بسم الله الرحمن الرحيم
محبة الله عز وجل
فالمحبة هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها؛ فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده؛ فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه؛ حلت بقبله جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها؛ فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق ما لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى عن قريب، بالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة على المحبين سابغة! والمحبة لله عز وجل هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها وتابع من توابعها كالشوق والأنس والرضا، ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة والصبر والزهد وغيرها.
وأنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلها محبة من جبلت القلوب على محبته، وفطرت الخليقة على تأليهه، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل له والخضوع والتعبد، والعبادة لا تصلح إلا له وحده، والعبادة هي كمال الحب مع كمال الخضوع والذل، والله تعالى يُحب لذاته من جميع الوجوه وما سواه فإنما يحب تبعًا لمحبته، وقد دلَّ على وجوب محبته سبحانه جميع كتبه المنزلة ودعوة جميع رسله وفطرته التي فطر عباده عليها وما ركب فيهم من العقول وما أسبغ عليهم من النعم، فإن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم عليها وأحسن إليها، فكيف بمن كل الإحسان منه وما بخلقه جميعًا من نعمة فمنه وحده لا شريك له كما قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 53]، وما تعرف به إلى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العلا وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله وعظمته.
قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165].
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ [المائدة: 54].
وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» [رواه البخاري ومسلم].
قال الحافظ: (قوله: «لا يؤمن» أي إيمانًا كاملاً وقال القاضي عياض وابن بطال وغيرهما: المحبة ثلاثة أقسام محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة وإحسان كمحبة سائر الناس فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته).
وقال ابن بطال: (ومعنى الحديث أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين؛ لأن به صلى الله عليه وسلم استُنقِذنا من النار وهُدينا من الضلال).
قال القاضي عياض رحمه الله: (ومن محبته صلى الله عليه وسلم نصرة سنته، والذب عن شريعته وتمنى حضور حياته فيبذل نفسه وماله دونه قال: وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا يتم إلا بذلك ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن).
وقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا حتى أكون أحب إليك من نفسك» [رواه البخاري].
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا في المحبة ولوازمها أفليس الرب جل جلاله أولى بمحبته وعبادته من أنفسنا، وكل ما منه إلى عبده يدعوه إلى محبته مما يحب العبد ويكره، فعطاؤه ومنعه، ومعافاته وابتلاؤه، وقبضه وبسطه، وعدله وفضله، وإماتته وإحياؤه، وبره ورحمته، وإحسانه وستره، وعفوه وحلمه، وصبره على عبده وإجابته لدعائه وكشف كربه وإغاثة لهفته وتفريج كربته من غير حاجة منه إليه بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه، كل ذلك داع للقلوب إلى تأليهه ومحبته، فلو أن مخلوقًا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك لم يملك قلبه عن محبته، فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس مع إساءته، فخيره إليه نازل وشره إليه صاعد، يتحبب إليه بنعمه وهو غني عنه، والعبد يتبغض إليه بالمعاصي وهو فقير إليه، فلا إحسانه وبره وإنعامه عليه يصده عن معصيته، ولا معصية العبد ولؤمه يقطع إحسان ربه عنه.
وأيضًا فكل من تحبه من الخلق ويحبك إنما يريدك لنفسه وغرضه منك، والله سبحانه يريدك لك، وأيضًا فكل من تعامله من الخلق إن لم يربح عليك لم يعاملك، ولا بد له من نوع من أنواع الربح، والرب تعالى إنما يعاملك لتربح عليه أعظم الربح وأعلاه، فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بواحدة وهي أسرع شيء محوًا.
وأيضًا فهو سبحانه خلقك لنفسه وخلق كل شيء لك في الدنيا والآخرة، فمن أولى منه باستفراغ الوسع في محبته وبذل الجهد في مرضاته؟!
وأيضًا فمطالبك – بل مطالب الخلق كلهم جميعًا – لديه وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، أعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمله، يشكر القليل من العمل وينميه، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29]، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، بل يحب الملحين في الدعاء، ويحب أن يسأل، ويغضب إذا لم يسأل، ويستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه، ويستره حيث لا يستر نفسه، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه، دعاه بنعمه وإحسانه وأياديه إلى كرامته ورضوانه فأبى، فأرسل رسله في طلبه وبعث معهم عهده، ثم نزل إليه سبحانه بنفسه وقال: «من يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له» [البخاري، مسلم، الترمذي، أبو داود].
وكيف لا يحب القلب من لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يجيب الدعوات ويقيل العثرات ويغفر الخطيئات ويستر العورات ويكشف الكربات ويغيث اللهفات وينيل الطلبات سواه؟ فهو أحق من ذكر، وأحق من شكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأنصر من ابتغى، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، وأرحم من استرحم، وأكرم من قصد، وأعز من التجئ إليه، وأكفى من توكل عليه، أرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأشد فرحًا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا يئس من الحياة ثم وجدها، وهو الملك لا شريك له، والفرد لا ندَّ له، كل شيء هالك إلا وجهه، لن يطاع إلا بإذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يطاع فيشكر وبتوفيقه ونعمته أطيع، ويعصى فيغفر ويعفو وحقه أضيع، فهو أقرب شهيد، وأجل حفيظ، وأوفى بالعهد، وأعدل قائم بالقسط، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وكتب الآثار، ونسج الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب لديه مكشوف، وكل أحد إليه ملهوف، عنت الوجوه لنور وجهه، وعجزت العقول عن إدراك كنهه، ودلت الفطر والأدلة كلها على امتناع مثله، أشرقت لنور وجهه الظلمات، واستنارت له الأرض والسموات، وصلحت عليه جميع المخلوقات، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه، ما انتهى إليه بصره من خلقه.
ومحبة الله عز وجل هي حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وليس للقلب لذة ولا فلاح ولا حياة إلا بها، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذن إذا فقدت سمعها، بل فساد القلب إذا خلا من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحق أعظم من فساد البدن إذا خلا من الروح، وهذا الأمر لا يصدق به إلا من فيه حياة:
وما لجرح بميت إيلام
* * * *
الأسباب الجالبة للمحبة الموجبة لها
الأسباب الجالبة للمحبة الموجبة لها
الثاني: التقرب إلى الله عز وجل بالنوافل بعد الفرائض كما قال تعالى في الحديث القدسي: «وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» [البخاري].
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
الرابع: إيثار محابّه على محابّك عند غلبات الهوى والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة، ولهذا كانت المعطلة والجهمية قطاع الطرق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب.
السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته.
السابع: وهو من أعجبها: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدًا ومنفعة لغيرك.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عزَّ وجلَّ. فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب.
* * * *
محبة الله تعالى للعبد ومعناها
محبة الله تعالى للعبد ومعناها
قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا﴾ [الصف: 4].
أخبر عز وجل أنه لا يعذب من يحبه فرد على الذين ادعوا أنهم أحباء الله عز وجل بقوله: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ [المائدة: 18].
وشرط للمحبة غفران الذنوب فقال: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: 31].
ومن علامات محبة الله عز وجل للعبد حسن التدبير له يريبه في الطفولة على أحسن نظام، ويكتب الإيمان في قلبه، وينور له عقله فيتبع كل ما يقرب منه، وينفر عن كل ما يبعده عنه، ثم يتولاه بتيسير أموره من غير ذل للخلق، ويسدد ظاهره ويجعل همه واحدًا، فإذا زادت المحبة شغله به عما سواه.
علامات محبة الرب جل وعلا:
أما محبة العبد لله فاعلم أن المحبة يدعيها كل أحد فما أسهل الدعوى وأعز المعنى، ولا ينبغي أن يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان وخداع النفس إذا ادعت محبة الله تعالى ما لم يمتحنها بالعلامات ويطالبها بالبراهين، فمن العلامات حب لقاء الله تعالى في الجنة، ومنها أن يكون مؤثرًا ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه، فيتجنب إتباع الهوى ويعرض عن الدعة والكسل، ولا يزال مواظبًا على طاعة الله عز وجل متقربًا إليه بالنوافل، ومن أحب الله فلا يعصه، إلا أن العصيان لا ينافي أصل المحبة، إنما يضاد كمالها، فكم من إنسان يحب الصحة ويأكل ما يضره، وسببه أن المعرفة قد تضعف، والشهوة قد تغلب؛ فيعجز عن القيام بحق المحبة، ويدل على ذلك حديث نعمان أنه كان يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحده إلى أن أتي به يومًا فلعنه رجلٌ وقال: ما أكثر ما يؤتي به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» [البخاري].
وقال الحافظ في فوائد الحديث: فيه أن تنافي ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله، مع وجود ما صدر منه، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يُراد به زواله بالكلية؛ بل نفي كماله كما تقدم، فلم تخرجه المعصية عن المحبة، وإنما أخرجته عن كمالها.
ومنها: أن يكون محبًّا لكلام الله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأهل الإيمان.
ومنها: أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاة الله تعالى وتلاوة كتابه؛ فيواظب على التهجد، ويغتنم هدوء الليل، وصفاء الوقت بانقطاع العوائق فأقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب، والتنعم بمناجاته.
ومنها: أن يكون شفيقًا على المسلمين رحيمًا بهم شديدًا على أعدائه كما قال تعالى: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]، ولا تأخذه في الله لومة لائم، فهذه علامات المحبة فمن اجتمعت فيه فقد تمت محبته وصفا في الآخرة شرابه، ومن امتزج حبه لله بحب غيره فيمزج شرابه كما قال تعالى: ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين: 25-28]، فقوبل الخالص بالصرف والمشوب بالمشوب: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8].
قال بعض الصالحين في علامات المحبة:
لا تخدعن فللحبيب دلائل
ولديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعمه بمر بلائه
وسروره في كل ما هو فاعل
ومن الدلائل أن يرى متبسمًا
والقلب فيه من الحبيب بلابل
ومن الدلائل أن يرى متفهمًا
لكلام من يحظى لديه السائل
وقال غيره:ولديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعمه بمر بلائه
وسروره في كل ما هو فاعل
ومن الدلائل أن يرى متبسمًا
والقلب فيه من الحبيب بلابل
ومن الدلائل أن يرى متفهمًا
لكلام من يحظى لديه السائل
ومن الدلائل حزنه ونحيبه
خوف الكلام فما له من عادل
ومن الدلائل أن تراه مسافرًا
نحو الجهاد وكل فعل فاضل
ومن الدلائل زهده فيما يرى
من دار ذل والنعيم الزائل
ومن الدلائل أن تراه باكيًا
أن قد رآه على قبيح فعائل
ومن الدلائل أن تراه مسلمًا
كل الأمور إلى المليك العادل
ومن الدلائل أن تراه راضيًا
بمليكه في كل حكم نازل
خوف الكلام فما له من عادل
ومن الدلائل أن تراه مسافرًا
نحو الجهاد وكل فعل فاضل
ومن الدلائل زهده فيما يرى
من دار ذل والنعيم الزائل
ومن الدلائل أن تراه باكيًا
أن قد رآه على قبيح فعائل
ومن الدلائل أن تراه مسلمًا
كل الأمور إلى المليك العادل
ومن الدلائل أن تراه راضيًا
بمليكه في كل حكم نازل
* * * *
اختبار محبة الله
اختبار محبة الله
يقول العلماء: إن هذا الاختبار العظيم الذي يورث سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة قد ورد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليه مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإذا سألني لأعطينه، ولئن أستعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته».
يقول الله عز وجل: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليه مما افترضه عليه» إذاً أحبتي نحن عندما نتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بأداء فرائضه فإن الله سبحانه وتعالى يحب الفريضة لذاتها ولا يحبنا نحن لماذا؟ لأننا نؤدي الفريضة فقط خوفًا من الله، ولكن عندما نرقي أنفسنا إلى مرتبة أعلى ألا وهي مرتبة أداء النوافل، فإننا بإذن الله سوف نحصل على محبة الله سبحانه وتعالى إذا اجتزنا الاختبارات المترتبة بعد أداء النوافل.
وقوله عز وجل: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به» لنجري الآن أحبتي هذا الاختبار على أسماعنا بمعنى: كلٌّ منا الآن يؤدي هذا الاختبار على سمعه بمعنى هل سمعه ممتثلاً لأمر الله أم أن هذا السمع يستمع إلى ما حرم الله فإذا كان مثلاً سمع المسلم ينطلق إلى ما حرم الله، فهذا بمعنى أنه يسمع الغيبة والنميمة والآثام والفواحش والأغاني وما شابه ذلك، فهذا معناه: أن سمع هذا المسلم ليس السمع الذي ورد في قوله عزَّ وجل: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به» وبالتالي يقينًا أن الله سبحانه وتعالى لم يحبه؛ لأنه لو أحبه لتكفل بحفظ هذا السمع، فيجب أن نحذر أحبتي، فإن قضية أن المسلم يجعل أذنيه مرتعًا لكل ما حرم الله، وهذا دليلُ على أن الله سبحانه وتعالى لم يحبه كما أن عليه أن يتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استمع إلى مُغَنًّ أو مغنية صب الله في أذنيه الرصاص المذاب يوم القيامة.
الآن الاختبار الثاني قوله تعالى: «فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به» أي: لنجري هذا الاختبار على هذه الجارحة وهي البصر إذا كانت مثلاً هذه الجارحة تنطلق فيما حرم الله من النظر إلى الصور المحرمة بشتى أنواعها سواء بالنظر إلى النساء الأجنبيات أو النظر إلى الصور المحرمة في المجلات أو التلفاز أو غير ذلك؛ فهذا معناه أن هذا البصر غير مضبوط بأمر الله، وأيضًا هذا معناه أن هذا البصر الذي ينظر فيما حرم الله ليس البصر الذي ورد في قول الله عز وجل: «فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به» وبالتالي يقينًا أن الله سبحانه وتعالى لم يحبه؛ لأنه لو أحبه لتكفل بحفظ هذا البصر ألا وهي جارحة البصر، وهنا يذكر العلماء الترغيب والترهيب فروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المسند قوله من ناحية الترغيب: «النظر سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غضَّ بصره عن محاسن امرأة لله؛ أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه» هذا من ناحية الترغيب، أما من ناحية الترهيب، فقد صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله أيضًا من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه» [متفق عليه].
وقد سئل الحسن البصري – رحمه الله – فقيل له يا أبا الحسن: رحمك الله كيف نستعين على غض أبصارنا؟ فقال: بأن تتأمل أن نظر الله سبحانه وتعالى إليك أسرع من نظرك إلى الصورة المحرمة.
الاختبار الثالث: «فإذا أحببته كنت يده التي يبطش بها» أيضًا لنختبر هذه الجارحة التي يمتلكها كلٌّ منا ولله الحمد وهي جارحة اليد إذا كانت مثلاً هذه الجارحة تقوم بأي بطش محرم سواء من الإمساك بالسيجارة للتدخين، أو القيام بحلق اللحية فهذا معناه أن هذه الجارحة وهي اليد ليست الجارحة التي وردت في قوله عز وجل: «فصرت يده التي يبطش بها» لماذا؟ لأن قبضة البطش المحرم، ولا يعقل أيها الأحبة أن الله سبحانه وتعالى يتكفل بحفظ يده فيكون هو يده التي يبطش بها، ولكي تقوم هذه اليد بأي بطش محرم من حلق اللحية أو تقصيرها أو الإمساك بالسيجارة والتدخين، أو أي بطش محرم فهذا معناه أن هذه ليست اليد التي وردت في قوله عز وجل: «كنت يده التي يبطش بها» وبالتالي يقينًا أن الله سبحانه وتعالى لم يحبه؛ لأنه لو أحبه لتكفل بحفظ هذه الجارحة.
الاختبار الرابع والأخير: «فإذا أحببته كنت رجله التي يمشي بها» أيضًا أحبتي لنجري هذا الاختبار على أرجلنا أو بمعنى آخر الأماكن التي نذهب إليها إذا كان في أحد تلك الأماكن أي مكان محرم ونحن نعرف جميعًا الأماكن المحرمة سواءً من أماكن الفساد أو أماكن المقاهي التي يشرب فيها المشروبات المحرمة أو النظر إلى الصور المحرمة أو أي مكان فيه مكان محرم فهذا معناه أن أرجلنا ذهبت إلى هذا المكان المحرم ليست الرجل التي وردت في قوله عز وجل: «وصرت رجله التي يمشي بها» لأنه لا يعقل أن الله سبحانه وتعالى يتكفل بحفظ الرجل، ومن ثم تذهب هذه الرجل إلى أي مكان محرم، وبالتالي يقينًا أن الله سبحانه وتعالى لم يحبه؛ لأنه لو أحبه لتكفل بحفظ هذه الرجل.
إذًا أحبتي على ضوء تلك الاختبارات الأربعة على هذه الجوارح ألا وهي: السمع، والبصر، والبطش، والمشي، كلُّ منا علم يقينًا أن الله سبحانه وتعالى يحبه أو لا يحبه، وليعلم إن رسب في أحد تلك الاختبارات فليعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يحبه بعد، وبعضنا للأسف قد رسب للأسف في جميع هذه الاختبارات الأربع، بمعنى أنه يبصر ما حرَّم الله، ويسمع ما حرَّم الله، ويبطش بيده ما حرَّم الله، ويذهب إلى ما حرَّم الله، و لا حول ولا قوة إلا بالله. هذا أيها الأحبة لا يلومنَّ إلا نفسه، ولذلك نجد أيها الأحبة أن المستقيمين أو ما يسمون بالمطاوعة المتلزمين نجد أنهم قد تكفل الله تعالى بحفظ هذه الجوارح الأربع لديهم فلا ينظرون إلا ما أحل الله، ولا يسمعون إلا ما أحل الله، ولا يبطشون بأيديهم إلا ما أحل الله، ولا يذهبون إلى أماكن لا يحبها الله ويحلها، فهذا معناه أن الله سبحانه وتعالى أحبهم، فتكفل بحفظ هذه الجوارح الأربعة لديهم.
إذا كنا رسبنا في أحد هذه الاختبارات أو ربما جميعها كيف نصل إلى مرتبة يحبنا فيها الله عزَّ وجلَّ، وبالتالي يتكفل بحفظ هذه الجوارح الأربعة لدينا، نرجع إلى قوله عزَّ وجلَّ: «فإذا أحببته» قوله عزَّ وجلَّ «وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» أي: «ما زال» في اللغة العربية تعني الاستمرار والمداومة أي أنه داوم واستمر على أداء هذه النوافل حتى وصل إلى مرتبة أحبه فيها الله عز وجل، وبالتالي تكفل بحفظ هذه الجوارح الأربعة لديه، ونقول أيها الأحبة: إن من أولى الأولويات عند المسلم أن يحصل على محبة الله عز وجل قبل أن يلقاه، لماذا؟ لأن أحدًا منا لو كان سوف يقابل ملكًا أو مسؤولاً من المسؤولين، وسوف يحاسبه على أمر ما، فإنه يحرص أشد الحرص على أن ينال رضى هذا المسؤول لماذا؟ لأنه سوف يحاسبه على أمر زائل من أمور الدنيا، فما بالك بالجبار عز وجل.
من أولى الأولويات لكل واحد منا أن يحصل محبته عزَّ وجلَّ قبل أن يحاسبه وينال بذلك سعادة الدارين.
* * * *
همسة الوداع
همسة الوداع
وأعجب من هذا علمك أنك لا بد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت معرض، وفيما يبعدك عنه راغب.