يختلف جهاد الدفع عن جهاد الدعوة والطلب في هذه الأمور؛ فلا يشترط فيه أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون، و لا يشترط فيه القوة، ولا يشترط فيه إذن الإمام، و لا يشترط فيه إذن الوالدين أو أحدهما، فلا يشترط فيه شرط، بل يدفع العدو بحسب الإمكان.
قال ابن تيمية رحمه الله : " أما قتال الدفع: فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين. فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه. فلا يشترط له شرط. بل يدفع بحسب الإمكان. وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم. فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر، وبين طلبه في بلاده ا.هـ الاختيارات الفقهية ص 532 .
قال ابن القيم رحمه الله: " فإذا كانت المسابقة شرعت ليتعلم المؤمن القتال ويتعوده ويتمرن عليه؛
فمن المعلوم أن المجاهد قد يقصد دفع العدو، إذا كان المجاهد مطلوباً، والعدو طالباً.
وقد يقصد الظفر بالعدو ابتداء إذا كان طالباً والعدو مطلوباً.
وقد يقصد كلا الأمرين.
والأقسام الثلاثة يؤمر المؤمن فيها بالجهاد .
وجهاد الدفع أصعب من جهاد الطلب؛ فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل ولهذا أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه، كما قال الله تعالى: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) ( الحج:39 )، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد "؛ لأن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على المال والنفس مباح ورخصة، فإن قتل فيه فهو شهيد ؛
فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعم وجوباً، ولهذا يتعين على كل أحد يقم ويجاهد فيه: العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه، وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق.
ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد ( يعني : جهاد الدفع ) أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون، فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجباً عليهم؛ لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار، ولهذا تباح فيه صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع .
وهل تباح في جهاد الطلب إذا خاف فوت العدو ولم يخف كرته؟ فيه قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد.
ومعلوم أن الجهاد الذي يكون فيه الإنسان طالباً مطلوباً أوجب من هذا الجهاد الذي هو فيه طالب لا مطلوب، والنفوس فيه أرغب من الوجهين .
وأما جهاد الطلب الخالص فلا يرغب فيه إلا أحد رجلين إما عظيم الإيمان يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، وإما راغب في المغنم والسبي.
فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً.
وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين.وأما الجهاد الذي يكون فيه طالباً مطلوباً فهذا يقصده خيار الناس؛ لإعلاء كلمة الله ودينه، ويقصده أوساطهم؛ للدفع ولمحبة الظفر."اهـ الفروسية ص96 –98 .
مع ملاحظة الأمور التالية:
- أن عدم اشتراط إذن الإمام في جهاد الدفع إنما هو إذا فاجأ العدو أهل البلد؛ فتعذر عليهم الرجوع إليه لدفع العدو، أمّا إذا لم يتعذر فالأصل الرجوع إلى الإمام، والجهاد معه، والقتال من ورائه، كما فعل المسلمون لمّا حاربهم المشركون في معركة الخندق.
قال عبدالله بن الإمام أحمد: سمعتُ أبي يقول : إذا أذن الإمامُ, القومُ يأتيهم النفير فلا بأس أن يخرجوا.
قلتُ لأبي : فإن خرجوا بغير إذن الإمام؟
قال : لا, إلا أن يأذن الإمام, إلا أن يكون يفاجئهم أمرٌ مِن العدو ولا يُمكِنُهم أن يستأذنوا الإمام فأرجو أن يكون ذلك دفعاً مِن المسلمين " مسائل عبد الله لأبيه (2/258).
قال ابن قدامه رحمه الله : " لأن أمر الحرب موكول إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم، ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يُرجع إلى رأيه, لأنه أحوط للمسلمين، إلا أن يتعذر استئذانه لمفاجـأة عدوهم لهم، فلا يجب استئذانه، لأن المصلحة تتعين في قتالهم, والخروج إليهم، لتعين الفساد في تركهم، لذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي r فصادفهم سلمة بن الأموع خارجاً من المدينة، تبعهم فقاتلهم من غير إذن، فمدحه النبي r، قال: "خير رجالنا سلمة بن الأكوع" وأعطاه سهم فارس وراجل"اهـ المغني (8/367).
- أن عدم القدرة على العدو في جهاد الدفع تجوز الدخول معه في صلح، إذا رأى الإمام ذلك، والحال في ذلك كالحال في جهاد الطلب. كما فعل الرسول r في دخوله مع المشركين في صلح الحديبية، ولم يدفعهم عن مكة المكرمة، وأموال المسلمين فيها.
- وعدم القدرة على قتال العدو يجوز معها ترك قتاله، كما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه عيسى عليه الصلاة والسلام، وذلك في قوله في الحديث: ( إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرِّز عبادي إلى الطور ) " انتهى النقل من كلام الشيخ محمد بازمول .
ثالثاً :
قال الشيخ المفضال حمد العتيق – وفقه الله – في رسالته ( نصيحة المسلمين ببيان حكم الجهاد في العراق و فلسطين ) :
" لیس معنى قولنا لا یجوز جهاد الدفع لغیر القادرین كما في العراق وفلسطین لا یعني ذلك أن المسلم لایجوز له أن یدافع عن دمه أوماله أوعرضه إذا أرید انتهاكه بغیر حق، بل له ذلك و هذا هو الذي یسمى عند الفقهاء بدفع الصائل، وهذا لیس من جهاد الدفع،
فإن دفع الصائل أعم فهو یعم الصائل المسلم وغیره، أما جهاد الدفع الذي نتكلم عنه فلا یتصور إلا ضد العدو الكافر المعتدي
فلو فرض أن أحداً أراد نفس المسلم أو أخذِ شيء من ماله أو عرضه فإنه یدفعه بحسب استطاعته، فقد روى البخاري من حدیث عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله علیه وسلم قال : "من قُتِل دون ماله فهو شهید"،
ولا یقال إن ما یحصل في العراق وفلسطین من تفجیر السیارات في مراكز الشرطة والمباني الحكومیة العراقیة أو قتل الشرطة العراقیة أو تفجير المطاعم والمجمعات الیهودیة التي یختلط فیها الكفارمع المسلمین من دفع الصائل الذي نتكلم عنه، فإن الصائل الذي نتكلم عنه لا یُتبَع إذا أدبر ولا یُجهز على جریحه، ولا یقتل أسیره، كما أن الصائل الذي یرید المال للإنسان أن یدفعه وهذه عزیمة وله أن لا یدافعه وهذه رخصة،
بخلاف جهاد الدفع فإنه إذا كان مستطاعاً فهو واجب إجماعاً.