علم الكيمياء علم عربي الأساس والمنهج، حيث وضع العلماء المسلمين نظرية كيميائية ناضجة ومنهجاً علمياً قويماً. ولقد تعمقوا في فهم هذا العلم الجديد فتمخض ذلك عن فلسفة رائعة تعكس حكمتهم المستخلصة من قدر هائل من التجارب والمشاهدات. لقد طوّروا المختبر الكيميائي وصنعوا له أدواته الخاصة. ومما لاشك فيه أن ذلك المختبر الذي طوّروه هو نفسه الذي نعرفه اليوم، وعرّفوا العمليات الكيميائية داخل المختبرات والعناصر الأساسية للمواد، واجتهدوا أيضاً في التطبيق فقامت صناعات كيميائية غيّرت وجه الحياة وتقدمت بالإنسانية خطوات عملاقة إلى الأمام.
وعلى الرغم من أن الكيمياء قد قامت على أنقاض فلسفة يونانية تمحورت حول تحويل العناصر الخسيسة (المعادن غير الذهب، والفضة، والبلاتين) إلى عناصر نفيسة، وتحضير إكسير الحياة، فإن العلماء المسلمين سرعان ما لفظوا تلك الأساطير وتبنوا المنهج التجريبي كما نعرفه الآن. وقد اعتمد علماء الكيمياء المسلمون على المنهج العلمي التجريبي منذ بداية القرن التاسع الميلادي، يقودهم في هذا المجال بلا منازع العالم العربي جابر بن حيان الذي استحق بجدارة أن يُلقب بأبو الكيمياء كما سنرى.
المنهج العلمي التجريبي
وضع جابر بن حيّان أسس المنهج العلمي التجريبي حيث بنى معرفته الكيميائية على التجارب والاستقراء والاستنتاج العلمي. وهكذا آمن جابر إيماناً عميقاً بأهمية إجراء التجارب كسبيل علمي دقيق للوقوف على الحقائق بعد أن تخلى عن منهج التأمل العقيم المنقطع الصلة بالواقع المشاهد. ونادى بأن دراسة العلوم الطبيعية أساسها التجربة، ولأن جابر كان أول من أدخل التجربة العلمية المختبرية في منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده، فإنه كان يوجه طلابه بالقول المأثور عنه: “وأول واجب أن تعمل وتجري تجارب، لأن من لا يعمل ويجري التجارب لا يصل إلى أدنى مراتب الإتقان. فعليك بالتجربة لتصل إلى المعرفة”.
ولقد درس جابر بن حيان المنهج العلمي عند علماء اليونان بكل إمعان، فوجده يرتكز على التحليلات الفكرية الغامضة واتجه هو نحو الاعتماد على المنهج العلمي الذي يخضع للتجربة المختبرية والبرهان الحسّي، وذلك مع الاحتفاظ بالنظريات التي تُعتبر عصب البحث العلمي.
وإضافة إلى ذلك، فإن جابر كان يجمع بين الامتحان التجريبي أو العمل المعملي والفرض العقلي الذي تأتي التجربة لتأييده أو رفضه أو تكذيبه، وهو ما يُعتبر لُب المنهج التجريبي. وفي هذا يقول: “لقد عملته بيدي وبعقلي من قبل وبحثت عنه حتى صح وامتحنته فما كذب” .وهذا يعني أن التجربة وحدها لا تكفي لتصنع عالماً، بل لابد من أن يسبقها الفرض العلمي الذي يصنعه العالم، ثم تكون التجربة بعدئذ هي الدليل على صحته أو خطأه. ويقول جابر أيضاً: “إياك أن تجرب أو تعمل حتى تعلم. ويحق أن تعرف الباب من أوله إلى آخره بجميع تقنياته وعِلله، ثم تقصد التجريب فيكون بالتجربة كمال العلم”.
ابتكار العمليات الكيميائية الأساسية
ابتكر العلماء المسلمون العديد من العمليات الأساسية في الكيمياء من بينها:
التمييع والأكسدة والتقطير الجاف وتنقية المياه والتحميص والهضم والغسيل والمزج والتثبيت
الإذابة (التحليل)، التصعد، وطريقة تحويل المادة إلى عجينة ثخينة أو مادة صلبة منصهرة.
والتقطير الإئتلافي للنفط
التشوية: واستخدمت هذه الطريقة – وما زالت تستخدم حتى اليوم – في تحضير بعض المعادن من خاماتها.
التقطير: لتخليص السائل من المواد العالقة والمنحلة به، ولفصل السوائل المتطايرة من غير المتطايرة.
التنقية: لإزالة الشوائب عن المادة المطلوبة.
التسامي: تحويل المواد الصلبة إلى بخار ثم إلى الصلابة دون المرور بمرحلة السيولة كاليود والكافور.
التصعيد: وهو تسخين المادة السائلة – خاصة الزيوت العطرية وغيرها – بسوائل أو مواد صلبة درجة غليانها عالية.
التكليس: ويشبه عملية التشوية، إلا أنه في التكليس يتم تسخين المادة تسخينًا مباشرًا إلى أن تتحول إلى مسحوق.
التشميع: وهو تغليف المادة بالشمع لعزلها وحمايتها من التلوث أو لتسهيل بعض العمليات.
التلغيم: وهي اتحاد الزئبق بالمعادن الأخرى.
التخمير: وهو تفاعل المواد النشوية مع الطفيليات الفطرية ومن المعلوم أنهم أول من استخدم عفن الخبز والعشب الفطري في تركيب أدويتهم لعلاج الجروح المتعفنة.
التبلًّر: وفيه تتخذ بعض الأجسام أشكالاً هندسية ثابتة تتنوع بتنوع هذه الأجسام.
التبخير: وهو تحويل الأجسام الصلبة والسوائل إلى بخار بتأثير الحرارة.
الترشيح: ويستخدم للحصول على المواد المتبلِّرة أو النقية واستعاضوا عن ورق الترشيح بأقمشة مصنوعة من الشعر أو الكتان، تتناسب دقة نسجها وخيوطها مع المحلول المراد ترشيحه.
جابر بن حيان
قام جابر بإجراء كثير من العمليات المخبرية، كان بعضها معروفًا من قبل فطوَّره، وأدخل عمليات جديدة. من الوسائل التي استخدمها: التّبخّر، والتكليس، والتقطير، والتبلّر، والتصعيد، والترشيح، والصهر، والتكثيف، والإذابة. ودرس خواص بعض المواد دراسة دقيقة، فتعرّف على أيون الفضة النشادري المعقد. كما قام بتحضير عدد كبير من المواد الكيميائية؛ فهو أول من حضَّر حمض الكبريتيك وأكسيد الزئبق وحمض النتريك؛ أي ماء الفضة، وكان يسميه الماء المحلل أو ماء النار، وحضّر حمض الكلوريدريك المسمّى بروح الملح. وهو أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة وقد سمّاها حجر جهنم، وثاني كلوريد الزئبق، وحمض النتروهيدروكلوريك (الماء الملكي)، وسمِّي كذلك لأنه يذيب الذهب ملك المعادن. كما استخدم الشب (الألومنيوم) في تثبيت الأصباغ في الأقمشة، وحضّر بعض المواد التي تمنع الثياب من البلل؛ ومن استنتاجاته أن اللهب يكسب النحاس اللون الأزرق، بينما يكسب النحاس اللهب لونًا أخضر.
وجابر بن حيان هو أول من فصل الذهب عن الفضة وشرح بالتفصيل عملية تحضير الزرنيخ، والإثمد (الأنتيمون)، وتنقية المعادن، وصبغ الأقمشة، ويعزى إلى جابر أنه أول من استعمل الميزان الحساس والأوزان المتناهية الدقة في تجاربه المخبرية. وينسب إليه تحضير مركبات كل من كربونات البوتاسيوم والصوديوم والرصاص القاعدي، كما استخدم ثاني أكسيد المنجنيز لإزالة الألوان في صناعة الزجاج. كما بلور جابر النظرية التي مفادها أن الاتحاد الكيميائي يتم باتصال ذرات العناصر المتفاعلة مع بعضها.
ولجابر بن حيان مؤلفات ورسائل كثيرة في الكيمياء. وأشهر هذه المؤلفات كتاب السموم ودفع مضارها، وفيه قسَّم السموم إلى حيوانية، ونباتية وحجرية، وذكر الأدوية المضادة لها وتفاعلها في الجسم؛ وكتاب التدابير؛ وتعني التدابير في ذلك الوقت العمل القائم على التجربة، وكتاب الموازين وكتاب الحديد؛ وفيه يصف عملية استخراج الحديد الصلب من خاماته الأولى.
كما يصف كيفية صنع الفولاذ، وتُشكل مجموعة الكتب التي تحمل اسم جابر بن حيان موسوعة تحتوي على خلاصة ما توصل إليه علم الكيمياء حتى عصره. وقد تُرجِمت معظم كتبه إلى اللاتينية ومثّلت مصنفاته المترجمة الركيزة التي انطلق منها علم الكيمياء الحديث في العالم.
إسهامات الحضارة الإسلامية في علم الكيمياء
لعب المجتمع الإسلامي دور المؤسس والحاضن لعلم الكيمياء، وكان لعلماء أمثال جابر بن حيان والرازي دور أساسي في الاكتشافات الكيميائية التي أسست للحضارة المعاصرة، إن اكتشاف وتسمية أحماض الهيدروكلوريك، الكبريتيك، النيتريك، الخليك، الصودا، والبوتاس كلها كانت على أيدي العلماء المسلمين. ومن أعظم اكتشافات علماء الكيمياء المسلمين، الماء الملكية وهو خليط من حامض النيتريك وحامض الهيدروكلوريك حيث يتميّز بقدرة عالية على إذابة معظم العناصر ومن بينها الذهب. وقد أدخل العرب طريقة فصل الذهب عن الفضة بالحلّ بحمض النتريك، كما أمكنهم فصل كل من عنصري الزرنيخ والأنتيمون من مركباتهما الكبريتية. و قد برزوا أيضاً في صناعة الحديد وفي دباغة الجلود. وفوق ذلك تركوا إرثاً هائلاً من المؤلفات التفصيلية الوافية التي تناولت صناعات عديدة، منها صناعة السكر والزجاج والسيراميك والصابون والعطور والصلب والأحجار الكريمة والطلاء.
استخدم جابر بن حيان ثاني أكسيد المنجنيز في صناعة الزجاج، واستخدم الرمل الأبيض الخالي من أكاسيد الحديد للحصول على زجاج ناصع البياض. وحضر جابر أيضا مادة براقة من كبريتيد النحاس واستخدمها في تزيين المخطوطات بدلا من الذهب، كما قام بتحضير نوع خاص من الطلاء يقي الثياب من البلل ويمنع الصدأ عن المعادن، واكتشف أن الشب (الألومنيوم) يساعد على تثبيت الألوان في الصباغة، وهو ما ظل مستخدماً إلى اليوم. وصنع جابر بن حيان كذلك نوعاً من الورق غير قابل للاحتراق. وكان الرازي أول من قطّر النفط (البترول) واكتشف الكيروسين وصنع مصباح الكيروسين، وصنع الصابون، والمواد القاتلة للبكتيريا أيضاً. كما عرَف ووصف عملية “التسامي“.
اختراع أدوات المعمل
قام جابر بن حيان باختراع الإنبيق، كما قام باختراع المقطرة والمعوجة. في القرن الحادي عشر اخترع ابن سينا ملف التبريد، الذي يكثف الأبخرة العطرية. وكان هذا الملف سابقة في تقنية التقطير، والذي استخدمه في عملية تقطير البخار، الأمر الذي يتطلب أنابيب مبردة، لإنتاج الزيوت العطرية. اخترع الكيميائيون المسلمون القرع والأثل، والمعدات اللازمة لصهر المعادن مثل الأفران والبوتقات. وفي كتابه سر الأسرار، وصف الرازي الأدوات التالية التي اخترعها هو وأسلافه (خالد بن يزيد، وابن حيان، والكندي):
الكور (الموقد)، المنفاخ أو الكير، البوتقة، أداة الصب، الملقط أو الماسك، المقص أو المقطع، المطرقة أو المكسر، والمبرد.
وصف الرازي الأدوات التالية أيضًا لتحضير الأدوية: القرع والمقطرة مع أنبوب تفريغ، حوجلة للتجميع، والمقطرة العمياء بدون أنبوب التفريغ، الأثل، الكأس أو القدح، القارورة، قارورة ماء الورد (ماوردية)، المرجل أو طِنجير، القدر، حمام مائي أو رملي، فرن أو تنور، مستوقد (وهو فرن إسطواني لتسخين الأثل)، قمع، منخل، مرشح، وغيرها من الأدوات التي تُعد نماذج أوليّة للأدوات المستخدمة اليوم.
واخترع أبو الريحان البيروني المقياس المخروطي، لكي يوجد النسبة بين وزن المادة في الهواء ووزن الماء المزاح تبعاً لحجمها، ولكي يقيس بدقة الوزن النوعي للأحجار الكريمة والمعادن الثمينة أيضًا، وهي قريبة جدًا من القياسات الحديثة. كما اخترع البيروني القارورة المخبرية ومقياس الكثافة في بدايات القرن الحادي عشر. وقام الخازني باختراع الميزان المائي، والميزان القبان في بدايات القرن الثاني عشر. إن أول وصف لهذه الأدوات موجود في كتاب الخازني ”ميزان الحكمة” من سنة 1121 ميلادياً
الرازي (923 م) و البيروني (1050 هـ)
كانت لأبي الرازي إسهامات كبيرة في الكيمياء، وعلى الرغم من أن أستاذه جابر بن حيان كان أول من بشَّر بالمنهج التجريبي، فقد تجرّد الرازي عن الغموض وعالج المواد الطبيعية من منظور حقيقتها الشكلية الخارجية دون مدلولها الرمزي. ولذا كان الرازي بطبيعة الأمر أوسع علمًا وأكثر تجربة وأدق تصنيفًا للمواد من أستاذه.
ونستطيع أن نقول إنه الرائد الأول في هذا العلم، وذلك في ضوء اتجاهه العلمي، وحرصه على التحليل وترتيب العمل المخبري، وكذلك في ضوء ما وصف من عقاقير وآلات وأدوات. عكف الرازي إلى جانب عمله التطبيقي في الطب والصيدلة على التأليف وصنَّف ما يربو على 220 مؤلفًا ما بين كتاب ورسالة ومقالة.
أشهر مصنفات الرازي في حقل الكيمياء “سر الأسرار” الذي نقله جيرار الكريموني إلى اللاتينية، وبقيت أوروبا تعتمده في مدارسها وجامعاتها زمنًا طويلاً. بيًَّن في هذا الكتاب المنهج الذي يتبعه في إجراء تجاربه؛ فكان يبتدئ على الدوام بوصف المواد التي يعالجها ويطلق عليها المعرفة، ثم يصف الأدوات والآلات التي يستعين بها في تجاربه وسماها معرفة الآلات، ثم يشرح بالتفصيل أساليبه في التجربة وسماها معرفة التدابير. ولعل براعة الرازي في حقل الطب جعلته ينبغ في حقل الكيمياء والصيدلة، إذ كان لابد للطبيب البارع آنذاك أن يقوم بتحضير الأدوية المركبة، ولا يمكن تحضير هذه المركبات إلا عن طريق التجربة المعملية. وقسَّم المواد الكيميائية إلى أربعة أقسام، معدنية، نباتية، حيوانية ومشتقة. وكان أول من استعمل الكحول في تطهير الجروح، وابتكر طريقة جديدة لتحضير الكحول الجيد من المواد النشوية والسكرية المتخمرة. كما كان أول من أدخل الزئبق في المراهم.
أمّا البيروني فلم يؤمن بتحويل المعادن كان يؤمن بوحدة الاتجاه العلمي في العالمين الإسلامي والعربي، وكان البيروني يستند في أبحاثه على تجاربه الشخصية، وهو بهذا أكد مبدأ التجربة في البحث العلمي، وهو المبدأ القويم في الحضارة العربية والإسلامية الخالدة. وقام البيروني بشرح عملية استخراج المعادن وتحديد أوزانها النوعية في الهواء والماء، والتي جاءت قيمتها مطابقة للقيم المعروفة اليوم كالزئبق والحديد والقصدير والرصاص والزمرد، وكذلك تعداده للمعادن والغازات المعروفة في عصره وأماكن خاماتها، وطرق استخراجها. وقد حضّر البيروني ملغم الزئبق مع الذهب وصنع الفولاذ، وحضر كربونات الرصاص القاعدية، باستخدام الطريقة المعروفة الآن بالطريقة الهولندية.
الاكتشافات الكيميائية الأساسية
ساهم الكيميائيون المسلمون مثل جابر بن حيان والرازي وغيرهم في الاكتشافات الكيميائية الأساسية من عناصر وعمليات وأدوات، بما في ذلك: أدوات التقطير، مثل الإنبيق، والمقطرة، والمعوجة. حمض الهيدروكلوريك، وحمض الكبريت، وحمض النيتريك وحمض الخل والصودا والبوتاس والماء المقطر والكحول المقطر المنقى ومواد العطارة والكثير من المواد الكيميائية الاخرى والأجهزة المعملية. قدّم المسلمون أيضًا إسهامات كبيرة للكيمياء. وأكثرهم تأثيرًا في هذا الصدد كما ذكرنا هو جابر بن حيان. فقد قام بتحليل عناصر أرسطو الأساسية (النار، الهواء، الماء، الأرض) من حيث الصفات الأساسية الأربعة: الحرارة، والبرودة، والجفاف، والرطوبة. ووفقًا لابن حيان، فإن اثنتين من هذه الصفات في كل المعادن تكونان داخليتان واثنتين تكونان خارجيتان. فعلى سبيل المثال، الرصاص بارد جدًا وجاف، في حين أن الذهب ساخن ورطب. وهكذا، وضع جابر نظرية تفيد أنه بإعادة ترتيب خواص معدن واحد يمكن إنتاج معادن أخرى.
عرف الكيميائيون العرب الميزان ووصفه جابر في كتبه وصفا دقيقا، وكانوا يستخدمون الرطل والأوقية والمثقال والدرهم والقيراط والحبّة في بحوثهم. ومن المعروف أن الرطل المستخدم في ذلك الحين كان يساوي 1.1 من كيلوجرام على حين أن الحبّة تزيد قليلاً على 0.06 من الجرام مما يدل على مدى حساسية ودقة الميزان المستعمل في ذلك الحين، ومن المدهش حقا أن الميزان لم يستخدم في أوروبا إلا بعد عهد جابر بأكثر من ستة قرون. واستخدم العلماء العرب الميزان لتعيين الوزن النوعي للعناصر، ويتبين من ذلك أن العلماء المسلمين كانوا يعرفون الوزن النوعي للعناصر المختلفة.
بعض المصطلحات الكيميائية ذات الأصل العربي
من أهم الدلائل على أن الكيمياء علمٌ عربي وإسلامي المنشأ أن العديد من المصطلحات الكيميائية الحديثة يعود أصلها للغة العربية بعد ترجمتها لليونانية ثم إلى الإنجليزية والفرنسية نذكر منها المصطلحات التالية:
الإكسير Alixir – قرمز Kermes - الأنبيق Alanbic – القلقطار Colcothar - الأنيلين (النيل/النيلة) Aniline – القلوي Alkali - البورق Borax – القلي Alcali - التوتياء Tutty – قيراط Carat - الخيمياء Alchemy – الكافور Camphor - الرهج القار Realgar – كبريت Kibrit -الزرنيخ Arsenic – الكحل Kohl - الزعفر (الصفُّر) Zaffre – الكحول Alcohol - زعفران Saffran – كيمياء Chemistry - الزنجفر Cinnabar – اللك Lacquer -ا لرُّب Rab – المركزيت Marcasite - السكر Sugar – المعجون Majoon - الصابون Sapon – الملغم Amalgam -الطلق أو تلك Tale – النطرون Natron - عطر Attar – النطفة Naphta - العنبر Amber – النيل Anil - غرافة Carafe.
كذلك بعض رموز العناصر الكيميائية المستخدمة حالياً ترجع أصولها إلى اللغة العربية. ومنها مثلاً رمز الصوديوم Na المشتق من كلمة نطرون (al-natrun) الذي كتب باللاتينية Natrium، وكذلك فإن رمز عنصر البوتاسيوم k مشتق من كلمة (al-qaliy) الذي كتب باللاتينية (kaliem). هناك عناصر أخرى ذات أصل عربي مثل البورون ورمزه B وأصله كلمة بورق أو بوره بالفارسية.
الكندي (801-866 م) و الجلدكي ( …. – 1342 م )
الكندي من قبيلة كندة العربية، ولد في الكوفة وتوفي ببغداد، ترجم كثيراً من الكتب اليونانية إلى اللغة العربية، وقد ذكر ابن النديم في كتابه الفهرست حوالي مائتين وثلاثون كتاباً ورسالة ألفها الكندي، ومن أشهر رسائله في الكيمياء كتاب الجواهر الثمينة، وكتاب رسالة فيما يصبغ فيعطي لوناً، ورسالة فيما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تنثلم ولا تكل، وكتاب كيمياء العطر والتصعيدات، والتي طبعت في ليبزغ سنة 1948م بعد ترجمتها، وكتاب رسالة في العطر وأنواعه، وكتاب التنبيه إلى خدع الكيميائيين وكتاب تلويح الزجاج. حضّر الكندي أنواعًا من الفولاذ بأسلوب المزج والصهر، وهي طريقة لا زالت تستخدم حتى وقتنا الحاضر بنجاح.
واستخدم الكندي أشهر السموم المعدنية المعروفة في وقتنا الراهن، وهي التي تتكون من أيون السيانيد الموجود في ورق نبات الدفلي، وكذلك الزرنيخ الأصفر. وذكر الكندي وصفة لتلوين حديد السيوف والسكاكين يدخل في تركيبها بعض المواد العضوية والأعشاب من بينها نبات الدفلي الذي ثبت أن السم فيه عالي التركيز لاحتوائه على مقدار كبير نسبياً من سيانيد الصوديوم أو البوتاسيوم، ويكسب الحديد لونًا أحمر يضرب إلى الزرقة. قام كل من أرنالدوس وجيرار الكريموني بترجمة كتب الكندي في مجال الكيمياء والصيدلة إلى اللغة اللاتينية، وقال عنه الأخير إنه كان “خصب القريحة، وإنه فريد عصره في معرفة العلوم بأسرها”.
أمّا الجلدكي فقد استنتج العلماء من دراساته وأبحاثه أن المواد الكيميائية لا تتفاعل مع بعضها البعض إلا بأوزان معينة. ومما لا يقبل الجدل أن هذه الفكرة هي أساس ابتكار قانون النسب الثابتة في الاتحاد الكيميائي الذي ادعى ابتكاره جوزيف براوست الذي جاء بعد الجلدكي بخمسة قرون. أعطى الجلدكي وصفاً مفصلاً لطريقة الوقاية والاحتياطات اللازمة من خطر استنشاق الغازات الناتجة عن التفاعلات الكيميائية، فهو بذلك أول من فكر في ابتكار واستخدام الكمامات في معامل الكيمياء، كما درس القلويات والحمضيات وخواص الزئبق. وتطرق لصناعة الصابون وأهميته في التنظيف وكان أول من فصل الذهب عن الفضة. وقد وصف الجلدكي الأنواع المختلفة للتقطير، وشرح طريقة التقطير التي تستعمل حاليا مثل أوراق الترشيح والتقطير تحت الحمام المائي والتقطير المزدوج. وفـي وصفه للمواد الكيميائية لا يترك خاصية للمادة إلا ذكرها وأوضحها، بل إنه يعتبر أول عالم تمكن من معرفة أن كل مادة يتولد منها بالاحتراق ألوان خاصة.
مما سبق نجد أن علم الكيمياء لم يصبح علمًا حقيقيًّا إلا بعد أن آل أمره للمسلمين، وقد خرجوا به من إطار النظرية والرمزية والتنجيم والسحر التي كان عليها في الحضارات السابقة إلى التجربة والملاحظة والاستنتاج؛ وكان نتاج ذلك ذخيرة قيّمة لم يحجبوها عن العالم، بل قدَّموها لمن خلفهم في العلم فبنوا على أساسها صرح الكيمياء الحديثة وكان المسلمون دعامة ذلك الصَّرح وركيزته.
يقول ديورانت: “يكاد المسلمون يكونون هم الذين ابتدعوا الكيمياء بوصفها علمًا من العلوم، ذلك أن المسلمين أدخلوا الملاحظة الدقيقة، والتجارب العلمية، والعناية برصد نتائجها في الميدان الذي اقتصر فيه اليونان على الخبرة الصناعية والفروض الغامضة، فقد اخترعوا الإنبيق وسمَّوه بهذا الاسم، وحللوا عددًا لا يُحصى من المواد تحليلاً كيميائيًّا، ووضعوا مؤلفات في الحجارة، وميزوا بين القلويات والأحماض، وفحصوا عن المواد التي تميل إليها، ودرسوا مئات من العقاقير الطبية، وركّبوا مئات منها. وكان علم تحوُّل المعادن إلى ذهب، الذي أخذه المسلمون من مصر هو الذي أوصلهم إلى علم الكيمياء الحق، عن طريق مئات الكشوف التي يبينوها مصادفة، وبفضل الطريقة التي جروا عليها في اشتغالهم بهذا العلم، وهي أكثر طرق العصور الوسطى انطباقًا على الوسائل العلميَّة الصحيحة”.
وعلى الرغم من أن الكيمياء قد قامت على أنقاض فلسفة يونانية تمحورت حول تحويل العناصر الخسيسة (المعادن غير الذهب، والفضة، والبلاتين) إلى عناصر نفيسة، وتحضير إكسير الحياة، فإن العلماء المسلمين سرعان ما لفظوا تلك الأساطير وتبنوا المنهج التجريبي كما نعرفه الآن. وقد اعتمد علماء الكيمياء المسلمون على المنهج العلمي التجريبي منذ بداية القرن التاسع الميلادي، يقودهم في هذا المجال بلا منازع العالم العربي جابر بن حيان الذي استحق بجدارة أن يُلقب بأبو الكيمياء كما سنرى.
المنهج العلمي التجريبي
وضع جابر بن حيّان أسس المنهج العلمي التجريبي حيث بنى معرفته الكيميائية على التجارب والاستقراء والاستنتاج العلمي. وهكذا آمن جابر إيماناً عميقاً بأهمية إجراء التجارب كسبيل علمي دقيق للوقوف على الحقائق بعد أن تخلى عن منهج التأمل العقيم المنقطع الصلة بالواقع المشاهد. ونادى بأن دراسة العلوم الطبيعية أساسها التجربة، ولأن جابر كان أول من أدخل التجربة العلمية المختبرية في منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده، فإنه كان يوجه طلابه بالقول المأثور عنه: “وأول واجب أن تعمل وتجري تجارب، لأن من لا يعمل ويجري التجارب لا يصل إلى أدنى مراتب الإتقان. فعليك بالتجربة لتصل إلى المعرفة”.
ولقد درس جابر بن حيان المنهج العلمي عند علماء اليونان بكل إمعان، فوجده يرتكز على التحليلات الفكرية الغامضة واتجه هو نحو الاعتماد على المنهج العلمي الذي يخضع للتجربة المختبرية والبرهان الحسّي، وذلك مع الاحتفاظ بالنظريات التي تُعتبر عصب البحث العلمي.
وإضافة إلى ذلك، فإن جابر كان يجمع بين الامتحان التجريبي أو العمل المعملي والفرض العقلي الذي تأتي التجربة لتأييده أو رفضه أو تكذيبه، وهو ما يُعتبر لُب المنهج التجريبي. وفي هذا يقول: “لقد عملته بيدي وبعقلي من قبل وبحثت عنه حتى صح وامتحنته فما كذب” .وهذا يعني أن التجربة وحدها لا تكفي لتصنع عالماً، بل لابد من أن يسبقها الفرض العلمي الذي يصنعه العالم، ثم تكون التجربة بعدئذ هي الدليل على صحته أو خطأه. ويقول جابر أيضاً: “إياك أن تجرب أو تعمل حتى تعلم. ويحق أن تعرف الباب من أوله إلى آخره بجميع تقنياته وعِلله، ثم تقصد التجريب فيكون بالتجربة كمال العلم”.
ابتكار العمليات الكيميائية الأساسية
ابتكر العلماء المسلمون العديد من العمليات الأساسية في الكيمياء من بينها:
التمييع والأكسدة والتقطير الجاف وتنقية المياه والتحميص والهضم والغسيل والمزج والتثبيت
الإذابة (التحليل)، التصعد، وطريقة تحويل المادة إلى عجينة ثخينة أو مادة صلبة منصهرة.
والتقطير الإئتلافي للنفط
التشوية: واستخدمت هذه الطريقة – وما زالت تستخدم حتى اليوم – في تحضير بعض المعادن من خاماتها.
التقطير: لتخليص السائل من المواد العالقة والمنحلة به، ولفصل السوائل المتطايرة من غير المتطايرة.
التنقية: لإزالة الشوائب عن المادة المطلوبة.
التسامي: تحويل المواد الصلبة إلى بخار ثم إلى الصلابة دون المرور بمرحلة السيولة كاليود والكافور.
التصعيد: وهو تسخين المادة السائلة – خاصة الزيوت العطرية وغيرها – بسوائل أو مواد صلبة درجة غليانها عالية.
التكليس: ويشبه عملية التشوية، إلا أنه في التكليس يتم تسخين المادة تسخينًا مباشرًا إلى أن تتحول إلى مسحوق.
التشميع: وهو تغليف المادة بالشمع لعزلها وحمايتها من التلوث أو لتسهيل بعض العمليات.
التلغيم: وهي اتحاد الزئبق بالمعادن الأخرى.
التخمير: وهو تفاعل المواد النشوية مع الطفيليات الفطرية ومن المعلوم أنهم أول من استخدم عفن الخبز والعشب الفطري في تركيب أدويتهم لعلاج الجروح المتعفنة.
التبلًّر: وفيه تتخذ بعض الأجسام أشكالاً هندسية ثابتة تتنوع بتنوع هذه الأجسام.
التبخير: وهو تحويل الأجسام الصلبة والسوائل إلى بخار بتأثير الحرارة.
الترشيح: ويستخدم للحصول على المواد المتبلِّرة أو النقية واستعاضوا عن ورق الترشيح بأقمشة مصنوعة من الشعر أو الكتان، تتناسب دقة نسجها وخيوطها مع المحلول المراد ترشيحه.
جابر بن حيان
قام جابر بإجراء كثير من العمليات المخبرية، كان بعضها معروفًا من قبل فطوَّره، وأدخل عمليات جديدة. من الوسائل التي استخدمها: التّبخّر، والتكليس، والتقطير، والتبلّر، والتصعيد، والترشيح، والصهر، والتكثيف، والإذابة. ودرس خواص بعض المواد دراسة دقيقة، فتعرّف على أيون الفضة النشادري المعقد. كما قام بتحضير عدد كبير من المواد الكيميائية؛ فهو أول من حضَّر حمض الكبريتيك وأكسيد الزئبق وحمض النتريك؛ أي ماء الفضة، وكان يسميه الماء المحلل أو ماء النار، وحضّر حمض الكلوريدريك المسمّى بروح الملح. وهو أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة وقد سمّاها حجر جهنم، وثاني كلوريد الزئبق، وحمض النتروهيدروكلوريك (الماء الملكي)، وسمِّي كذلك لأنه يذيب الذهب ملك المعادن. كما استخدم الشب (الألومنيوم) في تثبيت الأصباغ في الأقمشة، وحضّر بعض المواد التي تمنع الثياب من البلل؛ ومن استنتاجاته أن اللهب يكسب النحاس اللون الأزرق، بينما يكسب النحاس اللهب لونًا أخضر.
وجابر بن حيان هو أول من فصل الذهب عن الفضة وشرح بالتفصيل عملية تحضير الزرنيخ، والإثمد (الأنتيمون)، وتنقية المعادن، وصبغ الأقمشة، ويعزى إلى جابر أنه أول من استعمل الميزان الحساس والأوزان المتناهية الدقة في تجاربه المخبرية. وينسب إليه تحضير مركبات كل من كربونات البوتاسيوم والصوديوم والرصاص القاعدي، كما استخدم ثاني أكسيد المنجنيز لإزالة الألوان في صناعة الزجاج. كما بلور جابر النظرية التي مفادها أن الاتحاد الكيميائي يتم باتصال ذرات العناصر المتفاعلة مع بعضها.
ولجابر بن حيان مؤلفات ورسائل كثيرة في الكيمياء. وأشهر هذه المؤلفات كتاب السموم ودفع مضارها، وفيه قسَّم السموم إلى حيوانية، ونباتية وحجرية، وذكر الأدوية المضادة لها وتفاعلها في الجسم؛ وكتاب التدابير؛ وتعني التدابير في ذلك الوقت العمل القائم على التجربة، وكتاب الموازين وكتاب الحديد؛ وفيه يصف عملية استخراج الحديد الصلب من خاماته الأولى.
كما يصف كيفية صنع الفولاذ، وتُشكل مجموعة الكتب التي تحمل اسم جابر بن حيان موسوعة تحتوي على خلاصة ما توصل إليه علم الكيمياء حتى عصره. وقد تُرجِمت معظم كتبه إلى اللاتينية ومثّلت مصنفاته المترجمة الركيزة التي انطلق منها علم الكيمياء الحديث في العالم.
إسهامات الحضارة الإسلامية في علم الكيمياء
لعب المجتمع الإسلامي دور المؤسس والحاضن لعلم الكيمياء، وكان لعلماء أمثال جابر بن حيان والرازي دور أساسي في الاكتشافات الكيميائية التي أسست للحضارة المعاصرة، إن اكتشاف وتسمية أحماض الهيدروكلوريك، الكبريتيك، النيتريك، الخليك، الصودا، والبوتاس كلها كانت على أيدي العلماء المسلمين. ومن أعظم اكتشافات علماء الكيمياء المسلمين، الماء الملكية وهو خليط من حامض النيتريك وحامض الهيدروكلوريك حيث يتميّز بقدرة عالية على إذابة معظم العناصر ومن بينها الذهب. وقد أدخل العرب طريقة فصل الذهب عن الفضة بالحلّ بحمض النتريك، كما أمكنهم فصل كل من عنصري الزرنيخ والأنتيمون من مركباتهما الكبريتية. و قد برزوا أيضاً في صناعة الحديد وفي دباغة الجلود. وفوق ذلك تركوا إرثاً هائلاً من المؤلفات التفصيلية الوافية التي تناولت صناعات عديدة، منها صناعة السكر والزجاج والسيراميك والصابون والعطور والصلب والأحجار الكريمة والطلاء.
استخدم جابر بن حيان ثاني أكسيد المنجنيز في صناعة الزجاج، واستخدم الرمل الأبيض الخالي من أكاسيد الحديد للحصول على زجاج ناصع البياض. وحضر جابر أيضا مادة براقة من كبريتيد النحاس واستخدمها في تزيين المخطوطات بدلا من الذهب، كما قام بتحضير نوع خاص من الطلاء يقي الثياب من البلل ويمنع الصدأ عن المعادن، واكتشف أن الشب (الألومنيوم) يساعد على تثبيت الألوان في الصباغة، وهو ما ظل مستخدماً إلى اليوم. وصنع جابر بن حيان كذلك نوعاً من الورق غير قابل للاحتراق. وكان الرازي أول من قطّر النفط (البترول) واكتشف الكيروسين وصنع مصباح الكيروسين، وصنع الصابون، والمواد القاتلة للبكتيريا أيضاً. كما عرَف ووصف عملية “التسامي“.
اختراع أدوات المعمل
قام جابر بن حيان باختراع الإنبيق، كما قام باختراع المقطرة والمعوجة. في القرن الحادي عشر اخترع ابن سينا ملف التبريد، الذي يكثف الأبخرة العطرية. وكان هذا الملف سابقة في تقنية التقطير، والذي استخدمه في عملية تقطير البخار، الأمر الذي يتطلب أنابيب مبردة، لإنتاج الزيوت العطرية. اخترع الكيميائيون المسلمون القرع والأثل، والمعدات اللازمة لصهر المعادن مثل الأفران والبوتقات. وفي كتابه سر الأسرار، وصف الرازي الأدوات التالية التي اخترعها هو وأسلافه (خالد بن يزيد، وابن حيان، والكندي):
الكور (الموقد)، المنفاخ أو الكير، البوتقة، أداة الصب، الملقط أو الماسك، المقص أو المقطع، المطرقة أو المكسر، والمبرد.
وصف الرازي الأدوات التالية أيضًا لتحضير الأدوية: القرع والمقطرة مع أنبوب تفريغ، حوجلة للتجميع، والمقطرة العمياء بدون أنبوب التفريغ، الأثل، الكأس أو القدح، القارورة، قارورة ماء الورد (ماوردية)، المرجل أو طِنجير، القدر، حمام مائي أو رملي، فرن أو تنور، مستوقد (وهو فرن إسطواني لتسخين الأثل)، قمع، منخل، مرشح، وغيرها من الأدوات التي تُعد نماذج أوليّة للأدوات المستخدمة اليوم.
واخترع أبو الريحان البيروني المقياس المخروطي، لكي يوجد النسبة بين وزن المادة في الهواء ووزن الماء المزاح تبعاً لحجمها، ولكي يقيس بدقة الوزن النوعي للأحجار الكريمة والمعادن الثمينة أيضًا، وهي قريبة جدًا من القياسات الحديثة. كما اخترع البيروني القارورة المخبرية ومقياس الكثافة في بدايات القرن الحادي عشر. وقام الخازني باختراع الميزان المائي، والميزان القبان في بدايات القرن الثاني عشر. إن أول وصف لهذه الأدوات موجود في كتاب الخازني ”ميزان الحكمة” من سنة 1121 ميلادياً
الرازي (923 م) و البيروني (1050 هـ)
كانت لأبي الرازي إسهامات كبيرة في الكيمياء، وعلى الرغم من أن أستاذه جابر بن حيان كان أول من بشَّر بالمنهج التجريبي، فقد تجرّد الرازي عن الغموض وعالج المواد الطبيعية من منظور حقيقتها الشكلية الخارجية دون مدلولها الرمزي. ولذا كان الرازي بطبيعة الأمر أوسع علمًا وأكثر تجربة وأدق تصنيفًا للمواد من أستاذه.
ونستطيع أن نقول إنه الرائد الأول في هذا العلم، وذلك في ضوء اتجاهه العلمي، وحرصه على التحليل وترتيب العمل المخبري، وكذلك في ضوء ما وصف من عقاقير وآلات وأدوات. عكف الرازي إلى جانب عمله التطبيقي في الطب والصيدلة على التأليف وصنَّف ما يربو على 220 مؤلفًا ما بين كتاب ورسالة ومقالة.
أشهر مصنفات الرازي في حقل الكيمياء “سر الأسرار” الذي نقله جيرار الكريموني إلى اللاتينية، وبقيت أوروبا تعتمده في مدارسها وجامعاتها زمنًا طويلاً. بيًَّن في هذا الكتاب المنهج الذي يتبعه في إجراء تجاربه؛ فكان يبتدئ على الدوام بوصف المواد التي يعالجها ويطلق عليها المعرفة، ثم يصف الأدوات والآلات التي يستعين بها في تجاربه وسماها معرفة الآلات، ثم يشرح بالتفصيل أساليبه في التجربة وسماها معرفة التدابير. ولعل براعة الرازي في حقل الطب جعلته ينبغ في حقل الكيمياء والصيدلة، إذ كان لابد للطبيب البارع آنذاك أن يقوم بتحضير الأدوية المركبة، ولا يمكن تحضير هذه المركبات إلا عن طريق التجربة المعملية. وقسَّم المواد الكيميائية إلى أربعة أقسام، معدنية، نباتية، حيوانية ومشتقة. وكان أول من استعمل الكحول في تطهير الجروح، وابتكر طريقة جديدة لتحضير الكحول الجيد من المواد النشوية والسكرية المتخمرة. كما كان أول من أدخل الزئبق في المراهم.
أمّا البيروني فلم يؤمن بتحويل المعادن كان يؤمن بوحدة الاتجاه العلمي في العالمين الإسلامي والعربي، وكان البيروني يستند في أبحاثه على تجاربه الشخصية، وهو بهذا أكد مبدأ التجربة في البحث العلمي، وهو المبدأ القويم في الحضارة العربية والإسلامية الخالدة. وقام البيروني بشرح عملية استخراج المعادن وتحديد أوزانها النوعية في الهواء والماء، والتي جاءت قيمتها مطابقة للقيم المعروفة اليوم كالزئبق والحديد والقصدير والرصاص والزمرد، وكذلك تعداده للمعادن والغازات المعروفة في عصره وأماكن خاماتها، وطرق استخراجها. وقد حضّر البيروني ملغم الزئبق مع الذهب وصنع الفولاذ، وحضر كربونات الرصاص القاعدية، باستخدام الطريقة المعروفة الآن بالطريقة الهولندية.
الاكتشافات الكيميائية الأساسية
ساهم الكيميائيون المسلمون مثل جابر بن حيان والرازي وغيرهم في الاكتشافات الكيميائية الأساسية من عناصر وعمليات وأدوات، بما في ذلك: أدوات التقطير، مثل الإنبيق، والمقطرة، والمعوجة. حمض الهيدروكلوريك، وحمض الكبريت، وحمض النيتريك وحمض الخل والصودا والبوتاس والماء المقطر والكحول المقطر المنقى ومواد العطارة والكثير من المواد الكيميائية الاخرى والأجهزة المعملية. قدّم المسلمون أيضًا إسهامات كبيرة للكيمياء. وأكثرهم تأثيرًا في هذا الصدد كما ذكرنا هو جابر بن حيان. فقد قام بتحليل عناصر أرسطو الأساسية (النار، الهواء، الماء، الأرض) من حيث الصفات الأساسية الأربعة: الحرارة، والبرودة، والجفاف، والرطوبة. ووفقًا لابن حيان، فإن اثنتين من هذه الصفات في كل المعادن تكونان داخليتان واثنتين تكونان خارجيتان. فعلى سبيل المثال، الرصاص بارد جدًا وجاف، في حين أن الذهب ساخن ورطب. وهكذا، وضع جابر نظرية تفيد أنه بإعادة ترتيب خواص معدن واحد يمكن إنتاج معادن أخرى.
عرف الكيميائيون العرب الميزان ووصفه جابر في كتبه وصفا دقيقا، وكانوا يستخدمون الرطل والأوقية والمثقال والدرهم والقيراط والحبّة في بحوثهم. ومن المعروف أن الرطل المستخدم في ذلك الحين كان يساوي 1.1 من كيلوجرام على حين أن الحبّة تزيد قليلاً على 0.06 من الجرام مما يدل على مدى حساسية ودقة الميزان المستعمل في ذلك الحين، ومن المدهش حقا أن الميزان لم يستخدم في أوروبا إلا بعد عهد جابر بأكثر من ستة قرون. واستخدم العلماء العرب الميزان لتعيين الوزن النوعي للعناصر، ويتبين من ذلك أن العلماء المسلمين كانوا يعرفون الوزن النوعي للعناصر المختلفة.
بعض المصطلحات الكيميائية ذات الأصل العربي
من أهم الدلائل على أن الكيمياء علمٌ عربي وإسلامي المنشأ أن العديد من المصطلحات الكيميائية الحديثة يعود أصلها للغة العربية بعد ترجمتها لليونانية ثم إلى الإنجليزية والفرنسية نذكر منها المصطلحات التالية:
الإكسير Alixir – قرمز Kermes - الأنبيق Alanbic – القلقطار Colcothar - الأنيلين (النيل/النيلة) Aniline – القلوي Alkali - البورق Borax – القلي Alcali - التوتياء Tutty – قيراط Carat - الخيمياء Alchemy – الكافور Camphor - الرهج القار Realgar – كبريت Kibrit -الزرنيخ Arsenic – الكحل Kohl - الزعفر (الصفُّر) Zaffre – الكحول Alcohol - زعفران Saffran – كيمياء Chemistry - الزنجفر Cinnabar – اللك Lacquer -ا لرُّب Rab – المركزيت Marcasite - السكر Sugar – المعجون Majoon - الصابون Sapon – الملغم Amalgam -الطلق أو تلك Tale – النطرون Natron - عطر Attar – النطفة Naphta - العنبر Amber – النيل Anil - غرافة Carafe.
كذلك بعض رموز العناصر الكيميائية المستخدمة حالياً ترجع أصولها إلى اللغة العربية. ومنها مثلاً رمز الصوديوم Na المشتق من كلمة نطرون (al-natrun) الذي كتب باللاتينية Natrium، وكذلك فإن رمز عنصر البوتاسيوم k مشتق من كلمة (al-qaliy) الذي كتب باللاتينية (kaliem). هناك عناصر أخرى ذات أصل عربي مثل البورون ورمزه B وأصله كلمة بورق أو بوره بالفارسية.
الكندي (801-866 م) و الجلدكي ( …. – 1342 م )
الكندي من قبيلة كندة العربية، ولد في الكوفة وتوفي ببغداد، ترجم كثيراً من الكتب اليونانية إلى اللغة العربية، وقد ذكر ابن النديم في كتابه الفهرست حوالي مائتين وثلاثون كتاباً ورسالة ألفها الكندي، ومن أشهر رسائله في الكيمياء كتاب الجواهر الثمينة، وكتاب رسالة فيما يصبغ فيعطي لوناً، ورسالة فيما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تنثلم ولا تكل، وكتاب كيمياء العطر والتصعيدات، والتي طبعت في ليبزغ سنة 1948م بعد ترجمتها، وكتاب رسالة في العطر وأنواعه، وكتاب التنبيه إلى خدع الكيميائيين وكتاب تلويح الزجاج. حضّر الكندي أنواعًا من الفولاذ بأسلوب المزج والصهر، وهي طريقة لا زالت تستخدم حتى وقتنا الحاضر بنجاح.
واستخدم الكندي أشهر السموم المعدنية المعروفة في وقتنا الراهن، وهي التي تتكون من أيون السيانيد الموجود في ورق نبات الدفلي، وكذلك الزرنيخ الأصفر. وذكر الكندي وصفة لتلوين حديد السيوف والسكاكين يدخل في تركيبها بعض المواد العضوية والأعشاب من بينها نبات الدفلي الذي ثبت أن السم فيه عالي التركيز لاحتوائه على مقدار كبير نسبياً من سيانيد الصوديوم أو البوتاسيوم، ويكسب الحديد لونًا أحمر يضرب إلى الزرقة. قام كل من أرنالدوس وجيرار الكريموني بترجمة كتب الكندي في مجال الكيمياء والصيدلة إلى اللغة اللاتينية، وقال عنه الأخير إنه كان “خصب القريحة، وإنه فريد عصره في معرفة العلوم بأسرها”.
أمّا الجلدكي فقد استنتج العلماء من دراساته وأبحاثه أن المواد الكيميائية لا تتفاعل مع بعضها البعض إلا بأوزان معينة. ومما لا يقبل الجدل أن هذه الفكرة هي أساس ابتكار قانون النسب الثابتة في الاتحاد الكيميائي الذي ادعى ابتكاره جوزيف براوست الذي جاء بعد الجلدكي بخمسة قرون. أعطى الجلدكي وصفاً مفصلاً لطريقة الوقاية والاحتياطات اللازمة من خطر استنشاق الغازات الناتجة عن التفاعلات الكيميائية، فهو بذلك أول من فكر في ابتكار واستخدام الكمامات في معامل الكيمياء، كما درس القلويات والحمضيات وخواص الزئبق. وتطرق لصناعة الصابون وأهميته في التنظيف وكان أول من فصل الذهب عن الفضة. وقد وصف الجلدكي الأنواع المختلفة للتقطير، وشرح طريقة التقطير التي تستعمل حاليا مثل أوراق الترشيح والتقطير تحت الحمام المائي والتقطير المزدوج. وفـي وصفه للمواد الكيميائية لا يترك خاصية للمادة إلا ذكرها وأوضحها، بل إنه يعتبر أول عالم تمكن من معرفة أن كل مادة يتولد منها بالاحتراق ألوان خاصة.
مما سبق نجد أن علم الكيمياء لم يصبح علمًا حقيقيًّا إلا بعد أن آل أمره للمسلمين، وقد خرجوا به من إطار النظرية والرمزية والتنجيم والسحر التي كان عليها في الحضارات السابقة إلى التجربة والملاحظة والاستنتاج؛ وكان نتاج ذلك ذخيرة قيّمة لم يحجبوها عن العالم، بل قدَّموها لمن خلفهم في العلم فبنوا على أساسها صرح الكيمياء الحديثة وكان المسلمون دعامة ذلك الصَّرح وركيزته.
يقول ديورانت: “يكاد المسلمون يكونون هم الذين ابتدعوا الكيمياء بوصفها علمًا من العلوم، ذلك أن المسلمين أدخلوا الملاحظة الدقيقة، والتجارب العلمية، والعناية برصد نتائجها في الميدان الذي اقتصر فيه اليونان على الخبرة الصناعية والفروض الغامضة، فقد اخترعوا الإنبيق وسمَّوه بهذا الاسم، وحللوا عددًا لا يُحصى من المواد تحليلاً كيميائيًّا، ووضعوا مؤلفات في الحجارة، وميزوا بين القلويات والأحماض، وفحصوا عن المواد التي تميل إليها، ودرسوا مئات من العقاقير الطبية، وركّبوا مئات منها. وكان علم تحوُّل المعادن إلى ذهب، الذي أخذه المسلمون من مصر هو الذي أوصلهم إلى علم الكيمياء الحق، عن طريق مئات الكشوف التي يبينوها مصادفة، وبفضل الطريقة التي جروا عليها في اشتغالهم بهذا العلم، وهي أكثر طرق العصور الوسطى انطباقًا على الوسائل العلميَّة الصحيحة”.