(رواية : الجنود الستة)
- هناك أمرٌ دُبِر بِليل
- ماذا حدث في الدولة العربية ال 23
الدولة "العربية ال23" .. هي بلد تختلف عن بقية الدول الناطقة بلسان عربي .. أسسها مجموعة من القوميين العرب .. دستورها القرآن وتعاليمها السنة .. غنيةٌ بثرواتها ومعادنها تسبح فوق بحرٍ من النفط والغاز تمتاز بكثرة المياه ووفرة الزراعة وثروة حيوانية وغذائية مما جعلها من أقوى دول العالم أقتصادياً وأجتماعيا .
أهلها يعيشون في هدوءٍ ومحبة وسلام .. أشقاء مقربين من بعضهم .. قلوبهم بيضاء صافية سنين طويلة عاشوها في تسامح ومحبة وحرية وأحترام الآخر ونبذ الكراهية والعنف والطائفية القذرة التي دمرت جيرانهم العرب وأحدثت شرخاً كبيراً في الأمة الأسلامية جمعاء "شرخاً" لم يلتئم ولا أظنه كذلك .
قرر "رئيسهم المنتخب" أن تنظم بلاده إلى جامعة الدول العربية وتنخرط معهم وتفتح علاقات أقتصادية "وأجتماعية وثقافية ودينية" على أعلى الصعد وعلى كافة المستويات ومع جميع بلدان أمة العرب بلا أستثناء .
مرت سنةٌ وسنتين و"الدولة العربية ال23" تعيش أسوء فتراتها "أجتماعياً وأقتصادياً وأمنياً" إذ يبدو بأنها أبتليت بما أبتلي بها أخواتها في الوطن العربي .. حروبً طائفية وتصفية حسابات .. مظاهرات ومعارضة ومقاومة وفوضى وجماعات مسلحة وتنظيمات أرهابية ومرتزقة وأطماع دولٌ غربية "حشدت جيوشها على الحدود" .
بعد أن كانت البلاد تعيش أمن وسلام ورخاء يحسدها عليها بقية الشعوب .. تحول النعيم إلى جحيم وأصبحت الدولة تعيش حرب أستنزاف مع الجميع وقبل كل ذلك تعيش الحرب مع أبناءها .. أبناء الوطن الواحد إذ يبدو وكأنهم أقسموا قسمً وحلفوا يميناً بألا يتركوا بلادهم لتنام ليلها وتبني مجتمعها وحضارتها وتستفيد من ثرواتها مرة أخرى .. كانوا ينتقمون من محبتهم الماضية والسلام والهدوء الذي عرفوه من قبل ولم يعرفه أحدٌ غيرهم .. دهنت قلوبهم البيضاء سوادً .
كل شروق شمس تطل عليهم كانت تزيد من لهيب النيران والحرائق وأصوات الرصاص والمدافع وأعداد القتلى والضحايا والفصائل المسلحة , وطامة أخرى حلت بهم إذ أجتاح بلادهم "جيش محتل" ليقطع لنفسه شيئاً من بقايا الكعك التي أقتسمها جميع من يحمل السلاح ويمتلك موازين القوة ويتسلط على الأبرياء والمساكين الذين لا يعرفون لما يحدث لهم كل ذلك ؟
كان العقيد "أسحاق" وجنوده الخمسة "وائل وفلاح وجمعه وبسام وعاصم" قد أسندت إليهم مهمة حماية "مبنى وزارة النفط" لإهميتها الأقتصادية وأيضا موقعها الأستراتيجي في العاصمة فهي "تطل على أربعة شوارع رئيسية" .. وكانت الأوامر لهم صارمة جدا "أن يحمون مبنى الوزارة حماية مشددة للغاية وألا يغادروا أماكنهم تحت أي ظرف" خوفا من أن تطالها أيادي العابثين والمخربين والفوضويين .
الأيام السوداء تمر والحرب يزداد سعيرها أكثر من ذي قبل .. معظم المدن الكبرى سقطت في أيدي المعارضة ومحافظات كثيرة سيطر عليها جيش الأحتلال والقرى هي الأخرى دخلها المرتزقة والأرهابيين ومناطق متفرقة "ذات أغلبية" أحتلتها قوات طائفية . كانت جثث القتلى ممددة على جنبات الطريق بلا غسلٍ وبلا كفنً وبلا قبر ولا أحد يعرفهم .. يمر عليهم الجميع ولا ينظرون إليهم لربما أنهم أعتادوا على رؤية هذه المناظر فباتت بالنسبة لهم روتينٌ ممل يعيشونه .. أو لربما لأنهم يحاولون أن ينفذون بجلودهم لكي لا يصيبهم ما أصاب موتاهم .. فالكل "نفسي نفسي" وكأنه بالفعل ذلك الزمان الذي يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ فلَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ .
أنقضى أسبوعً أو ما يزيد والأوضاع تنحدر إلى ما تحت الحضيض "مواطنون دمروا بلادهم بأيديهم وأيدي غيرهم وكأن لعنة ما أصابتهم" , دمروا حتى أبسط سبل العيش وأعادوها إلى ما يشبه العصر الحجري .. فلا ماء ولا كهرباء ولا تكنلوجيا وأتصالات .
سلم "رئيس البلاد" نفسه إلى معارضيه .. فجرى أعدامه ليلً بلا محكمة أو قضاة أو قانون , بينما العقيد وجنوده لا يعرفون بما حدث .. لذا ظلوا متسمرين في مواقعهم كالصناديد أو الجبال التي لا تهتز من مكانها .. لكنهم كانوا يعيشون عزلة عن كل ما يجري حولهم ولا يدرون محلهم من الأعراب .. بالرغم من محاولاتهم المستمرة والمتكررة للأتصال بقياداتهم العليا ولكن دون جدوى , فلم يكن أمامهم عدى الأنتظار في مواقعهم وألا يبتعدوا ولو بخطوة واحدة كما أتتهم الأوامر .. ولا يستطيعون أن يخالفوا أمرً عسكريً لأن ذلك في قانون الجيش يسمى خيانة يعاقب مخالفوها بالأعدام .
وبعد أن سقطت معظم المناطق في أيدي المسلحين والذين بدورهم بدأوا يتناحرون فيما بينهم للأستيلاء على الموارد المالية والأقتصادية والأستراتيجية حتى وصلوا العاصمة وأحتلوا كل وزاراتها ولم يتبقى عدا وزارة النفط "الوزارة الأهم" , أتجهت كل الفصائل إلى "منطقة مبنى وزارة النفط" وهم من كل حدب ينسلون وكل فصيلً من الفصائل أحكم السيطرة على إحدى الشوارع الأربع التي يطل عليها المبنى .
عرف العقيد بخطورة ذلك مما سبب له بعض الأرتباك .. فأعطى الأوامر لجنوده بالمقاومة والصبر والهمة وأن يتحلوا بالشجاعة والبئس الشديد ويقاتلون حتى آخر قطرة دمً .. كلماته تلك وجدت طريقها إلى قلوب جنوده الذين أستعدوا وجهزوا أسلحتهم الرشاشة والقنابل اليدوية وبعض الصواريخ المحمولة على الكتف .
لحظات قامت بعض الفصائل بالهجوم على المبنى ألا أن الجنود يصدونهم بكل قوة ويردونهم ويدافعون بكل أستماتة .. كانت مقاومتهم عنيفة لا وصف لها بل تستحق أن تذكر بين صفحات التاريخ .. مما أجبر جميع المسلحين على التراجع والتوقف عن محاولاتهم الأستيلاء على المبنى .
دقائق قادمة كانت تحمل بين طياتها هدوء لا ينذر بعواصف بعده .. مما فسح المجال للعقيد أن يتناقش مع جنوده عن كل ذلك وعن الأسباب التي أدت لحدوث هذا الأمر وسقوط البلاد بهذه السرعة وعن أختفاء بقية الوحدات العسكرية .. يسألون ويتسألون ؟ أين الدعم ؟ أين البقية من الجيش ؟ لما لم يأتي أحدً للمساعدة ؟ ما العمل وما الحل للخروج من هذه الورطة ؟
برهة قضت .. قام "الجندي جمعه" وقال للعميد : سيدي ,، لن نصمد أكثر من ذلك .. يجب أن تفعل شيئاً أو لتتصل ببعض زملائنا الذين ظلوا يقاومون ولتطلب منهم القدوم لدعمنا ومساندتنا ؟
- العقيد : لقد حاولت الأتصال بهم قبل أيام ولكن بلا فائدة .. جميع الخطوط مقطوعة .
- جمعه : إذا ,، ما الحل أن بقينا هكذا .. سنقتل جميعاً .. هل نظرت إلى أعدادهم ؟
- العقيد : بالطبع ,، ولكن لا أعرف ماذا أقول لك .. فلنحاول الأنتظار والصمود لعلى معجزة ما تحدث وتخرجنا من هذا المأزق .
قاطع نقاشهم صوت أحد جنود المعارضة من الخارج .. مناديً عليهم في مكبرات الصوت : "إلى الجنود المتحصنين داخل المبنى .. سلموا أنفسكم وأسلحتكم وأخرجوا .. لقد أحكمنا قبضتنا على كل البلاد ورئيسكم قد قتل .. ونحن من يدير الأمور الآن" ؟
تلك الكلمات هزت من مشاعر العقيد وجنوده .. راحوا يتناقشون قليلا ويصرخون حتى أختلفوا فيما بينهم ,،
- جنديٌ قال : دعونا نسلم أنفسنا .. لكي لا نقتل ..!
- جنديٌ آخر قال : لا لن نسلم أنفسنا لإنهم حفنة من المخادعين المنافقين وسيقتلوننا فور خروجنا..!
- جنديٌ ثالثٌ قال : أتركوهم ولا تردوا لهم جوابا ولنرى ما ستؤول الأمور إليه ..!
قاطع العقيد نزاعهم وصرخ فيهم : إن كان ما يقولونه صحيحاً بأن البلاد سقطت والرئيس قد قتل فليس أمامنا ألا خيارين .. "أما الأستسلام أو المقاومة" فأنا لا يهمني لو أستسلم الجميع .. لأنني لن أنسحب وأسلم نفسي فهذا عارٌ لنا كجنود وعارٌ في ميثاق الشرف العسكري .. سأموت وأنا أقاوم ولن يأسروني هؤلاء اللعناء .
قاطعهم مرة أخرى ذاك الجندي المعارض من الخارج وكأنه يسمع ما يقولون ويحاول زعزعتهم وأثارة البلبلة بينهم : "سلموا أنفسكم .. وسنطلق سراحكم وهذه كلمة شرف بيننا .. هيا هيا لقد أستسلم الجميع ولم يتبقى عداكم .. لا تجبروننا على الدخول" ؟
بسرعة نظر العقيد إلى جنوده غاضبا وكأنه يقرأ مافي أعينهم وقال : لا أريد أحدً منكم أن يكلمني عن الأستسلام .. فهذا أمرٌ عسكري لكم ؟
قام "الجندي فلاح" وضرب الأوامر العسكرية بعرض الحائط لأن المسألة أصبحت حياةٌ أو موت وقال للعقيد : لا أريد التقليل من شأنك سيدي ولكن ,، يبدو أن كل شيئا أنتهى بالفعل .. جيشنا أستسلم والرئيس قتل والبلاد سقطت .. فلما نقاوم ؟
- قال العقيد وهو ينتفض غضبً : هل تعرف كيف تجلس في مكانك ... وتخرس؟
- فلاح : أنني أكن لك كل الأحترام وأعتبرك بمثابة والدي .. ولكن يجب أن ترى الأمور من وجهة نظرٍ أخرى .. نحن مجرد جنود .. نحن مجرد أرقامٍ يكتبها التاريخ من ضحايا الحروب .. أننا أكثر الخاسرين يا سيدي .. لأننا من نقاتل ونقتل .. لأننا من نخوض المعارك ولا نستفيد شيئاً .. فلا أموالٌ يعطوننا ولا مناصب يقلدوننا .. والأسوء من ذلك أن عشنا أو متنا فلا أحد يذكرنا .. بينما الذين تسببوا في الحروب لم يطلقوا رصاصة واحدة .. أنهم يجلسون هناك في قصورهم وجحورهم ويتلذذون في النعيم ويستولون على كل شيء والتاريخ يسجلهم أبطالا .. لذا دعني أسألك هذه المرة يا سيدي : لما نقاتل ؟
- نظر العقيد إلى الأرض مفكرً محبطً من حديث فلاح , قال بعدها : لما نقاتل ؟ في الحقيقة لا أعرف ؟
- فلاح : من نقاتل إذاً ولمن ؟
- العقيد : لا أعرف ؟ سكت بعدها لبرهة ثم قال : لا أعرف ؟ بصراحة لا أعرف ما الذي حدث ؟ كيف أستسلم الجيش بهذه السرعة ؟ لما لم يقاوموا كما ينبغي ؟ وكيف أستطاع العدو أن يلقي القبض على الرئيس ؟ ربما هناك خيانةٌ حصلت أو أختراقٌ لجهاز المخابرات ؟ هناك أمرٌ دبر بليل .. وسيناريو محكم أعد له مسبقاً ؟ سحقاً ,، كيف أصبحنا محاصرين من الجهات الأربع ؟ ما الخلاص من هذه المعضلة ؟ يبدو بإن هؤلاء الأوغاد دبروا خطة بليلً غادر لتدمير البلاد ؟ ما يحزنني حقاً بأننا كنا نعيش بسلام في السابق كيف أنقلبت أوضاعنا هكذا ؟
خطاب العقيد وحسرته التي بدت واضحة في نبرة صوته .. جعلت من سمعه يتعاطف معه .. ألا أن "الجندي وائل" قال بهدوءً شديد : يا رجل بالفعل هناك أمر دبر بليل .. ولكن ليس الأعداء الذين دبروه ولا الخونة و لا المعارضين .. بل هو أمر "نحن دبرناه لإنفسنا بليل" ؟
- قال العقيد الذي ضاع بين هلاوس جنوده ومحاصرة أعداءه وكل شيء : ماذا تعني بهذا ؟
- وائل : ما حدث لنا وما يحدث لنا وما سيحدث لنا "بسبب ذنونبنا ومعاصينا" .. ومن أعمالكم سلط عليكم .. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) .. أو ماذا تظن ؟ بأن الذي حصل هو مؤامرة ونظريتها الغريبة وأيدلوجيتها الكاذبة ؟ أو ظننت بإن الآخرين يستهدفوننا لتدمير مجتمعنا وحضارتنا ؟ تبا لذلك ,، كلها محض هراء .. يا رجل أنها معاصينا وسيئاتنا والنفاق بداخلنا هذا هو البلاء المبين وهذا هو البلاء الذي حلا بنا ؟
يتبع ....
- هناك أمرٌ دُبِر بِليل
- ماذا حدث في الدولة العربية ال 23
الدولة "العربية ال23" .. هي بلد تختلف عن بقية الدول الناطقة بلسان عربي .. أسسها مجموعة من القوميين العرب .. دستورها القرآن وتعاليمها السنة .. غنيةٌ بثرواتها ومعادنها تسبح فوق بحرٍ من النفط والغاز تمتاز بكثرة المياه ووفرة الزراعة وثروة حيوانية وغذائية مما جعلها من أقوى دول العالم أقتصادياً وأجتماعيا .
أهلها يعيشون في هدوءٍ ومحبة وسلام .. أشقاء مقربين من بعضهم .. قلوبهم بيضاء صافية سنين طويلة عاشوها في تسامح ومحبة وحرية وأحترام الآخر ونبذ الكراهية والعنف والطائفية القذرة التي دمرت جيرانهم العرب وأحدثت شرخاً كبيراً في الأمة الأسلامية جمعاء "شرخاً" لم يلتئم ولا أظنه كذلك .
قرر "رئيسهم المنتخب" أن تنظم بلاده إلى جامعة الدول العربية وتنخرط معهم وتفتح علاقات أقتصادية "وأجتماعية وثقافية ودينية" على أعلى الصعد وعلى كافة المستويات ومع جميع بلدان أمة العرب بلا أستثناء .
مرت سنةٌ وسنتين و"الدولة العربية ال23" تعيش أسوء فتراتها "أجتماعياً وأقتصادياً وأمنياً" إذ يبدو بأنها أبتليت بما أبتلي بها أخواتها في الوطن العربي .. حروبً طائفية وتصفية حسابات .. مظاهرات ومعارضة ومقاومة وفوضى وجماعات مسلحة وتنظيمات أرهابية ومرتزقة وأطماع دولٌ غربية "حشدت جيوشها على الحدود" .
بعد أن كانت البلاد تعيش أمن وسلام ورخاء يحسدها عليها بقية الشعوب .. تحول النعيم إلى جحيم وأصبحت الدولة تعيش حرب أستنزاف مع الجميع وقبل كل ذلك تعيش الحرب مع أبناءها .. أبناء الوطن الواحد إذ يبدو وكأنهم أقسموا قسمً وحلفوا يميناً بألا يتركوا بلادهم لتنام ليلها وتبني مجتمعها وحضارتها وتستفيد من ثرواتها مرة أخرى .. كانوا ينتقمون من محبتهم الماضية والسلام والهدوء الذي عرفوه من قبل ولم يعرفه أحدٌ غيرهم .. دهنت قلوبهم البيضاء سوادً .
كل شروق شمس تطل عليهم كانت تزيد من لهيب النيران والحرائق وأصوات الرصاص والمدافع وأعداد القتلى والضحايا والفصائل المسلحة , وطامة أخرى حلت بهم إذ أجتاح بلادهم "جيش محتل" ليقطع لنفسه شيئاً من بقايا الكعك التي أقتسمها جميع من يحمل السلاح ويمتلك موازين القوة ويتسلط على الأبرياء والمساكين الذين لا يعرفون لما يحدث لهم كل ذلك ؟
كان العقيد "أسحاق" وجنوده الخمسة "وائل وفلاح وجمعه وبسام وعاصم" قد أسندت إليهم مهمة حماية "مبنى وزارة النفط" لإهميتها الأقتصادية وأيضا موقعها الأستراتيجي في العاصمة فهي "تطل على أربعة شوارع رئيسية" .. وكانت الأوامر لهم صارمة جدا "أن يحمون مبنى الوزارة حماية مشددة للغاية وألا يغادروا أماكنهم تحت أي ظرف" خوفا من أن تطالها أيادي العابثين والمخربين والفوضويين .
الأيام السوداء تمر والحرب يزداد سعيرها أكثر من ذي قبل .. معظم المدن الكبرى سقطت في أيدي المعارضة ومحافظات كثيرة سيطر عليها جيش الأحتلال والقرى هي الأخرى دخلها المرتزقة والأرهابيين ومناطق متفرقة "ذات أغلبية" أحتلتها قوات طائفية . كانت جثث القتلى ممددة على جنبات الطريق بلا غسلٍ وبلا كفنً وبلا قبر ولا أحد يعرفهم .. يمر عليهم الجميع ولا ينظرون إليهم لربما أنهم أعتادوا على رؤية هذه المناظر فباتت بالنسبة لهم روتينٌ ممل يعيشونه .. أو لربما لأنهم يحاولون أن ينفذون بجلودهم لكي لا يصيبهم ما أصاب موتاهم .. فالكل "نفسي نفسي" وكأنه بالفعل ذلك الزمان الذي يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ فلَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ .
أنقضى أسبوعً أو ما يزيد والأوضاع تنحدر إلى ما تحت الحضيض "مواطنون دمروا بلادهم بأيديهم وأيدي غيرهم وكأن لعنة ما أصابتهم" , دمروا حتى أبسط سبل العيش وأعادوها إلى ما يشبه العصر الحجري .. فلا ماء ولا كهرباء ولا تكنلوجيا وأتصالات .
سلم "رئيس البلاد" نفسه إلى معارضيه .. فجرى أعدامه ليلً بلا محكمة أو قضاة أو قانون , بينما العقيد وجنوده لا يعرفون بما حدث .. لذا ظلوا متسمرين في مواقعهم كالصناديد أو الجبال التي لا تهتز من مكانها .. لكنهم كانوا يعيشون عزلة عن كل ما يجري حولهم ولا يدرون محلهم من الأعراب .. بالرغم من محاولاتهم المستمرة والمتكررة للأتصال بقياداتهم العليا ولكن دون جدوى , فلم يكن أمامهم عدى الأنتظار في مواقعهم وألا يبتعدوا ولو بخطوة واحدة كما أتتهم الأوامر .. ولا يستطيعون أن يخالفوا أمرً عسكريً لأن ذلك في قانون الجيش يسمى خيانة يعاقب مخالفوها بالأعدام .
وبعد أن سقطت معظم المناطق في أيدي المسلحين والذين بدورهم بدأوا يتناحرون فيما بينهم للأستيلاء على الموارد المالية والأقتصادية والأستراتيجية حتى وصلوا العاصمة وأحتلوا كل وزاراتها ولم يتبقى عدا وزارة النفط "الوزارة الأهم" , أتجهت كل الفصائل إلى "منطقة مبنى وزارة النفط" وهم من كل حدب ينسلون وكل فصيلً من الفصائل أحكم السيطرة على إحدى الشوارع الأربع التي يطل عليها المبنى .
عرف العقيد بخطورة ذلك مما سبب له بعض الأرتباك .. فأعطى الأوامر لجنوده بالمقاومة والصبر والهمة وأن يتحلوا بالشجاعة والبئس الشديد ويقاتلون حتى آخر قطرة دمً .. كلماته تلك وجدت طريقها إلى قلوب جنوده الذين أستعدوا وجهزوا أسلحتهم الرشاشة والقنابل اليدوية وبعض الصواريخ المحمولة على الكتف .
لحظات قامت بعض الفصائل بالهجوم على المبنى ألا أن الجنود يصدونهم بكل قوة ويردونهم ويدافعون بكل أستماتة .. كانت مقاومتهم عنيفة لا وصف لها بل تستحق أن تذكر بين صفحات التاريخ .. مما أجبر جميع المسلحين على التراجع والتوقف عن محاولاتهم الأستيلاء على المبنى .
دقائق قادمة كانت تحمل بين طياتها هدوء لا ينذر بعواصف بعده .. مما فسح المجال للعقيد أن يتناقش مع جنوده عن كل ذلك وعن الأسباب التي أدت لحدوث هذا الأمر وسقوط البلاد بهذه السرعة وعن أختفاء بقية الوحدات العسكرية .. يسألون ويتسألون ؟ أين الدعم ؟ أين البقية من الجيش ؟ لما لم يأتي أحدً للمساعدة ؟ ما العمل وما الحل للخروج من هذه الورطة ؟
برهة قضت .. قام "الجندي جمعه" وقال للعميد : سيدي ,، لن نصمد أكثر من ذلك .. يجب أن تفعل شيئاً أو لتتصل ببعض زملائنا الذين ظلوا يقاومون ولتطلب منهم القدوم لدعمنا ومساندتنا ؟
- العقيد : لقد حاولت الأتصال بهم قبل أيام ولكن بلا فائدة .. جميع الخطوط مقطوعة .
- جمعه : إذا ,، ما الحل أن بقينا هكذا .. سنقتل جميعاً .. هل نظرت إلى أعدادهم ؟
- العقيد : بالطبع ,، ولكن لا أعرف ماذا أقول لك .. فلنحاول الأنتظار والصمود لعلى معجزة ما تحدث وتخرجنا من هذا المأزق .
قاطع نقاشهم صوت أحد جنود المعارضة من الخارج .. مناديً عليهم في مكبرات الصوت : "إلى الجنود المتحصنين داخل المبنى .. سلموا أنفسكم وأسلحتكم وأخرجوا .. لقد أحكمنا قبضتنا على كل البلاد ورئيسكم قد قتل .. ونحن من يدير الأمور الآن" ؟
تلك الكلمات هزت من مشاعر العقيد وجنوده .. راحوا يتناقشون قليلا ويصرخون حتى أختلفوا فيما بينهم ,،
- جنديٌ قال : دعونا نسلم أنفسنا .. لكي لا نقتل ..!
- جنديٌ آخر قال : لا لن نسلم أنفسنا لإنهم حفنة من المخادعين المنافقين وسيقتلوننا فور خروجنا..!
- جنديٌ ثالثٌ قال : أتركوهم ولا تردوا لهم جوابا ولنرى ما ستؤول الأمور إليه ..!
قاطع العقيد نزاعهم وصرخ فيهم : إن كان ما يقولونه صحيحاً بأن البلاد سقطت والرئيس قد قتل فليس أمامنا ألا خيارين .. "أما الأستسلام أو المقاومة" فأنا لا يهمني لو أستسلم الجميع .. لأنني لن أنسحب وأسلم نفسي فهذا عارٌ لنا كجنود وعارٌ في ميثاق الشرف العسكري .. سأموت وأنا أقاوم ولن يأسروني هؤلاء اللعناء .
قاطعهم مرة أخرى ذاك الجندي المعارض من الخارج وكأنه يسمع ما يقولون ويحاول زعزعتهم وأثارة البلبلة بينهم : "سلموا أنفسكم .. وسنطلق سراحكم وهذه كلمة شرف بيننا .. هيا هيا لقد أستسلم الجميع ولم يتبقى عداكم .. لا تجبروننا على الدخول" ؟
بسرعة نظر العقيد إلى جنوده غاضبا وكأنه يقرأ مافي أعينهم وقال : لا أريد أحدً منكم أن يكلمني عن الأستسلام .. فهذا أمرٌ عسكري لكم ؟
قام "الجندي فلاح" وضرب الأوامر العسكرية بعرض الحائط لأن المسألة أصبحت حياةٌ أو موت وقال للعقيد : لا أريد التقليل من شأنك سيدي ولكن ,، يبدو أن كل شيئا أنتهى بالفعل .. جيشنا أستسلم والرئيس قتل والبلاد سقطت .. فلما نقاوم ؟
- قال العقيد وهو ينتفض غضبً : هل تعرف كيف تجلس في مكانك ... وتخرس؟
- فلاح : أنني أكن لك كل الأحترام وأعتبرك بمثابة والدي .. ولكن يجب أن ترى الأمور من وجهة نظرٍ أخرى .. نحن مجرد جنود .. نحن مجرد أرقامٍ يكتبها التاريخ من ضحايا الحروب .. أننا أكثر الخاسرين يا سيدي .. لأننا من نقاتل ونقتل .. لأننا من نخوض المعارك ولا نستفيد شيئاً .. فلا أموالٌ يعطوننا ولا مناصب يقلدوننا .. والأسوء من ذلك أن عشنا أو متنا فلا أحد يذكرنا .. بينما الذين تسببوا في الحروب لم يطلقوا رصاصة واحدة .. أنهم يجلسون هناك في قصورهم وجحورهم ويتلذذون في النعيم ويستولون على كل شيء والتاريخ يسجلهم أبطالا .. لذا دعني أسألك هذه المرة يا سيدي : لما نقاتل ؟
- نظر العقيد إلى الأرض مفكرً محبطً من حديث فلاح , قال بعدها : لما نقاتل ؟ في الحقيقة لا أعرف ؟
- فلاح : من نقاتل إذاً ولمن ؟
- العقيد : لا أعرف ؟ سكت بعدها لبرهة ثم قال : لا أعرف ؟ بصراحة لا أعرف ما الذي حدث ؟ كيف أستسلم الجيش بهذه السرعة ؟ لما لم يقاوموا كما ينبغي ؟ وكيف أستطاع العدو أن يلقي القبض على الرئيس ؟ ربما هناك خيانةٌ حصلت أو أختراقٌ لجهاز المخابرات ؟ هناك أمرٌ دبر بليل .. وسيناريو محكم أعد له مسبقاً ؟ سحقاً ,، كيف أصبحنا محاصرين من الجهات الأربع ؟ ما الخلاص من هذه المعضلة ؟ يبدو بإن هؤلاء الأوغاد دبروا خطة بليلً غادر لتدمير البلاد ؟ ما يحزنني حقاً بأننا كنا نعيش بسلام في السابق كيف أنقلبت أوضاعنا هكذا ؟
خطاب العقيد وحسرته التي بدت واضحة في نبرة صوته .. جعلت من سمعه يتعاطف معه .. ألا أن "الجندي وائل" قال بهدوءً شديد : يا رجل بالفعل هناك أمر دبر بليل .. ولكن ليس الأعداء الذين دبروه ولا الخونة و لا المعارضين .. بل هو أمر "نحن دبرناه لإنفسنا بليل" ؟
- قال العقيد الذي ضاع بين هلاوس جنوده ومحاصرة أعداءه وكل شيء : ماذا تعني بهذا ؟
- وائل : ما حدث لنا وما يحدث لنا وما سيحدث لنا "بسبب ذنونبنا ومعاصينا" .. ومن أعمالكم سلط عليكم .. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) .. أو ماذا تظن ؟ بأن الذي حصل هو مؤامرة ونظريتها الغريبة وأيدلوجيتها الكاذبة ؟ أو ظننت بإن الآخرين يستهدفوننا لتدمير مجتمعنا وحضارتنا ؟ تبا لذلك ,، كلها محض هراء .. يا رجل أنها معاصينا وسيئاتنا والنفاق بداخلنا هذا هو البلاء المبين وهذا هو البلاء الذي حلا بنا ؟
يتبع ....