تَعْظِيمُ الْأَشْهُرِ الْحُرُم ( من أخر خطب الشيخ عبد الرزاق البدر)

ابو ليث

:: عضو مَلكِي ::
أحباب اللمة
إنضم
8 جانفي 2010
المشاركات
10,646
نقاط التفاعل
10,287
نقاط الجوائز
1,055
محل الإقامة
الجزائر
خطبة جمعة بتاريخ / 14-1-1436 هـ

الحمد لله الحكيم العليم ؛ خلق كل شيءٍ فقدَّره تقديرا ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ؛ لم يتخذ ولدا ، ولم يكن له شريكٌ في الملْك ، ولم يكن له وليٌ من الذل ، وكبِّره تكبيرا ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ بعثه الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرا ، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا ؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلَّم تسليمًا كثيرا .
أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، فإنَّ في تقوى الله خلَفًا من كلِّ شيء ، وليس من تقوى الله خلف . وتقوى الله جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله .
أيها المؤمنون عباد الله : إنَّ الله جلَّ وعلا اصطفى من خلقه صفايا من الأشخاص والأزمنة والأمكنة ؛ خصَّهم جل وعلا بعظيم الفضل ورفيع المكانة ، ومن يعظِّم ما يعظِّمه الله جل وعلا يفوز برضوان الله وسعادة الدنيا والآخرة .
أيها المؤمنون : وإنَّ من هذه الصفايا الأشهرَ الحُرم ، قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:36] ، وثبت في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين خطب الناس في حجة الوداع : ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ؛ ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُــحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ )) ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ عَلَيكم كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)) .
أيها المؤمنون عباد الله : إنَّ الواجب على كلِّ مسلم أن يعرف لهذه الأشهر التي حرَّمها الله جل وعلا قدرها ، ويرعى لها مكانتها ، ويتقي الظلم فيها ؛ فإنَّ الظلم -عباد الله- ولئن كان محرمًا في كل زمان ومكان إلا أنَّه في هذه الأشهر أشدُّ إثما وأعظمُ جرما .
أيها المؤمنون عباد الله : ويتناول الظلمُ المنهيُ عنه ظلمَ النفس بفعل المعاصي أو ترك الفرائض والواجبات، كما أنه يتناول الاعتداء على الناس سواءً في أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم ، ولهذا تقدم في سياق حديث أبي بكرة قولُ النبي صلى الله عليه وسلم : ((فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)) .
عباد الله : ولقد كان الناس قبل الإسلام مع جاهليتهم الجهلاء يدركون حرمة هذه الأشهر وعظم شأن القتال فيها؛ فكانوا مع جاهليتهم إذا دخلت هذه الأشهر كفُّوا عن القتال وامتنعوا عن أذى الناس تعظيمًا لهذه الأشهر ومراعاةً لحرمتها . روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العطاردي قال : «كُنَّا نَعْبُدُ الحَجَرَ ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الآخَرَ ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ ، فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا : مُنَصِّلُ الأَسِنَّةِ ، فَلاَ نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلاَ سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلَّا نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ» . فانظر رعاك الله مع جاهليتهم الجهلاء وعبادتهم الأحجار والتراب إلا أنهم كانوا يعظمون هذا الشهر ويرعون له مكانته وإذا دخل ألقوا أسلحتهم وكفُّوا عن القتال تعظيمًا له ومراعاةً لحرمته ، وإذا كان هذا من شأن أهل الجاهلية مع جاهليتهم ؛ فكيف الشأن -عباد الله- بالعبد المسلم الذي يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ويؤمن بلقاء الله والوقوف بين يديه جل في علاه !! كيف الشأن بالمسلم في هذا المقام العظيم المراعاةِ لحرمة هذه الشهور المحرَّمة .
عباد الله : إنَّ الواجب على أهل الإسلام وأمة محمد عليه الصلاة والسلام أن يعظِّموا كل ما عظَّمه الله جل وعلا، وأن يكون هذا التعظيم منهم تعبُّدًا لله وطلبًا لرضاه جل في علاه ؛ بل ينبغي عباد الله أن يُنشَّأ الصبية والصغار في بيوتات المسلمين على هذا الاحترام والمراعاة لحرمة هذه الشهور العظام ؛ ولهذا يحسُن إذا دخلت هذه الشهور كنوع تربية للصبية والصغار إذا وجد بينهم خصومة يُعتاد وجودها بين الصبية والصغار أن يقال لهم : تنبهوا فإنَّا في الأشهر الحرم ؛ حتى ينشأ صغارُ المسلمين على التعظيم لها والمراعاة لحرمتها .
أيها المؤمنون عباد الله : وعندما ينشأ الإنسان نشأةً منفكةً عن معاني الدين العظيمة وهداياته القويمة ؛ فإن من كان كذلك لا يبالي بحرمة شهرٍ ولا حرمة شخصٍ ولا حرمة مكان ولا حرمة دم أو عِرض ، وإنما تمتد يده الآثمة كيفما أرادت وبأي وقتٍ دون مراعاةٍ لا لحرمة شهرٍ ولا لحرمة مكان ولا لحرمة زمان .
أيها المؤمنون عباد الله : إن قول الله تبارك وتعالى { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }[التوبة:36] واجبٌ على كل مسلم أن يجعله نُصب عينيه عند دخول الأشهر الحرم ، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة ، ويكون في هذه الأشهر أشد جرما وأعظم إثما .
أيها المؤمنون عباد الله : لنتقي الله جل وعلا ، ولنعظِّم ما عظمه الله تبارك وتعالى من أمكنة أو أزمنة ؛ متقربين لله تبارك وتعالى بهذا التعظيم . وإنا لنسأل الله جلَّ وعلا أن يعمر قلوبنا بطاعته وحُسن التعظيم لما أمرنا بتعظيمه ، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيما ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .


الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد عباد الله : اتقوا الله تعالى وعظِّموا ما أمركم الله تبارك وتعالى بتعظيمه { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج:32] .
أيها المؤمنون عباد الله : ومما قيل في أسباب تعظيم العرب في جاهليتهم للأشهر الحرم ؛ المعاونةُ على تمكين الناس بأمنٍ وأمان من أداء الحج والعمرة ؛ ولهذا كانوا يتوقفون عن القتال في الأشهر الحُرم ، أما ذو الحجة فلكونه شهرَ الحج ، وأما ذو القَعدة فلأنه شهرُ المسير إلى الحج ، وأما المحرم فلأنه شهرُ العودة من الحج ، وأما رجب الفرد فلِمَن أراد الاعتمار في نصف العام .
عباد الله : ومن يتأمل التاريخ إلى وقتٍ قريب قبل توحيد هذه الجزيرة على يدي هذه الدولة المباركة يرى حالًا مؤلما كان يعيشه الناس ولاسيما وقت الحج والعمرة ؛ فإنه في ذلك الزمان كان من يخرج من أهله حاجًا أو معتمرا يُعدُّ في خروجه مفقودا ، وإذا عاد إلى أهله من بعد حجه يكون عوده كأنه عودَ مولود ، فالخارج للحج مفقود والعائد منه مولود ؛ لعظم سوء الحال في ذلك الزمان من نهبٍ وسلبٍ وعدوان على الحجيج وقطع للطريق، فلا يأمن الحاج على نفسه ولا على ماله ولا على عرضه ، حتى إنَّ بعض الحجيج تعرضوا في طريقهم إلى مكة إلى أن جُرِّدوا من كل ما يمتلكونه حتى من ثيابهم التي يسترون بها عوراتهم ، ومنهم -عباد الله- من أُخذ في طريق الحج وبيع في سوق الرقيق ، إلى غير ذلك من المآسي المؤلمة والأمور العظيمة التي كانت تحصل للناس ، إلى أن هيأ الله جل وعلا بمنِّه وكرمه هذه الدولة المباركة فأُمِّنت السبل وأصبح من أراد الحج أو أراد الاعتمار في أي وقت من العام يمضي بأمنٍ وأمان وطمأنينة وسلامة وعافية وتوفيق من الله جل وعلا .
وهذه -عباد الله- نعمةٌ ينبغي أن يَرعى لها العبادُ حقها ، وأن يشكروا المنعِم سبحانه وتعالى ، وأن يدعوا لهذه الدولة بمزيد تمكينٍ وفضل ومعونة على طاعة الله ؛ فإن الله عز وجل هيأهم لخدمة هذا الدين وخدمة حجاج بيت الله الحرام ، وهذا -عباد الله- شرف منَّ الله سبحانه وتعالى على هذه الدولة به . فالواجب علينا أن نرعى لهذه النعمة حقها وأن ندعو لهذه الدولة بمزيد التوفيق والمن والتسديد والمعونة على الخير .
أيها المؤمنون عباد الله : ومن يُظلم قلبه ولا يرى لأهل الفضل فضلهم ينشأ في مجتمعه نشازًا معتديًا ظالما مفرقًا للكلمة مشتتا للشمل عاملًا على زرع الفرقة والشقاق وبذر الظلم والعدوان ، ومن ذلك -عباد الله- الاعتداء الآثم الذي حصل قبل أيام في منطقة الأحساء ؛ فإنَّ هذا -عباد الله- انتهاك لحرمة الأشهر الحرم وباب من أبواب الشر وزرع الفتن وبذر الفساد وإيجاد الإحن والتطاحن والعدوان ، وهذا ليس من دين الله في شيء وإنما هو من نهج الخوارج أهل الشر والفساد والظلم والطغيان . حمى الله المسلمين أينما كانوا من شر الأشرار وكيد الفجار بمنِّه وكرمه ، وزادنا في بلادنا وفي كل بلاد المسلمين أمنًا وأمانا وسلامةً وإسلاما وعافية بمنِّه وكرمه وإحسانه .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداء الدين ، واحم حوزة الدين يا رب العالمين . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك ، وأعِنه على طاعتك ، وسدِّده في أقواله وأعماله يارب العالمين ، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا ذا الجلال والإكرام . اللهم ولِّ على المسلمين أينما كانوا خيارهم واصرف عنهم شرارهم يا ذا الجلال والإكرام . اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها .
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
 
العودة
Top