- عز الدين رمضاني
إنَّ الله أنزل كتابه العظيم على نبيه الكريم هدى ورحمة ونورا وشفاء وبشرى وذكرى للذاكرين، ووصفه بأوصاف جليلة، ونعته بنعوت حسنة جميلة، تدل على أنه الأصل والأساس لجميع العلوم النافعة، والمعارف المرشدة لخيري الدنيا والآخرة.فهذه سورة العصر على وجازتها وقصر آياتها تضمنت التعريف بسبيل أهل الصلاح والإيمان، والتمييز بينها وبين سبيل أهل الزيغ والخسران، بأوجز العبارات وأدلها على المقصود، حتى قال الشافعي: «لو لم ينزل الله غيرها لكفت الناس»، وهذه آية النحل:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90] جمعت الأخلاق الفاضلة المهذبة للنفوس، الهادية للقلوب، وحذرت من موبقات الشرور المهلكة للنفوس المدمرة للأمم والشعوب، وهذه سورة الفاتحة جمعت بين دفتيها علوما جمة وافرة، ومعارف باطنة وظاهرة، وفوائد نفيسة باهرة، وأصولا نقية زاهرة.
ومن سور القرآن التي حوت جلَّ هذه الشمائل، وانفردت بكثرة الفضائل، وسمت على مثيلاتها بأقوى الدلائل، المعرِّفة بالخالق المعبود بأوجز لفظ وأدلِّه على مقصود القائل، سورة الإخلاص؛ فإنَّ الناس مكثرون من تلاوة هذه السورة غالب الأحوال، حتى جرت على ألسنتهم مجرى الأمثال، لسهولة حفظها وعذوبة ألفاظها وجلال معانيها، فمنهم العارف معناها - وقليل ما هم -، ومنهم الجاهل بحقيقتها وعظيم فضلها ونفعها وهم السواد الأعظم.
ومما يدل على فضل هذه السورة كثرة أسمائها وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، وهي نحو عشرين اسما، تصب كلها في فلك التوحيد ومعرفة حق الله على العبيد، والرد على عبَّاد الأصنام والأوثان والقائلين بالثنوية والتثليث وجميع الأديان الباطلة.
وأشهر أسمائها: «الإخلاص»، وسمِّيت بذلك؛ لأنَّ في قراءتها خلاصا من عذاب الله، أو لأنَّ فيها إخلاصا لله من كل عيب ومن كل شريك، أو لأنَّها خالصة لله ليس فيها أمر ولا نهي، وقيل: سميت بالإخلاص لأنَّها أخلصت التوحيد لله، أو لأنَّ قارئها وتاليها قد أخلص دينه لله.
ومن أسمائها: «قل هو الله أحد»، وقد بوب البخاري في «الصحيح» باب فضل «قل هو الله أحد»؛ ومن أسمائها: التوحيد، والأساس؛ لأن التوحيد أصل لسائر أصول الدين، ومن أسمائها: التَّفريد والتَّجريد والنَّجاة والولاية والمعرفة - لأنَّ معرفة الله إنما تتمُّ بمعرفة ما فيها - والنِّسبة والصَّمد والمعوِّذة والمانعة والمذكِّرة والنُّور والإيمان والمُقَشْقِشة والمعولة والبراءة.
وأما فضائل هذه السورة فكثيرة، وفوائدها عزيزة، حتى قال الأئمة الأعلام كالدَّارقطني وابن القيِّم: «لم يصح في فضائل سورة مما صح في سورة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾».
فهي نسبة الله عز وجل والمعرفة به - جل وعلا -، فمن أراد معرفة ربه ونسبه وصفته فليقرأ هذه السورة، فعن أبيِّ بن كعب: أنَّ المشركين قالوا للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا محمَّد! انسب لنا ربك، فأنزل الله - تبارك وتعالى -: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾[1].
وهي صفة الرحمن ونعته، فمن رام وصفا لخالقه يليق بكماله وجلاله، وعزته وعظيم سلطانه، فليقرأ هذه السورة الكريمة، ففي «الصحيحين»[2] عن عائشة أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «بعَث رجلاً على سرِيَّةٍ، فكانَ يقرأُ لأصحابِه في صلاتهم فيختِمُ بـ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾، فلمَّا رجَعوا ذكروا ذلك للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ فقال: «سَلُوهُ لأيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ»، فسألوه فقال: لأنَّها صِفة الرَّحمن، وأنا أحِبُّ أن أقرأ بها، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ»، قال ابن التِّين: «وقوله: لأنَّها صفة الرَّحمن لأنَّ فيها أسماءَه وصفاتِه، وأسماؤُه مشتقَّة من أوصافه».
ومن فضائلها:
- أنَّ حبَّ هذه السورة والقراءة بها في الصلاة يوجب محبَّة الله لمن قرأ بها، لقوله في الحديث: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ»، وفي هذا دليل على أن سلامة المعتقد وحسن فهم التوحيد من أعظم أسباب محبة الله لعباده، وفيه دليل أيضا على استحباب قراءة الآيات التي تشمل على صفات الله خلافا للمبتدعة الذين يكرهون قراءة آيات الصفات عند العامة.
- إنَّ حبَّها يوجب دخول الجنة، فقد روى البخاري معلَّقا في «صحيحه» (774) ووصله الترمذي (2901) عن أنس قال: «كانَ رجلٌ من الأنصار يؤُمُّهم في مسجِد قُباء، وكان كلَّما افتتَح سورة يقرأ بها لهم في الصَّلاة ممَّا يقرأُ به افتتَح بـ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾حتى يفرَغ منها، ثم يقرأ بسورةٍ أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كلِّ ركعة، فكلَّمه أصحابه فقالوا: إنَّك تفتتح بهذه السُّورة ثمَّ لا ترى أنَّها تجزئك حتَّى تقرأ بأُخرى، فإمَّا أن تقرأ بها وإمَّا أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخبروه الخبر، فقال: «يَا فُلاَنُ! مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ، وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟» فقال: إنِّي أحبُّها، فقال:«حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ».
وروى مالك (435) والترمذي (2897) والنسائي (994) بإسناد صحيح عن أبي هريرة يقول: «أقبلتُ مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسمِع رجلاً يقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾؛ فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «وَجَبَتْ»، قلت: وما وجبت؟ قال: «الجَنَّةُ».
وروى أحمد (5/ 437) بإسناد حسن عن معاذ بن أنس عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «مَنْ قَرَأَ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ حَتَّى يَخْتِمَهَا عَشر مَرَّاتٍ بَنَى اللهُ لَهُ قَصْرًا فِي الجَنَّةِ».
- إنَّ قراءتها توجب مغفرة الذنوب؛ فقد روى الدارمي (3292) والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (704) بإسناد صحيح عن رجل من الصَّحابة يقول: «صحِبت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سفَرٍ، فسمع رجلاً يقرأ ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ فقال: «قَدْ بَرِئَ مِنَ الشِّرْكِ»، وسمع آخر يقول: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فقال: «غُفِرَ لَهُ».
- إنَّها تكفي من الشَّر وتمنعه؛ لما ثبت في «السنن»[3] إلا ابن ماجه عن عبد الله بن خبيب قال: «خرَجنا في ليلة مطَرٍ نطلُب النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليصلِّي لنا فأدركناه، فقال: «قُلْ!» فلم أقل شيئًا، ثم قال: «قُلْ!» فلم أقل شيئًا، ثم قلت: يا رسول الله! ما أقول؟ قال: «﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ وَالمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ».
- إنَّ الدُّعاء بها مستجاب؛ ففي «السنن» و «مستدرك الحاكم» بإسناد صحيح عن عبد الله ابن بريدة عن أبيه أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - سمع رجلاً يصلِّي يدعو يقول: «اللهمَّ! إنِّي أسألُك بأنِّي أشهَدُ أن لا إلَه إلاَّ أنتَ، الأحدُ الصَّمدُ، الَّذي لم يلِد ولم يُولَد، ولم يكُن له كفوًا أحد» قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَهُ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ»[4].
وفي «المسند»، و«سنن أبي داود» عن محجن بن الأدرع أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دخل المسجد فإذا برَجلٍ قد قضى صلاتَه وهو يتشهَّد وهو يقول: «اللَّهم! إنِّي أسألُك بأنَّك الواحدُ الأحَدُ الصَّمدُ الَّذي لم يلِد ولم يُولَد ولم يكُن له كفوًا أحد، أن تغفِر لي ذنوبي، إنَّك أنتَ الغفُور الرَّحيم»، فقال نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثلاثَ مرَّاتٍ:«قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ»[5].
- إنَّها تضمنت الرد على اليهود والنصارى والمشركين وهي حجة الله على خلقه، حتى قال السيوطي في «الإكليل»: «فيها الرد على اليهود والنصارى والمجوس والمشركين والمجسمة والمشبهة والحلولية والاتحادية وجميع الأديان الباطلة»، ويدل على هذا ما رواه البخاري في «صحيحه» (4974) عن أبي هريرة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ربِّه: «كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّل الخَلْقِ بِأَهْوَن عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللُه وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ».
- إنَّها من أفضل سور القرآن ليس لها مثيل ولا شبيه في كتب الله المنزلة على رسله؛ يبين ذلك ما رواه أحمد (17467) بإسناد صحيح عن عقبة بن عامر قال: «لقيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال لي: «يَا عُقْبَةَ بْن عَامِرٍ! صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ»، قال: ثم أتيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال لي: «يَا عُقْبَةَ بْن عَامِرٍ! أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ»، قال: ثم لقيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: «يَا عُقْبَةَ بْن عَامِرٍ! أَلاَ أُعَلِّمُكَ سُوَرًا مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلاَ فِي الزَّبُورِ وَلاَ فِي الإِنْجِيلِ وَلاَ فِي الفُرْقَانِ مِثْلُهُنَّ! لاَ يَأْتِيَنَّ عَلَيْكَ لَيْلَةٌ إِلاَّ قَرَأْتَهُنَّ فِيهَا: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ﴾، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾»، قال عقبة: فما أتَت عليَّ ليلةٌ إلا قرأتهُنَّ فيها، وحقٌّ لي أن لا أدعهُنَّ وقد أمرني بهنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -.
- وإنَّ من أعظم فضائل الإخلاص بحيث لا تشاركها ولا تقاربها ولا تنافسها سورة أخرى في هذا الفضل كونها تعدل ثلث القرآن، أي أن قارئها له فضل وثواب من قرأ عشرة أجزاء من القرآن، علما أن كل حرف في القرآن بحسنة، وقد جاءت أحاديث صحيحة في إثبات هذا الفضل بلغت مبلغ التواتر كما يقول ابن القيم وغيره من العلماء.
فمن ذلك ما رواه البخاري في «صحيحه» (5014) من حديث أبي سعيد الخدري أن: «رجلاً سمع رجلاً يقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ يردِّدها، فلمَّا أصبح جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فذكر ذلك له - وكأنَّ الرجل يتقالُّها -، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ».
ومن ذلك ما رواه البخاري (5015) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأصحابه: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ القُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟» فشق ذلك عليهم وقالوا: أيُّنا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: «اللهُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ القُرْآنِ».
ومن ذلك ما رواه مسلم (811) عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ كُلَّ يَوْمٍ ثُلُثَ القُرْآنِ؟» قالوا: نعم، قال: «إِنَّ اللَه جَزَّأَ القُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاء، فَـ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ثُلُثُ القُرْآنِ».
ومعنى هذه الأحاديث أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن في الجزاء لا في الإجزاء؛ لأنَّه لا يلزم من المعادلة في الجزاء المعادلة في الإجزاء، ومن أمثلة هذه القاعدة ما ثبت عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: «مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشرَ مَرَّاتٍ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ»[6]، فهل يجزئ ذلك عن إعتاق أربع رقاب ممن وجب عليه ذلك وقال هذا الذكر عشر مرات؟ الجواب: لا يجزئ، أمَّا في الجزاء فتعدل، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «تعدل ثواب ثلث القرآن في القدر، فلا يجب أن يكون مثله في النوع والصفة».
وأما السبب الذي من أجله عدلت ثلث القرآن فقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبة كثيرة، أحسنها قول من قال: إن القرآن على أثلاث - أي ثلاثة أنواع من المباحث - فهو إما خبر عن الله، أو خبر عن مخلوقاته، أو أحكام، أما الخبر عن الله فسورة الإخلاص تتضمنه لما فيها من التعريف بالله وأسمائه وصفاته وتنزيهه عن العيوب والنقائص، وهذا يشمله علم التوحيد وهو أشرف الثلاثة ويتجلى في هذه السورة، وإما خبر عن مخلوقاته كالإخبار عن الأمم السابقة والإخبار عن الحوادث الحاضرة والمستقبلة، وإما أحكام وهي الأوامر والنواهي المتضمنة للأحكام والشرائع العملية كالأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والنهي عن الربا والزنا وغير ذلك.
فلأجل ذلك كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يؤثر قراءة هذه السورة على غيرها في الصلاة وفي غير مواطن الصلاة.
أما الصلاة فكان يقرأ بها في الركعة الثانية من سنة الفجر، وكان يقول عنها وعن سورة الكافرون: «نِعْمَ السُّورَتَانِ هُمَا»[7]، وأخرج ابن حبان في «صحيحه» (2460): باب «ذكر إثبات الإيمان لمن قرأ سورة الإخلاص في ركعتي الفجر» وساق بسنده إلى جابر بن عبد الله أن رجلا قام فركع ركعتي الفجر، فقرأ في الركعة الأولى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «هَذَا عَبْدٌ عَرَفَ رَبَّهُ»، وقرأ في الأخرى: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ حتى انقضت السورة، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «هَذَا عَبْدٌ آمن بِرَبِّهِ».
وكان يقرأ بها وبـ «الكافرون» في سنة المغرب البعدية، كما كان يقرأها في الوتر وحدَها، ويضيف إليها أحيانا ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، وقد أشار إلى الحكمة في كل هذا شيخ الإسلام حيث قال: «سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته، ولذلك كان يصلي سنة الفجر والوتر بسورة الإخلاص، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة وتوحيد الاعتقاد والقصد».
كما كان يقرأ بها وبسورة الكافرون في ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم - عليه السَّلام - إشارة إلى التوحيد الذي نادى به شيخ الأنبياء وثبَّت أركانه إمام المرسلين إلى يوم الدين - صلَّى الله عليه وسلَّم -.
وكان يقرأ بها وبالمعوذتين دبر كل صلاة، وفي أذكار الصباح والمساء، وعند إيوائه إلى فراشه حيث يجمع يديه ويقرأ فيهما بالإخلاص والمعوذتين ثم ينفث فيهما ويمسح بهما سائر جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات، وعند مرضه كان يقرأ بها وينفث في يديه ويمسح بهما رجاء بركتها.
فبهذه الفضائل والبركات، ولهذه الدلائل والخيرات كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يكثر من قراءتها ويتعهدها في كثير من الأعمال والأحوال، وعلى ذلك الهدي الأَنْوَر، والسبيل الأَخْيَر، سار خيار هذه الأمة يتلونها حقَّ تلاوتها، ويتفهَّمونها حقَّ فهمها، ويتمثَّلون بها أحسن تمثيل، ويبجلونها أعظم تبجيل، حتى إنَّها ما تغيب عن أذهانهم ولا تتعثر ألسنتهم في ضرب الأمثال بها والاحتجاج بها على الخصوم، ومن طريف ما يذكر في هذا الباب ما رواه الذهبي في السير عن أحمد بن حمدون يقول: «رأيت محمد بن إسماعيل في جنازة سعيد ابن مروان، ومحمد بن يحيى الذهلي يسأله على الأسامي والكنى والعلل، ومحمد بن إسماعيل يمر فيه مثل السهم، كأنه يقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾»[8].
وسئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مئتي ألف حديث، هل حنث؟ فقال له أبو زرعة: أحفظ مئتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ وفي المذاكرة ثلاث مئة ألف حديث[9]، وقال حماد بن سلمة: «إن دعاك الأمير لتقرأ عليه ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ فلا تأته»[10]، فسورة هذه أسماؤها وتلك معانيها وفضائلها جدير بكل مسلم أن ينفق ساعات عمره في طلب خيراتها والاهتداء بأنوارها والوقوف على كنوزها، اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنك ولي ذلك والقادر عليه وصلَّى الله وسلَّم على نبيه الكريم.
[1] أحمد والترمذي والحاكم بإسناد حسن.
[2] البخاري (7375)، مسلم (813).
[3] أبو داود (5082)، النسائي (5428)، الترمذي (3575).
[4] أبو داود (1493)، والنسائي في «الكبرى» (4/ 394-395)، والترمذي (3475)، وابن ماجه (3857)، والحاكم (1/ 684)، وابن حبان (2383).
[5] أحمد (18995)، وأبو داود (987).
[6] رواه مسلم (2693).
[7] رواه أحمد (26550).
[8] «سير أعلام النبلاء» (12/ 432).
[9] «سير أعلام النبلاء» (13/ 68).
[10] «سير أعلام النبلاء» (7/ 448).
* منقول من (مجلة «الإصلاح» - العدد 6)
المصدر ...موقع راية الاصلاح