مع بداية شهر المحرم من كل عام يسعى الخطاب الديني الشيعي ... في شقه الأسطوري ، إلى نشر تفسيره غير العقلاني ( = الخرافي ) حول واقعة كربلاء ، مؤكداً لجمهوره أن نتائج التفسير تتعدى الفهم الطبيعي الواقعي ، وتحمل من المعجزات واللامعقولات الكثير مما لا يستطيع العقل البشري أن يدركها ويستدرك نتائجها ومن ثم ، ومن باب أولى ، معانيها ؛ فالخطاب يسعى لإبراز أن الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، وأهل بيته وأصحابه ممن قُتلوا في الواقعة كانوا " فوق بشريين" !!! ، وأن نتائج الواقعة لا تصب في صالح " البشرية " فحسب ، وإنما في صالح " العالَم " و " الكون " بأكمله ، وأن المعركة تعكس توجهاً ربانياً خارقاً لإنقاذ " الوجود " من مختلف المصائب والمشاكل ، وأن مُخرجات هذا التفسير هي السبيل للفوز في الدنيا والآخرة !!! !!! !!! .
الخطاب في تفسيره هذا يطرح الرموز ( = الحسين بن علي ، رضي الله عنه ، وأهل بيته وأنصاره ) وكأنهم ليسوا بشراً خاضوا معركة " بشرية " طبيعية ضد " بشر " آخرين ، ولم يُرد للمعركة أن تكون تاريخاً بشرياً يستفيد منه البشر ، وإنما تاريخ يسرد " المعجزات " كما " الخوارق " لكي يؤسس لحالة لا عقلية عاطفية مثيرة جياشة مدغدغة للعواطف !!! وهي ، بذلك ، تستطيع أن تسُد فراغَ الانهزام الموجود في الواقع الإسلامي القديم والحديث والمعاصر ، ليحل محله انتصار " أسطوري " ( نذكّر بقالة نصر الله عن " النصر الإلهي " رغم تدمير لبنان وإعادته للعصور الوسطى ) !!!!! لا علاقة له بواقع الحياة ومشاكلها ، متعمداً تجاهل الحقيقة البشرية المرتبطة بالمعركة والنتائج الواقعية التي أفرزتها .
التفسير " الأسطوري " لا ينفع البشر في شيء ، ولا يستطيع أن يساهم في تطوير حياتهم الواقعية العملية المعاشة ، إنما يساهم في ابتعادهم خطوات كبيرة عن الواقعية والعقلانية التي تحتاجها الحياة ، لأنه يعتمد على سرد " لامعقول " يتعارض مع " المعقول " البشري .
لكن العاطفة الجياشة المرتبطة بالأسطورة قد تسد فراغاتٍ عدةً يعاني منها الناس ، فهي تشبع فراغهم من خلال ربطهم بخيال غير واقعي ، بحيث لا يلقون بمسؤوليات تأخرهم في الحياة على أنفسهم ، وإنما يربطونها بمدى قربهم من الأساطير وتفسيراتها أو مدى بعدهم عنها ... ( نذكّر بواقعة لقاء الحاكم ، وكان ظالماً ، بالسيدة نفيسة فسألته : لمَ ، فقال لها : كما !!! وسألها الناس عن " لمَ " و " كما " فقالت : قلت له لمَ ظلمت الناس ، فأجاب كما تكونوا يولّ عليكم . وواضح أن تسويق النص كان لتبرير ظلم الحاكم وإلقاء اللوم على المحكومين ) . لقد أراد هذا الخطاب الأسطوري أن يبعد المعركة عن الواقع التاريخي الإنساني، من أجل أن يجعل منها مادة غير إنسانية، مادة " خارقية " ، ليقول إن طريق الوصول إلى تلك الخوارق لا تتم إلا من خلال مفسري هذا الخطاب . فأحد أهداف الخطاب هو تقوية سلطات " رجال " الدين الأسطوريين بين الناس ، لأنهم يملكون ، من خلال الأسطورة ، أسرار النجاة ومفاتيح الإيمان ، ومن ثَمّ باستطاعتهم أن يحددوا سبل العيش في الحياة الدنيا والفوز بالحياة الآخرة ... أما التفاسير الأخرى المقابلة لذلك ، وخاصة التفسير العلمي الاجتماعي الواقعي ... بل وحتى العسكري ، فهي ، بالنسبة إليهم ، تفاسير مضللة ، تقلل من " ربانية " الواقعة وكذا قدر رموزها ، ومن ثَمّ لن تكون وسيلة للنجاة . لكنها في واقع الأمر تقوم بسحب بساط "السيطرة الخرافية " على " العقول المخدرة " من تحت أرجلهم ، وتحرر هذه العقول من أسر اللامعقول ومن وصاية التفسير غير البشري لواقعة بشرية .
واقعة عاشوراء ، من وجهة نظر هذا الخطاب الأسطوري ، لم تكن إلا حركة مخططاً لها ومعروفة النتائج ، لأنها مقدّرة من قِبل الله ، وبالتالي فهي حركة " مقدسة " . وهذا التفسير يعتبر الحسين بن علي ، رضي الله عنه ، شخصية استثنائية تتجاوز التاريخ ، شخصية مقدسة " فوق بشرية " ، شخصية كانت قادرة على طلب العون من الملائكة للمحاربة إلى جانبه في المعركة ، لكن القدر الإلهي أراد أن تنتهي المعركة على هذه الشاكلة . التفسير الأسطوري يشدد على القول ، مثلا ، إن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، تحدث عن الواقعة أثناء ولادة الحسين !!!!!! ، وأن الدماء كانت تسيل من تحت كل صخرة في يوم عاشوراء !!!!!!!!! . والهدف من كل ذلك هو ، برأينا ، وضع المستمع المسلم بوجه عام ، والشيعي بوجه خاص ، في إطار خرافي ؛ فالتفسير الأسطوري لا علاقةَ له بالتحليل العلمي التاريخي الذي يستطيع أن يقدم عللاً تخدم الحياة الراهنة عبر استعادتها أو إعدامها ، لذلك رأينا كيف أن أنصار التفسير الأسطوري يعادون مفاهيمَ ، ونظرياتِ ، العلم الحديث ، لسبب بسيط ، وهو أنها تشكّل مدخلاً لرفض ، عبر نقض ، تفسيرهم غير العلمي ، وبالتالي إضعاف سلطتهم وسيطرتهم في الحياة وتشجيع تمرد جمهورهم عليهم .
نعلم أنه قد أشار باحث إيراني ، منذ أعوام ، إلى أسباب واقعة كربلاء على أنها " تاريخية " قح وليست " أسطورية " بحال ، كما أشار الرجل إلى أن هذه الواقعة تحديداً ذات تعلق / ارتباط بخلافات " القبيلة " و السلطة " بين بني هاشم وبني أُمية قبل ظهور الإسلام ، وأن الأحداث التي جرت بعدُ ، والتي تَمثل جزءٌ منها فيما جرى من مواجهة ، ومواجهات ، وقتل كبار رجالات قريش من الكفار ، وقد كان أغلب هؤلاء من بني أمية ، قد أدت في نهاية المطاف إلى أن " ينتقم " يزيد بن معاوية ، وهو منتمٍ إلى بني أُمية ، من تلك الأحداث بقتل الحسين بن علي في كربلاء !!! . وقد احتج عدد كبير من رجالات الدين الشيعة في إيران ، وهم يقفون بصف التفسير الأسطوري ، على هكذا تفسير حتى لو جاء من رجل هو محسوب ، بالأساس ، عليهم .
إن أنصار الخطاب الأسطوري إنما ينزعجون من أي تفسير يخالف تفسيرهم ، سواء تعلق بواقعة كربلاء ورموزها ، أو بغيرها من الأحداث التاريخية ذات الصبغ الدينية ، ولا يقبلون بالرؤى المغايرة التي تفسر الأحداث التاريخية وفق نظرة تنتقد النهج الأسطوري ، وفي العادة يصفون ناقدي تفسيرهم وطارحي التفاسير المتباينة بأنهم قد تعدّوا الحدود المسموح بها ، بل قد يخرجونهم من الدين !!!!!!!! . لذلك هم يبرزون تفسيرهم ، وشخوصهم ، وكأنهم " أوصياء " على الفهم والتفسير معاً ، ويعتبرون منتقديهم " أعداءً " للدين . وإذا ما ظهر تفسير علمي تاريخي بشأن الواقعة ، يتشدد أنصار الخطاب الأسطوري في إلغاء هذا التفسير ، وينعتون أصحابه بنعوت غير أخلاقية ، ويطرحون المسألة وكأنها مواجهة بين الحق المطلق والباطل المطلق ، فهم يمثلون هذا الحق ، وغيرهم ، المختلِف معهم الناقد لتصورهم الغيبي الأسطوري ، يمثل الباطل ، على الرغم من أن الاثنين لا يعكسان إلا تفسيراً ، وفهماً ، وتحليلاً ، بشرياً ، ونقلاً لروايات " بشرية " حول حادثة " بشرية " تاريخية ، فعلاقة التفسير الأسطوري بعملية التحليل العلمي هي علاقة ضدية ، بل وعدائية في كثير من الأحيان . فناقل الأسطورة لا يسعى إلاّ إلى تركيبها في أذهان المستمعين دون أن يكون لهؤلاء المستمعين الحق في ممارسة النقد أو التشكيك في التاريخ .
إنه على الرغم من أن إدخال نهج المساءلة في أروقة التاريخ الأسطوري المقدس هو خط أحمر يجب على " المؤمن " ألا يقترب منه ، كذلك يعتبر السؤال في هذا الموضوع ليس سوى عبث فكري ومضيعة للوقت !!!!!! ، لأن السائل لا يتعامل مع موضوع عقلي يقبل السؤال ليحصل منه على إجابة ، وإنما يخوض في الغيب والأساطير التي لا مكان للعقل والعقلانية فيهما ، فإن السؤال والتحليل والنبش العلمي الأنثروبولوجي الحافر تحت الجذور في التاريخ هي وسائل بحث وتحليل حديثة لا يمكن أن تدخل في معادلة الأسطورة ، لأنها قد تتوصل إلى نتائج تقلب الكثير من الأمور ، التي أراد البعض تصويرها على أنها مقدسة ، رأساً على عقب وتقلب الطاولة على المفسر الأسطوري ... إذاً ، فالخطاب المعتمد على حرية البحث العلمي هو بمثابة العدو اللدود للخطاب الأسطوري الذي يريد أن يتعامل مع " الزماني " بأدوات " غير الزماني " .
والشيء بالشيء يّذكر ، فقد شن الخطاب الشيعي الأسطوري هجوماً عنيفاً على المفكر الإيراني الراحل الدكتور علي شريعتي ، واعتبره " خارجاً " عن الدين ، وذلك لطرحه تفسيراً " علمياً " غير أسطوري تجاه مختلف الأحداث والقضايا الدينية التاريخية ؛ فقد وضع شريعتي الخطاب الأسطوري أمام تساؤلات ظلت تنتظر إجاباتٍ ، وانتقد التفسير الأسطوري " المقدس " لواقعة كربلاء ، وطرح الحادثة انطلاقاً من " الدور العقلاني " لرمزها الرئيس ... وهو الحسين بن علي رضي الله عنه لا استناداً إلى " أسطوريته " ، بل على أساس من نظرة الحسين السياسية " الثاقبة " في الإطاحة بحكم يزيد بن معاوية لا انطلاقاً من أن الواقعة كانت " مقدّرة " وخاضعة لكمية كبيرة من الغيبيات ، بل من " إدراك " الحسين أنه إن لم يستطع هزيمة جيش يزيد فإنه سيُقتل ، وبالتالي " سيفضح " الطبيعة الظالمة لحكم الأُمويين لا استناداً إلى أن الواقعة هي بوابة لحل مشاكل الناس عن طريق الرؤى الغيبية الأسطورية .
إن هذه الرؤية التحليلية لا تتوافق ، البتة ، مع نهج الأسطوريين . فرموز واقعة كربلاء لدى الأسطوريين لا يمكن أن يكونوا قدوات " بشرية " ، لأنهم فوق البشر ، وهم شخصيات لا تتناسب إلا مع الحياة القديمة التي كانت تستند إلى مبدأ الأسطورة في التعامل مع شؤون الحياة آنذاك . فالحياة الحديثة بالنسبة للأسطوريين ليست سوى حياة الأسباب والوسائل ، وليست حياة الرؤى والمفاهيم الحديثة . هم يرفضون أن تتغلغل تلك الرؤى والمفاهيم في أذهانهم ، لكي لا يواجهوا أزمات فكرية ، وروحية ، تزعزع إيمانهم وتزلزل التاريخ الأسطوري . وإذا ما طرحت حادثة كربلاء استناداً إلى التحليل التاريخي فلن تكون هناك حاجة لممارسات الحزن العنيفة المشوهة لواقعة كربلاء ، والتي هي نتيجة طبيعية للطرح الأسطوري .