منبر الجمعة (مجموعة خطب مختارة)

seifellah

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
16 جانفي 2009
المشاركات
5,964
نقاط التفاعل
7,169
النقاط
351


بسم الله الرحمن الرحيم



أهمية التوحيد وخطورة الشرك



الحمد لله الذي هدى العباد إلى سواء السبيل، أحمده سبحانه، قسَّم الخلق بعدله وحكمته، بين سعيدٍ سارٍ على نهج الهُدى، وشقيٍ أفنى العمر في التضليل والعمى، وهو يظن أنه على صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الرب العظيم الجليل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قامعُ كل بدعة، ورافع كل سُّنَّة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.



أما بعد:



فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى.



عباد الله: أوجبُ الواجبات على العبد، معرفةُ توحيدِ الله عز وجل ومعرفة ما يضاده من الشرك، ذاك أن التوحيد هو القاعدة والأصل والأساس لدين الإسلام؛ الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، ويغفر لمن أتى به- إن شاء- ، ولا يغفر لمن ناقض التوحيد، [FONT=&quot]}إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[FONT=&quot]{[/FONT]
[النساء: 48].
[/FONT]



ولهذا لمَّا اشتملت كلمة الإخلاص على إقرار التوحيد ونفي الشرك، كانت أفضل الكلام وأعظمَهُ. أعظمُ آيةٍ في القرآن آيةُ الكرسي [FONT=&quot]}اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[FONT=&quot]{[/FONT] [البقرة: 255]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة» [رواه أبو داود والحاكم وصححه].[/FONT]



لا يستقيم توحيدُ عبدٍ إلا بمعرفة الشرك ثم الحذرِ منه، وهذا القرآن كله آمرٌ بالتوحيد ومحذرٌ من الشرك، [FONT=&quot]}قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[FONT=&quot]{[/FONT] [يوسف: 108]، معرفة التوحيد والتمسك به، ومعرفة الشرك والحذر منه، مصلحتها راجعة إلى العبد لا إلى غيره، هو المنتفع بالتوحيد، كما أنه المتضرر بالشرك [FONT=&quot]}[/FONT]إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ[FONT=&quot]{[/FONT] [إبراهيم: 8]، [FONT=&quot]}[/FONT]إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ[FONT=&quot]{[/FONT] [الزمر: 7].[/FONT]



لا نجاة - أيها الناس- ولا فوز إلا بالتمسك بالسبيل [FONT=&quot]}وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ[FONT=&quot]{[/FONT] [الأنعام: 153].[/FONT]



عباد الله: لم يأت نبي من الأنبياء إلا وأمر قومَهُ بإخلاص التوحيد لله، ونهاهم عن أن يُشركوا معه غيره [FONT=&quot]}وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[FONT=&quot]{[/FONT] [النحل: 36]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[FONT=&quot]{[/FONT] [الأنبياء: 25]، ولقد كتب الله على من خالف هذا النهج وأشرك مع الله غيره، أن كانت عقوبته أفظعَ عقوبة وأعظمَها [FONT=&quot]}[/FONT]إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[FONT=&quot]{[/FONT] [المائدة: 72].[/FONT]



عباد الله: إمام الحنفاء إبراهيم [FONT=&quot]عليه السلام الذي قال الله عنه: [FONT=&quot]}[/FONT]إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[FONT=&quot]{[/FONT] [النحل: 120]، خاف الشرك على نفسه وعلى ذريته، فسأل ربه فقال: [FONT=&quot]}[/FONT]رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ[FONT=&quot]{[/FONT] [إبراهيم: 35]. أعظم الناس منزلةً، وأعلاهم درجةً عند الله، هم أنبياء الله ورسلُه؛ ولهذا اختارهم لحمل أفضل أمر في هذا الكون؛ وهو الدعوة إلى الله، غير أن أعمالهم لا تنفعهم شيئًا إذا أَخَلُّوا بجناب التوحيد [FONT=&quot]}[/FONT]وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[FONT=&quot]{[/FONT]
[الزمر: 65].
[/FONT]



أيها الناس: أرأيتم هذه السموات كيف عظمتها، كيف قامت بدون عَمَدٍٍ، أرأيتم هذه الأرض كيف استوت بهذه الأوتاد، أرأيتم هذه الجبال وعلوها وعظمتها، ما مالت ولا سقطت منذ أن خلفها الله، كل هذه الثلاثة - عباد الله – يختل نظامها، وتهتز أركانها، ويفسد أمرها؛ إذا وقع في الأرض أمر يخالف فطرة الله، [FONT=&quot]}أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا[FONT=&quot]{[/FONT] [الأنبياء: 21، 22]، واقرأوا – عباد الله – قول الله سبحانه وتأمَّلوه: [FONT=&quot]}[/FONT]تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا[FONT=&quot]{[/FONT] [مريم: 90]، أمورٌ فظيعة تقعُ، ما سببها؟ [FONT=&quot]}[/FONT]أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا[FONT=&quot]{[/FONT] [مريم: 91، 92]، حين وصف الله عز وجل بالعجز والحاجة والنقص، فوصف بالولد، وهل يحتاج إلى الولد إلا الضعيف!! لما قيل ذلك؛ تغير مجرى الكون.[/FONT]



لهذا اقتضت حكمة الله أن الأرض لا تخلو – أبدًا – من موحِّدٍ إلى أن تقوم الساعة، «لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي وعد الله»، فإذا خلت الأرض من موحدين؛ آن للوضع – حينئذ – أن يتغيرَ، وللساعة أن تقومَ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول: الله الله».


عباد الله: لما كان الأمر بهذه الصورة، جاء الإسلام مانعًا من كل ما يكون سببًا للإشراك بالله، لا نتوكل إلا على الله، لا نذبح إلا له، لا ننذر إلا له، لا ندعو إلا هو، لا نطلب العون إلا منه، من حلف بغير الله فقد أشرك، ولذا لما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف بأبيه، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» [أخرجاه في الصحيحين]، وروى الترمذي وأبو داود والحاكم وصححه: «من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك».


عباد الله: ما من أحد إلا وهو عُرْضَةٌ للمرض والسقم، فأُمرنا بالتداوي، ولكن نهينا عن تعاطي الأسباب المحرمة، لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدر رجل حلقة من صفر، قال له: «ما هذا؟» قال: من الواهنة – نوع من المرض – قال: «انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، إنك لو مُتَّ وهي عليك ما أفلحتَ أبدًا»
[رواه الإمام أحمد]، بل لقد تعدَّى الأمر ذلك، فلم يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم شخصًا ارتكب مثل هذا الذنب، روى الإمام أحمد والحاكم عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعتَ تسعةً وأمسكتَ عن هذا؟ قال: «إنَّ عليه تميمةً»، فأدخلَ يده فقطعها، فبايعهُ صلى الله عليه وسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «من علَّق تميمةً فقد أشرك»، وفي رواية: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له».



وإلا فأيُّ فائدة تحصل من خيوط تربط، أو خرز يجمع، أو حلقة توضع في اليد أو الرجل، أو حجب أو حروف مقطعة، كل ذلك شرك وضلال، وفساد في الفطر والعقول.



عباد الله: جبل الإنسان على الذهاب إلى أصحاب العلاج والأطباء؛ غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يومًا» [رواه مسلم]، وقال صلوات ربي وسلامه عليه: «من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد» [رواه أحمد وأبو داود والترمذي].



نهينا عن التشاؤم بالأيام والشهور، أو التشاؤم من المرضى أو الطيور، في الصحيحين: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر»، وفي مسند الإمام أحمد: «من رجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك»، وفيه أيضًا: لما ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحسنها الفأل، ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك» إلى غير ذلك من أمور هي عند بعض الناس صغيرة ولكنها عند الله كبيرة.



عباد الله: يقول عمر بن الخطاب [FONT=&quot]t: يوشك أن ينقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية. ويقول حذيفة [FONT=&quot]t[/FONT]: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه.[/FONT]



فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوه، وراقبوه في كل ما تأتون، وما تذرون.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إن ربي غفور رحيم.





الخطبة الثانية

من أهمية التوحيد


الحمد لله الذي وعد الموحدين بالجنة، وتوعَّد المشركين بالنار، أحمده سبحانه لا إله غيره، ولا رب سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حمى جناب التوحيد عن كل ما يخل به ويشينه، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وراقبوه في السر والعلن.

شر البلية ضلال بعد الهدى، وعمى بعد البصيرة، وغي بعد رشاد، ولقد خلق الله الخلق يميلون بفطرهم إلى التوحيد – دين الفطرة -، فانحازت الشياطين بفريق منهم وحولوهم عن الهدى، وانحرفوا بهم عن مسلك الرشاد، يقول الله سبحانه في الحديث القدسي: «خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين».


عباد الله: إن من الباطل الذي زينته الشياطين وأوقعوا فيه ذوي العقول الضعيفة من الإنس، هو الغلو في الصالحين والأولياء، في قالب محبتهم والسير على منهاجهم، أو التبرك بآثارهم.



إن الشرك – عباد الله – لا يقع في الأرض جملة واحدة، بل يقع شيئًا صغيرًا ثم يكبر، وانظروا إلى قوم نوح يقول الله عنهم: [FONT=&quot]}وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا[FONT=&quot]{[/FONT] [نوح: 23]، في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إن هؤلاء المذكورين هم رجال صالحون من قوم نوح، لما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت».[/FONT]


عباد الله: لقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته من أمور خشية أن تقع في أمته، روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» [متفق عليه]، لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض جعل يطرح خميصة على وجهه، ويقول: «لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك».


بل لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو بجميع أنواعه، فقال: «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو».


فاتقوا الله -عباد الله- وأخلصوا له العبادة، واعلموا أن وراءكم جنةً ونارًا، وأن أفضل أعمال أهل الجنة توحيد الله، وأنَّ أشنع أعمال أهل النار الإشراك مع الله غيره، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من لقى الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقي الله يُشرك به شيئًا دخل النار» [رواه مسلم].



عباد الله: إن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم صلوا على نبي الهدى وإمام الورى صلى الله عليه وسلم...


* * *
 
التشبه بأهل الكتاب

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتمَّ علينا النعمة، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، أحمده سبحانه، لا أحصي ثناء عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالدين القيم والملة الحنيفية، وجعله على شريعة من الأمر، أمره باتباعها، وأمره أن يقول: [FONT=&quot]}هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[FONT=&quot]{[/FONT] [يوسف: 108]، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.[/FONT]

أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، التي هي نعم المدخر ليوم المعاد، اتقوا الله سبحانه، واشكروا على نعمه التي أسداها إليكم ومن بها عليكم.
أيها الناس: كان الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، من مقالات يظنونها علمًا وهي جهل، وأعمالٍ يحسبونها صلاحًا وهي فسادٌ، غاية البارع منهم علمًا وعملاً أن يحصل قليلاً من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين، قد اشتبه عليه حقه بباطله، أو يشتغل أحدهم بعملٍ، القليلُ منه مشروع، وأكثره مبتدع لا يكاد يؤثر في صلاحه إلا قليلاً.

ولقد مقت الله تعالى أهل الأرض عربهم وعجمهم؛ إلا بقايا من أهل الكتاب، لم يبق منهم قبل البعث إلا قلة.

عباد الله: لقد هدى الله الناس بعد ذلك ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من البينات والهدى، هداية جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته – المؤمنين منهم عمومًا، ولأولي العلم خصوصًا – من العلم النافع والعمل الصالح، والأخلاق الكريمة، والسنن المستقيمة، ما لو جُمٍعت حٍكمةُ سائر الأمم قاطبةً إلى الحكمة التي بعث بها نبينا صلى الله عليه وسلم، لتفاوتا تفاوتًا يمنع معرفة قدر النسبة بينهما، فله سبحانه الحمد كما يحب ويرضى.

عباد الله: بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر بالتوحيد والبراءة من الشرك، ولقد كان من أوائل ما نزل عليه من القرآن قول الله سبحانه: [FONT=&quot]}وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ[FONT=&quot]{[/FONT] [المدثر: 5]، قال ابن زيد في تفسير هذه الآية: الرُجِز: آلهتهم التي كانوا يعبدون، أمره أن يهجرها، فلا يأتيها ولا يقربها.[/FONT]

أمر الله نبيه أن يهجر الشركَ وأهلَه، ذاك أنه لا يمكن أن يجتمع الشركُ مع الإيمان؛ فإذا وقع هذا رُفع ذاك، وإذا وقع ذاك رُفع هذا، كما أن الليل والنهار لا يجتمعان فكذلك الشرك والإيمان.

دَعَى الرسول صلى الله عليه وسلم في مكةَ مدةً من الزمن، حتى اشتد أذى كفارِ قريشٍ له ولأصحابه، حتى إذا خَشِيَ الرسول صلى الله عليه وسلم من تزايد أذى الكفار على المسلمين أمر أصحابه أن يفروا بدينهم إلى أرض رجل لا يُظلم عنده أحدٌ، هاجر الصحابة من مكة إلى الحبشة فرارًا بدينهم؛ ليغادروا موضعَ الشركِ وأهله.

ثم أمر الله نبيه أن يهاجر بدينه من مكة إلى المدينة، حتى إذا قوي الإسلام بفتح مكة التي كانت فيما قبل دار كفر، فأصبحت بعد الفتح دار إيمان وإسلام، جعل الله فتح مكة فارقًا في الأجر [FONT=&quot]}لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا[FONT=&quot]{[/FONT] [الحديد: 10].[/FONT]

لقد جعل الله الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام أمرًا لازمًا لا شك فيه، فمن لم يهاجر فقد قال الله تعالى عنه: [FONT=&quot]}إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ[FONT=&quot]{[/FONT] [النساء: 97، 98]. ولقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنا بريءٌ من رجلٍ مسلمٍ يقيم بين أظهر المشركين»
[رواه الترمذي وأبو داود].
[/FONT]

عباد الله: لقد جاء دين الإسلام آمرًا أتباعه بالبعد عن كل ما فيه تقريب من الشرك، وجاء بالنهي عن كل ما فيه مشابهة للمشركين أو مماثلة لهم، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة يصلي إلى بيت المقدس، وهي قبلة اليهود، وكان صلى الله عليه وسلم يود لو استقبل الكعبة، فلما أمره الله باستقبال الكعبة مخالفةً لليهود، غضبت يهودُ عند ذلك، وقالوا: [FONT=&quot]}مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا[FONT=&quot]{[/FONT] [البقرة: 142].[/FONT]​
ولما كَثُرَ الناس بالمدينة، واهتم الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له: انصب رايةً عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه ذلك، فذكروا له القُنْعَ وهو شَبُّورُ اليهودِ، فلم يعجبه ذلك، وقال: هو من أمر اليهود، قال: فذكروا له الناقُوس فقال: هو من فعل النصارى، إلى أن أُري عبدُ الله بن زيد الأذانَ في منامه.
[رواه أبو داود وأصله في الصحيحين].

ولما جاء عمرو بن عَبَسة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره عن الصلاة، قال له: «صلِّ صلاة الصُّبح ثُمَّ اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار» ثم قال: «وصل العصر بعد الفيء، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار» [رواه مسلم]، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها؛ لأنه وقت يصلي فيه الكفار.

عبادَ الله: لقد قطع الإسلام مادة المشابهة للكفار من أصلها، ففي الصحيحين: «خالفوا المشركين، أحفُوا الشَّواربَ وأوْفُوا اللِّحى» وروى أبو داود عن شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا اليهودَ، فإنهم لا يصلون في نِعالهم ولا خِفَافِهم»، وروى مسلم في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، أكلةُ السَّحَرٍ»، وروى أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الدين ظاهرًا ما عجَّل الناس الفطرَ؛ لأن اليهود والنصارى يؤخِّرون»، ويقول أنس بن مالك [FONT=&quot]t كانت اليهود إذا حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله: [FONT=&quot]}[/FONT]وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ[FONT=&quot]{[/FONT] [البقرة: 222]، فقال صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدعَ من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. [رواه مسلم في صحيحه].[/FONT]

عباد الله: لقد جاءت أوامر الشريعة ناهيةً عن كل ما فيه مشابهة؛ حتى في أخصِ عبادات المسلمين ومعاملاتهم، أفيرضى عاقل بعد ذلك أن يوافق اليهود أو النصارى في أعيادهم وأكاذيبهم، لما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه جالسًا، وصلى خلفه الصحابة قيامًا أشار إليهم فقعدوا؛ فلما سلَّمُوا قال: «إن كدِتم آنفًا تفعلوا فعلَ فارسَ والرومَ، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم» [رواه الإمام مسلم].

ولما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وجد اليهود يصومون يومَ عاشوراء، فأمر الناس بصيامه، ثم قال: «صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود؛ صوموا يومًا قبله، أو يومًا بعده».
عباد الله: إن اليهود والنصارى لا يَقَرُّ لهم قرار؛ حتى يُفسدوا على الناس دينهم [FONT=&quot]}وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ[FONT=&quot]{[/FONT] [البقرة: 109]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ[FONT=&quot]{[/FONT]
[البقرة: 120].
[/FONT]

إن المسلمين – أيها الناس – أهدى الناسِ طريقًا، وأقومِهم سبيلاً، وأرشدِهم سلوكًا في هذه الحياة، وقد أقامهم الله تعالى مقامَ الشهادة على الأممِ كلِّها [FONT=&quot]}وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[FONT=&quot]{[/FONT]
[البقرة: 143]، فكيف يتناسبُ مع ذلك أن يكون المسلمون أتباعًا لغيرهم من كل ناعقٍ، يقلدونهم في عاداتهم، ويحاكونهم في أعيادهم وتقاليدهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نهى المسلمين جميعًا، أن يتلقوا عن أهل الكتاب، فعن جابر أن عمرَ بن الخطاب رضي اللهعنهما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه، فغضب رسول الله ثم قال: «أَوَ فِي شكٍ يا ابن الخطاب، لقد جئتكم بها بيضاءَ نقيَّة، لا تسألوهم عن شيء؛ فيخبرونكم بحق فتُكَذِّبُوا به، أو بباطلٍ فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني» [رواه أحمد وابن أبي شيبة].
[/FONT]

بارك الله لي، ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
من التشبه بأهل الكتاب

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربُّنا ويرضى، أحمده سبحانه وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاعلموا أيها الناس أن دين الإسلام، هو دين الكمال والتمسك به، هو العزُّ [FONT=&quot]}وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ[FONT=&quot]{[/FONT] [المنافقون: 8]، ومع أن الله سبحانه قد حذَّرنا سلوك سبيل المغضوب عليهم والضَّالِّين؛ إلا أن قضاءَه نافذ بما أخبر به رسوله بما جاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ؛ حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتموه»، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فَمَنْ»، وفي رواية في البخاري: «لا تقوم الساعةُ حتى تأخذَ أمتي مأخذَ القرونِ شبرًا بشبٍر، وذراعًا بذراع»، قيل: يا رسول الله، كفارسَ والرومَ، قال: «ومن الناس إلا أولئك»، ويقول ابن مسعود [FONT=&quot]t[/FONT]: أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سَمْتًا وهديًا، تتبعون عملهم حذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟[/FONT]​
عباد الله: ما مات الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وقد نهى عن كل ما يدعو إلى المشابهة والمماثلة، حتى إنه في مرضِ موته طفقَ يطرحُ خميصةً على وجهه من شِدَّةِ الألم، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، ثم قال: «لعنةُ اللهِ على اليهودٍِ والنصارى، اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك» [أخرجاه].

ولكن كم في بلاد الإسلام من قبور نصبت عليها المساجد والمشاهد، حتى عُبِدت من دون الله.

عباد الله: إن مشابهة أهل الكتاب ومشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم توجب عند المسلم نوعَ مودة لهم – ولا شك -، وإننا لنُدرك جميعًا، أن فئامًا ممن يتشبهون بالكفار في لباسهم أو سلوكهم أو عاداتهم، أو يتكلمون بلغتهم أنهم تميل نفوسهم على حبهم وتقديرهم والإعجاب بهم والفرح لفرحهم والحزن لحزنهم.

فإذا كانوا كذلك، فما المانعُ عند من هذه حاله، أن ترنَّ نواقيسُ الكنائسِ بجوار مآذن المساجد، وما المانع عند هؤلاء، أن تتعانق الأديان على أرض جزيرة العرب، ناسين أو متناسين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعُ في جزيرةِ العربِ دينانِ»
[رواه الإمام مالك].


[FONT=&quot]}وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً[FONT=&quot]{[/FONT]
[النساء: 89].
[/FONT]​
أيها الناس: إننا قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزةَ من غيره- أذلنا الله.
إن الله وملائكته يصلون على النبي...
* * *
 
الوضــوء

الحمد لله رب العالمين، أنزل من السماء ماءً ليطهركم به، أحمده سبحانه، يحب التوابين ويحب المتطهرين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، جعل من الماء كل شيء حيٍّ، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، سيدُ الأولين والآخرين، وقائدُ الغرِّ المحجَّلِين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم – أيها الناس – بتقوى الله سبحانه وتعالى، فنعمتُ بضاعةُ المؤمنِ التقوى، وهي وصيَّةُ الله للخلق أجمعين [FONT=&quot]}وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[FONT=&quot]{[/FONT]
[النساء: 131].
[/FONT]

عباد الله: نعم الله على عباده لا تُحصى، غير أن هناك نعمةً هي أعظم النِّعم على المسلمين قاطبةً، إنها نعمة الإسلام، دينُ الحنيفية ملةِ إبراهيمَ. الإسلامُ الذي هو الاستسلام لله تعالى، والانقيادُ له بالطاعة، والبراءةُ من الشركِ وأهله، وما مِن عبادة شرعها الله عز وجل، إلا وهي داخلة في الإيمان، يزيد الإيمان بفعلها، وينقص بتركها أو التهاون بها.

وإن من أوائل ما نزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم من التشريعات قوله تعالى: [FONT=&quot]}وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[FONT=&quot]{[/FONT] [المدثر: 4]، والمقصود من الطهارة هنا كما ذكر شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّةَ - رحمه الله - ثلاثة أنواع: الطهارة من الكفر والفسوق، فكما أن الكفار يوصفون بالنجاسة، فبعكسهم المؤمن [FONT=&quot]}[/FONT]إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ[FONT=&quot]{[/FONT] [التوبة: 28]، والطهارة من الحدث، والطهارة من النجاسات كلِّها.[/FONT]

ولقد امتازت أمةُ الإسلام عن غيرها من الأمم بالطهارة والنظافة، حتى أن الطهارة من الأحداث تعادل نصفَ الإيمان، يقول ابن مالك الأشعري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطَّهُور شَطْرُ الإيمان» [رواه مسلم].

عباد الله: الوضوءُ هو النظافة والطهارة، فإذا تَنَظَّفَ المُصَلِّي صار وضيئًا مشرقًا، مقبلاً على الله.
والوضوء فريضة لازمة على كل مسلم، يقول الله تعالى في سورة المائدة: [FONT=&quot]}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[FONT=&quot]{[/FONT] [المائدة: 6].[/FONT]

إن أعظمَ ما شرع له الوضوء هو الصلاة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يَقْبَلُ الله صلاةً بغيرِ طَهور» [رواه مسلم]، وروى البخاري ومسلم أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبلُ اللهُ صلاةَ أحدكم إذا أحدثَ حتى يتوضأ».

إنَّ من رحمة الله تعالى بكم – أيها الناس – أن شرع لكم من العبادات ما يكون سببًا لتكفير السيئات، وإن الإنسان لا يمكن أن يُصْدِرَ أيَّ عملٍ إلا من أحد أربعة مواضع: الوجهُ واليدانِ والرأسُ والرجلانِ، فحواس الإنسان تجتمع في هذه المواضع، وقد جاء الوضوء ليكون مُكَفِّرًا لكل ما يصدر من هذه الأعضاء، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة [FONT=&quot]t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ العبدُ المسلم – أو المؤمن – فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئةٍ نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب»، وروى مسلم أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره».[/FONT]

عباد الله: إذا جاء يوم القيامة، واختلطت الأمم امتازت أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالوضوء، فعن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة فكان يمد يده حتى يبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فَرُّوخ، أنتم هاهنا، لو علمت أنكم هاهنا ما توضأ هذا الوضوء، سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: «تبلغُ الحليةُ من المؤمن حيث يبلغُ الوضوءِ» [رواه مسلم]، وعن أبي الدرداء [FONT=&quot]t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من يُؤْذَنَ له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفعَ رأسَه، فأنظر إلى ما بين يدي، فأعرفُ أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثلُ ذلك، وعن يميني مثلُ ذلك، وعن شمالي مثلُ ذلك»، فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرف أمتك من بين الأمم، فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: «هم غُرٌّ مُحَجَّلُون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كُتُبَهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذُرِّيَتِهم» [رواه الإمام أحمد وأصله في الصحيحين].[/FONT]

عباد الله: الوضوء سبب لتكفير الذنوب والخطايا، عن عثمان بن عفان [FONT=&quot]t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امريءٍ مسلمٍ تحضره صلاةٌ مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهرَ كلَّه» [رواه مسلم].[/FONT]

الصلاة *****ُ الجنة، و*****ُ الصلاة الوضوءُ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «***** الجنة الصلاة، و***** الصلاة الوضوء» [رواه أحمد والترمذي].

بل إن الوضوء وحده - عباد الله – موجبٌ لانفتاح أبواب الجنة الثمانية يتخير أيها شاء، كما صح ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام مسلم.

عباد الله: الشيطان خلقه الله من نار، والنار إنما تُطفأ بالماء، ولأجل ذا شُرع الوضوء في المواضع التي يُشعلها الشيطان أو يَحضُرها، فالوضوء يُخمِد ثوران النفس، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا غضب أحدكم فليتوضأ» [رواه أحمد].

الإبل خلقت من شياطين، ألم تروا إلى ما يصاحب أصحابها من الخيلاء والأنفة والكبر، ولهذا أُمر المصلى أن يتوضأ من لحوم الإبل.
إن شأن الوضوء أعظم من ذلك، هو طارد للشيطان، مُنْهٍ لدابره، فإذا أراد النائم أن يرتاح في نومه؛ فعليه أن يتوضأ، يقول البراء بن عازب [FONT=&quot]t قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيتَ مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمتُ وجهي إليك...» الخ الدعاء [متفق عليه].[/FONT]

فإذا نام الإنسان على غير وضوء فإن نومه مجال للشيطان، يلعب فيه، ويشوش، فإن استيقظ النائم فبدأ بالوضوء، أفسد على الشيطان كل ما صنع، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاثَ عُقد إذا نام، بكل عقدة يضرب: عليك ليلٌ طويلٌ، فإذا استيقظ فذكر الله - عز وجل - انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدتان، فإن قام فصلى انحلت عُقده الثلاث، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» [متفق عليه]، ولا غرو – عباد الله – إن فرَّط النائم في هذه الأمور أن يبول الشيطان في أذنيه، ولما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن رجل نام حتى أصبح قال: «ذاك رجلٌ بالَ الشيطانُ في أذنيه».

عباد الله: الوضوء مشروع في مواضع كثيرة، فلا يَمس القرآنَ إلا طاهرٌ، ولا يطوف بالبيت محدٍِثٌ، وإذا كان الإنسان جُنُبًا؛ فأراد أن يأكل فيُسن له أن يتوضأ، تقول عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جُنُبًا فأراد أن يأكل، أو ينام توضأ وضوءَه للصلاة» [رواه مسلم]، وروى مسلم أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعودَ فليتوضأ».
العين حق، ومن عان أخاه فليتوضأ له، لما اغتسل سهل بن حنيف بالخرَّار، نزع جُبَّةً كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، وكان سَهل رجلاً أبيض حسن الجلد، فقال له عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد عذراء!! فما تعدى سهل مكانه حتى وُعِك ومَرِضَ، فأُخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «علامَ يقتل أحدكم أخاه؟ ألا برَّكْتَ عليه، إن العين حق، تَوضَّأْ له» فتوضأ له عامر، فقام سَهل ما به بأس. [رواه مالك في الموطأ].

فاتقوا الله عباد الله، وواظبوا على ما أمركم، تفوزوا وتفلحوا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
من الوضوء

الحمد لله الذي ميزنا على غيرنا بالطهور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل من الماء كل شيء حيٍّ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان دينه وسطًا بين الغُلُّوِ والتفريط، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واجعلوها لكم شعارًا ودِثَارًا.
عباد الله: إن حديثًا عن الوضوء لابد أن يشتمل على أربعة أمور:

أولها: أن من حافظ على هذا الوضوء في كل يوم وليلة؛ فإنه جدير أن يتصف بالإيمان، ومن هنا نعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ثوبان [FONT=&quot]رضي الله عنه، أنه قال: «استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يُحافظ على الوضوء إلا مؤمن» [رواه مالك وأحمد وابن ماجه والدارمي]، فما بالكم عباد الله بمن لا يحافظ على الصلاة، أترونه يحافظ على الوضوء؟!![/FONT]

ثاني الأمور – عباد الله –: أن الوضوء عبادة، وكل عبادة لابد أن تؤخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الوضوء، من نقص فيه عن صفة وضوءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخطأ، ومن زاد فقد تعدى. يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنه[FONT=&quot] وعن أبيه رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماءٍ بالطريق، تَعَجَّل قوم عند العصر، فتوضؤوا وهم عُجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يَمسها الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء» [رواه مسلم].[/FONT]

أيها الناس: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وغسيل أعضاءه مرةً مرةً، وتوضأ أخرى فغسلها مرتين مرتين، وتوضأ ثالثة فغسل أعضاءه ثلاثًا ثلاثًا، فمن زاد عن الثلاث فقد خالف السنة، وجاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء، وتعدَّى وظلم» [رواه النسائي وابن ماجة بأسانيد صحيحة].

وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن المغفل [FONT=&quot]t أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكونُ في أمتي قومٌ يَعْتدون في الطَّهور والدعاء».[/FONT]

ثالث الأمور – عباد الله -: أن هذا الوضوء الذي يتجدد على المرء في يومه وليلته، يذكرنا بنعمة عظمى منَّ الله بها على عباده، وهي نعمة الماء الطهور [FONT=&quot]}وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا[FONT=&quot]{[/FONT]
[الفرقان: 48]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [الأنبياء: 30]، أنزل الماء ليكون رِيًّا للظمآن، وإنباتًا للزرع، وإدرارًا للضرع، وتطهيرًا للأبدان وجمالاً للمنظر، ألم تروا أن البلدَ إذا أجدب من المطر والغيث؛ ذهب عنه نوره وبهاؤه.
[/FONT]

وإن الوضوء لم يكن ولن يكون أبدًا من أبواب الإسراف في الماء، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمُدِّ، ويغتسل بالصاع، وكان أوفر الناس شعرًا، فما أدري الآن ما منزلة الصاع من وضوء أحدكم؛ فكيف بغسله.

يقال في الحكمة: من وَهَنِ علمِ الرجلِ وُلُوعه بالماء في الطهور، وجاء في حديث – في سنده ضعف – أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على سعد وهو يتوضأ، فقال: «ما هذا السرف يا سعد»، قال: أفي الوضوء سَرَفٌ يا رسول الله؟ قال: «نعم، وإن كنتَ على نهرٍ جارٍ»
[رواه أحمد وابن ماجه].


عباد الله: خير ما يقال في هذا المقام: ما عرف قدرَ الماءِ من أسرف في الماء.

رابع الأمور المتعلقة بالوضوء: أنه كما أن الوضوء يُطرد به الشيطان، فإن الوضوء مرتع خصب يجول الشيطان من خلاله على قلوب بني آدم، يقول إبراهيم بن أدهم: يقال: إن أول ما يبتدئ الوسواس من قبل الطهور. ويقول الحسن البصري: إن شيطانًا يضحك بالناس في الوضوء، يقال له: الولهان.

فترى أحدهم إذا جاء للوضوء لعب به الشيطان، فجعل يخلط عليه نيته، يقول: ارفع الحدث، لا بل استعد للصلاة، لا بل أتطهر، إلى غير ذلك من ألفاظ يلبس بها الشيطان على أهل الوضوء، بل ربما فات الإنسان وقت الصلاة، وهو لا يزال في معركة وضوءه، يتوضأ أحدهم بما يعادل القُلَّتين من الماء، ولا زال في نفسه: أَبَلَغَ الماء إلى جميع مواضع الوضوء، أم لا؟!!. ويؤثر أن أحد الْمُبتلين رأى أبا الوفاء ابن عقيل يتوضأ، فتعجب من قِلة استعماله الماءَ، ثم قال: إني لأنغمس في النهر، ثم أخرج منه، وأشك: هل صَحَّ وضوئي أم لا؟ فقال له ابن عقيل: لقد سقطت عنك الصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «رفع القلم عن ثلاثة: » وذكر منهم: «المجنون حتى يفيق»، وأنت هو، [FONT=&quot]}قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ[FONT=&quot]{[/FONT] السورة [الناس: 1-3].[/FONT]​
اللهم صلِّ على مُعلم الناس الخيرَ: محمد صلى الله عليه وسلم وارض اللهم عن أصحابه أجمعين...
* * *
 
الصلاة: أهميتها وجزاء تاركها



الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا غله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.



أما بعد:



فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإنها خير وصية أوصى بها رجلٌ أخاه، [FONT=&quot]}وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[FONT=&quot]{[/FONT] [النساء: 131]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[FONT=&quot]{[/FONT]
[الطلاق: 2، 3].
[/FONT]



عبادَ الله: يقول الله سبحانه: [FONT=&quot]}وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ[FONT=&quot]{[/FONT] [البقرة: 45]، إن أعظمَ أركان الإسلام بعد تحقيق التوحيد هي الصلاة، هي عمود الدين، هي شعار الموحدين، هي الفاصلة بين الإسلام والكفر.[/FONT]



عباد الله: ما بلغت الصلاة هذه المكانة إلا لما امتازت به على سائر الأعمال، فلقد خص الله سبحانه الصلاة بأمور ليست موجودة في غيرها من العبادات:



فمن ذلك عباد الله أنها فرضت في السماء السابعة، ومن الله مباشرة بدون واسطة جبريل، وذلك ليلة الإسراء والمعراج، أما غيرها من العبادات فكان جبريل واسطة بين الله سبحانه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم.



الصلاة – أيها الأخوة – يؤمر بها كل مسلم بلغ سبعَ سنين، ولا تسقط عن البالغ سفرًا ولا مرضًا، ولا تجب على أحدٍ دون أحدٍ، أما غيرها من العبادات فلا تجب على كل مسلم، فالصوم لا يجب إلا على القادر، والزكاة لا تجب إلا على من عنده مال وبلغ نصابًا، والحج لا يجب إلا على المستطيع.



عباد الله: من خصائص الصلاة: أنها هي آخر ما يُرفع من الدين كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.



الصلاة هي أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أول ما يُحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن صلحت صَلُح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» [رواه أحمد وأبو داود وغيرهما بأسانيد صحيحة].



اختصَّت الصلاة – عباد الله – بأن من تَعَمَّدَ تركها فإنه يَكفر – على الصحيح من أقوال أهل العلم – ولو كان تركًا من غير جحود، أما العبادات غيرها فلابد في الكفر من الجحود، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، من تركها فقد كفر».


ويقول عبد الله بن شقيق: ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غيرَ الصلاة.

من خصائص الصلاة – عباد الله – أنها عبادة الأنبياء، يقول الله عن زكريا [FONT=&quot]}فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ[FONT=&quot]{[/FONT]
[آل عمران: 39]، ويقول الله سبحانه: [FONT=&quot]}[/FONT]وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا[FONT=&quot]{[/FONT] [مريم: 54، 55].
[/FONT]



روى البخاري في صحيحه: عن أبي هريرة [FONT=&quot]رضي الله عنه في قصة كَذِبَات إبراهيم [FONT=&quot]عليه السلام[/FONT] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وبينما إبراهيم ذات يوم ومعه سارَّة، إذ أتى على أرض جبَّارٍ من الجبابرة، فقيل له: إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال إبراهيم: هذه أختي، فأتى سارَّة وقال: يا سارَّة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك؛ وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني، فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب الجبَّار يتناولها بيده، فأُخِذَ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأُطْلِق، ثم تناولها الثانية فأُخِذ مثلها أو أشد، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت فأُطْلِق، فدعا بعض حَجَبَتِهِ فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان؛ إنما أتيتموني بشيطان، فأَخْدَمَهَا هاجر، فأتت إبراهيم وهو قائم يصلي، فأومأ بيده: مَهْيَم؟ قالت: ردَّ الله كيد الكافر في نحره وأخدم هاجر».[/FONT]



عباد الله: إن من فضائل الصلاة أنها هي قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمد والنسائي عن أنس [FONT=&quot]t أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حُبِّبَ إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجُعِلت قُرَّةُ عيني في الصلاة».[/FONT]


أيها الناس: إنَّ أمرًا هذا صفته، وعبادة هذه فضائلها؛ جديرةٌ أن تكون حلاًّ لكثير من المشاكل ومَفْزَعًا في كثير من الْمُلِّمات، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: «أرحنا بالصلاة يا بلال».



ما من مشكلة إلا والصلاة حل لها.



* إذا أجدبت الأرض وقحط المطر، ونشف الضرع؛ أُمرنا أن نفزع إلى الصلاة.

* إذا تغير مجرى الكون، واختلَّ نظامه، فذهب نور الشمس، وأظلم القمر؛ أُمرنا أن نفزع إلى الصلاة، ففي البخاري ومسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتموها؛ فادعوا الله وصلوا».



* إذا مات المسلم وغادر هذه الحياة، وابتدأ حياةً جديدة أُمرنا أن نودِّعه بالصلاة.



* إذا اضطربت أمور المؤمن، وضاق عليه أمره؛ فلا يدري أيذهب أم يعود، أيفعل أم يترك؛ أُمرنا أن نلجأ إلى الصلاة، ففي البخاري عن جابر [FONT=&quot]رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: «إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك..» الدعاء المعروف.[/FONT]



* إذا نام الإنسان فَفَزَعَ في نومه، وأقلقته أحلام الشيطان أُمر أن يلجأ إلى الصلاة، ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: «إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فلا يُحَدِّث بها أحدًا وليقُم فليُصلِّ»، وفي البخاري عن عبادة مرفوعًا: «من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، والحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قُبِلت صلاته».


* إذا قدم الإنسان من سفر، وألقى رحاله، أُمر أن يبدأ بالصلاة، في البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين. وفي البخاري: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما اشترى جمل جابر، وهما في سفر، أمره إذا وصل المدينة أن يبدأ بالصلاة.



* إذا عصى المؤمن ربه، وأخطأ في حق مولاه؛ فأذنب ذنبًا، ثم ندم على فعل؛ أمرنا أن نلجأ إلى الصلاة، روى الترمذي وأبو داود وابن ماجة – بإسناد صحيح – عن أبي بكر [FONT=&quot]رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يُذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له»، ثم قرأ: [FONT=&quot]}[/FONT]وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[FONT=&quot]{[/FONT]
[آل عمران: 135].
[/FONT]



* إذا تعرض المؤمن للقتل من الكفار، يريدون بذلك صدَّه عن دينه، سن له أن يركع ركعتين، ففي البخاري: أن كفار قريش لما اشتروا خُبيب بن عدي ممن أسروه، ثم لما أرادوا قتله، وخرجوا به إلى الحل، قال لهم خُبيب: ذروني أركع ركعتين، فتركوه فركع ركعتين، ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع لطوَّلتهما، اللهم أحصهم عددًا، ثم قال:



ولست أبالي حين أقتل مسلمًا






على أي جنب كان في الله مصرعي


وذلك في ذات الإله وإن يشأ






يبارك على أشلاء شلوٍ ممزع









فقتله ابن الحارث، يقول راوي الحديث: فكان خُبيب هو من سَنَّ الركعتين لكل امرئٍ مسلمٍ قُتِلَ صبرًا.

عباد الله: أيستبيح مسلم لنفسه – بعد أن عرف أهمية الصلاة وفضلها – أن يتركها أو يتهاون بها، ألا فليبشر فاعل ذلك – إن لم يتب – بالعذاب يوم القيامة.

بارك الله لي ولكم فيما نقول ونسمع، وجعلنا هُداة مهتدين. وصلى الله على محمد.



الخطبة الثانية

من الصــلاة


الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، أحمده واشكره، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.



أما بعد:



فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى.



عباد الله: إن الإنسان لا يكون مقيمًا للصلاة بتأديته لها؛ وكأنه يُلقي حِمْلاً ثقيلاً عن ظهره، إن إقامة الصلاة التي أُمر الناس بها هي المحافظة عليها وأداؤها تامةً كاملة بأركانها وواجباتها، وأن تكون الصلاة زاجرةً للمرء عن المعاصي: [FONT=&quot]}إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ[FONT=&quot]{[/FONT] [العنكبوت: 45]، ولهذا قال عمر بن الخطاب [FONT=&quot]t[/FONT] من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.[/FONT]



عباد الله: إن من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي. ومن فُحش الذنوب: تأخير الصلاة عن وقتها، أو النوم عنها وتجاهل أمرها، أيرضى عاقل أن يضيع دينه بإضاعته للصلاة. إن المؤمن اللبيب هو الذي يجعل أوقات الصلوات الخمس مبدأ لتنظيم حياته، لا أن يجعل أوقاته طاغية على وقت الصلاة.



روى البخاري في صحيحه عن سَمُرة بن جندب [FONT=&quot]رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة: «إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق؟ وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخرُ قائمٌ عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة على رأسه فيَثْلَغُ رأسه ، فيتهدده الحجر ها هنا. فيتبع الحجرَ فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يُصبح رأسه كما كان، ثم يعود إليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله!! ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أنواعًا من أقوام يعذبون، ثم لما انتهيا قال لهما الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد رأي منذ الليلة عجبًا، فما هذا الذي رأيت؟ قال: فقالا لي: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يُثْلَغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن ويرفضه، والرجل ينام عن الصلاة المكتوبة».[/FONT]

أيها الناس: إن صلاة الفجر لتشتكي من هُجران الناس لها، ألا فليتق الله امرؤٌ خاف عذاب الله، ألا فليتق الله امرؤ يخاف على أولاده، وأهل بيته من النار، ألا فليتق الله امرؤ عاقل عرف مصلحة نفسه.



أيرضى عاقل أن تدركه الصلاة المكتوبة فلا يؤديها إلا بعد خروج وقتها، أما أمور الدنيا فالناس في تسابق إليها.

عباد الله: الصلاة شعار الأعمال، فمن حافظ على الصلاة فحري به أن يحافظ على سائر الأعمال، ومن ضيَّع الصلاة فما سواها من الأعمال أشد تضييعًا.

عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي...



إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.



اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا أرحم الراحمين، اللهم انصر المسلمين المستضعفين في كل مكان يا قوي يا عزيز، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.



عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربة وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.




* * *
 
بسم الله الرحمن الرحيم
توحيد الأسماء والصفات

الحمد لله عالم السر والنجوى، والمطلع على الضمائر وكل ما يخفى، يعلمن خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده سبحانه، وعد المخلصين الدرجات العلىـ، وحذر المشركين به نارًا تلظَّى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، المتفردُ بالكمال في ذاته وأسمائه وصفاته [FONT=&quot]}لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[FONT=&quot]{[/FONT] [الشورى: 11]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكملُ الخلق توحيدًا وأبرُهم عملاً وأتقاهم لله رب العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.[/FONT]


أما بعد:

فاتقوا الله تعالى أيها الناسُ وأطيعوه وأخلصوا له العبادةَ ووحدوه، واعلموا أن أفضلَ ما وعظَ به الواعظون وذكَّر به المذكِّرون معرفة الله تعالى بأنه ربُّ العالمين الرحمنُ الرحيم المالكُ المتصرفُ ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وأن جميعَ الكون وكلَّ ما فيه خَلْقُه ومُلْكه وعبيده وتحتَ ربوبيَّته وتصرُّفه وقهره.

عباد الله: لقد أخبر صلى الله عليه وسلم - وخبرهُ صدقٌ – عن افتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقةً كلهم ضُلَّالٌ إلا فرقةٌ واحدة هي التي وافقت هديَ الكتابِ والسنة وسارت على نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم ونهج أصحابه من بعده، وإن هذا الافتراقَ شاملٌ لكل أمور الدين والعبادة، ولكن إطلاقه يبادرُ إلى ذهن قائله وسامعه التفرقَ في باب التوحيدِ والاعتقادِ، فأهلً الزيغ والضلال في باب الاعتقاد طوائفُ شتى وفرقٌ عديدة كل فرقةٍ فرحة بما عندها.

أما أهلُ السنة والجماعة الذين ساروا على النهج، فإنهم على خط مستقيم في هذا الأمر، بل وفي جميع أمورهم، ولكن في باب العقيدة والتوحيد يخصونه بمزيد اهتمام ومزيد عناية؛ لأن الضلالَ فيه ضلالٌ كبير ليس كالضلال في غيره، والخطأ فيه عظيمٌ، الخطأ في العقيدة ليس كالخطأ فيما دونها؛ لأن من أخطأ في التوحيد والاعتقاد يٌخشى عليه من الكفرِ والانحراف الشديد والضلالِ البعيد.

عباد الله: الله سبحانه هو المستحقُّ للعبادة دون ما سواه، والجن والإنس ما خُلقوا إلا لعبادته سبحانه، والعبادةُ هي منتهى الذُّلِّ مع منتهى المحبة، فهي حقيقةٌ جامعة لما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال القلبية والحسيَّة البدنية الظاهرة والباطنة.

عباد الله: التوحيد ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا القسم الثالث لابد للموحِّد منه، فمنزلته في الدين عاليةٌ وأهميته عظيمة، ولا يُمكن لأحدٍ أن يعبدَ الله على الوجه الأكمل حتى يكونَ على علم بأسماء الله وصفاته، ليعبدَه على بصيرة.

توحيد الأسماء والصفات زلَّت فيه أقدام، وضلَّت فيه أفهام، وتحيَّرتْ فيه عقولٌ، ولكن الله هدى مَنْ شاء من عباده إلى توحيده بأسمائه وصفاته حين ساروا على منهج القرآن والسنة.

فمما ينبغي أن يعلَمه كلُّ موحدٍ في هذا الباب أن الله سبحانه سمَّى نفسه بأسماءَ وسمَّاه رسوله بها، ونفى عن نفسه أسماءَ ونفاها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيجب علينا أن نُثبت ما أثبته وأن ننفي ما نفاه.

ومما ينبغي أن نعرفَه أن كلَّ أسماءِ الله وصفاته حُسنى لا نقصَ فيها، بل إنها بلغت في الحسن غايتَه، وفي الكمال منتهاه، وفي الجمالِ أقصاه وأعلاه، [FONT=&quot]}وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[FONT=&quot]{[/FONT] [الأعراف: 180]، فالعليم اسم لله تعالى، وقد اقتضى العلمَ الكاملَ الذي لم يُسبق بجهل ولا يَلحقه نسيان [FONT=&quot]}[/FONT]قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى[FONT=&quot]{[/FONT] [طه: 52]، العلمُ الواسعُ المحيط بكل شيء [FONT=&quot]}[/FONT]وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[FONT=&quot]{[/FONT] [الأنعام: 59]، [FONT=&quot]}[/FONT]يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[FONT=&quot]{[/FONT] [التغابن: 4].[/FONT]

عباد الله: إن مما ينبغي أن يُعلم علمَ يقين لا شك فيه أن أسماء الله وصفاته مجالُها مقصورٌ على الكتاب والسنة، فليس لأحد أن يصفَ الله بصفة لم تَرِدْ عنه ولا عن رسوله، بل يجب الوقوف على ما في الكتاب والسنة لا يُزاد فيه ولا يُنقص؛ لأن العقل لا يُمكنه إدراكُ ما يستحقه تعالى من الأسماء، [FONT=&quot]}وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الإسراء: 36]. وأكثرُ من زلَّت أقدامهم في هذا الباب أربابُ البيان والأدب حينما انساقوا خلفَ فلسفتهم وبلاغاتهم.[/FONT]

أيها الأخوة: إذا ما أثبت الإنسان هذا، فليعلمْ أن أسماءَ الله لا عددَ لها ولا حصر، يقول صلى الله عليه وسلم: «أسألُك بكل اسمٍ هو لك، سمَّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في عِلم الغيب عندك» رواه أحمد وابن حبان والحاكم. فما استأثر الله بعلمه لا يستطيعُ أحدٌ معرفته.

فإذا ما أثبت المسلم هذه الأمور لله سبحانه فلا يَجوز له الميلُ عنها ولا الإلحادُ فيها، يقول الله سبحانه: [FONT=&quot]}وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [الأعراف: 180]، فالله سبحانه أوضح في هذه الآية أربعةَ أمور: أن له أسماءَ، وأنها حُسنى، وأمرنا أن ندعوه ونتعبده بها، ونهانا عن الإلحاد فيها. والإلحادُ عباد الله في أسماء الله: هو الميل بها عما دلَّت عليه بتحريفِها وتأويلِها إلى ما تحتمله، كما تَفعله كثيرٌ من فرق الضلال. والله سبحانه يقول: [FONT=&quot]}[/FONT]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[FONT=&quot]{[/FONT] [الشورى: 11]، [FONT=&quot]}[/FONT]فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [النحل: 74]. فلا نَتَدخل بعقولنا، ولا نُؤوِل بأفهامنا ومداركنا ولا نحكم على الله سبحانه وتعالى، لا نُمثله بخلقه، ولا نُكيف صفته، كما أننا لا نُعطلها عن معناها، ولا نُسميه بما لم يُسمِّ به نفسه كما فعلت النصارى، ولا نشتق من أسمائه أسماء للأصنام كما فعلت قريش حين اشتقت العُزَّى من العزيز.[/FONT]

هذا هو الإلحاد الذي نهانا الله عنه في أسمائه وصفاته: [FONT=&quot]}الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[FONT=&quot]{[/FONT] [طه: 5-8].[/FONT]

هذه عباد الله مُجمل الاعتقاد في أسماء الله وصفاته، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول قولي هذا. وأستغفر الله.

* *
الخطبة الثانية
من توحيد الأسماء والصفات

الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وما كان معه من إله، لا إله إلا هو، ولا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة [FONT=&quot]}ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[FONT=&quot]{[/FONT] [الحج: 62]. أحمده سبحانه، وأشكره وأثني عليه، وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه.[/FONT]

أما بعد:

فإن الناس يَتفاضلون في أمور الدنيا حسبَ معرفتهم لها، وكذلك التفاضلُ الحقيقي إنما يكون بحسب معرفة الله تعالى ومحبته، ومعرفة الله بأسمائه وصفاته هي جِماع السعادة في الدنيا والآخرة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أصلُ التفاضل بين الناس إنما هو بمعرفة الله ومحبته، وإذا كانوا يتفاضلون فيما يعرفونه من المعروفات، فتفاضلهم في معرفة الله وصفاته والتصديق به أعظم، بل إن كانوا يتفاضلون في معرفة أي شيء من أمور الدنيا أو أمورِ الآخرة، فتفاضلهم في معرفة الله تعالى أعظمُ وأعظم، إن كل ما يُعلم ويُقال يدخل في معرفة الله تعالى، إذ لا موجود إلا وهو خَلَقه، وكل ما في المخلوقات من الصفات والأسماء والأقدار شواهدٌ ودلائلٌ على ما لله سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العُلى، وكل كمال في المخلوقات من أثر كماله، وكل كمال ثبتَ لمخلوق فالله أحق به، وكل نقص تَنزه عنه مخلوقٌ فالخالق أحق بتنزيهه عنه، لقد ثبت في الحديث الشريف: أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده، وأسماءُ الله متضمنةٌ لصفاته، وليست أسماءً محضةً، وإذا كان من أسمائه ما اختُصَّ هو بمعرفته، ومن أسمائه ما خص به مَنْ شاء من عباده، عُلم أن تفاضلَ الناس في معرفته أعظمُ من تفاضلهم في معرفة كل ما يعرفونه.اهـ.

عباد الله: جاء في «صحيح البخاري» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تسعةً وتسعين اسمًا مائةً إلا واحدًا، من أحصاها دخلَ الجنة». وهذا الحديث لا يحدد عددًا، ولكنه يُنبه الناس إلى أمر مُهم؛ وهو أن إحصاءَها هو معرفة لفظها ومعناها، وأن يُتعبدَ الله بما دلت عليه وما تقتضيه، فإن مما يُعين على العبادة معرفة أسماء الله وصفاته.

فمن أسمائه: [FONT=&quot]}الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[FONT=&quot]{[/FONT]، فكل ما نحن فيه من نعمة فهو من آثار رحمته تعالى، [FONT=&quot]}[/FONT]وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[FONT=&quot]{[/FONT]
[القصص: 73]. فهل استشعر المؤمنُ هذه المعاني عند سماعه لهذا الاسم؟
[/FONT]​
ومن أسمائه: [FONT=&quot]}الْعَلِيمُ[FONT=&quot]{[/FONT]، الذي أحاط علمه بكل شيءٍ من ماضٍٍ وآتٍٍ وظاهرٍ وكامنٍ ومتحركٍ وساكنٍ وجليلٍ وحقيرٍ، فهل استشعر هذا المعنى من أقدم على معصية الله سبحانه؟[/FONT]​


ومن أسمائه: [FONT=&quot]}السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[FONT=&quot]{[/FONT]، يسمع كل شيء، ويرى كل شيء، ولا يخفى عليه دبيبُ نملة سوداءَ في ليلة مظلمة تسير على صخرة صماءَ، إن جَهرتَ بقولك سمعه، وإن أسررتَ به لصاحبك سمعه، وإن أخفيته في نفسك سمعه، بل إنه سبحانه يعلم ما توسوس به نفسك وإن لم تنطق به.[/FONT]

[FONT=&quot]}هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[FONT=&quot]{[/FONT] [الحديد: 3]، لا تخفى عليه خافية، حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم.[/FONT]

عباد الله: معرفة الله بأسمائه وصفاته هي أساسُ الإيمان به والتصديق برسله وما أُرسلوا به.

معرفة الله بأسمائه وصفاته تُورث السكينة والرضا، وتُبعد العبد عن السخط والغضب.

العارف بالله من أطيب الناس عيشًا، معرفة الله تورث معيته سبحانه، معرفة الله بأسمائه وصفاته سراجٌ ينير الطريق [FONT=&quot]}الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ[FONT=&quot]{[/FONT] [الشعراء: 78-82]، [FONT=&quot]}[/FONT]إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[FONT=&quot]{[/FONT] [التوبة: 40].[/FONT]

من عرف الله خافه وحَذِرَ من بطشه، ومن عرف الله علم بقُرب نصره لعباده وانتقامه من الظالم «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته».

[FONT=&quot]}هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[FONT=&quot]{[/FONT] [الحشر: 22-24].[/FONT]

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
* * *
 
الغُسل من الجنابة



الحمد لله الذي جعل العلم وأهله في أعلى الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يستحي من الحق، سبحانه وبحمده، لا أُحصي ثناءً عليه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المعلمُ الناصح والمرشد لأمته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، الذين كانوا مشعل خير للأمة جمعاء، رضي الله عنهم وأرضاهم.



أما بعد:



فاعلموا أيها الناس أن التقوى مِفتاح كل خير، والعلم عباد الله خيرُ صفة يتصف بها المسلم، و***** العلم التقوى [FONT=&quot]}وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ[FONT=&quot]{[/FONT] [البقرة: 282].[/FONT]



أيها الناس: الحياءُ صفة عالية، وخِصلة رفيعةٌ؛ تدعوا إلى ترك القبيح وفعل المحمود، والحياء خير كله، ولا يأتي الحياء إلا بخير.



إلا أن الحياء قسمان: قسمٌ محمود، وهو الحياء الشرعي الذي جاء الحث عليه والأمرُ بالتحلي به.



وحياء مذموم، وهو الحياء اللغوي، الذي هو المانع من قولِ الحق، والمانعُ من تعلُّم العلم حياءً من الناس.



جاءت أم سليم رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله فقالت: إن الله لا يستحيي من الحق، وقال مجاهد: لا يَتعلم العلمَ مُستحٍ ولا مُستكبر.



عباد الله: إن الواجبَ على الناس جميعًا أن يتعلموا، وألا يكون الحياءَ مانعًا لهم عن التعلم أو السؤال، وأولى ما يتعلمه المرءُ أن يتعلم كيف يَعبد ربه، إذ هذا هو العلمُ الذي يعودُ نفعه إلى الإنسان، فبه يُقيم شعائر دينه على منهاج الهدي النبوي.



ولقد كان الناسُ – ولا زالوا – يخجلون من التحدُّث عن أمور من العبادات هي من أخصِ أمورهم، وإذا كان المتعلم يسكت حياءً والناس لا يسألون، فمتى يتعلم الجاهلُ؟



عباد الله: عبادة من العبادات يحتاج إليها كل مسلم ومسلمة، عبادة خَفية غير ظاهرة للناس، أُمِرَ فاعلها بالتستر عن الملأ حال فعلها، عبادةٌ مُشتقة من النظافة بل هي النظافة بعينها.



أعظمُ ما في هذه العبادة أنها أمانةٌ ائتُمن الله عليها الناس، روى أبو الدرداء رضي الله عنه [FONT=&quot] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمسٌ من جاء بهن مع إيمانٍ دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوءهن وركوعهن وسجودهن، ومواقيتهن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، وأعطى الزكاة طيبةً بها نفسه، وأدَّى الأمانة».[/FONT]



قالوا: يا أبا الدرداء، وما أداءُ الأمانة؟ قال: الغُسلُ من الجنابة. رواه أبو داود، وفي رواية للطبراني يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يَأمن بني آدم على شيءً من دينه غيرها». [قال الهيثمي في «مجمع الزوائد»: إسناده جيد].



عباد الله: الغُسل من الجنابة شعيرةٌ عظيمة، وعبادة جليلة، ما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم فيه شيئًا إلا وبيَّنه، فكما أن المُحدث حدثًا أصغرَ لا تُباح له الصلاة إلا بالوضوء، فكذلك من أصابه حدثٌ أكبرَ لا يُتاح له الصلاة وغيرها من العبادات إلا بعد الغسل.


* إذا مسَّ الختانُ الختانَ فقد وجبَ الغُسل. روى مسلم في «صحيحه» عن أبي موسى [FONT=&quot]رضي الله عنه أن المهاجرين والأنصار اختلفوا فيما يُوجب الغسل، فقال أبو موسى: أنا أشفيكم من ذلك، قال: فقمت فاستأذنت على عائشة فأُذِنَ لي فقلت لها: يا أمَّ المؤمنين: إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك؟ فقالت: لا تستحي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمَّك التي ولدتك، فإنما أنا أمُّك، قلت: فما يُوجب الغُسل؟ قالت: على الخبير سقطتَ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جلس بين شعبها الأربع وجاوزا الختانُ الختانَ، فقد وجبَ الغسلُ».[/FONT]



وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة جالسةً عنده فقال: يا رسول الله، الرجل يُجامع أهله ثم يَكْسُل ولا يُنزِلُ هل عليهما الغُسلُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نَغتسل» رواه مسلم.



أما إذا كان الخارج مَذيًا، فلا يجب الغسل، وإنما الواجب الوضوء، يقول علي [FONT=&quot]رضي الله عنه في الحديث الصحيح: كنت رجلاً مَذَّاءً فاستحييتُ أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فأمرتُ المقداد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اغسل ذكرك وتوضأ».[/FONT]



عباد الله: الإنسان ذكرًا كان أو أنثى – متى يستيقظ من نومه فيجد في ثوبه بَللاً فيجب عليه الغسل، جاءت أم سُليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غُسل إذا هي احتملت؟ قال: «نعم، إذا رأت الماءَ»، فغطَّت أم سلمة وجهها وقالت: فضحكت النساءُ، أو تحتلمُ المرأة؟ فقال رسول الله: «تَرِبتَ يداك فبم يُشبهها الولد» رواه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم.



أيها الناس: الغُسل من الجنابة عبادة، وكل عبادةٍ ليست على وفق هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي غيرُ صالحة، تقول عائشة رضي الله عنها في الحديث المتفق عليه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثًا وتوضأ وضوءَه للصلاة، ثم يُخلل شعره بيديه حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته،أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده».



هذه – عباد الله – صفة الغسل الكامل التي وردت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.



ويجزئ الإنسان من ذلك أن يَعُمَّ جميعَ بدنه الماء، ولا يترك منه شيئًا.

ومما يجب على المغتسل: أن يتمضمضَ ويستنشقَ حال غسله كما نصت عليه كثير من الأحاديث، وكما هو الراجح من أقوال أهل العلم.



والواجبُ على المغتسل أن يعم شعره بالماء حتى إذا ظن أنه قد أصاب جميعه انتقل إلى ما بعده من الأعضاء كما ورد بذلك الحديث.



عباد الله: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغتسل بدأ فغسل كفيه ثلاثًا». رواه البخاري ومسلم. وكان يتوضأ قبل غُسله ليكون تشريفًا لأعضاء الوضوء أن يبدأ بها.



إخوة الإسلام: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عُراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان نبي الله موسى يغتسل وحده، والمسلم مأمور بالستر والخفاء حالَ ظهور عورته. روى أبو داود والنسائي عن يعلى بن شداد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يغتسل بالبراز، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن الله حييٌ سِتِّيرٌ يُحب الحياءَ والستر، فإذا اغتسلَ أحدكم فليستترْ». وتقول أم هانئ رضي الله عنها:« ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمةُ ابنته تَسترهُ بثوب». رواه مسلم.



وقال أحد الصحابة: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذرُ، قال: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك». قلت: يا رسول الله، أحدنا إذا كان خاليًا؟ قال: «الله أحقُّ أن يُستحيي منه من الناس» رواه أصحاب السنن، وحسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم.



ولقد كان صلى الله عليه وسلم يغتسل هو وزوجته جميعًا من إناءٍ واحد. تقول عائشة رضي الله عنها: «كنت أغتسلُ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحدٍ، تختلف أيدينا فيه، فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي» رواه البخاري ومسلم.



عباد الله: الجُنُبُ كغيره من الناس، لا يَحرم عليه إلا ما ورد الدليل بتحريمه، ومن ذلك: قراءة القرآن، إذ يقول علي [FONT=&quot]رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جُنُبًا» رواه الترمذي والنسائي.[/FONT]



وإذا أراد الجنبُ أن ينام أو يأكل فعليه أن يتوضأ، كما أرشد إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقول عائشة رضي الله عنها: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جُنُبًا وأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءَه للصلاة» رواه مسلم.



وإذا كان الإنسان جنبًا فلا عليه أن يخالطَ الناس ويحادثهم، يقول أبو هريرة [FONT=&quot]رضي الله عنه: « لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جُنُبٌ فأخذ بيدي فمشيتُ معه حتى قعد، فانسللت منه، فأتيت الرَّحْلَ فاغتسلت، ثم جئتُ وهو قاعد، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ فقلت: كنت جُنُبًا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة. فقال صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله، إن المؤمن لا يَنْجُسُ» رواه البخاري.[/FONT]



وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:« ربما اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنابة ثم جاء فاستدفَأَ بي فضممته إليَّ وأنا لم أغتسل» رواه الترمذي وابن ماجه.



عباد الله: كان الناس في حرجٍ شديدٍ ومشقةٍ بالغةٍ حتى نزل قول الله سبحانه: [FONT=&quot]}رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[FONT=&quot]{[/FONT]
[البقرة: 286]. وإن الغُسل من الجنابة من تلك الأمور الخفيَّة التي كثيرًا ما ينساها الناس؛ روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «أُقِيمت الصلاةُ وعُدِّلت الصفوفُ قيامًا، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مُصلاه ذكر أنه جُنُبٌ فقال لنا: مكانكم، فرجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسُه يَقطُر فكبرَ فصلينا معه».
[/FONT]



وروى مالك في« الموطأ » أن عمر بن الخطاب [FONT=&quot]t صلى بالناس الصُّبح، ثم غدا إلى أرضه بالجُرف فوجد في ثوبه احتلامًا فقال: إنا لما أصبنا الوَدَك لانت العروق، فاغتسل وغَسَلَ الاحتلام من ثوبه وأعاد صلاته.[/FONT]



بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيها من العلم والحكمة. أقول قولي هذا وأستغفر الله.



* *


الخطبة الثانية

من الغُسل من الجنابة




الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ما ترك شيئًا إلا دلتا عليه، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.



أما بعد:



فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الحديث عن الغسل لابد أن يَتطرقَ فيه إلى أمرين:



الأول: أن الغُسل عبادة، وكل عبادة لابدَّ فيها من نيَّة «إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى»، فإذا أراد الإنسان أن يغتسل فلابد أن ينوي بغسله رفعَ الحدث الأكبر إذا كان على جنابة، أو رفعَ الحدث الأصغر إذا كان محدثًا. فمن اغتسل غُسلاً مُباحًا كغسل النظافة والتَّبَرُّدِ ولم ينوِ رفع الحدث في ابتداء غُسله ثم أراد الصلاة فلابد أن يتوضأ.



الأمر الثاني عباد الله: أن هذا الغسل الذي يتجدد على المرء يذكرنا بنعمة عظمى من الله بها على عباده وهي نعمة الماء الطهور [FONT=&quot]}وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الفرقان: 48]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [الأنبياء: 30]. أنزل الماءَ ليكون ريًّا للظمآن وإنباتًا للزرع وإدرارًا للضرع وتطهيرًا للأبدان وجمالاً للمنظر، ألم تروا أن البلدَ إذا أجدب من المطر والغيث ذهب عنه نوره وبهاؤه.[/FONT]



إن الغسل الشرعي – عباد الله – لم يكن ولن يكون بابًا من أبواب الإسراف في الماء، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد، وكان أوفر الناس شعرًا. يقول سفينة [FONT=&quot]رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغَسِّله الصاعُ من الماء من الجنابة ويوضئه المدُّ». رواه مسلم. وسأل قوم جابرًا [FONT=&quot]رضي الله عنه[/FONT] عن الغسل فقال: يكفيك صاع. فقال رجل: ما يكفيني. فقال جابر: كان يكفي من هو أكثر شعرًا منك وخير منك. يعني النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.[/FONT]



عباد الله: يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يَبُولنَّ أحدكم في الماء الدائمِ ثم يَغتسلُ فيه». كل هذا محافظةً على الماء من الضياع والإسراف.



وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب يسأله عما يكفي الإنسان من غُسل الجنابة؟ فقال سعيد: إن لي تورًا يسعُ مُدين من ماء، فأغتسل به ويكفيني ويَفضل منه فضل. فقال الرجل: فوالله إني لأستنثر وأتمضمض بمدين من ماء. فقال سعيد: فبم تأمرني إن كان الشيطان يلعب بك؟



ويقول إبراهيم بن أدهم: إن أول ما يبتدئ الوسواس من قبل الطهور. ويُقال: من قلة فقه الرجل وُلُوعه بالماء.



فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا لهذا الماء قدره، فإن الله يقول: [FONT=&quot]}وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [المؤمنون: 18].[/FONT]



اللهم صل على محمد وعلى آله محمد...




* * *
 
الاستخـارة

أحكــام وآداب



الحمدُ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.



أما بعد:



فاعلموا عباد الله أن خير الوصايا الوصية بتقوى الله. فاتقوا الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.



عباد الله: إن من المُسلَّمات عند الناس قاطبةً أن الإنسان مخلوق ضعيف مُحتاج إلى غيره، لا يُمكن أن يُصرِّف أمور حياته وحده بدون مُوجِّه أو ناصح، ولابدَّ له إذن من مَعونة أو مَشورة أو مُناصحة، والحياة – عباد الله – مليئةٌ بالمتغيرات والأمور المحيرة، يقف المرء حيالها في حيرة فيما يُقدم عليه، تتعارض عنده أمور فيمضي أيامًا وليالي وهو مُنشغل الفكر، مُنزعج الخاطر، إلى أين يذهب وإلى أي اتجاه يمضي.



أيها الناس: لقد كان أهل الجاهلية يلجؤون إلى أمور هي أقصى ما وصل إليه علمهم، وما زادتهم إلا غيًا وضلالاً، فبعضهم يَستقسمُ بالأزلام، فعلى أي وجه خرجت فَعَلَ، وآخرون يزجرون الغراب ويتشاءمون به، وبئس من كان الغراب له دليلاً.



فلما جاء الله بالإسلام الذي ما ترك أمرًا من أمور الناس إلا حلَّها، ولا نازلةً إلا فكَّها، فكان فيه الحلُّ لمثل هذه الأمور: جعل الإسلام من حق المسلم على المسلم النصيحة، يقول صلى الله عليه وسلم: «حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: وإذا استنصحك فانصحه»، وفي البخاري: «وإذا استنصحَ أحدَكم أخاه فلينصح له»، وفي مسلم: جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الدينَ هو النصيحة فقال: «الدين النصيحة- ثلاثًا».



ولقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أمر فَزِع إلى الصلاة ليجد فيها الاطمئنانَ والراحة؛ لأنها علاقةٌ مع الله وحده، ينقطع المرءُ فيها عن المنغِّصات والمكدِّرات، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لمؤذنه: «أَرِحْنَا بالصلاة يا بلال».



أيها الناس: إن مما الله جعله ملجًأ للمؤمن إذا حزبه أمر، ولم يتبين فيه أن يلجأ إلى الصلاة، صلاةً ليست فريضةً ولا راتبةً، بل هي متعلقة بسببها متى ما وُجِد وُجِدتْ، ليس لها وقت وليس لها عدد، إنها صلاة تسمى بصلاة الاستخارة.



عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا همَّ أحدُكم بالأمر فليركعْ ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرُك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر – ثم يُسميه باسمه – خيرٌ لي في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري – أو قال: عاجل أمري وآجله – فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال: في عاجل أمري وآجله – فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان، ثم رَضِّنِي به». قال: «ويُسَمِّي حاجته».


هذا الحديث رواه الإمام البخاري، وأصحاب السنن الأربعة، ورواه الإمام أحمد.



عباد الله: يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: عوَّض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بهذا الدعاء عما كان عليه أهل الجاهلية: من زجر الطير الاستقسام بالأزلام، الذي نظيره هذه القرعة، التي كان يفعلها إخوان المشركين يطلبون بها عِلْم ما قُسِمَ لهم في الغيب، عوَّضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيدٌ وافتقارٌ، وعبودية وتوكل، وسؤال لمن بيده الخير كله، الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، الذي إذا فتح لعبيده رحمةً لم يستطع أحدٌ حبسها عنه، وإذا أمسكها لم يستطعْ أحد إرسالها إليه، من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه، فهذا الدعاء هو الطالع الميمونُ السعيد، طالع أهل السعادة والتوفيق، الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان، الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر، فتَضمن هذا الدعاءُ الإقرار بوجود الله سبحانه، والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة وتفويض الأمر إليه والاستعانة به والتوكل عليه، والخروج من عُهدة نفسه والتَّبَري من الحول والقوة إلا به سبحانه، واعترافِ العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها وإرادته لها، وأن ذلك كله بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحق. اهـ.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبت في أمره، فقد قال تعالى: [FONT=&quot]}وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[FONT=&quot]{[/FONT]
[آل عمران: 159].
[/FONT]



عباد الله: لقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه [FONT=&quot]t هذه الصلاة وهذا الدعاء، كما يعلمهم سورة من القرآن، وما كان ذلك إلا لعِلمه بحاجتهم لمثل هذا الدعاء، فكما أن القرآن يحتاج إلى مدارسة ومُتابعة ومُجاهدة فكذلك هذا الأمر، أو كما أن القرآن لا يستغني عنه المؤمن فكذلك دعاء الاستخارة يحتاجه المرء في أموره كلها.[/FONT]



عباد الله: من أحكام هذه الصلاة أن المرءَ يستخير في كل أمر من أمور حياته المباحة، دون الواجبة والمندوبة والمحرمة والمكروهة.



يقول ابن أبي جمرة رحمه الله: الاستخارة في الأمور المباحة، وفي المستحبات إذا تعارضا في البدء بأحدهما، أما الواجبات وأصل المستحبات والمحرمات والمكروهات كل ذلك لا يُستخار فيه. اهـ.



والأمور المباحة كثيرة مثل السفر والعمارة واختيار الزوجة والتجارة ونحوها، وليس منها الأمور المعتادة كالأكل والنوم، فهذا عبثٌ، جاء في بعض روايات الحديث من حديث أبي أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اكتُم الخطبة – يعني النكاح – ثم توضأ فأحسنْ وضُوؤك ثُمَّ صَلِّ ما كُتِبَ لك، ثم احمد ربك ومَجِّده،ـ ثم قل: اللهم... الدعاء السابق». رواه الطبراني، وصححه ابن حبان والحاكم.



عباد الله: لم يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الاستخارة وقتًا معينًا، فذهب جَمْعٌ من أهل العلم إلى جوازها كل وقت، إلا أن الأكثرين على أنها لا تفعل في أوقات النهي.



الأولى: أن يكون دعاء الاستخارة بعد صلاة ركعتين خاصتين به، لكن لا مانع من أن تكون بعد أي نافلة إذا دخلها ناويًا لذلك بقول النووي رحمه الله: لو دعا بهذا الدعاء بعد راتبة الظهر مثلاً أو غيرها من النوافل الراتبة والمطلقة سواءً اقتصر على ركعتين أو أكثر جاز، لكن بشرط أن يدخل الصلاة وفي نيته أن يستخير بعدها.



ويقول الشعراني في شرحه للأذكار: دعاء الاستخارة له ثلاث حالات: الأولى: أن يقوله بعد صلاته ركعتين بنية الاستخارة. والثانية: أن يكون في موضع لا يستطيع معه الصلاة، فله أن يقول هذا الدعاء وحده. والحالة الثالثة: أن يقول هذا الدعاء بعد أي صلاة نافلة إذا نواه ابتداء.



عباد الله: يقول ابن أبي جمرة رحمه الله: الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء في صلاة الاستخارة أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك ولا أنجح من الصلاة؛ لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه، والافتقار إليه مآلاً وحالاً.اهـ.



عباد الله: إن خير العمل وأصوبه ما كان موافقًا لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فاعلموا أنه لم يرد في صلاة الاستخارة قراءة آيات معينة، كما أن تكرار صلاة الاستخارة غير ثابت عنه صلى الله عليه وسلم، بل قال الحافظ العراقي عنه: الحديث ساقط لا حجة فيه.



بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيها من البرهان والحكمة. أقول هذا القول إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إن ربي غفور رحيم.



* *




الخطبة الثانية

من الاستخارة أحكام وآداب


الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبي الهدى وإمام الورى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.



أما بعد:



فالتقوى هي أولى صفات المؤمنين، فاتقوا الله قولاً وعملاً.

أيها الناس: روى الإمام أحمد وحسن إسناده ابن حجر عن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سعادة ابن آدم استخارته الله».


ويقول بعضهم: ما خاب من استخار، وما ندم من استشار.

ويقال: من أعطي أربعًا لم يمنع أربعًا: من أعطي الشكر لم يُمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أُعطي المشورة لم يمنع الصواب.



عباد الله: الاستخارة دليل على تعلق قلب المؤمن بالله في سائر أحواله، الاستخارة تَرفعُ الروح المعنوية للمستخير، فتجعله واثقًا من نصر الله له، في الاستخارة -عباد الله – تعظيمٌ لله وثناءٌ عليه، فالاستخارة مَخرج من الحيرة والشك، وهي مدعاةٌ للطمأنينة، وراحةٌ للبال، في الاستخارة امتثال للسنة النبوية وتطبيق لها.



عباد الله: إذا صلى الإنسانُ هذه الصلاة ودعا بعدها بهذا الدعاء فليمض لما بدا له.



يقول ابن الزملكاني رحمه الله: إذا صلي الإنسانُ ركعتي الاستخارة لأمر فليفعل بعدها ما بدا له سواءً انشرحت نفسه له أم لا، على اشتراط انشراح النفس. اهـ.



إلا أن بعض الناس أحدثوا أمورًا جعلوها علامة على الاختيار بعد الاستخارة من منامات وغيرها.



يقول صاحب المدخل: على المرء أن يحذرَ مما يفعله بعض الناس ممن لا عِلم عنده، أو عنده علم، وليس عنده معرفة بحكمة الشرع الشريف في ألفاظه الجامعة للأسرار العلية؛ لأن بعضهم يختارون لأنفسهم استخارة غير الواردة، وهذا فيه ما فيه من اختيار المرء لنفسه غير ما اختاره له من هو أرحم به وأشفق عليه من نفسه ووالديه، العالم بمصالح الأمور المرشد لما فيه الخير والنجاح والفلاح، صلوات الله وسلامه عليه، وبعضهم يستخير الاستخارة الشرعية ويتوقف بعدها حتى يرى منامًا يُفهم منه فعل ما استخار فيه، أو تركه أو يراه غيره، وهذا ليس بشيء؛ لأن صاحب العصمة صلى الله عليه وسلم أمر بالاستخارة والاستشارة لا بما يرى في المنام، ولا يُضيف إليها شيئًا، ويا سبحان الله!! إن صاحب الشرع قد اختار لنا ألفاظًا منتقاة جامعة لخيري الدنيا والآخرة حتى إن الراوي قال في صفتها والحضِّ عليها والتمسك بألفاظها «كان يعلمنا الاستخارة في ألأمور كلها كما يُعلمان السورة من القرآن» ومعلوم أن القرآن لا يجوز أن يُغير أو يُزاد فيه أو يُنقص منه. اهـ.



عباد الله: إن مما يقال هنا: أن الأفضل أن يَجمع بين الاستخارة والاستشارة، فإن ذلك من كمال الامتثال بالسنة، يقول الله: [FONT=&quot]}وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[FONT=&quot]{[/FONT]
[آل عمران: 159].
[/FONT]



يقول أحد السلف: من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذُّ ربما زلَّ، والعقل الفرد ربما ضلَّ.

ثم اعلموا عباد الله أن من خير الأعمال في هذا اليوم الصلاة على نبيكم محمد، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.
* * *
 
حلاوةُ الإيمانِ

«ثلاثٌ من كُنَّ فيه...»



الحمد لله [FONT=&quot]}الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ِخلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[FONT=&quot]{[/FONT]، سبحانه جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.[/FONT]



أما بعد:



فاتقوا الله أيها الناس فإنها خيرُ الوصية، في كل وقت وفي كل حال، «اتقِ الله حيثما كنتَ»، ليس هناك شيء أفضلَ من الوصية بالتقوى، إن تقوى الله تُورثُ المرءَ في الدنيا انشراحًا وانبساطًا وفي الآخرة فوزًا وسرورًا [FONT=&quot]}وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[FONT=&quot]{[/FONT] [الطلاق: 2، 3]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الطلاق: 4]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الطلاق: 5].[/FONT]



عباد الله: انظروا إلى الشمس كلَّ يوم تَطلعُ من مَشرقها ثم تَغيبُ في مغربها، وفي ذلك أعظم العبرة، [FONT=&quot]}وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ[FONT=&quot]{[/FONT]
[يس: 38-40].
[/FONT]



إن طلوعَ الشمسِ ثم غيابها مؤذنٌ بأن هذه الدنيا ليست بدار قرارٍ، وإنما هي طلوعٌ ثم غيابٌ ثم زوالٌ، ألم تروا هذه الشهورَ تهلُّ فيها الأهلةُ صغيرةً كما يُولد الطلُّ صغيرًا، ثم تنمو رويدًا كنمو الأجسامِ، حتى إذا تكاملَ نموها واشتدت قوَّتها، وكبرَ جسمها، بدأتْ النقصَ إلى الاضمحلالِ، وهكذا عمرُ الإنسان سواءٌ بسواء، [FONT=&quot]}اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ[FONT=&quot]{[/FONT] [الروم: 54].[/FONT]



عباد الله: مضى عامٌ وبدأ عامٌ، والأيام تُطوى والأعمارُ تُقضى كلها في حساب أعمالنا، يبدأ العام وينظر أحدُنا إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرُّ الأيام عَجْلى، فينتهي العام كلمح البصرِ، فإذا هو في آخره، وهكذا عمرُ الإنسان يتطلع إلى آخره تَطَّلعَ البعيد وما يدري إلا وقد هجم عليه الموتُ.



أيها الناس: إن في مرورِ الأيامِ وتصرمِ الأعوامِ عِبَرٌ يجبُ أن تكون عظةً للمتعظين كما أن العام تكون فيه مُثُلٌ كريمة تبدو واضحةً من مناهج الصالحين في دروس رسموها ومناهجَ سلكوها ليصلوا بها إلى الغاية الكريمةِ من رضوان الله وكريمِ ثوابه.



عباد الله: أما العبرُ التي تُوجِبُ عند المرء اعتبارًا فلا يحويها بيانٌ ولا تقعُ في حدود، كم من نكبات للمسلمين وقعتْ، حروبٌ طاحنةٌ، وقتلٌ وتشريدٌ، وانتهاكٌ للحقوق وهضمٌ للكرامات وإماتةٌ للفضيلة، كم مر بالأسماع – أيها الناس – خلال العامِ المنصرم من أخبار لزلازلَ عنيفةٍ وفيضانات جامحةٍ مروعة، كلها مشعرةٌ بعجز المخلوق وافتقاره إلى رحمة الخالق العظيم القادر، كم مر بالأسماع – عباد الله – من ظروف حرجةٍ مرت بها الأمة الإسلامية كانت مختبرًا لصدقِ الإيمان وقوةِ العقيدة.



ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كلُّ عامٍ تُرذلون.

يقول ابن كثير: وهذا الكلام وإن كان لعائشة إلا أنه صحيحٌ واقعٌ يشهد له حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه إلى أن تقومَ الساعةُ».



يمر بالناس كل عام ما يشهد لقول الله سبحانه: [FONT=&quot]}أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [التوبة: 126].[/FONT]



يمر بالناس كل عام ما يشهد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن مرداس الأسلمي قال: قال رسول الله: «يذهبُ الصالحون الأولَ فالأولَ، ويبقى حفالةٌ كحفالة الشعير أو التمر لا يعبأ الله بهم».


عباد الله: أشد الناس حرصًا على تتَبَع أيام العام وانتظارها يومًا بعد يوم هو المزارعُ، يعيش كل عام حياةً عجيبةً، يحرث ثم يزرع ثم يهتم ويرعي ثم يحصدُ، وما ألذَّها من ساعة تلك الساعةُ التي يحصد فيها ما زرع، وهكذا الواجبُ على المسلم أن تكون حياته كلَّها ميدانُ عمل لا يضيعُ منها ساعةً أو لحظةً.



إن أشد ما يحرص عليه بنو آدم الاهتمام بصحتهم وسلامتهم، في الشتاء يُدفئونها ويَحمونها عن البرد وشدته، وفي الصيف يُراعون أجسامهم حتى لا تتأثرَ بحرارة الشمس، وهم فيها بين ذلك يمشون مع رغبات أنفسهم، لكن أفلا يكون لقلوبهم مِقياسٌ يقيسون به قوةَ إيمانهم ليعرفوا به زيادته من نقصه.



عباد الله: إن فيما أُثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديثٌ هو كالمعيار لإيمان المرء يقيسُ به مقدار الإيمان في قلبه، روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد بهن حَلاوة الإيمان...». نعم للإيمان حلاوةٌ وطعمٌ، حلاوة تجعل المؤمنَ دائمًا في سعيٍ لما يُرضي الله سبحانه وسعيٍ دائمٍ في الابتعاد عما يُسخطه، حلاوةُ الإيمان التي منعت ذلك الرجلَ من مواقعةِ الحرام فنال ما نال.,



جاء في الحديث الصحيح: «سبعةٌ يُظلهم الله في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظلهُ... وذكر منهم: رجلٌ دعته امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ فقال: إني أخافُ الله».



حلاوة الإيمان - عباد الله – هي التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم لخبَّاب حينما طلب منه أن يدعو الله أن يكشف عنهم أذى الكفار، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن كان الرجلُ ممن كان قبلكم يُنشر بالمنشار ما بين جلدِه وعظمِه ما يرده ذلك عن دينه».



حلاوة الإيمان هي التي تكون سلاحًا للمؤمن خلالَ أيامه ضدَّ المغريات والشهوات والشبهات.



الخِصلة الأولى عباد الله: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، إن العبادةَ الحقيقة هي التي تجعلُ علاقةَ العابد مع المعبود فوقَ كلِّ شيء، جاء عمر بن الخطاب [FONT=&quot]رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسولَ الله، والله إني لأُحبُّك أكثرَ من كل شيء إلا من نفسي. فقال: «لا يا عمر، حتى من نفسك». فقال عمر: والله إني لأُحبك أكثر من كل شيء حتى من نفسي. فقال صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر».[/FONT]



هذه المحبة التي متى ما خلتْ منها قلوب الناس فإن الله قد توعَّدهم بقوله: [FONT=&quot]}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[FONT=&quot]{[/FONT] [المائدة: 54].[/FONT]



عباد الله: ما منكم أحد إلا وهو يقول: أنا أحب الله ورسوله، ولكن المصيبةَ أيها الناس أن مثل ذلك لا يكفي، فلا يكفي أن تكون محبًا، بل لابد أن تكون محبوبًا.


روى البخاري في «صحيحه» عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله سبحانه: ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته».


ولقد جاء في حديث آخر عند البخاري: «إذا أحبَّ الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحبُّ فلانًا فأحبوه، فيُحبه جبريل، ويُنادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فيُحبه أهل السماء، ثم يُوضع له القبول في الأرض» فطوبى لعبد نال هذه المنزلة.



أيها الناس: لابد للمرء في حياته من تعامل مع الآخرين، وحُبِّ الناس بعضهم لبعض إما لدنيا أو وظيفة أو مكانة، ولكن قاعدة عظيمة بناها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الناس في جميع حياتنا وهي الخصلة الثانية في الحديث: «إن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله». نعم أيها الناس، لو بنينا معاملاتنا وتعاملنا مع الناس على قاعدة الحب لله والبغض في الله لم نجد غِشًا ولا حسدًا ولم نر ظُلمًا ولا اضطهادًا، إننا متى ما جعلنا الدنيا هي أساس علاقتنا فإنما نبني على جُرف هار ما أسرع ما يسقط، ولهذا وجدنا أصدقاء في الرخاء بعُداء في الشدة.



إن المحبة في الله هي التي تُنزل المرء منازل رفيعة، جاء في ذلك الحديث السابق في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله «ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه».


جاء في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خرج رجل يزور أخًا له في الله في قرية أخرى، فأرصدَ الله بِمَدرجته ملكًا، فلما مر به قال: أين تريد؟ قال: أريد فلانًا، قال : لقرابة؟ قال: لا، قال: فلنعمة له عندك تربُّها (يعني تردها إليه)؟ قال: لا، قال: فَلِمَ تَأته؟ قال: إني أحبه في الله. قال: فإني رسول الله إليك أن الله يحبك بحبك إياه».


أترون شخصًا جعل مثل هذه المحبة مقياسًا له في معاملته يرضى لأخيه بنقص، أو ظلم، أو تظنونه يتكلم في عِرض أخيه، أم تحسبونه سيؤذيه.



جاء في الحديث: «أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله»، وروى الإمام أحمد والطبراني بأسانيد صحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس، اسمعوا واعقِلوا واعلموا أن لله عز وجل عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداءَ يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله»، فجثا رجل من الأعراب من قاصية القوم وألوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم، انعتهم لنا يا رسول الله، فسر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسؤاله فقال: «هم أناس من بُلدان شتىَّ ومن نوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة. تحابوا في الله وتصافَوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها فيجعل وجوههم نورًا وثيابهم نورًا، يَفزع الناس ولا يَفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».



بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيها من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

* *



الخطبة الثانية

من حلاوة الإيمان




الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، يطلبُ القليلَ ويكافئ بالكثير، يتفضلُ على عباده وهو الغنيُّ الحميدُ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَّه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.



أما بعد:



فاتقوا الله أيها الناسُ، إن جميعَ المخلوقات مهما بلغوا من القوةِ والصلابةِ فإنهم مُجمِعون على الخوف من النَّار، بل إن أحدًا قد يصبرُ على أنواعٍ من العذابِ إلا أن يعذبَ بالنارِ [FONT=&quot]}كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ[FONT=&quot]{[/FONT] [النساء: 56].[/FONT]



إن الخوفَ من النَّار أمرٌ مفطورٌ عليه ابن آدمَ، وقد رَسَّخَ هذه القاعدةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخِصلة الثالثة، فقال: «وأن يكرَه أن يعودَ في الكفرِ بعد إذْ أنقذه الله منه كما يكرَه أن يقذفَ في النارِ».



عباد الله: كما يكره المرءُ النارَ ويبغضها ويَخافُ منها، ينبغي أن يكره المعصيةَ والرذيلةَ والكفرَ بالله، كما تخافُ من النار خَف من الوقوع في المعصيةِ، ميزانٌ دقيقٌ وحكمٌ عدلٌ لو استشعره كلُّ امرئ مقدم على معصية لما وقع فيها.



انظروا عباد الله إلى ذلك الحديثِ المعروف الدائرِ على الألسنة: «من رأى منكم منكرًا فليغيرْه بيده، فإن لم يَستطعْ فبلسانه، فإن لم يستطعْ فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمانِ حبةُ خردلٍ». إنَّ القلبَ الذي لا يجد تَنكُّرًا للمعصيةِ خلاله عديمٌ من الإيمان ولا يجتمعُ حبُّ المعصيةِ والإيمانِ أبدًا.



بنو إسرائيل كاِنوا إذا فعل أحدهم المنكرَ قالوا: يا عبد الله، اتق الله ودعْ ما تصنع، فإذا جاء من الغدِ لم يمنعهم ذلك أن يكونَ هذا العاصي أَكيلَهم وجليسَهم، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض ولعنهم [FONT=&quot]}لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ[FONT=&quot]{[/FONT] [المائدة: 78].[/FONT]



إن الناس – عباد الله – متى ما استهانوا بهذه القاعدةِ وهي كراهيةُ المعصيةِ وكراهيةُ أهلها؛ متى ما استهانوا بذلك فلا عليهم من الله أن يعاقبَهم بما أراد، وإنك لتعجبُ من تعوُّدِ الناس على الجلوس مع أصحاب معاصٍٍ ومنكرات كنَّا في سالفِ الزمن نَعد الجلوسَ معهم من أكبرِ المعاصي، ومن جالسهم فهو منهم، وما وقع ذلك إلا لما انتُزِعَت هذه القاعدة من القلوب.



عباد الله: هذا الحديثُ مقياسُ الإيمان في قلب كلِّ مؤمن فلينظرْ كل ما قوة إيمانه.

اللهم صل على محمد...
* * *
 
الإيمان بالقضاء والقدر


الحمد لله عالم السر والنجوى، المطلع على الضمائر وكل ما يخفى، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، أحمده سبحانه، وعد المخلصين الدرجات العلى، وحذر المشركين به نارًا تلظَّى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، [FONT=&quot]}لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[FONT=&quot]{[/FONT]
[الشورى: 11]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكمل الخلق توحيدًا وأبرهم عملاً وأتقاهم لله رب العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
[/FONT]


أما بعد:


فاتقوا الله تعالى أيها الناس وأطيعوه، وأخلصوا له العبادة ووحدوه، واعلموا أن أفضلَ ما وعظَ به الواعظون؛ وذَكَّر به المذكِّرِون معرفة الله تعالى بأنه رب العالمين، الرحمن الرحيم، المالكُ المتصرفُ ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وأن جميع الكون وكل ما فيه خلقُه ومُلكه وعبيده وتحت ربوبيته وتصرفه وقهره.


عباد الله: لقد أخبر صلى الله عليه وسلم - وخبرهُ صدق – عن افتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقة كلهم ضُلَّال إلا فرقة واحدة هي التي وافقت هدي الكتاب والسنة وسارت على نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم ونهجِ أصحابه من بعده، وإن هذا الافتراقَ شاملٌ لكل أمور الدين والعبادة، ولكن إطلاقَه يبادر إلى ذهن قائله وسامعه التفرقَ في باب التوحيد والاعتقاد، لأن هذا الباب هو الباب الذي إذا كسر لا يمكن إصلاحه إلا بإعادته جديداً كما كان، فلا يُصلح فيه باب فيه ثقوبٌ أو خللٌ، فأهل الزيغ والضلالِ في باب الاعتقاد طوائفُ شتى وفرقٌ عديدة كل فرقة فَرِحَةٌ بما عندها.


أما أهل السنة والجماعة الذين ساروا على النهج، فإنهم على خط مستقيم في هذا الأمرِ، بل وفي جميع أمورهم، ولكن في باب العقيدة والتوحيد يخصونه بمزيد اهتمام ومزيدِ عنايةٍ؛ لأن الضلال فيه ضلال كبير ليس كالضلال في غيره، والخطأ في التوحيد والعقيدة ليس مثل الخطأ في غيره، وأكثر ما جاء الانحرافُ إلى طوائف شتى في هذا الباب بسبب أمرين:


أولهما: الجهل، فكثير هم الذين يجهلون أمور مُعْتِقِدِهم، وقليل من يتحدث عنها، ولو أن الناس إذا جَهِلوا شيئًا سألوا عنه لبلغوا مُرادهم، ولكن على نفسها جَنَتْ، ولا ينَال العلمَ مستحٍ ولا مُستكبرٌ.


أما السبب الثاني: فهو أن فِئامًا منهم أخذوا هذا العلمَ من غير مصدريْهِ وهما الكتابُ والسنةُ.


العقل – أيها الناس – لا دخلَ له في بابِ العقيدة؛ لأنها من باب الغيب، والغيبُ لا يُعْلَمُ إلا بوحي.
إذا كان ذلك كذلك فاعلموا أيها الناس أن عليكم أن تعلموا أن دينَ المرءِ يقوم على ستةِ أصول: هي كالعُمُدِ للبنيان لو سقط منه عمود سقط البناءُ أو لا يزال متخلخلاً.


ستةُ أصول ينبغي لكل مؤمن ومؤمنة الإيمانُ بها والإقرارُ بمضمونها، إيمانًا لا خللَ فيه، وإقرارًا لا نقصَ فيه، لَخَّصها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جاءه جبريل [FONT=&quot]عليه وسلم في صورة أعرابي غريبٍ فسأله عن الإيمان فقال: «أن تؤمنَ بالله وملائكتهِ وكتبهِ ورسلهِ وباليوم الآخرِ وتؤمنَ بالقدر خيرِه وشرِّه».[/FONT]

الإيمان بالقضاء والقدر زلَّت فيه أقدامُ، وضلَّت فيه أفهامُ، وتحيَّرتْ فيه عقولٌ، تَنَازَعَ الناسُ في القدر منذ زمنٍ بعيدٍ حتى في زمنِ النبوة، كان الناس يتنازعون ويتمارون فيه، ولقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فنهاهم عن ذلك، وأخبر أنه ما أهلك من قبلهم إلا تَنازُعُهم فيه.


ولا يزالُ الناسُ إلى يومنا هذا يتجادلون فيه، ولكن الله هدى عبادَه وفتح على المؤمنين من السلف الصالح بالعدل فيما عَلِمُوا وما قالوا؛ لأنَّ الحقَ فيه واضح لا مِراءَ فيه.


عباد الله: الإيمان بالقدر جزءٌ من أنواع التوحيد الثلاثة: توحيدُ الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات، فمن أنواع توحيد الربوبية: الإيمان بقدر الله، ولهذا قال الإمام أحمد: القدرُ قدرةُ الله.


أيها المؤمنون: لا بد لكل مؤمن بالقضاء والقدر الإقرارُ بأربعة أمور هي معنى القضاء والقدر، من أقر بها فقد استكملَ إيمانَه بهذا الركنِ ولا عليه بعد ذلك من تفاصيلِ العلماء التي دعت إليها مُجَادلة أهلِ الباطلِ.


أول هذه الأمور: العلمُ بأنَّ الله قد أحاط بكل شيء علمًا، فيؤمن الإنسان إيمانًا جازمًا لا شكَ فيه بأن الله بكل شيء عليم، وأنه يعلمُ ما في السموات والأرض جملة وتفصيلاً، سواءٌ كان ذلك من فعله أو من فعل مخلوقاته، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما مضى وما هو حاضرٌ الآن وما هو مستقبلٌ [FONT=&quot]}إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ[FONT=&quot]{[/FONT]
[آل عمران: 5]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[FONT=&quot]{[/FONT]
[الأنعام: 59]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ[FONT=&quot]{[/FONT] [ق: 16]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ[FONT=&quot]{[/FONT] [البقرة: 283]، من أنكر هذا الأمرَ فقد كفر؛ لأنه ليس ضِدَّ العلمِ إلا الجهلُ، ومن قال إن الله جاهل فقد دخل في أمر لا خلاصَ له منه.
[/FONT]


إذا أقرَّ الإنسانُ بهذا الأمر فليعلم بعد ذلك أن كلَّ شيء من أمور الدنيا منذ خلقها الله إلى يوم القيامة مكتوبٌ في اللوح المحفوظ عند الله سبحانه، يقول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أولَ ما خلق الله القلمَ، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن، فجرى القلمُ في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة»، يقول الله سبحانه: [FONT=&quot]}أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[FONT=&quot]{[/FONT] [الحج: 70]، فكلُّ شيءٍ معلومٍ عند الله، وهو مكتوبٌ عنده في كتاب.[/FONT]


ولما سُئل صلى الله عليه وسلم عما نعمله أشيءٌ مستقبل أم شيءٌ قد مضى منه وفُرِغ؟ قال: «إنه قد مضى وفرغ منه»، وقال له الصحابة: أفلا نَتَّكِلُ على الكتاب المكتوب وندعُ العمل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسرٌ لما خُلِق له»، وتلا قوله سبحانه: [FONT=&quot]}فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[FONT=&quot]{[/FONT] رواه البخاري ومسلم.[/FONT]


روى مسلم في «صحيحه» عن عبد الله بنِ عمرو أنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب اللهُ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنةٍ».

عباد الله: إذا أقر المرء بهذا الأمر فليعلم أن كل ما في هذا الكون فهو تحت مشيئة الله، فلا يكونُ شيء إلا إذا شاءه الله سبحانه، سواءٌ من فِعْله أو من فِعْلِ مخلوقاته: [FONT=&quot]}وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ[FONT=&quot]{[/FONT] [القصص: 68]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[FONT=&quot]{[/FONT]
[إبراهيم: 27] ويقول سبحانه: [FONT=&quot]}[/FONT]وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ[FONT=&quot]{[/FONT]
[الأنعام: 137]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ[FONT=&quot]{[/FONT] [البقرة: 253]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ[FONT=&quot]{[/FONT] [النساء: 90].
[/FONT]


أما آخرُ الأمور الأربعةِ التي مَنْ أقرَّ بها فقد استكمل الإيمان بالقضاء والقدر فهو أن يقرَّ بأن جميع الكائنات مخلوقةٌ لله تعالى [FONT=&quot]}اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[FONT=&quot]{[/FONT] [الزمر: 62]، فالله عز وجل هو الخالقُ وما سواه مخلوق، ما من موجود في السموات والأرض إلا والله خالقه، حتى الموت يخلقه الله تبارك وتعالى، يقول سبحانه: [FONT=&quot]}[/FONT]الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الملك: 2]، فإذا عَلِمَ المؤمنُ ذلك فليعلم أن خَلْقَه أحكمُ خلقٍ [FONT=&quot]}[/FONT]وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الفرقان: 2]، [FONT=&quot]}[/FONT]هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[FONT=&quot]{[/FONT] [لقمان: 11].[/FONT]


الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ شريعةٌ جاء بها جميعُ الأنبياء والمرسلين، فإبراهيمُ يقول لقومه: [FONT=&quot]}وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[FONT=&quot]{[/FONT]
[الصافات: 96].
[/FONT]


وموسى لما جَادله فِرعون [FONT=&quot]}قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى[FONT=&quot]{[/FONT]
[طه: 50، 51].
[/FONT]


ونوحٌ لما خاطب ابنَه كي ينجوَ من الغرقِ [FONT=&quot]}قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ[FONT=&quot]{[/FONT] [هود: 43].[/FONT]
ولما تعجَّبَ زكريا كيف يأتيه الولدُ وهو طاعنٌ في السنِ [FONT=&quot]}قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ[FONT=&quot]{[/FONT] [آل عمران: 40].[/FONT]
ومريمَ البتولُ تقول: [FONT=&quot]}رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[FONT=&quot]{[/FONT] [آل عمران: 47].[/FONT]


اللهم اجعلنا ممن يُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، اللهم اكتب لنا الصلاحَ في الدنيا والآخرة.
أقول هذا القول وأستغفر الله.


* *
الخطبة الثانية

من الإيمان بالقضاء والقدر

الحمد لله، خلق فسوَّى وقدَّر فهدى، له مقاديرُ السموات والأرض، وهو على كلِّ شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، بيده الخلقُ والأمرُ، وإليه يُرجع الأمرُ، لا راد لقضائه ولا دافعَ لأمره، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد:


فاعلموا أيها الناس أنَّ المؤمنَ ما دام يسيرُ في هذه الدنيا وهو متمسكٌ بدينه قولاً وفعلاً فلا شك أنه سَيجِد السعادة في دنياه هذه ويومَ القيامة [FONT=&quot]}فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى[FONT=&quot]{[/FONT] [طه: 123-126].[/FONT]


عباد الله: إنَّ المؤمنَ إذا آمن بالقضاء والقدرِ اعتمد على الله عز وجل وحده عند فعله للأسباب بحيث لا يعتمدُ على السببِ نفسه؛ لأن كل شيء بقدر الله تعالى، فالمريض مثلاً: يشربُ الدواء ويترك الطعام طلبًا للصحة، فيعلم أن هذه الأمورَ لا دخلَ لها، وأن الأمر كله لله وحده، هو المنزِّلُ له وهو الدافعُ، وأن المؤمن إنما يفعل الأسباب.


إذا أقر الإنسانُ بالقضاء والقدر لم يعجب بنفسه عند حصول مراده، لأن حصوله نعمة من الله تعالى، بما قدره من أسبابِ الخيرِ والنجاحِ، فعليه شكرُ هذه النعمة، وإعجابه بنفسه يُنسيه شكرَها، فالطالب إذا نجح والتاجر إذا رِبِح، فالشكرُ لله أولاً لأنه هو الذي يَسَّر لهما ذلك لا دخلَ لأنفسهما إلا بسبب تقديرِ الله عز وجل: [FONT=&quot]}الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ[FONT=&quot]{[/FONT]
[الشعراء: 78-81].
[/FONT]


أيها الناس: إذا اعتقد المؤمنُ عقيدةَ القضاءِ والقدرِ زال عنه القلقُ والضجرُ، حين يفوت عليه مراده، أو يحصل له ما يكره؛ لأنه يعلم أن ذلك مقدرُ عليه من ملك السموات والأرضِ، وما قدر كائن لا محالة، عند ذلك يصبرُ ويحتسبُ، لو عَلِمَ المرضى أن المرضَ إنما جاءَ بتقدير الله سبحانه ما جزعَ مريضٌ من مرضه ولا اشتكى إلى الناس مما أصابَه.


إذا آمن الإنسان بالقضاء والقدر حصل له راحةٌ نفسٍ وطمأنينةُ قلبٍ، فلا يقلقُ بفوات محبوبٍ أو حصولِ مكروه.
أيها الناس: لا أحدَ أطيبُ عيشًا ولا أريحُ نفسًا ولا أقوى طمأنينةً ممن آمن بالقدر.


ويَجمع الله سبحانه كلَّ هذه الأمور فيقول: [FONT=&quot]}مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[FONT=&quot]{[/FONT]
[الحديد: 22، 23].
[/FONT]
اللهم ثبتنا على عقيدةِ القضاء والقدر، اللهم حققْ لنا ثمراتها، وزِدْنا من فضلك، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد غذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد.



* * *
 

وصــايا نبــوية

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.


أما بعــد:


فإنَّ الوصيَّة أيها الناس أن تتقوا الله في كلِّ أمورِكم، فإن تقوى الله مِفْتاحُ كل خير في الدنيا، وهي الموصلة إلى الجنة في الآخرة، [FONT=&quot]}وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[FONT=&quot]{[/FONT] [الطلاق: 2، 3]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الطلاق: 5].[/FONT]


عباد الله: الإنسانُ في هذه الحياةِ بلا هدفٍ أشبه بالحيوان منه بالإنسان، لا يمكن أن يستقيم أمرَه إلا إذا سار لهدف الخلق؛ وهو إقامةُ دينِ الله والسير عليه، ما أجمل أن يعيشَ الإنسانُ في هذه الدنيا مقيدًا بالكتاب والسنة، يرعَوي لأوامرهما، وينتهي عن نواهيهما، إن سمع حقًا استجاب له، وإن رأى باطلاً أعرض عنه، ضاعت عنده المقاييسُ إلا مقياسَ الإيمان الذي به يرتفعُ الشخص، وبه يسمو، وبالإخلال به يهوي المرءُ في ظلمات الانحدارِ.


عباد الله: إن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي المنبع الثريُّ للهدى والنُّور، هي معين لا ينضبُ، وحقٌ لا يعطبُ، وإن وقوفَ المرءِ عند حديث من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الخارج من مشكاة النبوة يحملُ النفسَ على أن تعرف أسراره وتستضئ بأنواره، فلا تنفك نفسُ المؤمن تأخذ الدروسَ والعبر من هذا الكلام، ثم هي بعد ذلك وقَبْله تؤمن بالنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن ما جاء به حقٌ، وكأنما قيل الآن، كلامٌ صريحٌ لا فلسفةَ فيه، ولا تَنَطُّقَ ولا تَنَطُّعَ، لأنه ينطق عن الله سبحانه، كلما أعاد المؤمنُ النظرَ في أحاديث محمد صلى الله عليه وسلم عَلِمَ عِلْمَ اليقين أن هذا الدينَ صالحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ ، وأن أي عملٍ لم يكن موافقًا لهدي محمد صلى الله عليه وسلم فلا شكَ هو ضلالٌ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ».

أيها الناس: لَخَّصَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم هذا الدينَ ووصفه وصفًا جامعًا فقال: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، إن الإنسان لابد أن يحتاج إلى نصيحةِ غيرِه من الناس، يَدُلُّونه على الخير ويُحَذِّرُونه من الشَّرِّ، وفي حديث آخرَ لمسلم: «حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ: إذا لقيتَه فسلِّمْ عليه، وإذا دعاك فأجِبْه، وإذا استنصَحِك فانصَحْ له»، لكن إذا كانت النصيحة صادرةً من مشكاة النبوة فما أروعها وأصدقها وأنصعها.


عباد الله: روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر [FONT=&quot]رضي الله عنه قال: أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبعٍ: أمرني بِحُبِّ المساكين والدُّنوِ منهم، وأمرني أن أنظرَ إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصلَ رحمي وإن أدبرتْ، وأمرني أن لا أسألَ أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقولَ بالحق وإن كان مرًا، وأمرني أن لا أخافَ في الله لومةَ لائمٍ، وأمرني أن أُكثرَ من قول لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، فإنهن من كنزٍ تحت العرشِ».[/FONT]


ما أجمعها من نصيحةٍ صدرت من خيرِ ناصح ٍصلى الله عليه وسلم، ويجتمع معها وصيةٌ أخرى قالها صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل [FONT=&quot]رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات، قال: «لا تشرك بالله شيئًا وإن قُتلت وحُرِّقت، ولا تَعُقنَّ والديك وإن أمراك أن تخرجَ من أهلك ومالك، ولا تَتْرُكَنَّ صلاةً مكتوبةً متعمدًا، فإن من ترك صلاةً مكتوبةً متعمدًا فقد بَرِئَتْ منه ذمةُ الله، ولا تشربن خمرًا فإنه رأسُ كلِّ خطيئة، وإياك والمعصيةَ، فإن بالمعصية حلَّ سخطُ الله، وإياك والفرارَ من الزحفِ؛ وإن هلك الناسُ، وإن أصاب الناس موتانِ وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طَوْلك، ولا ترفعْ عنهم عصاك أدبًا، وأَخِفْهم في الله». رواه الإمام أحمد وروى ابن ماجه بعضه.[/FONT]


عباد الله: ما أحوجنا جميعًا أن نعيش حياتنا على وفق هذه النصائح؛ فإنها ما تركت شيئًا إلا ذكرته.


أهم أمر في هذه الدنيا هو توحيد الله، وإخلاصُ العبادة له وحده لا شريك له، ولا يستقيم الإيمانُ للمؤمن إلا بالصبر على هذا الطريق مما قد يُصاب المتمسكُ به من الأعداء؛ إما من الشيطان أو من شياطين الإنس.


إبراهيم [FONT=&quot]عليه السلام خليلُ الرحمن أُوقِدت له نارٌ ليس لها مثيل، كلُّها لأنه آمن بالله، وجاء خبَّابٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتوسِّد بردةً له في ظِلِّ الكعبة فقال: يا رسول الله، ألا تستنصرُ لنا، ألا تدعو لنا، فقال: «كان الرجلُ فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعلُ فيه، فيُجاءُ بالمنشار فيوضَعُ على رأسه فيُشقُ باثنتين وما يَصده ذلك عن دينه، والله ليُتمنَّ الله هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتَ لا يخافُ إلا اللهَ أو الذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون» [رواه البخاري]، إن بين تضاعيف التاريخ صورًا من محاولات للصدِّ عن هذا الدين، ولكن ما أجمل وصية الرسول صلى الله عليه وسلم «لا تشرك بالله شيئًا وإن قتلت وحرقت».[/FONT]

أيها الناس: أعظم الواجبات بعد توحيد الله إقامة الصلاة حقَ الإقامة؛ لأنها عمودُ الدين وهي الفارقةُ بين الرجل والشرك، المتساهلُ بها محبطٌ لدينه مردٍ لنفسه إلى الهاوية، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدًا، فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدًا، فقد برئت منه ذمة الله».


والصلاة أكبر رابط بين المرء وبين ربه، فلا غرو أن يكون المرءُ محفوفًا برعاية الله ما دام محافظًا على الصلاة، فأما من تركها فقد نقض العهدَ فآن لشياطين الإنس والجن أن تتخطفه.


عباد الله: من يخالطُ الناس عليه أن يعطيَ كل صاحب حق حقَه، وأعظمُ الحقوق حق الوالدين اللذين هما سبب نُشُوؤك ووجودك، [FONT=&quot]}وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الإسراء: 23]، إن حق الوالدين من أعظم ما يجبُ على الولد، بل لقد بلغ من ذلك أن يَتَخَلَّى الإنسانُ من أهله ومالِه لأجلهما يقول صلى الله عليه وسلم: «لا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك».[/FONT]


لا يعيشُ المرءُ بدون علاقاتٍ وقراباتٍ، ولقد جاءت الرحمُ وتعلَّقت بالعرش فقالت لله: هذا مقامُ العائذِ بك من القطيعة، فقال: أما ترضين أن أصلَ من وصلك وأقطعَ من قطعك، قالت: بلى، قال: فذلك لكِ، ويقول صلى الله عليه وسلم: في وصيته هذه: «وأمرني أن أصلَ رحمي وإن أدبرتْ». نعم أيها الناس: ما أكثرَ الأرحامَ المقطوعةَ؛ حين جعل الواصلُ هدفَه ردَّ الصلة، جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي رحمًا أصِلُهم ويقطعوني، وأحسنُ إليهم ويُسيئون إليَّ، فقال صلى الله عليه وسلم: «لئن كنتَ كما تقول فكأنما تُسِفُهم الملَّ، ولا يزالُ عليك من الله ظهيٌر عليهم ما دمتَ على ذلك».


إن الحياة الدنيا أيها الناس: طبقاتٌ ودرجاتٌ، ومن رفع رأسه أكثرَ من قدره سقط، ومن طلب ما ليس له لم يدركه، وفاته ما له، يقول أبو ذر [FONT=&quot]رضي الله عنه: «وأمرني أن أنظرَ إلى من هو دوني، ولا أنظرَ إلى من هو فوقي»، ما تراكمت الديون على الناس إلا حين نظروا إلى من فوقهم وطلبوا ما ليس لهم، وفي الحديث الآخر قال: «فإنَّ ذلك أجدرُ أن لا تزدروا نعمةَ الله»، وإن من أعظم ما يُثبت هذه القاعدةَ عباد الله: الدنو من الضعفاءِ والمساكين بالعطف والإحسان والشفقة، فإن من عرفَ ما فيه حال من دونه أوشكَّ أن يوصله الله إلى ما يريد.[/FONT]


أيها الناس: العقل ميزان الأمور، فإذا فقد الإنسانُ عقلَه صار خطؤه أكثرَ من صوابه، ألا وإن الخمر هي المفسدةُ للعقل والمُـتلِفة له، يقول صلى الله عليه وسلم: «ولا تشربنَّ خمرًا فإنه رأسُ كلِّ خطيئةٍ»، إذا تلف عقل المرء فقد ضيعَ دينه ووقع في المعاصي والموبقات، وما نزل سخط من الله ولا أرسل عقوبةً إلا بسببِ هذه المعاصي والذنوب [FONT=&quot]}وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[FONT=&quot]{[/FONT] [الشورى: 30].[/FONT]


فاتقوا الله أيها الناس وتمسكوا بهدي نبيكم تضمن لكم الحياة السليمة من المكدرات في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكن في القرآن العظيم...


* *


الخطبة الثانية

من وصايا نبوية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يُحِب ربنا ويَرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد:


فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أن هذا الدينَ لا يقومُ إلا بالأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر، وما لن يتآمر الناسُ ويتناهوا فيما بينهم فقد آذنوا على أنفسهم بالعقوبةِ، إن الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر يحتاجُ إلى إيمانٍ يُوجِدُ عند المرء خوفًا من الله يزولُ عنده كلُّ خوف، يقول أبو ذر في هذا الحديث: «وأمرني صلى الله عليه وسلم أن لا أخافَ في الله لومة لائم»، إن كلمةَ الحق لابد من صدورها، فإنها إذا تُركَت ضاعتْ حقوقُ، وأُهدرت أموال، وتجرأَ الجهُّالُ على الله عز وجل، يقول أبو ذر [FONT=&quot]رضي الله عنه: «وأمرني صلى الله عليه وسلم أن أقولَ بالحق وإن كان مُرًّا»، إن قولَ الحق أمر أولُه عند قائله مرارة، وآخره حلاوةً وسعادةً، ولا يصل إلى النهاية من لم يَطأْ في طريقه أشواكًا.[/FONT]


عباد الله: أشرف الأعمال أن يَعمل الإنسانُ بيده، يأكلُ وينفق ويتصدق، وما أكل المرء أفضل من أكله من صُنع يديه، ولقد كان نبيُّ الله داودَ لا يأكلُ إلا من عمل يده، ولقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنمَ لقريش على قراريطَ يأخذها منهم.


إن الحاجة إلى الناس مَذلَّةٌ، ومن طلب من غيره أمرًا صغيرًا فيوشك أن يطلب منه أمرًا كبيرًا، ولقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم [FONT=&quot]رضوان الله عليهم يسقطُ السوطُ من أحدهم فينزلُ من فوق دابته فيأخذه ولا يطلب من أحد شيئًا، كل ذلك امتثالاً لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.[/FONT]


يقول أبو ذر: «وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا»، ويقول في حديث معاذ: «وأنفق على عيالك من طولك» أي من كسبك وعمل يدك.


عباد الله: الأبناء زينة الدنيا، ويبقى ذكر المرء ما بقي له أبناء، يحملون خيرًا ويورثون خيرًا، وينشأون بين الناس على الخير، ولا يكونون كذلك ما لم يجدوا أبًا مربيًا وأمًا ناصحة، يقول معاذ في حديثه: «ولا ترفعْ عن عيالك عصاك أدبًا»، وتأملوا قوله في آخر الحديث «وأَخِفهم في الله»، إن التربية مهما سَمت وعلَت ما لم تكن مربوطة بالخوف من الله، واستشعار عظمته وحقه؛ فإنها على شفا جرف هار.


أيها الناس: إن هذه الوصايا التي صدرت من محمد صلى الله عليه وسلم لابد أن يَعلم المرء معها أنه ما من شيء في هذه الدنيا إلا وهو تحت مشيئة الله وقدرته، وأنه لا قدرة للمرء على شيء ما لم يُقدِره الله عليه، ولهذا ختم صلى الله عليه وسلم نصيحته بقوله لأبي ذر [FONT=&quot]رضي الله عنه: «وأَمرني أن أُكثر من قول: لا حولَ ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش»، إن ارتباط المؤمن دائمًا بربه؛ بذكره وحمده وثنائه؛ يوجد عنده الصبر على ما أصابه، وعدم الحزن على ما فاته.[/FONT]
اللهم صل على معلم الناس الخير والناصح لهم نبينا محمد.


* * *
 
القنوات الفضائية

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد:


فإن أصدق الحديث كلامُ الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكلَّ محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.


أيها الناس: إن الوصية لكم جميعًا هي أن تتقوا الله تعالى حقَ التقوى، فإن التقوى هي خير لباس، وأفضل زاد، وما علا شخص وارتفع إلا بتقوى الله سبحانه، فاتقوا الله تعالى في جميع أوقاتكم وراقبوه، واذكروا نعمه عليكم، وإياكم وكفرها فإن كفرها من أسباب نقم الله، وإن نقمَ الله بعباده شديدة [FONT=&quot]}ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[FONT=&quot]{[/FONT] [الأنفال: 53].[/FONT]


عباد الله: إننا مع مضي الليالي والأيام لا نزداد إلا رُسوخًا في صدق ما جاء عن الله وعن رسوله، ونزداد أيضًا علمًا بأن ما جاء عن الله وعن رسوله صالح لتعاقب الأيام والدهور، وأنه ما من شيء إلا وقد بين الله حكمه وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم.


وأن هناك قاعدة لابد أن تكون راسخةً في عقل كل مسلم: هي أن خوف الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته شديدٌ، وأن الأوائل والأواخر من أمته سواء، حتى إنه أخبر أصحابه عن أشياء لن تقع في عهده هو، وحذَّر هو منها خوفًا على الأمة، ومن ذلك سؤال حذيفة بن اليمان: هل بعد هذا الخير من شر؟ فلما أخبره بما سيقع قال: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كتابُ الله وسنتي».

إنه ما من أمر حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وتحذيره عامٌّ لكل زمان ومكان.


أيها الناس: إن ثمة أمرًا ثبَّته الله ورسوله ليعلمه كل مؤمن ومؤمنة على طول الزمن، وهو أن أعداء الإسلام يُخططون لسلبِ المسلمين دينهم وأموالهم والقضاء عليهم [FONT=&quot]}وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ[FONT=&quot]{[/FONT] [البقرة: 109]، [FONT=&quot]}[/FONT]مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ[FONT=&quot]{[/FONT] [البقرة: 105]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا[FONT=&quot]{[/FONT] [البقرة: 217]، [FONT=&quot]}[/FONT]وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [النساء: 89].[/FONT]


إن مثل هذه الآيات ترسخ قاعدة عظيمة وهي سعى المشركين لإفساد الدين وهدمه بأي طريق.


لأجل هذا جاء النهي صريحًا من الله عز وجل ومن رسوله صلى الله عليه وسلم بتحريم كل ما قد يكون سببًا لإزالةِ دين المسلم، ومن أعظم تلك الأسباب مخالطةُ المشركين وحبهم والتشبه بهم؛ لأن المخالطة تقتضي ولا شك امتزاجًا وتداخُلاً.


عباد الله: إن من أعظم ما يُفسد دين المسلم ويجعله رقيقًا هو: السفر إلى بلاد الشرك والوثنية، يقول صلى الله عليه وسلم: «أنا بريءٌ من مسلم يقيمُ بين ظهراني المشركين لا تراءى ناراهما»
[رواه أبو داود والترمذي].



إن بلاد الكفار فيها من الكفر والإلحاد والانحطاطِ في الأخلاق والسلوك ما يجعل المرء يأنف من البقاء فيها، فكيف والنهي في ذلك ظاهر والدليلُ قائم، جاء جرير بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُبايع فقال: يا رسول الله، ابسط يدك حتى أبايعك، واشترط علي فأنت أعلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبايعك على أن تعبد الله، وتقيمَ الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتُناصح المسلمين، وتُفارق المشرك»، أخرجه النسائي والبيهقي وأحمد بسند صحيح.


وجاء عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُساكنوا المشركين ولا تُجامعوهم، فمن سَاكنهم أو جَامعهم فهو مثلُهم».


وروى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذِّمَّة».


وروى النسائي وابن ماجه بسند حسن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعدما أسلم عملاً أو يُفارق المشركين إلى المسلمين».


إن مفاسد السفر إلى بلاد المشركين ليست بتلك الخفاء حتى نحتاج إلى أن نعددها، ولكن في أحيان كثيرة يكون السفر إلى بلاد من بلاد المسلمين أشد ضررًا من السفر إلى بلاد الشرك وإن اجتمعا في الضرر، ذاك أنها بلدان يميع فيها الدين باسم التمسك به، وضعوا لهم علماءَ سوءٍ يُزينون لهم ما يريدون.


وظلم ذوي القربى أشد فظاظة






على النفس من وقع الحُسام المهنَّد







أيها الناس: إنني أتكلم عن سفر ليس في أذهان الكثير، بل حتى لا يحسبونه سفرًا، إنه ليس السفر المعتاد الذي ينال المسافر فيه مشقة وتعب؛ ففيه حِلٌّ وارتحالٌ، وفيه غربة عن الأوطان.


إنني أتحدث عن سفر لا يحتاج إلى جوازات ولا حجوزات، سفر لا يحتاج المسافر فيه إلى أخذ أُهبة واستعداد، سفر ليس للمسافر فيه سن معين، سفر لا يحتاج المسافر فيه إلى مُرافق؛ بل مرافقه الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء، سفر المسافر فيه أمير نفسه يذهب كيف شاء، ويتنقل بين البلدان كلما رغب عن بلد ذهب إلى بلد آخر، سفر يخلو الرجل فيه بمن شاء من نساءٍ كاسيات عاريات، يضحك معهن ويقلب بصره في حُسنهن، قد انتُزع منه حياؤه.


إنه يا عباد الله سفر: المرأة فيه تسافر لوحدها لا مَحرم معها، تختلط فيه مع الرجال، تضحك لضحكهم وتحزن لحزنهم، ووالدها ينظر، وزوجها يبصر، وأخوها يعلم، ولكنهم لا يحركون ساكنًا.


الصغير في هذا السفر له متعة خاصة؛ ولكنها هادمة للعقيدة مفسدةٌ للفطرة منافية للأخلاق، يتعلم الصغير في هذا السفر ما يستحي من الحديث عنه الكبار.


لا غرو إذن عباد الله: أن يعود الناس من هذا السفر بعقائدَ منحرفةٍ وفطرٍ منكوسةٍ وأخلاق فاسدة، إن الناظر فيما يستجد بين المسلمين اليوم من أعياد شركية، أو بدع قولية أو فعلية؛ لو تأمله الإنسان لعلم أن مُبتدأه تأثرُ الناس بالمشركين عن طريق هذا السفر، أَمَا كان جديرًا بنا إذن أن نتكلم عن أصل المشكلة قبل أن نتكلم عن أطرافها، وأن نَسُدَّ الباب من أصله!!!


ما تحدث الناس وفتحوا أفواههم في الحديث عن المرأة وحاولوا تغريبها، إلا لأن أعداء الملة أظهروا لهم المرأة عبر هذا السفر في صورة لها وجهان: وجه ظاهر مزين أمام الناس، والخفي عارٍ من الأخلاق هي فيه سلعةٌ رخيصة لا وزن لها.


إن السفر الذي أتحدث عنه هو سفر الإنسان بعقله وقلبه إلى بلاد الانحلال والشرك والمجون عبر القنوات الفضائية التي غزت بيوت فِئامٍ من الناس.


إن السفر إلى هذه البلدان عبرَ القنوات الفضائية أشد ضررًا وخطرًا، وأقبح نتيجة من السفر إلى تلك البلاد بالجسم بالطرق المعروفة؛ لأن المسافر بجسمه يستطيع أن يقارعَ الحجة بالحجة والدليلَ بالدليل، لكن الناس الذين يقضون أوقاتهم أمام هذه القنوات هم فقط يتلقون ويسمعون لا أقلَّ من ذلك.


عباد الله: إن هذه القنوات الفضائية التي رَضِيَ ناس أن يُدخلوها بيوتهم محرمة شرعًا؛ وإنه وإن تَجوَّز ناس بإباحتها إلا أنهم يقرون ولابد بأن ما فيها من خير غارق في بحر من الظلمات، [FONT=&quot]}قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا[FONT=&quot]{[/FONT] [/FONT]
[البقرة: 219] والحرمةُ تقدم على الإباحة، ذلك لأنها وإن سلِمت من الدعوة إلى الشرك الصريح، فلم تَسلم من الدعوة إلى الانحلال الخُلقي والفكري والسلُوكي، ولن تسلم من عُلماء سوءٍ يزينون للناس ما أرادوا باسم السهولةِ والتيسير.


وأكبر شاهد على ذلك: أننا صرنا نسمع ونقرأ عمن يتحدثون ويشككون في أمور هي من مُسلَّمات العقيدة ويُجادلون فيها، وما جاء ذلك منهم إلا تأثرًا بمثل هذه القنوات.


أما جانب الأنباء والأخبار في هذه القنوات فحدِثْ ولا حرجَ، كم قلبت من حقائق، وكم أُثيرت من فتن، وكم كُبِّر من صغير وعُظِّم من حقير بسبب نشرة أنباء أو تحليل أخبار، ونَسي الناس أن أكثر هذه القنوات قد سبحت في بحر الصهيونية أو خاضت في غِمار الماسونية.


عباد الله: إذا وجد الحياء في نفس المرء منعه من الكثير، وحال بينه وبين الحقير من الأمور، وأما إذا خلع المرء بُرقع الحياء، ولم يَعد في وجهه للمروءة ماء، أتى السيئات وهو يَظن نفسه مُحسنًا، وتجرأ على المنكر الشنيع، وهو يحسبه هينًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدركَ الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت».
بارك الله لي ولكم...


* *


الخطبة الثانية

من القنوات الفضائية

الحمد لله الصادق في وعده، المتصرفِ في خلقه، وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه، يَعد المُحسن فيوفيه وعده، ويتوعَّد المسيء فيوقع عليه وعيده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان رفيقًا بأمته يبحث الخير لهم ما استطاع، ويخاف عليهم من الشر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد:


فإن التقوى هي الوصية لكل مؤمن ومؤمنة، فاتقوا الله أيها الناس واحذروا عقابه.


أيها الناس: هذه ثلاثة أمور هي ذكرى لكلِّ رجل رضي أن يُدخل مثل هذه القنوات في بيته:


الأولى: أن الله عز وجل قد أمر الناس أن يتقوا الله في أنفسهم، فأين تقوى الله في مثل هذه المعصية، حين تَجول ببصرك بين أمور محرمة ومنكرة.


الثانية: أن الله أمرك بأهل بيتك، وأن تقيهم من النار [FONT=&quot]}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ[FONT=&quot]{[/FONT] [التحريم: 6]، أي أنقذوا أنفسكم وأهليكم من نار الله الرهيبة الموجعة، وأنقذوا معكم أهليكم الذين تزعمون أنكم تُحبونهم، فكيف تُحبونهم وأنتم تُلقون بهم في مجالاتٍ خطرة، وعَفَنٍ ماجنٍ، وصور منحلة.[/FONT]


ألا يخشى من رضي لأولاده وأهل بيته بمثل هذه الأمور من مغبَّة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في صحيح مسلم، يقول عليه صلوات الله وسلامه: «ما من مسلم يَسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة»، ولا أدري هل من أحد يُنازع في أن مثل هذه الأمور من الغش للأهل والأولاد.


فإن أبيت إلا السيرَ خلف هوى نفسك ومطاوعةِ الشيطان، فأذكرك أمرًا ثالثًا: وهو أن أمامك أمرين لا محيص لك عنهما، وهي أنك تتقلب في نعم الله صباح مساء، ألا تخاف أن يَفْجأُك الله بعقوبة من عنده؛ فما أكثر العقوبات الدنيوية، هذه الزلازل ما بين طَرفة عينٍ تنتهي بلادٌ كاملة، أتظن أنك في ملجأ من الله، إن كفرَ النعم وعصيان الله في أرضه هو سبب النقم من الله.


إنك إن أبيتَ إلا الإصرار على الذنب فإن أمامك أمرًا ثانيًا لن تنجوَ منه وهو المبيتُ في حجرة مظلمة يملأ الترابُ فاك وينخرُ الدود عظامك، ثم تقف حافيًا عاريًا أمام الله يوم القيامة، ويزيد من ألمك وحسرتك أن أهلك وذويك سيتعلقون بك في ذلك اليوم يريدون حقوقهم، كيف خادعتهم وغششتهم، ستتعلق بك زوجتك وابنك وبنتك وأخوك [FONT=&quot]}وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [البقرة، 281]، [FONT=&quot]}[/FONT]يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[FONT=&quot]{[/FONT]
[النور: 24]، فإلى كل شخص وضع هذا الجهاز في بيته أقول: ستقفُ والله بين يدي الله يوم القيامة، وسيسألك فماذا ستجيب أمام علام الغيوب؟
[/FONT]


أيها الناس: إن من يعلم بضرر هذه القنوات الفضائية وقبيح عاقبتها، ثم لا يستجيب لنداء ولا يرعوي لموعظة؛ فلا عليه إذن أن يجد على رقبة ابنه ناقوسًا أو صليبًا، ولا عليه أن يرى أبناءه يترنحون من أثر المسكرات والمخدرات، ولا عليه أن يرى بنته ومَحْرمه تُصادق فلانًا؛ وتخرج وتدخل بلا حياء ولا غَيْرة، ولا عليه إذن أن يسمع عن علاقات محرمة بين نساء متزوجات مع أخدانٍ وأصحاب.


إن ما يبصره المرء عبر هذه القنوات لابد أن يتأثر به وإن طال الزمن، ولكن الشيطان يُعمي ويُصمُّ، إن المرء قد يمضي سنوات طويلة في إصلاح أهله وأولاده ثم يفسدهم في لحظات إذا سمح لهم بمثل هذه الأمور.
عباد الله: إن الله وملائكته...

* * *
 
الواسطة والشفاعة



الحمد لله المتفضل على عباده بجزيل النعم، أحمده سبحانه، كم أسدى من نعمةٍ، وكم دفع من نقمةٍ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدًا عبده ورسوله الشافع المشفع يوم القيامة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.



أما بعد:



فاتقوا الله عباد الله [FONT=&quot]}يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[FONT=&quot]{[/FONT] [النساء: 1].[/FONT]



عباد الله: حسنُ اللقاء وطيبُ الكلام، ومشاركة الأخ لأخيه في السراء ومواساته في الضراء، كل أولئك من كريم الخصال وحميد الشيم، وهذه الأمور من المعروف الذي يجب على كلُّ مسلم ألا يقلل من شأنه أن يَحتقر بذله، «لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تُفرغ دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تُكلم أخاك ووجهك إليه مُنبسط».



الناس – عباد الله – لُحْمة لا يستغنون عن التعاون، ولا يَستقِلون عن المظافر والمساعد، فإنما ذلك كله تعاون ائتلاف، يتكافئون فيه ولا يتفاضلون، ولربما احتاج شخص إلى آخر، والمحتاج إليه أقل من المحتاج، كاستعانة السلطان بجنده، والمزارع بعماله، فليس من هذا بُدٌّ، ولا لأحد عنه غنى.



أيها الناس: أعظم المعروف ما ترك في نفسٍ أثرًا طيبًا تذكره فتشكره، وإذا كان انبساط الوجه للأخ يَعتبره الإسلام معروفًا يُؤجر عليه العبد، فكيف بما هو أكثر نفعًا وأعظمُ فائدةً تعود على الأخ المسلم، كبسط اليد إليه بالإنفاق، وكواسطة الخير في أمر مشروع، وكتفريج الكرَب عن المكروب أو دفع المكروه.



روى الإمام مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نَفَّس عن أخيه كُرْبَةً من كُرَبِ الدنيا، نَفَّس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على مُعسر يَسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عوْن العبد ما كان العبد في عون أخيه».



الواجب على المسلمين كافة نصيحةُ المسلمين، والقيام بالكشف عن همومهم وكربهم؛ لأن من نفس كُربة من كُرب الدنيا عن مسلم نَفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن تَحرى قضاء حاجته ولم يكتب قضاؤها على يديه، فكأنه لم يقصر في قضائها، وأيسرُ ما يكون في قضاء الحوائج استحقاقُ الثناء، والإخوان يُعرفون عند الحوائج، كما أن الزوجة تُختبر عند الفقر؛ لأن الناس في الرخاء كلهم أصدقاءُ، وشر الناس الخاذلُ لإخوانه عند الشدة والحاجة، كما أن شرَّ البلاد بلدة ليس فيها خصب ولا أمن.



يقول الحسن البصر: قضاءُ حاجة أَخٍ مسلم أحب إلي من اعتكاف شهرين، وجاء رجل إلى الحسن بن سهل يَستشفع به في حاجة فقضاها، فأقبل الرجل يشكره فقال له الحسن: علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاةً كما أن للمال زكاة، وفي لفظ: ونحن نرى أن كَتْب الشفاعات زكاةُ مروءاتنا.



وروى البخاري ومسلم عن أبي موسى [FONT=&quot]t قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالبُ حاجة أقبل على جُلسائه فقال: «اشفعوا فلتؤجروا وليقضِ الله على لسان رسوله ما أحب». وفي رواية: عن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجلَ ليسألني عن الشيء فأمنعه كي تشفعوا له فتؤجروا».[/FONT]



عباد الله: الإفضال على الناس والإحسانُ إليهم شرف عظيم جعله الله لكل صاحب مال أو جاه، بل إن من أعطاه الله عز وجل نعمةً من مال، أو جاه فقد وجب عليه الإحسان إلى الناس، روى الطبراني في «معجمه» وابن أبي الدنيا في «قضاء الحوائج» بإسناد حسَّنه الهيثمي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد أنعم الله عليه نعمةً فأسبغها عليه، ثم جعل من حوائجِ الناس إليه فتُبرم، فقد عرض تلك النعمة للزوال». وفي رواية: «إن لله أقوامًا يختصُّهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرُّهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحوَّلها إلى غيرهم».



حقيق – عباد الله – على من علم الثواب ألا يمنع ما ملك من جاه أو مال، إن وجد السبيل إليه، قبل حُلول المنية، فينقطع عن الخيرات كلها، والعاقل يعلم أن من صَحِبَ النعمة في دار الزوال، لم يَخل من فقدها، وأن من تمام الصنائعِ و أهنأها ما كان ابتداءً من غير سؤال.

إذا ضاقت بالصحابة ضائقةٌ ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه الشفاعة لهم فيها عند أصحابها، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن أباه تُوفي وترك عليه ثلاثين وسْقًا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فكلم الرسول صلى الله عليه وسلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى... إلخ الحديث.



عباد الله: يقول الله سبحانه: [FONT=&quot]}مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا[FONT=&quot]{[/FONT]
[النساء: 85]. وروى الجماعة إلا الترمذي عن كعب بن مالك «أنه تقاضى كعب بن أبي حدرد دينًا كان عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سُجُف حجرته فنادى: يا كعب، فقال: لبيك يا رسول الله، قال: ضع من دينك هذا؛ وأشار إليه أي الشطر، قال: قد فعلت يا رسول الله، قال: قم فاقضه».
[/FONT]



أيها الناس: اسمعوا إلى ما أعده الله للقاضين للناس حوائجهم والكاشفين كروبهم، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب «قضاء الحوائج» بإسناد حسن، والطبراني وابن عساكر عن ابن عمر [FONT=&quot]t قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله أنفعُهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سرور تُدخله على مسلم أو تكشف عنه كُربة أو تقضي عنه دينًا أو تَطرد عنه جوعًا» إلى أن قال في آخر الحديث: «ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تَتَهيَّأ له أثبت الله قدمه يوم تَزِل الأقدام، وإن سوء الخلق يُفسد العمل كما يُفسد الخلَ العسلَ».[/FONT]



عباد الله: الحاجة إلى الناس من أثقل الأمور، ألا فليعلم من ابتلي بمثل هذه أنه يجب عليه أن لا يُلحف في السؤال، فإن شدة الاجتهاد ربما كانت سببًا للحرمان والمنع، ألا وليختر المكان المناسب والزمان المناسب، روي عن عمر أنه قال: لا تسألوا الناس في مجالسهم ولا في مساجدهم فتُفحشُوهم، ولكن سلوهم في منازلهم، فمن أعطى أعطى ومن منع منع، يقول أبو حاتم بن حبان بعد أن ذكر قول عمر: هذا إذا كان المسئول كريمًا، أما إذا كان لئيمًا فإنه يسأل في هذه المواضع؛ لأن اللئيم لا يقضي الحاجة ديانة ولا مروءة، وإنما يقضيها – إذا قضاها – للذكر والمحمدة بين الناس، على أني استحب للعاقل أن لو دفعه الوقت إلى أكل القديد ومص الحصى، ثم صبر عليه لكان أحرى به من أن يسأل لئيمًا حاجةً؛ لأن إعطاء اللئيم شين ومنعه حتفٌ. اهـ.



يقول خالد بن صفوان: لا تطلبوا الحوائج عند غير أهلها، ولا تطلبوها في غير حينها، ولا تطلبوا ما لا تستحقون منها، فإن من طلب ما لا يستحق استوجب الحرمان.



عباد الله: إن صنائع المعروف لا تقف عند حدِّ، بل تتسع إلى ما لا حد له، حتى يكون في نصيب كل مسلم أن يأخذ منها بحظ [FONT=&quot]}فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[FONT=&quot]{[/FONT] [الزلزلة: 7، 8].[/FONT]



يقول بعض الحكماء: اصنع الخير عند إمكانه يَبق لك حمده عند زواله، وأحسن والكرَّةُ لك، يحسن إليك والكرَّةُ عليك، واجعل زمان رخائك عدة لزمان بلائك.



واعلموا عباد الله أن هناك أمورًا لا تَحل الشفاعة فيها، روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دونَ حدٍّ من حدود الله فهو مضادٌ لله في أمره».

أقول قولي هذا...

* *



الخطبة الثانية

من الواسطة والشفاعة



الحمد لله الذي وعد المحسنين بعظيم الثواب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.



أما بعد:



فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله هي المخرج عند الشدائد وهي المعين عند النكبات.

عباد الله: ينفر كثير من الناس لغيرهم خوفًا من عدم قبولها، ألا فليعلم أولئك أن سيد الخلائق وهو أعظم حقًا وأولى بكل مسلم من نفسه ردت شفاعته، فما أصدر تحسرًا ولا ندمًا، ولا عاتب أحدًا.



روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: كان زوج بريرة عبدًا يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: «ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثًا؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لو راجعتيه فإنه أبو أولادك؟ فقالت: يا رسول الله، أتأمرني؟ قال: لا، ولكني أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه».


فلا يكونن نظرَ الشافع القبول وعدمه، إنما ينظر إلى الأجر، فإن الله قد قال: [FONT=&quot]}مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا[FONT=&quot]{[/FONT] [النساء: 85]، ولم يقل: من يشفع فيشفع.[/FONT]



جاء في ترجمة عبد الله بن عثمان شيخ البخاري أنه قال: ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تمَّ وإلا قمتُ له بمالي، فإن تم وإلا استعنتُ به بالإخوان، فإن تم وإلا استعنتُ له بالسلطان.



عباد الله: العاقل الفطن لا يتَسخَّط ما أعطي وإن كان تافها؛ لأن من لم يكن عنده شيء فكل شيء يستفيده ربح.

وذكر ابن الجوزي قصة فقال: كان هارون الرقي قد عاهد الله تعالى ألا يسأله أحد كتابَ شفاعة إلا فعل، فجاء رجل فأخبر أن ابنه أسير في الروم وسأله أن يكتب إلى ملك الروم في إطلاقه، فقال له: ويحك، ومن أين يعرفني، وإذا سأل عني قالوا مسلم، فكيف يفي حقي؟ فقال له السائل: اذكر عهد الله، فكتب إلى ملك الروم، فلما قرأ الكتاب قال: من هذا الذي قد شفع إلينا؟ قيل: هذا قد عاهد الله لا يسأل شفاعة إلا كتبها إلى أي مكان، فقال ملكهم: هذا حقيق بالإسعاف أطلقوا أسيره.



أيها الناس: ليس الحديث عن مثل هذه الأمور هو دعوة للناس إلى السؤال، ولكن الحاجةُ ملحةٌ والضرورة قاسية، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ولكن لا يكن الواحد كمثل ذلك الفقير الذي سمعه رجل وهو يدعو يقول: اللهم ارزق المسلمين حتى يعطوني، فقال له الرجل: أتسأل ربك الحوالة.



عباد الله: إن الشفاعة والوساطة متى ما كانت في أَمر مشروعٍ فهي مندوب إليها، إلا أنه ينبغي ألا تكون الشفاعة هي مُسيِّرةُ أمورنا وباعث إنتاجنا، إننا مطالبون بإكرام القريب والصاحب ولكن ليس على حساب تعطيل مصالح أناس لا يجدون مثل ما تجد، فمن أين لهم ما يرغبون؟



عباد الله: لست أدعو هنا أن نأخذ حقوق غيرنا عن طريق الشفاعات، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: «من اقتطع مالَ امريء مسلم بغير حق لقيَ الله وهو عليه غضبان».



أيما شفاعة أخذت حق شخص مسلم فهي شفاعة محرمة، ينال وزرها الشافع فيها حال علمه بذلك، الشفاعة التي توصل الغِرَّ إلى مراكز الأسود شفاعةً لا خير فيها بل ضررها عظيم.



ما أجمل الشفاعة التي توصل الحق إلى صاحبه، يُوصل بها بين متخاصمين، يوصل بها أرحام متقاطعة، تُزال بها منكرات، يَنال بسببها خير للمسلمين أجمع، [FONT=&quot]}لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[FONT=&quot]{[/FONT] [النساء: 114].[/FONT]



أيها الناس: لو أنجزنا الأعمال بمثل المسئولية التي تحملناها أمام الله – أولاً – ثم أمام ولاة الأمر، لما احتاج صاحب الشأن للبحث عن شفيع أو وسيط، ولما احتاج الشفيع إلى بذل شفاعته، ولما صار الناس رهائن الشفاعات يبحثون عنها دائمًا.

عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي...




* * *
 
بسم الله الرحمن الرحيم

الإيمان بالملائكة



الحمد لله فاطر السماوات والأرضِ جاعلِ الملائكة رُسلا أولي أجنحة مثنى وثلاثَ ورباع أحمده سبحانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكمل الخلق توحيدًا وأبرُّهم عملاً وأتقاهم لربه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.


أما بعــد:


فأوصيكم أيها الناس بالوصية الدائمة التي كرَّرها الله في كتابه، وصيةُ الله للأولين والآخرين: الوصيةُُ بتقوى الله [FONT=&quot]}وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[FONT=&quot]{[/FONT] [النساء: 131].[/FONT]


أيها الناس: إن من الأصولِ الثابتة التي قامت عليها السماوات والأرض، بل هي أصلُُ الأصولِ، هي معرفة أن الله ربَّ العالمين الرحمن الرحيم المالكُ المتصرفُ ذو الألوهيةِ والعبوديةِ على خلقه أجمعين، وأن جميعَ الكون وكل ما فيه خلقه وملكه وعبيده وتحت تصرفه وقهره [FONT=&quot]}إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[FONT=&quot]{[/FONT] [مريم: 93، 94].[/FONT]


عباد الله: لقد أخبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم - وخبرُه صدقٌ – عن افتراقِ هذه الأمة إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة كلهم ضُلَّال إلا فرقة واحدة، هي التي وافقت هدي الكتاب والسنة وسارت على نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده.


إن هذا الافتراقُ شاملٌ لكل أمور الدين عقيدة وعملاً، ولكن التفرقَ قد يُعالج إلا في باب واحد إذا كُسر فلا يُمكن إصلاحه إلا بإعادته جديدًا كما كان، لا يصلح في سده باب فيه ثقوب أو خلل، إنه باب التوحيد والاعتقاد، باب أهلِ الزيغِ والضلال فيه فرقٌ شتى كل فرقةٍ فرحة بما عندها، أما أهل السنة والجماعة الذين ساروا على النهج فإنهم على خط مستقيم في هذا الأمر بل وفي جميع أمورهم، ولكن باب التوحيد والاعتقاد يخصُّونه بمزيد اهتمام ومزيد عناية لأن الضلال فيه ضلال كبير والخطأ في التوحيد ليس كخطأٍ في غيره.


أيها الناس: إن أكثر ما جاء الانحراف إلى طوائف شتى في هذا الباب بسبب أمرين: الجهل؛ فكثير من الناس يجهلون أمور معتقدهم التي يعتقدونها وقليل ممن آتاهم الله علمًا يتحدث عنها، ولو أن الناس إذا جهلوا شيئًا سألوا عنه لبلغوا مرادهم ولكن على نفسها جَنتْ، ولا ينال العلم مُستحٍ ولا مُستكبرٌ.


أما السبب الثاني: فهو أن فِئامًا منهم أخذوا هذا العلم من غير مصدريْه الكتاب والسنة.
العقل – أيها الناس – لا دخل له في باب العقيدة، لأنها من باب الغيب؛ والغيب لا يُعلم إلا بوحي.


إذا كان ذلك كذلك فاعلموا أيها الناس – أن عليكم أن تؤمنوا بأن دين المرء يقوم على أصول ستة هي كالعُمُد للبنيان، لو سقط منه عمودٌ سقط البناء أو لا يزال مخلخلاً.


ستة أصول ينبغي لكل مؤمن ومؤمنة الإيمان بها والإقرار بمضمونها إيمانًا، لا خلل فيه وإقرارًا لا يعتريه نقص، لخَّصها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه جبريل [FONT=&quot]u، فسأله عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره.[/FONT]


الإيمان بالملائكة أحد تلك الأصول الستة التي من أقر بها فقد استكمل الإيمان، والملائكة عباد الله: عالمٌ غيبي مخلوق عابدون لله ليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، خلقهم الله تعالى من نور ومنحهم الانقياد التام لأمره والقوة على تنفيذه [FONT=&quot]}وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [الأنبياء: 19، 20].[/FONT]


الملائكة رسل من رسل الله [FONT=&quot]}الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا[FONT=&quot]{[/FONT] [فاطر: 1]. الملائكة عدد كثير لا يُحصيهم إلا الله سبحانه، جاء في الصحيحين من حديث أنس في قصة المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم رُفع له البيت المعمور في السماء فرأى أنه يُصلي فيه سبعون ألف ملك كلَّ يوم إذا خرجوا لا يعودون إليه آخر ما عليهم، يعني: لا يأتيهم الدور مرة أخرى.[/FONT]


الملائكة [FONT=&quot]}مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [التحريم: 6]. جاء في الحديث: «أَطَّتْ السماء وحُقَّ لها أن تَئِطَّ ما فيها أربعة أصابع إلا وملك قائم راكع أو ساجد».[/FONT]


عباد الله: الإيمان بالملائكة يتضمنُ أربعة أمور لا بد من الإقرار بها حتى يكون الشخصُ مؤمنًا بهم:


الأول: الإيمان بوجودِهم وأنهم خلقٌ من خلق الله كما جاءت به الآيات والسنن.
الثاني: الإيمان باسم من عَلِمنا اسمه منهم، ومن لم نعلم اسمه نؤمن به إجمالاً دون حاجة إلى معرفة اسمه، ومما ينبغي أن يُعلم هنا أنه لم يصح من أسماء الملائكة إلا قليل، وهم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وملكان يسألان الميت لم يثبت تسميتها بحديث صحيح.


أما الأمر الثالث عباد الله: ألإيمان بما علمنا من صفاتهم، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبريل على صفته التي خُلق عليها وله ستمائة جناح قد سَدَّ الأفق، وقد أعطاهم الله من القدرة في التمثل في صورٍ عديدة كما قال الله عن جبريل لما بعثه إلى مريم [FONT=&quot]}فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا[FONT=&quot]{[/FONT] [مريم: 17]. وجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان ثم قال عنه صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. رواه مسلم. وجاء مرة على صورة دِحية الكَلْبيَّ، وكذلك الملائكة الذين جاءوا إلى نبي الله إبراهيم ونبي الله لوط كانوا على صورة رجال، ولكن تَمثُّلهم في صورة البشر إنما هو بأمر الله وقدرته ليس للملائكة أمر فيه.[/FONT]


أما الأمر الرابع أيها الإخوة مما يجب اعتقاده في الملائكة: فهو الإيمان بما علمنا من أعمالهم التي يقومون بها: كتسبيحهم لله وعبادتهم له ليلاً ونهارًا بدون ملل أو فتور. كما أنه ينبغي لنا أن نؤمن بأن لبعضهم أعمالاً خصَّهم الله بها مما فيه مصلحة البشر: فجبريل موكلٌ بما فيه حياةُ القلوب وهو الوحي [FONT=&quot]}نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ[FONT=&quot]{[/FONT] [الشعراء: 193-195]. وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الأجساد بعد موتها، وميكائيل موكل بإنزال المطر والنبات اللذين بهما حياة الأرض، فهؤلاء الثلاثة جعل الله على أيديهم حياةَ القلوب وحياةَ الأبدان وحياةَ الأرض، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يَستفتح صلاة الليل بقوله: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة...».[/FONT]


ومنهم مَالِكٌ موكلٌ بالنار، يقول الله عن أهل النار: [FONT=&quot]}وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [الزخرف: 77]. وملك موكل بالجنة، وملك الموت الذي يقول الله عنه: [FONT=&quot]}[/FONT]قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [السجدة: 11]. قادرٌ بأمر الله على قبض نفسٍ في المشرق وأخرى في المغرب في آنٍ واحدٍ [FONT=&quot]}[/FONT]إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[FONT=&quot]{[/FONT] [يس: 82]. [FONT=&quot]}[/FONT]لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[FONT=&quot]{[/FONT]. وملكان موكلان بسؤال الميت في قبره كما بت في أحاديث صحيحة.[/FONT]


ومما ينبغي معرفته هنا أن ثَمَّة ملكين مع كل شخص يكتبان عليه جميعَ أعماله [FONT=&quot]}إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[FONT=&quot]{[/FONT] [ق: 17، 18]. فإياك إياك أيها المسلم أن يُكتب عليك ما يسوؤك يوم القيامة.[/FONT]


لما دخلوا على الإمام أحمد وكان مريضًا فإذا هو يئنُ أنين المريض، فقيل له يا أبا عبد الله: إن طاووسًا – وهو أحد التابعين – يقول: «إن أنين المريض يُكتب عليه» فأمسك عن الأنين.


فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الإنسان سوف يخرج له يوم القيامة: [FONT=&quot]}كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الإسراء: 13، 14].[/FONT]


اللهم زينا بزينة الإيمان وجنبنا الزلل في القول والعمل، أقول هذا القول وأستغفر الله..


* *

الخطبة الثانية

الحمد لله يعلم السرَّ والنجوى لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وسلم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد:


فاتقوا الله أيها الناس وتعلموا من العلم ما تقيمون به دينكم فإن خير العلمِ العلمُ الذي يزيد المؤمنَ إيمانًا بربه.


عباد الله: السؤال الذي أراه عالقًا بذهن كثير من الناس هو قولهم: ما فائدة الإيمان بالملائكة؟ ألا فليعلم كلُّ مؤمن أن الإيمان بملائكة الله يُثمر ثمرات جليلة، أولها: العلم بعظمة الله وقوته وسلطانه فإن عَظمة المخلوق من عَظمة الخالق، ثم ثانيها: شكر الله عز وجل على عنايته بخلقه حين وكلَّ من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم وكتابة أعمالهم وغيرِ ذلك من مصالحهم. والثالثة: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى.


أيها الناس: إن الملائكة أجسامٌ تتحرك ليست بقوى معنوية كما قال أهل الزيغِ والضلال يقول الله عنهم: [FONT=&quot]}وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ[FONT=&quot]{[/FONT] [الأنفال: 50]. ويقول: [FONT=&quot]}[/FONT]وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ[FONT=&quot]{[/FONT] [الأنعام: 93]. ويقول الله عن أهل الجنة: [FONT=&quot]}[/FONT]جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ[FONT=&quot]{[/FONT]
[الرعد: 23، 24]. ويقول الله عز وجل في كتابه: [FONT=&quot]}[/FONT]وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ[FONT=&quot]{[/FONT] [آل عمران: 123-125].
[/FONT]


وثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يُحب فلانًا فأَحِبه فيُحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يُحب فلانًا فأحِبوه فيُحبه أهلُ السماء ثم يُوضع له القبول في الأرض». وصلاتكم هذه أيها الناس يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يومُ الجمعة كان على كلِّ باب من أبواب المسجد ملائكةً يَكتبون الأولَ فالأول فإذا جلس الإمام طووا الصُّحف وجاءوا يستمعون الذكر» رواه البخاري.


عباد الله: هذه نبذةٌ مختصرة مما يَلزم المؤمن اعتقاده في ملائكة الله. بصَّرنا الله بالعلم النافع ورزقنا عملا صالحًا. اللهم صل على معلم البشرية محمد صلى الله عليه وسلم وارض اللهم عن أصحابه أجمعين.


* * *
 


الأمرُ بالعلاجِ والتداوي



الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:





فإن الوصيةَ هي أن تتقوا الله في جميع أموركم، فإن تقوى الله هي الملتجأ عند البلايا، وهي السلوان عند الهموم والرزايا.
عباد الله: الإنسان في نظر الإسلام أغلى ثروةٍ وأكرم مخلوق، يُجِله ويحترمه ويصونه ويحفظه، ويعمل لنموه وكماله، وعلى حقنِ دمه، وبقاءِ نوعه، ونضوج عقله وتقدُّم وعيه، وبُلوغه من الرُّقي والتقدم الحدودَ الممكنة والمستطاعة ليكون في أحسن تقويم.


ولكن الإنسان في هذه الحياة هدفٌ للبلايا والمحن، ولا يخلو حيٌّ من نكد، ولا يصفو وقت من كدرٍ، ومحنُ الحياة وشدائدها امتحان واختبار فمن رضي فله الرضا، ومن سَخِط فعليه السخطُ [FONT=&quot]}الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[FONT=&quot]{[/FONT] [العنكبوت: 1-3]. ويقول صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمرَه كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن إن أصابته سراءَ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له».[/FONT]

وإن من أعظم ما يُصيب الإنسان في حياته من الابتلاء: الابتلاءُ بالأمراض والأسقام.


الناس – عباد الله – مُجمعون إجماعًا لا شك فيه أن الصحة تاجٌ لا يعرفه إلا المرضى.


الصحة والعافية نعمة مغبونٌ فيها كثير من الناس، ولكن المرض منتشر بين بني آدم انتشار النار في الهشيم، لا يخلو منه زمان ولا يسلم منه عصر؛ بل لا يسلم منه أحد إلا من رحم الله، بل إن الواحد إن سَلِم من شدة مرض فلابد أن يصيبه شيء من رشاشه المتناثر هنا وهناك.
ثمانية لا بد منها على الفتى






ولا بد أن يجري عليه الثمانية


سرور وهم واجتماع وفرقة






ويسر وعسر ثم سقم وعافية









الأمراض والأسقام وإن كانت ذات مرارة وثقل واشتداد وعَرَكٍ، إلا أن الباري جل شأنه جعل لها حِكمًا وفوائدَ كثيرة، علمها من علمها وجهلها من جهلها، ولقد أحصى الإمام ابن القيم في كتابه شفاءُ العليل ما للمرض من فوائد وحكم فزادت على مائة فائدة وقال: انتفاعُ القلب والروحِ بالآلام والأمراض، أمر لا يَحس به إلا من فيه حياة، فصحةُ القلوب والأرواح موقوفةٌ على آلام الأبدان ومشاقها.اهـ. ومن هذا المنطلق فإن المرض يجتمع فيه الكافر والمسلم والبر الفاجر ولكنهم يفترقون في الثمرة، يقول ابن مسعود [FONT=&quot]رضي الله عنه: «إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسمًا وأمرضهم قلبًا، وتلقون المؤمن من أَصَحِّ الناس قلبًا وأمرضهم جسمًا وأيْمُ الله لو مَرِضت قلوبكم وصَحَّتْ أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجُعْلان». ودخل سلمان الفارسي على مريض يعوده فقال له: (أبشر فإن مرضَ المؤمن يجعله الله كَفَّارةً ومُستعتبًا وإن مَرض الفاجر كالبعير عَقلَه أهلُه ثم أرسلوه فلا يدري لم عُقِل ولا لِمَ أُرْسِل).[/FONT]


وبعد أيها الناس فإن الإسلام جاء للمحافظة على بني البشر فلا ينبغي للمسلم أن يستسلم للمرض عجزًا وكَسلاً، لقد جاء الإسلام بالعلاجِ والأمر بالتداوي، بل لقد بنى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعدَ في العلاج وكيف تسير عليه، ولكن قبل ذلك أمور لابد من معرفتها وهي: أن يعلم المرء أن ما أصابه إنما هو من الله سبحانه وأنه بقضاء وقدر فلا مجال للتَّشكِّي والتَّضجُّر وليعلمَ أن ما أصابه شيء إلا بسبب ذنوبه، ومن حكمة الله أن يجعل العقوبةَ في الدنيا فلابد إذن للمريض من توبة واستغفارٍ وشكر لله أن جعل عقوبته في الدنيا دون الآخرة، وعلى المريض أن يتوكَّلَ على الله وأن يعتمد عليه في زوال ما أصابه.


عباد الله: كان من هديه صلى الله عليه وسلم فِعل التداوي في نفسه والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه، بل لقد أخبر أنه ما من مرض إلا وله دواء، ولكن الناس لا يعلمون، روى مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكلِّ داءٍ دواءٌ فإذا أصابَ دواءٌ الداءَ بَرِأ بإذن الله تعالى». ولكن الدواء لا يجوز إلا إذا كان فيه أمران: أن يكون مباحًا غير حرام، وأن يكون نافعًا له فائدة، فإن الإنسان لا يملك نفسه حتى يجعلها محل تجارب لأدوية قد تُفلح وقد لا تُفلح، يقول صلى الله عليه وسلم: «تداووا عبادَ الله ولا تتداووا بحرام». رواه أحمد وأصحاب السنن بسند صحيح. ويقول ابن مسعود: إن الله لم يجعلْ شفاءَكم في ما حَرَّمَ عليكم.


عباد الله: روى الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي بسند صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لُقيْمات يُقمن صليه، فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لِنَفَسه». هذا حديث عظيم من أعظم أحاديث العلاج والتداوي وهو الكلام عن الغذاء والحِمْية، يقول أهل الطب كما ذكر ابن القيم: كل داءٍ قُدرَ على دفعه بالأغذية والحِمْية لم يُحاول دفعه بالأدوية، وقد اتفقوا على ذلك، وذكر أنهم قالوا: لا ينبغي للطبيب أن يُولع بِسَقْي الأدوية، فإن الدواء إذا لم يجد في البدن داءً يُحَلِلْه أو وجد داءً لا يوافقه، أو زادت كميته قليلاً تشبثَ في الصحة وعبثَ بها.


ولقد اجتهد الأطباء في إيجاد أدوية لكثير من أمراض بني آدم وليس منها محظورٌ إلا ما كان مصنوعًا من حرام، أو هو حرام في نفسه كالخمر وما ماثله، يقول أحد السلف رحمه الله: مهما اجتهد الأطباء في أدويتهم فإن ما عندهم لا يساوي شيئًا في جانب ما أعطانا الله معاشرَ المسلمين، من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه، والالتجاء إليه والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يَصل إليه عِلْمُ أعلم الأطباء.


أيها الناس: إن من العلاج الذي أرشدنا إليه ديننا لدفع الأمراض والأسقام، هو ذلك العلاج الذي صار الناس فيه بين غلو وتقصير وأهملوا جانبًا منه، وحرصوا على جانب آخر منه، إنها عبادَ الله الرُّقية الشَّرعيَّة، لقد رَقَى صلى الله عليه وسلم نفسه ورقى أهله وأمر الصحابة بالرقية وقال: «لا بأس بالرقية بما ليس فيه شرك». لما قال له أحد الصحابة: كنا نَرْقي في الجاهلية كيف ترى ذلك يا رسول الله، رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا رُقْيَةَ إلا من عينٍ أو حِمَّةٍ» بل لقد رقى صلى الله عليه وسلم بعضَ أهله، تقول عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعوِّذ بعضَ أهله: يمسح بيده اليمنى ويقول: «اللهم ربَّ الناس أذهبْ البأسَ اشفِ أنت الشافي لا شفاءَ إلا شفاؤُك شفاءً لا يُغادرُ سَقَمًا» متفق عليه، بل إن عائشة رضي الله عنها رقت النبي صلى الله عليه وسلم، تقول رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوِّذات ويَنْفُثُ، فلما اشتد وجعه كنت أقرأُ عليه، وأمسح عليه بيمينه رجاء بركتها. رواه البخاري ومسلم.


وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أشتكيتَ؟ قال رسول الله: نعم، قال جبريل: باسم الله أُرقيك من كل داء يؤذيك ومن شر كل نفسٍ وعينٍ الله يَشفيك».


وإن أعظم الرُّقَى عباد الله ما كان بكتاب الله عز وجل: إذ هو الشفاء الحقيقي لأمراض الناس [FONT=&quot]}وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الإسراء: 82]. ولقد سمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة رُقية فهذا هو الواجب على المريض أن يَرقي نفسه بكتاب الله، وينفث بما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هنا أمرًا لابد من معرفته عباد الله، وهي أن الرقية تكون قبل وقوع المرض مثلما أن تكون بعده، فإن اللازم للمسلم الحق أن يُحصن نفسه من الأمراض قبل وقوعها بالأدوية الشرعية والنصائح النبوية، فإن من أهمل أوراد الصباح والمساء وأدبار الصلوات، وغفل عن قراءة القرآن حريٌ أن تتسلط عليه شياطين الإنس والجن؛ فيصيبونه بما يؤذيه لأنه هو المفرط وهو الذي ضيع نفسه، ألم يقل صلى الله عليه وسلم: «من قرأ آيةَ الكرسيِّ في ليلةٍ لم يَزل عليه من الله حافظ ولم يَقربه شيطان حتى يُصبح». رواه البخاري. وقال: «مَنْ تَصبَّح بسبع تمرات عَجْوة لم يضرُّه ذلك اليوم سُمٌ». متفق عليه. إلى غير ذلك من تعاويذ غفل عنها كثير من الناس.[/FONT]
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
* *

الخطبة الثانية

«من الأمر بالعلاج والتداوي»

الحمد لله رب العالمين.


أما بعد:


فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الواجب على الإنسان أن لا يحمله حبه للشفاء وحرصه على العافية، أن يقع في محاذير شرعية فيذهب للعلاج على أيدي المشعوذين والدجالين بحجة ذَهاب الناس لهم.


وإن التوسع عباد الله في جانب الرقية وإخراجها عن حدها المشروع أمر محرم مخالف للهدي النبوي، فإن الناس في هذا الزمان قد اتخذوا من الرُّقية حرفةً وتجارة تتمثل في أماكن للعلاج بها بمواعيد وترتيبات، بل إن منهم من لا عمل له غيرها، وهذا عباد الله من العبث وضياع الأموال في غير ما شرع الله، بل إن منهم من بالغ في الرقية حتى أخرجها عن الحد الشرعي في صور غير خافية على العقلاء.
وفي ظلال ما قد سمعتم فإن هناك أمورًا لا بد أن يعرفها الناس:


أولاً: أن الرقية عبادةٌ ودعاء، وكل عبادة ليست على ما شرعه الله ورسوله فهي باطلةٌ وغيرُ صحيحة فهل كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أو من فعل أصحابه هذا الأمر، ثم لم يُؤثر عن السلف أن منهم من انقطع للرقية، وفرَّغ نفسه لها خدمة للمسلمين ورحمةً بهم – كما زعموا.


ثانيًا: أن حرص المريض على الشفاء والعافية لا ينبغي أن يدفعه إلى الذهاب لكل ساقط أو منحرف؛ فإن المريض حال مرضه أشبه ما يكون بالسكران الذي لا يشعر بما حوله، فلابد للأصحاء من تدخل في إرشاده وتوجيهه.


ثالثًا: أن الواجب على المرء أن يرقي نفسه بنفسه، بل إنها أفضل وأنفع من طلبه من غيره، فإن الله يقول: [FONT=&quot]}أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ[FONT=&quot]{[/FONT] [النمل: 62]. والسوء هو المرض فعلى المريض أن يلجأ إلى ربه في الدعاء وطلب رفعِ ما أصابه.[/FONT]


رابعًا: واسمعوا ما أقول: إن الأمة العاقلة هي التي تأخذ من تاريخها الماضي دروسًا وعبرًا، وتعلمون ما وقع في هذه البلاد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من صور لبعض الشركيات والبدع.


يقول مؤرخ نجد عثمان بن بشر في كتابه: عنوان المجد بعد أن ذكر صورًا من هذه الشركيات قال: والسبب الذي أحدث ذلك في نجد- والله أعلم- أن الأعراب إذا نزلوا في البلدان وقت الثمار صار معهم رجال ونساء يتطببون ويداوون الناس، فإذا كان في أحد من أهل البلد مرض أتى أهله إلى مُتطبِّبِ تلك البادية فيسألونهم عن الدواء لِعلته فيقولون: اذبحوا له في الموضع الفلاني كذا وكذا، وذلك ليحققوا معرفتهم للطب عند هؤلاء الجهلة ثم يقولون لهم: لا تسموا الله على ذبحه، وأعطوا المريض منه كذا وكذا، وكلوا منه كذا وكذا، واتركوا كذا وكذا، وربما يشفي الله مريضهم فتنةً لهم واستدراجًا وربما يوافق وقت الشفاء حتى كثر ذلك في الناس، وطال عليهم الأمد فوقعوا بهذا السبب في عظائم... إلى آخر كلامه. فانظروا عباد الله كم رأيتم بين هؤلاء القراء من هو في ضرب من الدجل والشعوذة والسحر، فإذا لم ينتبه عقلاء الناس للخطر أوشك الخطر أن يقع.
إن خير الحديث كلام الله.
* * *

 
الزنا وخطره



الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده لسلوك صراطه المستقيم، وهداهم إلى نهج الفطرة، أحمده سبحانه أن شرع لنا هذا الدين القويم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رفع منار الفضيلة وقمع الرذيلة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد:


فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، التقوى التي تُصاحب المؤمن في كل وقت وكل حين، ولن ينجو من أهوال يوم القيامة إلا المتقون.


عباد الله: الناس مهما بلغوا من قوة فإنهم عاجزون عن مجابهة الله عز وجل، فما من قاهر أو قادر إلا والله فوقه، ومع ذلك فإن الله ينذر عباده بما يُرسل بينهم من الآيات [FONT=&quot]}وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الإسراء: 59]. ولن يعود للمسلمين جميعًا مجدَهم الغابر، ولا كلمتهم العالية إلا بتحقيق قول الله سبحانه: [FONT=&quot]}[/FONT]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[FONT=&quot]{[/FONT] [النور: 55].[/FONT]


متى ما حقق الناس المطلوب حقق الله لهم ما يطلبون، وإن المسلمين مطالبون دائمًا بفتح سجل أعمالهم لينظروا ما اقترفوه من الذنوب، فإنه ما من ذنب إلا وتتبعه عقوبة، وما من عقوبة إلا ولها ذنب كان سببًا لوقوعها، روى ابن ماجه وأبو نعيم والحاكم وصححه ووافقه الذهبي بأسانيد مختلفة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر المهاجرين: خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُلعنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيَّروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم».


أيها الناس: إن الإسلام دعا أفراده كي يسيروا صفًا واحدًا تجاه المخالف حتى يعيدوه إلى رشده وإلا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لتأمرُّن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذوا على يد السفيه ولتأطرُّنه على الحق أطرًا ولتقصُرُنَّه على الحق قصرًا أو ليعُمنَّكم الله بعقاب من عنده».


عباد الله: إن المجتمع الإسلامي النظيف هو الذي ترتفع فيه أعلام الفضيلة وتتضافر جهود أفراده على قمع الرذيلة في كل دروبها، وإن من حسنات هذا الدين سعيه لصلاح الأفراد والمجتمعات ومحاربة الفواحش وإقامة مجتمع إسلامي نظيف بعيد عن الجرائم الأخلاقية المفسدة، والمحافظة على الأعراض والأنساب وصيانة الفروج والدماء، بل إن الله تعالى ربط صلاح المؤمنين وفلاحهم بحفظ فروجهم وصيانة أعراضهم.


إن هناك جريمة هي من أقبح الجرائم، ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق، هي من أمقت الذنوب عند الله وأكثرها بشاعة، ما عصي الله سبحانه بعد الإشراك به بأعظم ولا أقبح منها، وهي خطر على المجتمعات البشرية، ما انتشرت في أمة إلا وأهلكتها ودمرتها، ولا فشت في مجتمع إلا قوضت أركانه وهدمت بنيانه، من أفحش الفواحش وأكبر الفضائح تقتل الرجولة، وتذيب الحرية وتهتك الأعراض وتبدد الأموال، وتؤدي إلى اختلاط الأنساب، وتفسد الأخلاق وتفضي بالأمة إلى الفناء وتدعوها للشقاق والعناء، إنها جريمة الزنا.


عباد الله: الزنا انتكاس في الفِطَر، وفساد في القلوب، وسبب لإيجاب الذل والعار والشنار وصاحبه مُتوعَّد بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة، والواقعون في الزنا جراثيمُ مفسدة، وأعضاء مسمومة في المجتمع تؤدي به إلى درك المهالك، وتقوده إلى الهوة السحيقة التي لا فلاح بعدها ولا نهوض وكما قيل: «ودت الزانية لو زنى النساء». هم في الحقيقة أصحاب نفوس ضعيفة، وإرادات سافلة، وقلوب غافلة قد أسرتها الأهواء والشبهات، واستحكمت عليها الشهوات والدنايا دون رادع من دين أو خُلق أو مروءة.


الزنا أيها الناس سبب البلايا وطريق التعاسة والعناء، يقضي على الأمم، ويهلك الديار ويبدد الممالك، ويقضي على الأخلاق، يقول الله تعالى واصفًا حال الزنا وضرره وفساده: [FONT=&quot]}وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الإسراء: 32]. وقد قرنه الله بالشرك والقتل؛ فقال في وصف عباده المتقين: [FONT=&quot]}[/FONT]وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا[FONT=&quot]{[/FONT] [الفرقان: 68، 69]. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك» قال قلت ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافةَ أن يُطعم معك» قال قلت: ثم أي؟ قال: «أن تُزاني بحليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: [FONT=&quot]}[/FONT]وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ[FONT=&quot]{[/FONT] الآيات.[/FONT]


وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يُزكِّيهم ولهم عذاب أليم: شيخٌ زانٍ وملك كذاب وعائل مستكبر». وعن ابن عباس مرفوعًا: «ما ظهر الغلولُ في قوم إلا ألقي في قلوبهم الرعب ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت». رواه مالك في الموطأ وصححه ابن عبد البر.


فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن واقع الناس اليوم من ظهور أمراض لم يجدوا لها علاجًا، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا إذن الله بإهلاكها». وقال الإمام أحمد: «لا أعلم بعد قتل النفس شيئًا أعظم من الزنا».


وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال أمتي بخير ما لم يَفشُ فيهم ولدُ الزنا فإذا فشا فيهم ولد الزنا فيُوشك أن يعمهم الله بعقاب». رواه أحمد.


الزنا أيها الناس يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين، وذهاب الورع وفساد المروءة، وقلة الغير فلا نجد زانيًا معه ورعًا، ولا وفاءً بعهد، ولا صدقًا في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرةً تامةً على أهله، ولو بلغ الرجل أن امرأته ماتت أو قتلت لكان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت عياذًا بالله.


روى الخرائطي عن عكرمة قال: سمعت كعبًا يقول لابن عباس: ثلاث إذا رأيتهن: السيوف قد عريت، والدماء أهريقت فاعلم أن حكم الله قد ضُيع؛ فانتقم الله لبعضهم من بعض، وإذا رأيت القطر قد حُبس فاعلم أن الزكاة قد مُنعت، منع الناس ما عندهم فمنع الله ما عنده، وإذا رأيت الوباء قد فشا فاعلم أن الزنا قد فشا».


يقول ابن القيم رحمه الله: «من موجبات الزنا غضب الرب بإفساد حُرمه وعياله ولو تعرض رجل إلى ملك من الملوك بذلك لقابله أسوأ مقابلة، ومنها سواد الوجه وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت، الذي يبدو عليه للناظرين، ومنها ظلمة القلب وطمس نوره، ومنها الفقر اللازم، ومنها أنه يذهب حرمة فاعله، ويُسقطه من عين ربه ومن أعين عباده، ومنها أنه يَسلبه أحسن الأسماء وهو اسم العفة والبر والعدالة، ويعطيه أضدادها كاسم الفاجر والفاسق والزاني والخائن، ومنها أنه يفارقه الطيب الذي وصف الله به أهل العفاف، ويستبدل به الخبيث الذي وصف الله به الزناة [FONT=&quot]}الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[FONT=&quot]{[/FONT].[/FONT]


إن الزنا أيها الناس: جريمةً تَئِنُ منها الفضيلة، ويبكي منها العفاف وما عُصي الله تعالى بعد الشرك به بذنب أعظم من نطفة يضعفها الرجل في فرج لا يحل له.


ومن قُبح الزنا وشدة ضرره جعله من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم منافيا للإيمان فإذا ارتكب العبد الزنا خرج منه الإيمان لا يعود إليه حتى يُقلع عنها، ويتوب إلى الله منها فعن أبي هريرةرضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن»، متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: « إذا زنى العبد خرج منه الإيمانُ فكان فوق رأسه كالظُّلة فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان» رواه أبو داود والترمذي والحاكم.


عباد الله: إن الناظر في تعاليم هذا الدين يرى أنه ما سعى إلى شيء سعيه إلى حفظ الفروج، وسد كل طريق يوصل إلى الزنا:


- أمر الشباب بالمسارعة إلى الزواج «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءةَ فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فإنه له وجاء».


أمر الناس ذكورًا وإناثًا بغض أبصارهم عن الحرام [FONT=&quot]}قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ[FONT=&quot]{[/FONT] النظر سهم من سهام إبليس، ومن أطلق نظره إلى ما حرم الله فقد أورد نفسه موارد الهلاك والسوء: يقول صلى الله عليه وسلم: «يا عليُّ لا تُتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة». رواه أبو داود والترمذي والإمام أحمد.[/FONT]


- منع الإسلام خُلُّو الرجل بالمرأة التي ليست له محرمًا لأنه سبب لإغراء الشيطان بينهما يقول صلى الله عليه وسلم: « لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم» متفق عليه.


- منع الإسلام المرأة من التبرج وإظهار الزينة لغير زوجها ومحرمها صيانة لها ولغيرها من الرجال [FONT=&quot]}يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[FONT=&quot]{[/FONT].[/FONT]


- منع الإسلام المرأة أن تسافر بدون محرم؛ لأن في ذلك ضياع لها وغياب عن الرقيب من أوليائها والغيورين عليها. يقول صلى الله عليه وسلم: « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها». رواه مسلم والبخاري.


- حرم الإسلام سماع الغناء لأنه بريد الزنا وما داوم عبد على سماعه إلا طمس الله على قلبه يقول: فلعمر الله كم من حُرَّة صارت بالغناء من البغايا، وكم حُرِّ أصبح عبدًا للصبيان والصبايا، كم جَرَّع من غُصَّة وكم أزال من نعمة وجلب من نقمة.


- نهى الإسلام عن الجلوس في الطرقات كيلا تقع العين على حرام فَتَفْتِن أو تُفْتَن، روى البخاري ومسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوسَ في الطرقات» قالوا يا رسول الله ما لنا بد من مجالسان نتحدث فيها قال: «فإذا أبيتم إلا المجلسَ فأعطوا الطريق حقه»، قالوا: وما حقه؟ قال: « غضُّ البصر وكفُّ الأذى وردُّ السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». ومن أروع ما جاء به الإسلام مانعًا من جريمة الزنا ما جاء عن جابر [FONT=&quot]رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أحدُكم أعجبته المرأةُ فوقعت في قلبه فليَعْمَد إلى امرأته فليُواقعها فإن ذلك يردُ ما في نفسه».[/FONT]
أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه.



* *

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين يبدل السيئات بعد التوبة حسنات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن الزنا بِشع في جُرمه، بشع في ذكره تستنكره حتى الحيوانات، أرأيتم القرد ذلك الحيوان الذي يستقبحه الناس هو خير من أناس كثيرين، روى البخاري في صحيحه عن عمر بن ميمون الأوديِّ قال: «رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم».


كم في الناس اليوم من هذه القردة خير منه، وإلا فما بال الناس اليوم يذهبون زرافات ووحدانًا إلى بلاد الكفر والإباحية، وكم من بلاد إسلامية يقصدها الناس أقل ما فيها أنها تُذيب الغيرة منهم.


وماذا يقال عن ما نشاهده من خروج المرأة متبرجة أمام الناس في الأسواق والمنتديات؟ وماذا عسانا أن نقول عن سماح بعض الناس لمحارمهم بالخلوة مع الرجال في سيارة أو عمل؟ ومهما قلت فلن تبلغ مرادك ممن أدخلوا ذلك العفن الفضائي إلى بيوتهم ويكفي أن غيرتهم ماتت أو هي على وشك.


إن الغيرة إذا ذهبت من قلوب الناس فقد آن لجدار العرض أن يَهوِي، ولعُودِ الحياء أن يميل. روى البخاري ومسلم عن المغيرة [FONT=&quot]رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصْفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « أتعجبون من غَيرَة سعدٍ! والله لأنا أغيَرُ منه والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العُذْرُ من الله ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المِدحةَ من الله ومن أجل ذلك وعد الله الجنة».[/FONT]


أيها الناس: إن جريمة الزنا تقود إلى جرائمَ كثيرة فالزنا يُجَرِّئ الزاني على قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق وإضاعة أهله وعياله، وربما قاده قسرًا إلى سقط الدم الحرام، وربما استعان عليه بالسحر وبالشرك وهو يدري أو لا يدري، فهي معصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها، ويتولد عنها أنواع أخرى من المعاصي بعدها، فهي محفوفة بجندٍ من المعاصي قبلها وجند بعدها، وهي أجلب شيء لشر الدنيا والآخرة، وأمنعُ شيء لخيري الدنيا والآخرة، وإذا علقت بالعبد فوقع في حبائلها عز على الناصحين استنقاذه وأعيى الأطباء دواؤه. وانظروا كيف جمع الله بين الخمر والزنا يوم القيامة، روى الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن أبي موسى [FONT=&quot]t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاثةٌ لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر».[/FONT]


أيها الناس: إن المسئولية عظيمة والخطر أعظم فاتقوا الله وأصلحوا بيوتكم وتناصحوا وأكثروا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عسى أن نسد خللا أو نُصلح فَتْقا.


عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي.

* * *
 
اخي بارك الله فيك على هده الخطب الرائعة التي هي في غاية الاهمية
 
العمل باليد

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.


[FONT=&quot]}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[FONT=&quot]{[/FONT].[/FONT]


[FONT=&quot]}يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[FONT=&quot]{[/FONT].[/FONT]


[FONT=&quot]}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[FONT=&quot]{[/FONT].[/FONT]


أما بعد:


فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.


عباد الله: إن التقوى هي المصاحبة للمؤمن في كل حين وعلى كل حال: فاتقوا الله جميعا أيها الناس في سركم وعلانيتكم.


عباد الله: الإنسان في هذه الحياة مجبولٌ على أمور كثيرة، قد لا يستطيع الفكاك من بعضها مهما حاول، ومن تلك الأمور: المال [FONT=&quot]}وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا[FONT=&quot]{[/FONT].[/FONT]


وفي الحديث الصحيح: «لا يزال قلبُ الكبير شابًا في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل». [متفق عليه].


المال في حقيقته لا يُطلب لذاته وإنما يطلب لأنه وسيلة لغيره، مما يحقق ويأتي بسببه من منفعةٍ أو مصلحة، والوسيلة ينالها المدح وينالها الذم بمقدار ما يتوصل إليها به وما توصل هي إليه، فالمال كالسلاح، إن كان في يد مجرم قتل به الأبرياء والضعفاء، وإن كان في يد مجاهد مناضل دافع به عن دينه ونفسه وأهله ووطنه، وانظروا إلى قول الله سبحانه عن المال: [FONT=&quot]}فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى[FONT=&quot]{[/FONT].[/FONT]


عباد الله: المال في حد ذاته خير ونعمة من الله وقيام بمصالح العباد، ولكن تصرف الإنسان في هذا المال قد يخرجه من هذه الخيرية إلى ضدها، والمال من أعظم الفتن التي يبتلى بها الناس: [FONT=&quot]}وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ[FONT=&quot]{[/FONT].[/FONT]


ولقد حثَّ الإسلام – أيها الناس – المرء على جمع ما يقوت به أهله وعياله من المال الحلال قال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: «إنك إن تذر ورثتك أغنياءَ خير لك أن تذرهم عالة يتكففون الناس» [متفق عليه].
ويقول صلى الله عليه وسلم: «كفي بالمرء إثما أن يُضيع من يَقُوت». [رواه أحمد ورواه مسلم بلفظ آخر].


عباد الله: جاء الإسلام حاثًّا على طلب هذا المال بالطريق المشروع، فحثَّ على الجد والعمل و حذَّر من البطالة والكسل، وفتح السُّبل في وجه مُبتغي الرزق الحلال والمال الطيب: [FONT=&quot]}قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ...[FONT=&quot]{[/FONT]، [FONT=&quot]}[/FONT]هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ[FONT=&quot]{[/FONT].[/FONT]


ويقول الله سبحانه: [FONT=&quot]}فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[FONT=&quot]{[/FONT].[/FONT]


فرتَّب الفلاح سبحانه على طلب الرزق الحلال وأداء واجب الطاعات وذكره جل وعلا.


إن العمل والجِدَّ والمهنة كانت من أخلاق أنبياء الله ورسله، ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده».


وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كان زكريا [FONT=&quot]عليه السلام نجَّارًا».[/FONT]


وروي أن إدريس [FONT=&quot]عليه السلام كان خياطًا يتصدق بفضل كسبه، ولقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يبيع ويشتري، وقال لأصحابه: « لأن يأخذ أحدكم أَحبُلَه ثم يأتي الجيل ثم يأتي بحزمة من حطب فيبيعها فيستغني بثمنها؛ خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه». [رواه البخاري].[/FONT]


وصحابته صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم امتهنوا المهن وباعوا واشتروا وطلبوا الرزق الحلال، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «تعلموا المهنة؛ فإنه يُوشك أن يحتاج أحدكم إلى مِهْنته».


وكان أبو الدرداء ليوقد النار تحت قدره حتى تدمع عيناه، وتقول عائشة: « كان أبو بكر رضس الله عنه أَتْجَر قريش حتى دخل في الإمارة».


وأوصى قيس بن عاصم أبناءه عند وفاته فقال: «عليكم بالمال واصطناعه فإنه مَنْبَهَة الكريم ويُستغنى به عن اللئيم، وإياكم والمسألة فإنها آخر كسب الرجل»، ويقول سعيد بن المسيب: «لا خير في من لا يطلب المال، يقضي به دينه ويصون به عرضه ويقضي به ذمامه، وإن مات: تركه ميراثا لمن بعده».


وقال الضحاك بن مزاحم: «شرف المؤمن: صلاة في جوف الليل وعِزُّه استغناؤه عن الناس». [رواه الطبراني بسند حسن مرفوعًا].


عباد الله: اتقوا الله تعالى، وإياكم والخمول والتكاسل، والاتكال على غيركم في خصوصيات حياتكم، واعلموا أن العمل وإن كان يسيرًا فهو خير من البطالة، وخير من انتظار النوال من أصحاب المال، وأعظم منه سؤال أصحاب الغنى فإن أعطاه فلقد بقيت المنة على ظهره يحملها، وإن منعه فقد اجتمع عنده سوءتان ذُلُّ الخيبة وذُلُّ السؤال.


يقول عمر بن الخطاب [FONT=&quot]رضي الله عنه: «مَكسبة في دناءة خير من سؤال الناس».[/FONT]


وروي عن لقمان أنه قال لابنه: «يا بني: استغن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد إلا أصابته إحدى ثلاث خصال: رقة في دينه، أو ضعف في عقله، أو وَهَاءٌ في مروءته، وأعظم من هذا استخفاف الناس به».


عباد الله: تَعوَّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور كثيرة ليُبين للناس مضرتها، ويستعين بالله على البعد عنها.


روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « تعوَّذوا بالله من الفقر والقِلَّة والذِّلَة».


وروى النسائي وأبو داود أنه قال: « اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيعُ».


ورويا أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجُبن والبخل، وغَلَبة الدين وقَهْر الرجال».


عباد الله: إنه لا يليق بالرجل العاقل أن يرضى لنفسه أن يكون حِمْلاً على المجتمع ثقيلاً لا فائدة منه، فارغًا عن شُغل، يقول عمر رضي الله عنه: «إني لأري الرجل فيعجبني شكله فإذا سألت عنه فقيل: لا عمل له، سقط من عيني».


وكان رضي الله عنه يأتي إلى قوم قابعين في المسجد بعد صلاة الجمعة يقولون نحن المتوكلون على الله؛ فيعلوهم بدرته وينهرهم ويقول: «لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تُمطر ذهبًا ولا فضة».


ويقول محمد بن ثور: كان سفيان الثوري يمر بنا ونحن جلوس بالمسجد الحرام فيقول: «ما يجلسكم؟ قلنا: ما نصنع؟ قال: اطلبوا من فضل الله ولا تكونوا عِيالاً على المسلمين»، اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا وعملاً صالحًا ورزقًا واسعًا، بارك الله لي ولكم...


* * *

الخطبة الثانية

الحمد لله يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله بيده خزائن السماوات والأرض وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أفضل المال ما كان من طريق حلال.


سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكسب أفضل؟ قال: « عملُ الرجل بيده وكلُّ بيع مبرور». [رواه الطبراني وأحمد بسند صحيح].


أيها الناس: إن المال متى ما اجتمع مع الدين كان الدين قويًا وظاهرًا: ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا.


إذا كان المال في أيدي عباد الله صرفوه في طاعة الله، وفي مرضاته وأما إن كان المال عند قوم ضعف عندهم الدين؛ فهم عبءٌ على المسلمين يسيرون خلف المال، حيثما سار ساروا لا يحلون حلالاً ولا يحرمون حرامًا، يقول صلى الله عليه وسلم: « نعم المال الصالح للرجل الصالح». [رواه الإمام أحمد بسند صحيح].


إن المال يذهب ويعود وما هو إلا وسيلة للإنفاق في سبيل البر والخير، وقبل ذلك في نُصرة الإسلام والمسلمين يقول صلى الله عليه وسلم: « أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غني». [رواه الشيخان].


وروى الطبراني بسند صحيح: أن رجلاً مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم فرأى الصحابة من جلده ونشاطه في العمل فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياءً ومُفاخرةً فهو في سبيل الشيطان».


وروى الترمذي وابن ماجه بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء».


عباد الله: بالمال الحلال والكسب الطيب استطاع المهاجرون إلى المدينة أن يزاحموا اقتصاد أهل الكتاب، أترونهم لو كانوا فقراء فهل يتم لهم ما أرادوا؟ [FONT=&quot]}ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا[FONT=&quot]{[/FONT].[/FONT]


ولما توفي الزبير بن العوام وكان عليه ديون للناس أحصيت تركته فزادت على ستين مليونًا، أكثرها من الأراضي والدور.


وقد قال ابن حجر مُعقبًا على هذا الحديث: فيه بركة العقار والأرض لما فيه من النفع العاجل والآجل بغير كثير تعب ولا دخول في مكروه كاللغو الواقع في البيع والشراء. اهـ.


أيها الناس: إن من أخطر ما يواجه الدولة حين تقوم على شعب اتصف بالدِّعة والكسل، وإن البلدان لا تقوم إلا بأفرادها وأبنائها فكيف تنهض بلاد وقد أصيب أهلها بالعجز والبطالة أو الاتِّكال على غيرهم.


عباد الله: إن البطالة شر خطير، وداء فتاك أسرع ما يفسد طمأنينة الحياة وأعجل ما ينغص العيش، البطالة باب إلى التَّسوُّل، وطريق إلى السرقة، ومدخل إلى الغش والخداع والمكر.


الإسلام دين عزة وكرامة ورفعةٍ وسُمو، يحث على العمل الصالح والنافع، ويأمر بالقوة والاستعداد للكربات والنوازل.
فانظروا حال أنفسكم وتدبروا أموركم ثم صلوا...
 
<div align="center">
وتمضي الأيـــــام



إِنَّ الحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ -وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ-.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [ الأحزاب:70-71].


أَمَّا بَعْدُ:


فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تعَالَى، وَخيرَ الهَدْيِ<الهَدْي: السيرة والهيئة والطريقة.> هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة, وكل بدعةٍ ضلالة.
ثم أما بعد:
عباد الله الذي ينظر إلى حال الأمم يرى أن الأمم تتعاقب، أمة تعلو، وأمة تزول، وبقاء الأمم وزوال الأمم مرتبط بما عندها من قيم وعقائد، فالعقيدة بمعنى الدين، فهناك أمة تبقى بدينها ولا زوال لها إلا ما يجري عليها من السنن، حينما تظل على أمر الله عز وجل فهي باقية، وحينما تتخلى عن أمر الله عز وجل لآبد أن يمضي عليها كما يجري من سنن الله عز وجل في خلقه، فلابد أن تزول.


فهناك زوال أمم، وهناك زوال دين، وزوال الأمم سنة من السنن، وهذا يمضي على البر والفاجر، وكما نرى كما أن الأمم تعلو كما وقع لفارس ثم الروم ثم فارس إلى آخره، إلى أن زالت فارس وبقيت الروم، ثم أمة الإسلام، يجري عليها كما يجري على غيرها من الأمم.


والعجيب في أمر هذه الأمة أنها هي الأمة الباقية إلى قيام الساعة، بمعنى أنها هي أمة الدعوة، هي المنارة التي يهتدي بها جميع الخلق إلى قيام الساعة، وزوالها بالكلية لا يكون أبدًا، مهما عم الأرض من كفر وضلال وفجور، فلآبد أن يقوم بأمر الله عز وجل ولو واحد يقيم الحجة على الخلق، فهي أمة إجابة وأمة دعوة.


والمكر بأمر هذه الأمة منذ بالبداية، منذ أن علمت يهود أن في آخر الزمان نبي، يدعو إلى الله عز وجل ولكنه ليس من نسل إسحاق، إنما هو من نسل إسماعيل، في أول أمرهم كانوا يهددون العرب الأقحاح سواء كانوا في مكة أو المستغربين الذين كانوا في المدينة، كانوا يهددونهم بمبعث نبي، وأنهم سيتبعونه ويقاتلون معه، ويقتلون العرب قتل عاد وثمود وإرم، فلما جاء الرسول خالفوه وحسدوه ونوؤه وحادوا عن طريقه، وما زالوا به حربًا واصروا على هذا، وأصروه إلى القريب والبعيد إلى قيام الساعة.


ولكن هذا الدين دين عظيم، دين عزيز، يعز من يحمله، ويذل من خالفه، قال عز وجل عن هؤلاء الأرجاس الأنجاس من اليهود ومن على شاكلتهم ممن رفض أن يدخل في هذا الدين، وممن حاربه وعاداه، يقول سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}. [الصف].
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} بمعنى أن حججهم واهية، وأن أيديهم قاصرة، وأن هذا الدين ماض ما حمله رجال، وأن هذا الدين سيبلغ الأفاق " لاَ يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ". أي ما من مدينة ولا ريف أو بادية، "لاَ يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الإِسْلاَمِ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا". < أحمد (6/4)، البيهقي "سنن" (9/181) >.
"بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ" عزًا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلًا يذل الله عز وجل به الكفر وأهله.


المعركة مستمرة، وربما من وقف مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما سكنت المعركة بينه وبين أهله وعشيرته ما يزيد على ثنتين وعشرين سنة، حروب مستمرة، سواء كان في العهد المكي أو في العهد المدني، بين من؟ بينه وبين أهله فقط، إلى أن اتسعت الدائرة، فبلغ الحرب أطراف الأرض جميعًا، وحينما أقول الحرب ليست حرب أشخاص، ليست في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وليست في شخص أبي بكر وعمر، وليست في شخص أحد قط، إنما العبرة في هذا الدين.


والدليل على هذا لما اجتمعت قريش بعظمائها وكبرائها وعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم خطة، منها أن يكون عليهم ملكًا، أو إن أراد سيادة سودوه، وعرضوا عليه المال والجاه، فليس في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، إنما لو انحرف عن المنهج فهو معهم وهم معه.


فالحرب حرب دين يراد بها الإسلام، ومن ثم على مدار التاريخ نرى أن حرب الإسلام مستمرة، كانت حرب سيف وغدر وخيانة، فما لبس الإسلام أن علا وظهر، بعد أن كان في الجزيرة، فتحت فارس والرم ومصر بل وصل الإسلام إلى إفريقيا، إلى أطراف الأرض في زمن عمر، فما كان من غدر الفرس إلا أنهم كانوا يرسلون العلوج، أي من غير العرب والفارسي علج، وهم صنع، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينبهرون بصناعتهم وهذا ليس بعيب ولا حرام بل هو مطلوب، فأدخلوهم المدينة، ليجددوا بما عندهم من مهارة صنعة العرب.


كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يمر على هؤلاء, فمرةً وجد غلامًا للمغيرةِ أغلق عليه دكانه وقت الصلاة, فسأل عمر؛ من هذا؟ قالوا هذا علج, عبدٌ من عبيد المغيرة, فغضب عمر وقال قاتل الله المغيرة لِما أكثر من هؤلاء؟ ولِما أدخل هؤلاء؟ ألا حريٌ به أن يُدخلهم الإسلام أو أن يُعيدهم إلى بلادهم.


ولكن الأيام مرت, وإذا بعمر في صلاة الفجرِ يدخل عليه مجوسي -أبو لؤلؤة- بغدرٍ وخيانة, فطعنه وهو يصلي في صلاة الصبح, وسقط عمرُ تشجب أوداجه دمًا إلى أن فاضت روحه.


ثم, الغدرُ مستمر, وكما قلت ليس في أشخاص, إنما الهمُ والهدفُ هو زحزحة وإزالة هذا الدين, قُتل عمر, والأمر على ما هو بل يزداد, فليس الأمر في عمر, ولكن الفتنة تمضي وأعداء الله -عز وجل- ماضون في كيدهم ومكرهم حتى قتل عثمان, ثم قُتل علي, ثم وقع خلافٌ عظيم, وعلى الرغم من هذا ما زال المسلمون ماضون.


في زمن عثمان؛ وصل الفتح إلى أطراف آسيا وإلى أعماق أوروبا, وفي زمن علي كذلك رغم أن الفتن مستمرة بين الأصحاب بسبب كيد الأعداء, إلا أن الأمة ماضية لا تقف, إلى أن كان في زمن معاوية -رضي الله عنه- صنع أسطولًا ما شهدته البشرية من قبل, تم الفتح الأول في زمن عثمان إلى قبرص, ثم كان الفتح الثاني في زمن معاوية -رضي الله عن أصحاب النبي صلي الله عليه وعلى آله وسلم-.
ظل الإسلام يعلو إلى أن استقرت الممالك وانكسرت شوكة أعداء الإسلام, ظل العدو لا يجدُ سبيلًا للدخول إلى ثغرٍ من ثغور الإسلام أبدًا, بل وصل في زمن الرشيد -هارون- أن الإسلام وصل إلى جميع أطراف الأرض, ما من بقعةٍ على ظهر الأرض إلا وهي تدين للإسلام, إما بالإسلام وإما بالجزية.


بعد ذلك؛ بدأ المسلمون ينشغلون بغير ما وُكِّلَ لهم, ما رضوا أن يكونوا من جنده, فُتحت الدنيا وزاد الإنشغالُ بغير هذا الأمر الذي جعله الله -عز وجل- موكلًا بهم إلى قيام الساعة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}. [آل عمران:110], ثم قال عز وجل {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}. [آل عمران:111], أي أن الضرر بهذا الدين لن يصل أعداء الإسلام إليه قط, بالكلية, ولذلك على مدار التاريخ, نرى أن الأمة وقع فيها غدرٌ عظيم من قِبَلِ أعدائها.


ما زال الضعف والوهن في جسد هذه الأمة يدب, ويزيد اليوم بعد اليوم, ولكن على فترات من التاريخ يحدثُ عند الأمة إفاقة, نعم قد تطول المدة إلى أعوام, قد تصلُ إلى مئة عام, ولكنها سرعان ما تقوم فتأخذُ بحقها من دين ربها فيُعلي الله -عز وجل- قدرها وينصرها على عدوها.
الأيامُ تمضي والأمةُ ماضية بين مدٍ وجزر, بين علوٍ وسفول, هناك حكام وعلماء, هذه الأمة تميزت بخصلتين, بحكامها أنهم عدل, عدول, وبعلمائها وأنهم عدول, حكامٌ يُقيمون شرع الله -عز وجل- لا يحيدون عليه أو عنه قيد أُنملة.


فالحاكم في الإسلام ليس مُتجبر ولا مُتفرد بأمر, إنما أمر الحاكم من عند الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-, فإن عجز عن مسألةٍ فإن العلماء يُقومونه ويدلونه على الصواب, فأمةٌ فيها الخيرية ما بين حاكمٍ رشيد وبين عالمٍ فاضلٍ جليل يُقيمان أمر الله -عز وجل-.
ولكن ربما يغلب على الحاكم الهوى, وليس هذا خللٌ في دين الله -عز وجل-, إنما هي السنن, علو وسفول, كما وقع في زمن المأمون حينما أمر بترجمة كتب فارس واليونان وغيرها، ودخل في الأمةِ نوع تحديث, بينما نرى أن سعد بن أبي وقاص لما دخل أرض فارس ونظر في مكتباتها الشهيرة, رأى فيها العجب العجاب, فقال بعض المسلمين يا أيها القائد أو أيها الأمير لو أخذنا هذه الكتب فاستفدنا منها مع ما معنا من كتاب الله -عز وجل- وسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-, فقال سعدٌ لا, ليس فيها خيرٌ قط, ثم حرَّقها جميعًا وقال يكفينا كتاب الله -عز وجل- وسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.


إلى أن جاء الخليفة المأمون ففتح الباب وبدأ يُترجم بعض كتب هؤلاء من الفلاسفة وغيرهم حتى دخل علم الكلامِ على هذه الأمة, علا بعض العقلاء ممن ينتسبون إلى العقل وتقربوا إلى الخليفة فأوقعوه في ضلالةٍ عظيمة، وهي ضلالة الإعتزال, بمعنى أن العقل مُسبَّق على النقل, وأن أي مسألةٍ في كتاب الله -عز وجل- أو في سُنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لابد أن يقبلها العقل, ولكنهم ما كانوا بجرأة عقلاءنا ممن يدَّعون العقل في زماننا, فكانوا إذا خالف النص العقل أوَّلوه وما ردوه, وتأويلٌ باطل.


حتى وقع الخليفةُ المأمون في قضيةٍ عظيمة وهي قضية خلق القرآن وشهر لها سيفًا وجنَّد جنودا ودعا علماء الأرض أن يُذعنوا بهذه المسألة, ما وافقه إلا ضعاف النفوس وهم في كل زمانٍ ومكان, جيء بأهل مصر, وقال الذهبي -رحمه الله تعالى- في السير وهذه مفخرةٌ عظيمة لأهل مصر, قال الذهبي ما وافق المعتصم أحدًا من علماء مصر, كل علماء مصر رفضوا هذه البدعة.


انتهى المطاف بجملةٍ من العلماء منهم من وافق ومنهم من خالف, حتى جيء بالإمام أحمد, عُرضت عليه الفتنة ,وكان الحكام يحتشمون من العلماء وخاصةً من لهم صيت في بلادهم, فإن القعنبي ويحيى بن بُكير كانوا من سكان مصر, وبين مصر وبين دار الخلافة مسافة, فأرادوا أن يُخوفوا علماء بغداد بعلماء مصر, ولكن علماء مصر ثبتوا وماتوا جميعًا شهداء في مقابل أن لا يتنازلوا عن أمرٍ لله -عز وجل-, جيء بالإمام أحمد, كُبِّلَ وقُيِّد ولآقى أصنافًا وألوانًا من العذاب, ما وصل بغداد حتى قُتل المأمون أو مات المأمون.


ثم جاء المعتصم وأقامها ثورة بعد أخيه, ظلت هذه الفتنة قائمة, المأمون والمعتصم والواثق, حتى أن الواثق في آخر أيامه سكت، وأخرج الإمام أحمد من السجن ولكنه ما زال على هذا الأمر, كان يدعو الله -عز وجل- ويُنادي بين أصحابه ومن معه "أُريد أن تُرفع هذه الفتنة" إلى أن مات الواثق.


جاء الخليفة المتوكل فرجع إلى الحق بالكلية، وتبين له خطأ آبائه وأن هذه بدعةٌ شنيعة, ورأى حال أحمد بن أبي دؤاد الذي رفع الفتنة، أنه ظل سنوات عنده الفالج في نصفه الأيمن ونصفه الآخر حي, كان الذبابُ إذا وقف على الحي أذاه, وعلى الفالج لو قُطع ما شعر به, فعندها رجع المتوكل ورفع الإمام أحمد وأظهر السنة.


فإذا كان الحكَّام ينحرفون ويحدون عن الطريق, هناك علماء لا يحيدون عن الطريق أبدًا, وقد أجمع علماء الزمان ممن عاصر جميع المحن أن سقوط الأمة ليس بسقوط حكامها, فإن الحاكم قد يسقط ثم يأتي آخر, وكما رأينا في فتنة خلق القرآن، سقط المأمون والمعتصم والواثق, وقام المتوكل فرفع السنة حتى كان بعد المتوكلِ كل الخلفاء على السنة, ولعل إزدهار السنة كان في زمن الرشيد وفي زمن غيره من العلماء.
أيها الأحباب:
الأمةُ صلاحها بصلاح حكامها وعلمائها, فإذا اجتمعت المفسدتين, فسد الحكام وفسد العلماء, هلكت الأمة.
طعناتٌ في ظهر هذه الأمة على مدار التاريخ, وكانت الطعناتُ في الحكام, وربما أذكر أمثلةً سريعة, أقرب الأمثلة محمد الفاتح الذي فتح ووصل إلى قاع أوروبا, وجنوده أوشكت أن تدخل باريس, كان سلطانًا مُظفرًا قائدًا عظيمًا ذا مهابةٍ ومكانة, تقرب إليه يهودي في صورة طبيب وكان اسمه يعقوب باشا, ظل من هو قريبُ من السلطان محمد الفاتح يُثني على هذا الطبيب على مهارته وعلى صدقه وعلى أمانته حتى قربه, ثم بعد أن أمنه وضع له السم فقتله ومات محمد الفاتح, وكذلك الغدر على مدار التاريخ, إلا أن الأمة بعلمائها ماضون باقون.


أوروبا كانت في ظلامٍ دامس ما أفاقت منه إلا بعد أن اضطهد اليهود وعظم القتل فيهم, فتفرق اليهود في أمصار الأرض، وحددوا لهم طريقان لا يلتقيان أبدًا.


الطريق الأول: وهو طريق الوصول إلى الملك, وهذا طريق.
الطريق الثاني: وطريق الوصول إلى المال, وهذا طريق.
ولكن طريق الملك كان عثِرًا جدًا, فظلوا على طريق المال, ولعل من ينظر إلى ثورة فرنسا وإلى القضاء على الكنيسة في فرنسا يرى أن أصولها هم اليهود.


وأُوجز الكلام؛ أوروبا عاشت في ظلام في ظلم الكنيسة, كانت الكنيسة هي التي تُحدد من الذي يملك, الملك, وليس للملك أي مهمةٍ قط إلا بعد استشارة الكنيسة, وأعني بالكنيسة الكاثوليكية, كل من أظهر إكتشافًا علميًا كجاليليو وغيره, أو كل من أظهر أمرًا فيه مخالفة للكنيسة يُحرَّق بالنار, وهذا معلومٌ في التاريخ.


المهم؛ أن اليهود بدأوا يستثيرون العامة والدهماء وكان أصلُ هذا في فرنسا, بعد ذلك قرر الغوغاء أن يخرجوا بثورة تسمى بثورة الطعام, الجوع, حرضهم اليهود وزاد الأمرُ تحريضًا حتى هاج الشعبُ جميعًا وخرجوا في ثورةٍ عارمة إلى سجن الباستيل فكسروا أبوابه وقتلوا حراسه وأخرجوا جميع المساجين.


وقع في فرنسا ثورةً عارمة, في هذا الوقت كان هناك رؤوس, وظهر رجلٌ في هذا الوقت كان من أغنياء الزمان وكان يهوديًا, كان اسمه روزبرت, هذا الرجل كان يعملُ في الصرافة, وكان يعرف الشخصيات التي قد يؤول إليها الأمر, بدأت الثورة فأخبر البعض من مشاهير هذه البلد -فرنسا- أن يهربوا, فحفظ أموالهم, ثم بدأت الثورة وزادت وعلت حتى رجع هؤلاء واجتمع الشعبُ الفرنسي وأُوتي بالملك فذُبح على مرأى ومسمع من جميع الشعب, وقُتل أعوانه جميعًا, وقامت أول ثورة في فرنسا, بل في أوروبا.


بدأ الأمر يزيد, ثورةٌ ما كانت إلا على الدين النصراني, إن ظلم الكنيسة وصل المنتهى والتضييق وصل الغاية من أنه لا يوجد أحد إلا ولآبد أن يتقرب إلى الكنيسة بطقوس الغفران وبشراء قراريط فى الجنة، وغيرها من الخرافات والخزعبلات, حتى أنهم حجبوا أوروبا وجعلوها في ظلام, كانت النقمة على الدين عارمة, فأزالوا وأزاحوا كل ما يتعلق بأمر الكنيسة, لم يهدموا الكنائس لأنهم ما زالت عندهم بقية من خير, إلا أنهم جمعوا علماء الكنيسة في ديرهم وبيعهم ولا علاقة للكنيسة بخارج الكنيسة.
بدأت فرنسا تُصدِّر هذه الثورة حتى فشت في أوروبا, ثم بعد ذلك نهضت أوروبا بعد ظلامٍ قرابة ستة قرون, في قرنٍ واحد علت وظهرت, أخذت من العرب واستفادت, في وقت علو أوروبا, بدأ العرب أو بدأ المسلمون في سفولٍ ونزول, علت أوروبا وزادت إلا أن المسلمين في سفولٍ ونزول, ظلت الخلافة تتقلص.


انتهت الخلافةُ العباسية, ثم بعدها الخلافة العثمانية, بدأت في تقلص وبدأت أوروبا تتطلع لأخذ الأراضي التي سُلبت منها, حتى وصلت بعد ذلك إلى أنها أيقنت أن أمة الإسلام صارت جسدًا بلا روح, احتلت بلاد المسلمين بعد فترة ظلام, فكان هذا الإحتلال هو السبب في نهضة المسلمين وفي إشعال روح الحمية حينما رأوا غزوًا عسكريًا يهجم عليهم من قِبَلِ أوروبا.


قاتلوا قتالًا شرسًا, إلى أن دخلت الحملة الفرنسية إلى مصر ومعها قائدها وملكها لويس التاسع, عندها أُسر في المنصورة, جلس رهين الحبس, فكر في حال المسلمين أن الغزو العسكري لا يصلح معهم أبدا, ها هم يضعون ملك فرنسا في السجن, تقربت فرنسا بالدية وأخرجوه بديةٍ عالية وعاد ملك فرنسا بمذكرات, كيف يتعامل مع العرب, كيف يتعامل مع المسلمين, حروبٌ لا, وبدأ التخطيط في إرسال جاليات سواءًا كانت من أوروبا إلى بلاد المسلمين, أو من بلاد المسلمين إلى أوروبا ليحدث مسخ, بهذا المسخ من بني جلدة العرب والمسلمين بهم يُغير هذا الدين.
عودوا إلى ربكم واستغفروه

.....






الخطبة الثانية






الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده رسوله..


عباد الله بعد ثورة فرنسا، وبعد أن شملت الثورات أوروبا، فكان القرار الأوحد أن الكنيسة لا سلطة لها قط، وأن نشاطها وعملها قاصر على البقعة التي فيها، ومن ثم بدأ المفكرون من أوروبا يظهرون مناهج لساستهم، وعلى رؤوس هذه المناهج المذهب أو الدين العلماني، بمعنى أن الدين في الكنيسة، وأن الأرض لا يحكمها إلا أبنائها بما شاءوا، فلا علاقة بين السماء وبين الأرض.


علمانية بمعنى عالم، أن العالم هو الذي يحكم نفسه، وأنه لا دين يتصرف في الكون قط، وبدأوا بهذه النظرية بعد أن رأوا من ظلم الكنيسة وبطشها بكل من خالفها، فكانت قضية تكلم كل فلاسفة أوروبا بهذا وصنفوا كتبًا ومجلدات، كان ممن ساعدهم على هذا المستشرقون، فاجتمع المستشرقون الذين هم على دراية بكل كتب المسلمين، مع هؤلاء الذين قاموا بالعلمانية واتفقوا جميعًا على غزو المسلمين، لا عسكريًا انتهى الأمر، ولكن فكريًا.
بدأت المعركة الفكرية وما كان يتخيل أحد أنها تنتهي جولتها بسرعة، فرنسا ما لبست إلا ثلاث سنوات ثم خرجت، وكذلك بريطانيا جاءت بطرق ثم واعدت من بمصر على الخروج، وكانت على حدود مصر إلى أن وقعت الحرب العالمية، وأصولها كانت بين علماني وعلماني، بين دولة علمانية ودولة علمانية، بين ألمانيا العلمانية المتشددة التي قامت على جميع الأديان فحرقت جميع اليهود عندها، إلا أنه بين فرنسا وبريطانيا عهود مع اليهود أنه إذا قامت الثورة ونجحوا في القضاء على الكنيسة الكاثوليكية فلهم حظ من المواطنة في أوروبا، تذكرت فرنسا عهدها وبريطانيا عهدها لليهود، فلما رأت هتلر فعل ما فعل بأهل الدين، لآن العلمانين جميعًا ضد أي دين قط، لا دين، الدين في الصوامع والبيع - الكنائس- فقط، وإن استطاعوا أن يقضوا عليه بالكلية فعلوا، لا دين، ولكن نظرًا لهذه العهود وفوا، فقاموا بحرب شاملة ضد ألمانيا هتلر الذي قام وحرَّق اليهود وشاركهم مسيليني إيطاليا.
حروب دامت بين الفريقين فكان من حق بريطانيا أن تقيم وصاية على مصر مع خروج الإحتلال، بسرعة متواترة، وبقفزة سريعة، تركت في مصر بصمات، لا أقول علماء، كان بعض العلماء في حالة من الحيرة، كان بعض العلماء عنده حسن ظن، وكان هناك سذاجة، لا يعرفون مداخل الكفار ومخارجها، دخل بعض العلماء في بعض نوادي الرتري، ودخل بعضهم في الماسونية، ولا يفهمون، كانت جمعيات خيرية، أما الحكام فكانوا يضعون هذا ويزلون هذا، إلى أن نشأ في مصر في القرن الماضي -في القرن العشرين- من أوئله لمحة إلحادية إستهزائية، بدءًا بقضية الحجاب من قاسم أمين وغيره.
وأنك لتتعجب حينما ترى الزعيم الشعبي سعد زغلول، حينما قام عليه الإنكليز بعد أن مضى وجمع توقيعات بخروج الإنكليز من مصر، نفوه إلى مالطا قام شعب مصر عن بكرة أبيه من حرق للمحلات، وقطع لخطوط السكك الحديدية وتخريب للمنشأت، حتى أن بريطانيا اضطرت إلى رجوعه وعودته.
عاد سعد زغلول وكانت هناك مظاهرة عظيمة وصلت إلى قرب جامعة القاهرة عند كبري الجامعة، في الجانب الآخر قابلته هدى شعراوي ومعها آخرى كان استقبال الفاتحين هدية هدى شعراوي وصاحبتها أن خلعتا الحجاب وألقياه في النيل، وكأن الذي أمر بالحجاب هم الإنكليز، فكانت نكاية هدى شعراوي في الإنكليز أن خلعت هي وصاحبتها الحجاب.
وبدأ نظام العلمنة في مصر بسرعة، جاءوا بأقزام جعلوهم أعلام، عميد الأدب العربي الذي شكك في القرآن، وأسماء كثيرة هم صفوة مصر، وقضوا على جميع علماء مصر فلا كلام، أبطال يحررون وينتصرون إلى أن جاءت الثورة، فمسخت الثورة كل ما يتعلق بالإسلام.
الزعيم الملهم حتى أن الشعب جميعًا من شدة وعظيم خوفه كان لا ينطق إلا ناصر ناصر ناصر، قضى على جميع ما يتعلق بالإسلام، بل كل من عارضه حتى كانت مصر في حقبة من الزمان من دخلها لا يتخيل أن هذه البلد دخلها الإسلام، ما أعلم أن امرأة وجد على رأسها شيء تحتشم به، ولكن الله عز وجل ناصر دينه ومعز أهله، دين عزيز، من تمسك به هدى ورفع، ذهب ناصر ومن على شاكلته، والإسلام باقي، يزيد ويقل، شرف لمن يحمله وذلة ومسكنة وضعف لمن يتخلى عنه، أمة فيها الخيرية إلى قيام الساعة.
نسمع الآن العلمانية وأخواتها ممن يدندن به طائفة من المرتزقة الأقزام ممن تصدر الإعلام وبعض السياسة وبعض الأشياء التي تتعلق بالتعليم وغيره، أقزام لا وزن ولا ريح، وقعوا في مضائق، كانوا يخفون هويتهم ويخفون ما عندهم من حقد لهذا الدين حتى أفصحوا جميعًا، ودخلوا في مصيدة مع الشعب المصري المسلم، هذا الشعب لا يرضى إلا بالإسلام، لا علمانية ولا ليبرالية ولا ديمقراطية ولا هذه الخرافات والخزعبلات، الشعب يحب الإسلام ولا يرضى إلا بالإسلام مهما نعق الناعق وصرخ الصارخ.
وإني لأتعجب حينما كنت أتابع بعض المقالات في حملة انتخاب الدستور الماضي ما سمعت إذاعة تلفاز جريدة كل مؤسسات الدولة تنادي على الناس لا في الاستفتاء لا، حتى أن جميع كنائس مصر بلا استثناء من بعد السادسة صباحًا أمام جميع لجان الانتخابات، وكنا كثير منا يسكت لا يقول لا ولا نعم، الأمر يستوي.
ولكن الذي يوقفك أمام هذه المسألة أن جمهور الإعلام والساسة جميعًا يريدون تغير الدستور من أجل المادة الثانية الاسم فقط -الاسم- مسمى أن الدولة إسلامية، ثم سرعان ما ظهرت النتيجة التي أفجعت هؤلاء، على الرغم من العوام ما يعرفون معنى يجدون السنية يقولون قل نعم، فيقولون ماشي مع السنية، هم جميعًا مع هذا الحشد الإعلامي السياسي لا وعلى الرغم من هذا الشعب كان مع أهل الدين، ويحب أهل الدين في القرى والنجوع والمدن.
إن الدين في مصر أصل، لن يتخلى شعب مصر عن دينه الإسلام أبدًا، ما وقع في السودان وفي غيره من البلاد لن يقع في مصر، هو شعب طيب ولكن إذا غضب هذا الشعب لن ترى لغضبته قرار أبدًا، وكما ذكرت في ثورة 19 لما أخذوا سعد زغلول إلى المنفى كل الشعب حرَّق مصر تمامًا، حتى أن بريطانيا اضطرت إلى أرجاعه.
فأيها الأحباب هناك مؤمرة على الدين لا على الأشخاص، لا على سلفية ولا إخوان ولا أزهر ولا غيره، مؤمرة على الدين، ولكن هذا الدين له رجال، وليس معنى هذا أن نقول كما قال عبد المطلب إن للبيت رب يحميه، لا، لآبد أن تحمي دينك، ومعنى حماية الدين أن تقيمه، أن تكون حجة في وقتك وزمانك، أن تكون قائمًا بدين الله عز وجل لا مفرط، أن تكون صوامًا قوامًا تقيًا ورعًا، ليس بالصياح ولا بالكلام ولا بمصمصة الشفاه، إنما هذا الدين يحتاج إلى الرجال الذين أرادوا دين الله عز وجل قلبًا وقالبًا {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)}. [محمد].
وكما ذكرت أن النصر ليس بالسيف ولا بالسنان في زمن نرى أن غالب من يعاديك من بني جلدتك، ممن يسمى محمد وأحمد وإبراهيم، وأن الحابل اختلط بالنابل، وأن الأمور قد تفرعت، وأن محمد هو الذي يقول لا للإسلام، ومنهم من يسخر بالإسلام، ومنهم من يستهزء برب البريات، ترى أمورًا الحر يموت كمدًا، ولكن لآبد أن نرجع.
عز الدين في إقامتك له، بالقليل بتقوى الصحابة رضي الله عنهم عزوا، بالتمسك بدين الله عز وجل يأتي النصر، وهؤلاء جميعًا يذهبون {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. [آل عمران:140]. علو وسفول، ولكن أيها الأحباب ثقوا أن العاقبة {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. [الأعراف: 128].


أسأل الله الكريم المنان أن يحفظ مصرنا وأن يعز بلادنا وأن يجعل


راية الإسلام عالية خفاقة على هذا البلد المسلم، اللهم أعز


الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وأهدم


بفضلك أعدائك أعداء الدين اللهم أرنا الحق حقًا


وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا


اجتنابه اللهم إنا نسألك الجنة وما


يقرب إليها من قول أو عمل


ونعوذ بك من النار وما


يقرب إليها مـن


قول أو عمـل.

وأقم الصلاة
<font size="6">
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top