
رابعاً : أن من الممكن أن نجعل الأفراد يمثلون الجماعات، بحيث تكون دراسة لخصائص الأفراد وخبراتهم ، وبالتالي دراسة لخصائص الجماعات وخبراتها أيضاً. )
التقاء الثقافتين
( عثر طه حسين على قالب الترجمة الذاتية الروائية لتكون له أداة فنية ، يصور عبرها ذكرياته الماضية، وليصبح المجال أمامه متفسحاً رحيباً، يجول فيه بما تختزنه ذاكرته من تلك الذكريات المتوارية المنزوية في بعد عميق من أبعاد هذه الذاكرة، وقد وجد في هذا القالب، متنفساً طليقاً يزيج به عن صدره ما أكتظ به من شعور ممض بالألم والسخط ، كان مبعثه بيئته التي عاش فيها حياة غاصة بالجهل والقسوة والحرمان والصراع سواء في قريته أو في القاهرة حين وفد إليها يطلب العلم بالأزهر.
تلك البيئة قد سلبته نعمة الإبصار صغيراً، فقتلت فيه حاسة من الحواس الضرورية للإنسان، وحرمته منها لما يشيع فيها من تخلف وظلمة وسذاجة وتواكل، وهي عينها البيئة الجاهلية الجامدة المتزمتة التي لم تتح له ثقافة مستنيرة كتلك التي أتاحتها له الثقافة الأوروبية، بل إن هذه البيئة نفسها ، هي التي تريد أن تنقض عليه ثانية لتحول بينه وبين ثمرة تثقيفه الذاتي، وتسلبه عصارة نضجه الفكري، وتريق ذوب تكوينه الروحي ، فتوئد فيه الرغبة في الحرية وفي الحياة الأدبية وفي الحياة الأدبية والفكرية كما يبتغيها لنفسه ، وكما يبتغيها لأبناء بيئته هذه التي أفضى إليهم بها. )
( ثم يعود ليستكمل ذكريات حياته عن الفترة التي قضاها في الدراسة بين الأزهر والجامعة الأهلية، إلى أن أحرز إجازة الدكتوراه عن ذكرى أبي العلاء في 15 من مايو سنة 1914 ثم سافر إلى فرنسا في 14من نوفمبر من السنة نفسها، رغم العقبات التي ألقتها هذه الجامعة في طريقه، ورغم ملابسات الحرب العالمية الأولى ، إذ تقدم للحصول على بعثة لدراسة التاريخ بجامعات فرنسا مرت ثلاثا دون أن تتاح له الفرصة، واستطاع أن ينتصر على ما أقامته الجامعة أمامه من صعوبات، فألم بقدر من الفرنسية، يسمح له بمتابعة المحاضرات ، وتقدم برسالة الدكتوراه، ليتفادى عقبة شهادة البكالوريا التي كان لا يستطيع الحصول عليها بسبب علته ، ثم سافر إلى فرنسا وخاض تجارب طويلة مضنية في سبيل تكوينه الثقافي هناك ، حتى حقق طموحه العلمي في الحصول على تثقيف ذاتي ، يمثل التقاء الثقافتين أصدق تمثيل، وقد أفضى بكل تلك الذكريات في مذكرات طه حسين التي نشرت في عام 1967 وكان قدر نشر فصولها العشرين، في مقالات متتابعة في مجلة آخر ساعة عام 1954. )
( ولذلك نرى أن الأيام في السيرة الذاتية الحديثة مكانة لا تتطاول إليها أي سيرة ذاتية أخرى، في أدبنا العربي وخاصة في الجزء الأول منه ، لمزايا كثيرة منها : تلك الطريقة البارعة في القص ، والأسلوب الجميل ، والعاطفة الكامنة في ثناياه المستعلنة أحياناً حتى تطغى على السطح، وتلك اللمسات الفنية في رسم بعض الصور الكاملة للأشخاص، والقدرة على السخرية اللاذعة في ثوب جاد حتى تظهر وكأنها غير مقصودة. )
( لكن طه حسين أغفل تعزيز الحقيقة ، بما عمد إليه من إنكار للأسماء وإفال للتاريخ ، على نحو قلل معه الصراحة، ومن الصدق التاريخي. فأضعف بذلك عنصر الحقيقة في سيرتة حياته الشخصية ، ومن ثم فقد أخل أيضأً بشرط أساسي من شروط الترجمة الذاتية.
وكذلك أخل بشروط الترجمة الذاتية الفنية، حين عمد إلى ضمير الغائب في سرد حياته الشخصية ، لأنه أخفى بذلك شخصيته التاريخية، وقلل من عنصر الذاتية في سيرة حياته، وكان يتخفى وراء صيغة الغائب فيشير إلى نفسه على أنه \" صبينا \" أو \" الصبي \" أو \" الغلام \" أو \" الفتى \" أو \" صاحبنا\" . )
حياتي لأحمد أمين:
( تأثر الأستاذ أحمد أمين بكتاب الأيام حين كتب سيرته في كتاب أسماه \" حياتي \" وليس سبب هذه التأثر ما أحرزه كتاب الأيام من شهرة أدبية فحسب، بل هو في تلك النشأة الأزعرية المشابهة لنشأة صاحب الأيام ، وفي العلاقة بين الأديبين في حياتي يصف أحمد أمين صورة أزهرية أخرى ، ويقف عند بعض العناصر التي وقف عندها طه حسين، ولكن إسهاب طه في تحليل شخصيات الطلبة بالربع، والأساتذة في حلقات الدرس، صرف أحمد أمين عن الاستقصاء في هذه الناحية، وجعله يتجه إلى وصف الشخصيات التي عرفها في الحي ، ويحاول أن يرسم لها صوراً متنوعة، كالتي رسمها زميله وصديقه من قبل. وكما أطنب طه في وصف فقده أخيه، وتأثره العميق لفقده ، عرج أحمد أمين على حاثة مشابهة، فوصفها بتأثر شديد، وربما كان هذا من قبيل المصادفة والاتفاق.
وانفرد صاحب \" حياتي \" بالإطناب في الحديث عن الشخصيات التي أثرت في نفسه حتى اكتملت له شخصية \" الفتى المثقف \" ، فجمع إلى صورة أبيه -في هذه الناحية – صور كبار الأساتذة وخاصة سيدتين انجليزيتين ، كان لكل واحدة منهما أثر في نفسيته وشخصيته، وكما مضى الدكتور طه يصف الصدمات التي كانت تدفع به الثورة، مضى أحمد أمين يصف الخطوات الايجابية التي أدت به إلى الوصول، وغايته أن يصف كيف وصل \" وكنت وصرت، وكنت وصرت، مما يطول شرحه، فما أكثر ما يفعل الزمان \" . وإدراكه لهذا الفرق بين \" كان \" و \" صار \" هو الذي دفعه بقوة لكتابة سيرته الذاتية.
الأيام وحياتي :
ومن يقرأ سيرة أحمد أمين يجدأن الكاتب يتصور نتيجة التغير وينص عليها، دون أن يجعل من أحداث حياته مكايفسر هذه التغير فهو أشبه بمن يقول لك \" هكذا جرت الأقدار \" أما من يقرأ الأيام فيجد فيه أن كاتبه كتبه وهو يريد أن يقرن بين الوصول والثورة، فأحمد أمين يمثل دور المستفيد الذي يسمع ويقرأ ويلتقي الناس ، وتتكيف حياته من نفسها دون دوافع ذاتية قوية ، أما طه فيصطدم بالناس ، ويقلق وينزعج ويسوء ظنه فيهم. وهو يحس أن كل المنغصات الخارجية ترسب في ذاكرته، فتظل تبتعد به عنهم، وتحفزه إلى الهجوم عليهم حين تحين الفرصة. )
وفي الختام يمكننا القول إن كتابة المذكرات قد باتت تحتل في عصرنا الراهن حيزاً مهماً في حياتنا الثقافية، وصارت فناً من الفنون الأدبية المهمة. فبواسطتها يسعى السلف إلى نقل تجاربه الشخصية إلى الخلف وذلك بغرض الاستفادة منها في استخلاص الدروس والعبر. وبما المذكرات تعد أحد المصادر الرئيسة للمؤرخين والباحثين، وتقرأ في كثير الأحيان كوثائق تاريخية، فهي تحتاج إلى نزاهة وصدق مع الذات ومع الآخرين.
\" السيرة \" في اللغة : هي الطريقة ، أو السنة والهيئة. و\" سار\" الوالي في الرعية \" سيرة\" حسنة، وأحسن \" السّيـْر\". وهذا في \" سِيَــر \" الأولين.
وقال خالد بن زهير:
فلا تغضبن من سنة أنت سرتها فأول راضي سنة من يسيرها
الترجمة الذاتية في مفهومها الحديث
( لن يحدد دارس الترجمة الذاتية الطريق أمامه ممهداً للوقوف على مفهوم لهذا المصطلح المستحدث. إذ أن القليل من الدراسات التي تتناولها. لا تفي بالحاجة التي يتطلبها البحث. هناك نماذج عديدة من التراجم الذاتية التي كتبها أعلام هذا الفن، غير أن ما بينها من الاختلاف أكثر ما بينها من الاتفاق.
على نحو ما يظهر عند الذين عرضوا لها بالنقد والتحليل والتفسير، كاختلافهم في معالمها الفنية ، وفي مدى دلالة الترجمة الذاتية على شخصية كاتبها وميوله وأفكاره وإرادته، ولا يتسع المقام هنا للإشارة إلى اختلافات النقاد حول\"مفهوم الترجمة الذاتية\".
ويكفي أن نصل إلى نتائج عامة توضح لنا هذا المفهوم، و يجدر التنبيه إلى أن وضع الصور المختلفة للإنتاج الأدبي في إطار واحد يطلق عليه ترجمة ذاتية مما يتنافى مع وطبيعة الأشياء، لأنها تتباين فيما بينها تبايناً غير قليل يؤيد ذلك القول بفردية العمل الأدبي ، على أن لكل عمل أدبي فرديته على ما نتوخاه \"نظرية الأدب الحديث\" التي تنظر إلى الدلالة الكلية للعمل الأدبي وترى لكل كاتب أسلوبه ، ولكن وأن كنا لا ننكر أن للكاتب أسلوبه الذي يجري فيه على تقاليد معينة، فإن هذه التقاليد ، لا تغض من الفردية الني يتسم بها كل عمل أدبي.
وعلى هذا يمكن أن ننتهي بشأن المفهوم الحديث للترجمة الذاتية إلى استخلاصه من السمات والملامح العامة التي تشترك في التراجم الذاتية. والترجمة الذاتية الفنية الفنية، ليست هي تلك التي يكتبها صاحبها على شكل \"مذكرات\" يعني بتصوير الأحداث التاريخية، أكثر من عنايته بتصوير واقعي الذاتي، وليست هي التي تكتب على صورة \"ذكريات\" يعني فيها صاحبها بتصوير البيئة والمجتمع والمشاهدات أكثر من عنايته بتصوير ذاته ، وليست هي المكتوبة على شكل\"يوميات\" تبدو فيها الأحداث على نحو متقطع غير رتيب، وليست في آخر الأمر\"اعترافات\" يخرج فيها صاحبها على نهج الاعتراف الصحيح، وليست هي الرواية الفنية التي تعتمد في أحداثها ومواقفها على الحياة الخاصة لكاتبها ، فكل هذه الأشكال فيها ملامح من الترجمة الذاتية ، وليست هي لأنها تفتقر إلى كثير من الأسس التي تعتمد عليها الترجمة الذاتية الفنية.
والترجمة الذاتية كجنس أدبي ، يمكن أن ننتهي إلى نتائج بشأنها، تصلح أسساً فنية لهذا الجنس ، وتمنحنا مفهوماً ، له خصائصه المميزة. وأخص ملامح الترجمة الذاتية التي تجعلها تنتمي إلى الفنون الأدبية أن يكون لها بناء مرسوم واضح ، يستطيع كاتبها من خلاله أن يرتب الأحداث والمواقف والشخصيات التي مرت به ، ويصوغها صياغة أدبية محكمة، بعد أن ينحى جانباً ، كثيراً من التفصيلات والدقائق التي استعادتها ذاكرته، وأفادها من رجوعه إلى ما قد يكون لديه من يوميات ووسائل ومدونات تعينه على تمثل الحقيقة الماضية. )
( فإذا كانت السيرة الإنسانية في تعريفها الشائع هي ذلك النوع الأدبي الذي يتناول بالتعريف حياة إنسان ما، تعريفاً يقصر أو يطول ، فإن جانباً كبيراً من جوانب \"الحياة\" في هذه السيرة يقوم على التفكير والتأمل من جهة، والسلوك والعمل من جهة أخرى. ولكنها - إلى جانب هذا وذاك- فن أدبي جوهره \" التواصل اللغوي \". )
السيرة الذاتية:
( تصور لنا أبعاد كاتبها الثلاثة من خلال رؤياه هو : الداخل ، والخارج ، والأعلى. والسيرة الذاتية تنبع من القاموس الإنساني ، الذي يحوي في معظم لغات البشر كلمات تعبر عن الوحدة ، والعزلة، والانطواء ، والتأمل، والاستبطان، والتفكير العقلي ، والضمير والوعي الفردي ، ومهما كان من أمر انشغال الإنسان بالعالم والآخرين، فإنه لا بد من أن تجيء عليه لحظه يجد نفسه فيها \" حوار مع نفسه \". وإذا كنا نقول إن الإنسان\" شخص \" وليس مجرد \"فرد\" فذلك لانه يملك حياة \" باطنية \" تحول بينه وبين الاستغراق في المجموع إلى أقصى حد. )
أقسام السيرة الذاتية:
( يمكن تقسيم التراجم الذاتية في التراث العربي – تبعاً لحوافزها – إلى الأنواع التالية:
التبريرية:
وهي التي كتبت للدفاع أو الاعتذار ، ومن أمثلتها ترجمة حنين بن إسحاق ، التي عبر فيها عما أصابه به حساده من نكبات وبرر أسباب كبدهم له ، مدافعاً عن نفسه.
الرغبة في اتخاذ موقف ذاتي من الحياة:
كأن يصل إلى مذهب خاص أو سلوك بعينه ، ومن أصدق الأمثلة في أدبنا العربي لهذا اللون الذي يصور الموقف الشخصي الذي اهتدى إليه صاحبه بعد طول بحث وتحري. ما كتبه عن نفسه كل من محمد بن زكريا الرازي في \" السيرة الفلسفية \" والغزالي في \" المنقذ من الضلال وابن الهيثم في سيرته التي احتفظ لنا بها ابن أبي أصبيعة في كتاب \" عيون الأنباء في طبقات الأطباء \"
التخفف من ثورة أو انفعال:
وممن أفصح عن ثورة نفسية على بيئته ومجتمعه، وصور صراعه الهادر ، أبو حيان في مثالب الوزيرين وفي رسالته في الصداقة والصديق، وفي كتابه الإمتاع والمؤانسة، رغم أنه لم يترك ترجمة ذاتية مستقلة ، وكذلك أبو العلاء المعري في بعض رسائله.
تصوير الحياة المثالية:
وهي أشبه بنجوى الذات رغم أنها كتبت لكي يحتذيها الناس والأتباع ، وهي تفصح لذلك عن حياة صاحبها وما أتيح له من خبرات روحية وخلقية وفكرية. ومن أمثلتها ما كتبه عن نفسه كل من عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه \" لفتة الكبد في نصيحة الولد\" و\" العلم الصوفي \" عبد الوهاب الشعراني في \" لطائف المنن \" وما كتبه عن نفسه كل من الحلاج وابن عربي والسهروردي.
تصوير الحياة الفكرية:
وهذا النوع يعمد فيه الكاتب إلى تسجيل كل ما أثر في تكوينه العقلي وتطوره الفكري، وأدبنا القديم والوسيط يحفل كثيراً بهذا النوع . وعى الكثيرون من الكتاب به، منهم البيروني وابن الهيثم والرازي والسيوطي وابن طولون الذي أفرد لهذه الغاية كتابه الفلك المشحون في أحوال محمد بن طواون ، وترجمات هؤلاء الذاتية ، تشبه ترجمات جيبون وجون ستيوارت ميل وهربرت سبنسر.
الرغبة في استرجاع الذكريات:
من أمثلتها في الأدب العربي كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ الذي قدم لنا فيه تصويراً حياً لشخصية الفارس الجسور، وللفروسية العربية، من خلال تصويره لحياته وشخصيته ومنها كتاب \" طوق الحمامة في الألفة والآلاف\" لابن حزم الذي يجري فيه مجرى الاعتراف حين يبوح بذكريات شبابه العاطفية ومنها كتاب النكت العصرية لعمارة اليمني الذي يتحدث فيه عن ذكرياته مع الوزراء والكبراء في أواخر العهد الفاطمي. )
لمحة عن الترجمة الذاتية في التراث العربي :
( لكي نقف على تطور الترجمة الذاتية في الأدب العربي ، منذ عصوره القديمة، يخلق بنا أن نشير إشارة موجزة إلى مدى معرفة القدماء لهذا اللون الأدبي وهي فيما يبدو إشارة لا غني عنها تضيء أمامنا السبيل لدراسة نماذجه في أدبنا الحديث.
حتى نلم بمدى تطور الترجمة الذاتية في أدبنا العربي في عصوره المختلفة، ونتعرف موقف كل من القدماء والمحدثين من إدراكهم لهذا الفن ، ونحصل بذلك على رصد أقرب إلى الدقة والوضوح لظاهرة من ظواهرنا الأدبية قد عرفناها منذ عصور بعيدة.
وإذا نحن تتبعنا تطور الترجمة الذاتية في الأدب العربي في عصوره القديمة والوسطى ، وجدنا أن لفظة \" ترجمة \" و \" سيرة \" كانتا تدوران على معنى \" تاريخ الحياة \" ، وقد اتخذ التاريخ للفرد ، صوراً مختلفة لدى العرب ، وكانت السيرة أولى هذه الصور ، وقصد بها حياة الرسول الكريم ومغازيه وإن لم يمنع ذلك وجود سيرة معاوية وبني أمية، لعوانة الكلبي ( المتوفى سنة 147هـ ) كما يذكر \" ابن النديم \" وقد ظهرت فيما يبدو في وقت ظهور \" سيرة ابن إسحاق \" ( المتوفى سنة 151 ) ، ثم تعددت أنواع التاريخ للأفراد بعد ذلك ، فكان \" الجرح والتعديل \" و \" الطبقات \" ثم \" التراجم \" في العصور المتأخرة التي تلت عصر الرواية والتدوين .
وكل هذه الأنواع هي الأقسام التي ينحل إليها التاريخ للأفراد عند العرب، وظلت السيرة عصوراً يقتصر استعمالها على بيان حياة الرسول ، ثم تطور الاستعمال في عصور تالية، فاستعملت بمعنى حياة الشخص بصفة عامة، بليل ما يذكره صاحب \" كشف الظنون \" من ظهور سير كثيرة منذ القرن الرابع الهجري، كسيرة \" أحمد بن طولون \" للابن الداية ( المتوفى سنة 334هـ ) و \" سيرة صلاح الدين \" لابن شداد ( المتوفى سنة 622هـ ).
أما كلمة \" الترجمة \" فهي دخلت إلى العربية عن اللغة الآرمية، ولم يكن الاصطلاح قد جرى على استعمالها، فيما يبدو إلى في أوائل القرن السابع الهجري ، حين استخدمها \"ياقوت \" في معجمه بمعنى حياة شخص ، ويرجح هذا الظن أن أبا الفرج في كتاب الأغاني لم يستعمل لفظة \" ترجمة \" عند كلامه على حياة الشعراء وغيرهم ، وكان يسبق كلامه بمثل قوله: خبر أبي قطيفة ونسبه أو أخبار بشار بن برد ونسبه.
وعلى مر العصور ، نرى كلمة \" ترجمة \" يجري الاصطلاح على استعمالها لتدل على \" تاريخ الحياة الموجزة للفرد \" وكلمة \" سيرة \" يصطلح على استعمالها لتدل على التاريخ المسبب للحياة. وإذا كان السابقون على ما نرى يفرقون في الاستعمال بين اللفظتين فإن الاصطلاح الحديث لا يفرق بينهما كثراً، بل يستخدم إحداهما مرادفة للأخرى، ومن ثم جاء الاصطلاح المعاصر \" الترجمة أو السيرة الذاتية \". )
الوظيفة الثقافية للسيرة الذاتية:
( وتتمثل هذه الوظيفة فيما تساعد عليه السيرة من خلال النشر الجماهيري من تطبيع وتنشئة اجتماعية، وتوحيد للمفاهيم وتقريب وجهات النظر ، بتوفير قاعدة عريضة مشتركة للاساليب أو الأنماط والقيم والخبرات المشتركة التي يتقاسمها أعضاء المجتمع.
ويظهرنا النموذج الثقافي وظيفياً على تأثير السيرة الذاتية على أخلاق الشباب ، بما تقدمه من نماذج للقدوة تتفق أو تختلف مع الأخلاق العامة والسيرة الذاتية في ضوء التفسير الإعلامي تقوم بدور هام في التنشئة الاجتماعية المعقدة، قصداً أو بدون قصد.)
العناصر الفنية للسيرة الذاتية :
( وإذا تساءلنا عن مدى حظ التراجم الذاتية في تلك العصور ، من العناصر الفنية التي تقربها من الترجمة الذاتية الحديثة، كان الجواب أ، كثيراً من هذه العناصر الأدبية، قد توافرت في بعضها ، وأن كثيراً مما كتبه العرب عن أنفسهم، صاغوه في أسلوب واضح سهل قائم على الإيجاز المحكم ، والعبارة العذبة وحسن العرض ، وسلاسة السرد القصصي ، والقدرة على إعادة الماضي وبعث الحياة والحركة والحرارة في تصوير الأحداث والتجارب والشخصيات.
وقد راعى كثير من هذه الترجمات الذاتية، الصراحة والصدق والتجرد في كثير من النظرات والآراء والتجارب المتصلة بالذات وبالشخصيات ، وبعضها صور أصحابها ما عانوه من صراع داخلي وخارجي ، تصويراً داففاً بالحيوية والنمو، يكشف عن مدى ما أصاب شخصية أحدهم من تحول وتغير وتطور.
وعنى كثير من هذه التراجم الذاتية ، بإثبات عنصري الزمان والمكان ، والكشف عن أسماء الشخصيات والأماكن ، وتعزيز الوقائع بإثبات التاريخ وبعض الوسائل والمدونات ، مع محافظة الاسترسال وعلى السرد الأدبي الجالب للمتعة المرادة من العمل الأدبي ، مما جعل الترجمة الذاتية تحظى بعناية عظيمة من جانب الأدباء ويقابلها الجمهور بإقبال شديد ، لأنها أرضت حاجة العرب إذ نقلت لهم الواقع الملموس في صورة قصصية سهلة ، عذبة ، وكانت تقوم إلى جانب السير والتراجم الغيرية، بهذا الدور الأدبي على مدى أجيال طويلة.
على أن أقرب التراجم الذاتية إلى الترجمة الذاتية الأدبية بمعناها الحديث ، هي تلك التي كتبها كل من المؤيد والأمير عبدالله وابن الهيثم والرازي وأسامة بن منقذ وابن خلدون والشعراني لأنها توافر فيها أكبر قدر من المتعة ، إلى جانب تصوير كل منها ، ما نستدل منه على السمات المميزة لشخصية صاحبها، وعلى مدى التطور الذي طرأ عليها ، وما دار في نفسه من ألوان مختلفة من الصراع ، مع مهارة السرد الأدبي الذي يعتمد على كثير من عناصر الفن ، وعلى الدقة والوضوح والسهولة والعذوبة ، ويعتمد أيضاً على قدر من الترابط في أجزاء كل ترجمة ذاتية، مما يجعلها عملاً يقوم على وحدة البناء في أكثر أجزائه.
وكلها من العوامل التي تحقق المتعة الأدبية، وتثير التعاطف الوجداني بين كاتب الترجمة الذاتية ، وبين متلقيها ، ويدعوه إلى المشاركة القوية في عديد من تجاربه وخواطره ومشاعره وانفعالاته. على أنه مما يقلل من هذه المتعة في السيرة الذاتية ، التي كتبها المؤيد ، ما كان يعمد إليه من محسنات لفظية وأسجاع ومجانسة، وصنعة وتكلف ، تجهد الذهن ، وتثقل حركته. )
( ويذهب أنصار السيرة إلى أنها تصلح للتدريس للأسباب التالية:
أولاً : أن الإنسان الفرد أبسط كموضوع للدراسة من القبيلة أو المدينة ، أو الأمة التي ينتمي إليها.
ثانياً : أن للأطفال ميلاً طبيعياً مفيداً نحو الشخصيات ، فهم يعيشون مع أبطالهم ويقاسمونهم، وبذلك تتسع دائرة خبراتهم بصورة لاتكاد تعقل في حالة دراسة الجماعات.
ثالثاً : أن تعرف الشخصيات العظيمة النبيلة في التاريخ يخلق رغبة في التشبه بهم ويبعث على بغض سلوك الشخصيات الشريرة.
رابعاً : أن من الممكن أن نجعل الأفراد يمثلون الجماعات، بحيث تكون دراسة لخصائص الأفراد وخبراتهم ، وبالتالي دراسة لخصائص الجماعات وخبراتها أيضاً. )
التقاء الثقافتين
( عثر طه حسين على قالب الترجمة الذاتية الروائية لتكون له أداة فنية ، يصور عبرها ذكرياته الماضية، وليصبح المجال أمامه متفسحاً رحيباً، يجول فيه بما تختزنه ذاكرته من تلك الذكريات المتوارية المنزوية في بعد عميق من أبعاد هذه الذاكرة، وقد وجد في هذا القالب، متنفساً طليقاً يزيج به عن صدره ما أكتظ به من شعور ممض بالألم والسخط ، كان مبعثه بيئته التي عاش فيها حياة غاصة بالجهل والقسوة والحرمان والصراع سواء في قريته أو في القاهرة حين وفد إليها يطلب العلم بالأزهر.
تلك البيئة قد سلبته نعمة الإبصار صغيراً، فقتلت فيه حاسة من الحواس الضرورية للإنسان، وحرمته منها لما يشيع فيها من تخلف وظلمة وسذاجة وتواكل، وهي عينها البيئة الجاهلية الجامدة المتزمتة التي لم تتح له ثقافة مستنيرة كتلك التي أتاحتها له الثقافة الأوروبية، بل إن هذه البيئة نفسها ، هي التي تريد أن تنقض عليه ثانية لتحول بينه وبين ثمرة تثقيفه الذاتي، وتسلبه عصارة نضجه الفكري، وتريق ذوب تكوينه الروحي ، فتوئد فيه الرغبة في الحرية وفي الحياة الأدبية وفي الحياة الأدبية والفكرية كما يبتغيها لنفسه ، وكما يبتغيها لأبناء بيئته هذه التي أفضى إليهم بها. )
( ثم يعود ليستكمل ذكريات حياته عن الفترة التي قضاها في الدراسة بين الأزهر والجامعة الأهلية، إلى أن أحرز إجازة الدكتوراه عن ذكرى أبي العلاء في 15 من مايو سنة 1914 ثم سافر إلى فرنسا في 14من نوفمبر من السنة نفسها، رغم العقبات التي ألقتها هذه الجامعة في طريقه، ورغم ملابسات الحرب العالمية الأولى ، إذ تقدم للحصول على بعثة لدراسة التاريخ بجامعات فرنسا مرت ثلاثا دون أن تتاح له الفرصة، واستطاع أن ينتصر على ما أقامته الجامعة أمامه من صعوبات، فألم بقدر من الفرنسية، يسمح له بمتابعة المحاضرات ، وتقدم برسالة الدكتوراه، ليتفادى عقبة شهادة البكالوريا التي كان لا يستطيع الحصول عليها بسبب علته ، ثم سافر إلى فرنسا وخاض تجارب طويلة مضنية في سبيل تكوينه الثقافي هناك ، حتى حقق طموحه العلمي في الحصول على تثقيف ذاتي ، يمثل التقاء الثقافتين أصدق تمثيل، وقد أفضى بكل تلك الذكريات في مذكرات طه حسين التي نشرت في عام 1967 وكان قدر نشر فصولها العشرين، في مقالات متتابعة في مجلة آخر ساعة عام 1954. )
( ولذلك نرى أن الأيام في السيرة الذاتية الحديثة مكانة لا تتطاول إليها أي سيرة ذاتية أخرى، في أدبنا العربي وخاصة في الجزء الأول منه ، لمزايا كثيرة منها : تلك الطريقة البارعة في القص ، والأسلوب الجميل ، والعاطفة الكامنة في ثناياه المستعلنة أحياناً حتى تطغى على السطح، وتلك اللمسات الفنية في رسم بعض الصور الكاملة للأشخاص، والقدرة على السخرية اللاذعة في ثوب جاد حتى تظهر وكأنها غير مقصودة. )
( لكن طه حسين أغفل تعزيز الحقيقة ، بما عمد إليه من إنكار للأسماء وإفال للتاريخ ، على نحو قلل معه الصراحة، ومن الصدق التاريخي. فأضعف بذلك عنصر الحقيقة في سيرتة حياته الشخصية ، ومن ثم فقد أخل أيضأً بشرط أساسي من شروط الترجمة الذاتية.
وكذلك أخل بشروط الترجمة الذاتية الفنية، حين عمد إلى ضمير الغائب في سرد حياته الشخصية ، لأنه أخفى بذلك شخصيته التاريخية، وقلل من عنصر الذاتية في سيرة حياته، وكان يتخفى وراء صيغة الغائب فيشير إلى نفسه على أنه \" صبينا \" أو \" الصبي \" أو \" الغلام \" أو \" الفتى \" أو \" صاحبنا\" . )
حياتي لأحمد أمين:
( تأثر الأستاذ أحمد أمين بكتاب الأيام حين كتب سيرته في كتاب أسماه \" حياتي \" وليس سبب هذه التأثر ما أحرزه كتاب الأيام من شهرة أدبية فحسب، بل هو في تلك النشأة الأزعرية المشابهة لنشأة صاحب الأيام ، وفي العلاقة بين الأديبين في حياتي يصف أحمد أمين صورة أزهرية أخرى ، ويقف عند بعض العناصر التي وقف عندها طه حسين، ولكن إسهاب طه في تحليل شخصيات الطلبة بالربع، والأساتذة في حلقات الدرس، صرف أحمد أمين عن الاستقصاء في هذه الناحية، وجعله يتجه إلى وصف الشخصيات التي عرفها في الحي ، ويحاول أن يرسم لها صوراً متنوعة، كالتي رسمها زميله وصديقه من قبل. وكما أطنب طه في وصف فقده أخيه، وتأثره العميق لفقده ، عرج أحمد أمين على حاثة مشابهة، فوصفها بتأثر شديد، وربما كان هذا من قبيل المصادفة والاتفاق.
وانفرد صاحب \" حياتي \" بالإطناب في الحديث عن الشخصيات التي أثرت في نفسه حتى اكتملت له شخصية \" الفتى المثقف \" ، فجمع إلى صورة أبيه -في هذه الناحية – صور كبار الأساتذة وخاصة سيدتين انجليزيتين ، كان لكل واحدة منهما أثر في نفسيته وشخصيته، وكما مضى الدكتور طه يصف الصدمات التي كانت تدفع به الثورة، مضى أحمد أمين يصف الخطوات الايجابية التي أدت به إلى الوصول، وغايته أن يصف كيف وصل \" وكنت وصرت، وكنت وصرت، مما يطول شرحه، فما أكثر ما يفعل الزمان \" . وإدراكه لهذا الفرق بين \" كان \" و \" صار \" هو الذي دفعه بقوة لكتابة سيرته الذاتية.
الأيام وحياتي :
ومن يقرأ سيرة أحمد أمين يجدأن الكاتب يتصور نتيجة التغير وينص عليها، دون أن يجعل من أحداث حياته مكايفسر هذه التغير فهو أشبه بمن يقول لك \" هكذا جرت الأقدار \" أما من يقرأ الأيام فيجد فيه أن كاتبه كتبه وهو يريد أن يقرن بين الوصول والثورة، فأحمد أمين يمثل دور المستفيد الذي يسمع ويقرأ ويلتقي الناس ، وتتكيف حياته من نفسها دون دوافع ذاتية قوية ، أما طه فيصطدم بالناس ، ويقلق وينزعج ويسوء ظنه فيهم. وهو يحس أن كل المنغصات الخارجية ترسب في ذاكرته، فتظل تبتعد به عنهم، وتحفزه إلى الهجوم عليهم حين تحين الفرصة. )
وفي الختام يمكننا القول إن كتابة المذكرات قد باتت تحتل في عصرنا الراهن حيزاً مهماً في حياتنا الثقافية، وصارت فناً من الفنون الأدبية المهمة. فبواسطتها يسعى السلف إلى نقل تجاربه الشخصية إلى الخلف وذلك بغرض الاستفادة منها في استخلاص الدروس والعبر. وبما المذكرات تعد أحد المصادر الرئيسة للمؤرخين والباحثين، وتقرأ في كثير الأحيان كوثائق تاريخية، فهي تحتاج إلى نزاهة وصدق مع الذات ومع الآخرين.