السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتابة تاريخ الجزائر-التجربة الإصلاحية
كتابة تاريخ الجزائر-التجربة الإصلاحية
الاتجاه الإصلاحي في كتابة تاريخ الجزائر
مبارك الميلي أنموذجا
1.الأطـروحة الاستعماريــة
إن المؤرخين الاستعماريين الفرنسيين خصوصاً انطلقوا في كتابتهم لتاريخ الجزائر من معطيات ثلاثة هي: كونهم تغلبوا على الجزائريين بالقوة، وكونهم شعباً متحضراً يحكم شعباً متخلفاً، وكونهم مسيحيين قبضوا على زمام شعب مسلم[1]. وهذه المنطلقات هي التي حددت أهداف واتجاهات هذا النوع من الدراسات التاريخية التي نصفها بالاستعمارية التي كانت ترمي إلى »إضعاف الوعي القومي بالماضي وإبعاد الناشئة عن الاعتزاز بأحداثه والتأثر بمآثره والالتزام بقضاياه«[2]. وقد أتى هذا الجهد الاستعماري في مجال التاريخ بنتائجه الباهرة في أوساط النخبة المتعلمة في المدارس الفرنسية(*) إذ نجد بن حبيلس سنة 1913 لا يرى في تاريخ الجزائر خلال عهد الأتراك سوى » الاضطراب والفوضى العامة في الحالة الاجتماعية للمسلمين في شمال إفريقيا تحت الحكم "المجرم" للأتراك«[3] ، كما يرى هذا الأخير أنه من الضروري عند دراسة المجتمع الجزائري أن ينطلق الباحث من مبدأ واحد أنه لا وجود لعنصر عربي بالمعنى الحقيقي في الجزائر[4].
إنه يمكن الجزم أن تاريخ الجزائر منذ 1830 احتكرته الأقلام الاستعمارية الفرنسية إذ نجد أجيالا من المؤرخين محترفين وهواة قاموا يفتشون في تاريخ الجزائر متعلقين بفكرة الجزائر الفرنسية، والظاهر أن جميع تحليلاتهم توخّت هدفا واحداً تمثل في تبرير وجود النظام الاستعماري وعدم جدوى أي عمل لتغيير الأوضاع الحالية[5] فقد أكد ستيفان قزال S.Gsell في مقدمة كتابه (تاريخ ومؤرخو الجزائر) على أهدافه الأيديولوجية والسياسية بقوله :» إن التاريخ يحدد لنا واجباتنا أيضا، وهي تتمثل في إرادتنا المصممة على أن نكون أسياداً في كل مكان وإلى الأبد«[6]. فالتاريخ بالنسبة للاستعمار مرتبط بضمان السلطة والهيمنة على المجتمع الجزائري. وأصدر نفس المؤرخ سنة 1913 كتابا تحت عنوان (التاريخ القديم لشمال إفريقيا) L'Histoire ancienne del'Afriquedunord ذكر فيه أن » إفريقيا الشمالية لا تشكل مجموعة منسجمة ولم يكن لها من الأيام وحدة سياسية كما أن البربر –في رأيه – لم يفلحوا يوما في تكوين أمة [7]«.
والخلاصة أن المؤرخين الاستعماريين استعملوا جميع المصادر النابعة من العلم أو من الخيال في سبيل الحصول على أدلة تبرر مصادراتهم الأيديولوجية المتمثلة في كون الجزائر بلدا تابعا لفرنسا بالفطرة. وقد لعب قوتييه E.F.Gautier و قزال S.Gsell دورا رائدا في هذا الميدان أحدهما بنظرياته المتعلقة بعدم تحول الطبيعة البربرية L'immobilisme berbèreوالآخر بطروحاته الجغرافية والاجتماعية. وجاء بعد هذين المؤرخين من بنى على طروحاتهما وبالغ فيها[8].
وقد صادف ميلاد المدارس تكوين المعلمين الفرنسية موجة استعمارية عنيفة بلغت أقصى مداها في الجزائر سنة 1930 مع الاحتفالات المئوية. والملاحظ –كما يقول سعد الله – أن الدراسات التاريخية التي ظهرت خلال هذه المرحلة كانت تعكس مدى ذاتية المؤرخ عندما يرتبط بمصالح وطنه » ذلك أن كتابات هذا العهد كانت تعمل على تبرير الاستعمار والتأريخ له وتعمل في النهاية على نجاحه واستمراره «[9]وبالتالي استمرار نموذج المجتمع القائم في الجزائر كما أراده المعمرون.
ويذكر أنه انعقد بين 14-16 أفريل عام 1930 المؤتمر الثاني للعلوم التاريخية وكان المؤتمر الأول قد انعقد بباريس سنة 1927 [10] وقد حضر هذا المؤتمر مؤرخون معروفون مثل ألازار Alazar وإسكر Esquer و ليسيبس Lespes ومارسي Marçais وكلهم متخصصون في تاريخ الجزائر. وقد علق قداش على هذا المؤتمر بقوله: » إنَّ التاريخ،في هذا المؤتمر،وضع في خدمة الاستعمار إذ كان المؤتمرون يتحدثون عن الجزائر ويربطونها بفرنسا ويقابلون بين روما وفرنسا (في شمال إفريقيا) »[11] . وكان تركيز المؤرخ الاستعماري على إلغاء كل ما يمكن أن يبعد الجزائر عن فرنسا، ولذا يلاحظ الباحث تهجم هذا الأخير على العروبة والإسلام وتاريخها في هذه البلاد، إذ يؤكد قزال في مقدمة كتابه (تاريخ ومؤرخو الجزائر ) قائلا بأن الجزائر هي » جزء اقتطع تعسفا من إفريقيا الشمالية في العهد التركي حيث عرف حدوده الحالية تقريبا. إنها وحدة مزيفة – يقول قزال- جعلت منها فرنسا قدر المستطاع وحدة حقيقية«[12].
ويرى ريمون أن مجيء العرب إلى بلاد البربر واستيلائهم على هذه البلاد صاحبه عملية أسلمةIslamisationوهي -بغض النظر عن مدى عمقها لدى البربر- قد حفرت بين إفريقيا القديمة (اللاتينية ) وإفريقيا الجديدة (بعد مجيء العرب ) "خندقا" يصعب ردمه.. «. وأكد نفس المحلل على خطورة هذا الوضع وتساءل فيما إذا كان أحفاده في مستقيل الأيام » سوف يجدون إفريقيا في صورتها الرومانية القديمة ؟« كما صرح أنه متخوف من المستقبل لأن روما –في رأيه- لم تكن تواجه سوى طموحات استقلالية مشروعة لدى البربر، بينما الأمر يختلف بالنسبة لفرنسا التي تواجه في القرن العشرين وضعا أصعب بكثير يمثله حضور الإسلام والعروبة في الشمال الإفريقي[13].
لقد تجلى عداء المؤرخ الاستعماري للعروبة والإسلام في وصف هذا الأخير للفتح الإسلامي "بالغزو العربي" وكذلك من خلال تركيزه على أحداث تاريخية معينة كحادثة الكاهنة مع حسان بن النعمان وحادثة كسيلة مع عقبة بن نافع، وعندما يصل هذا المؤرخ إلى الهجرة الهلالية فإنه يصفها – كما يقول سعد الله- كغارة ذئاب لأجل فرض دينهم ولغتهم على السكان[14]. ويذكر برنار ، وهو أحد المهتمين بدراسة نفسية الأهالي، أن منظري الاستعمار كانوا مع بدايات الغزو يعتقدون أن الجزائر مأهولة بالعنصر العربي فقط وذلك نظرا لما لاحظوه من هيمنة الإسلام واللغة العربية على السكان » ولكنهم عندما اكتشفوا العنصر البربري حاولوا أن يبنوا سياستهم كلها على أساس التمييز بين العنصر البربري المتميز بقابليته للإدماج والعنصر العربي المتعصب..«. ولفت هذا المحلل نظر هؤلاء المنظرين إلى خلطهم بين مسألة العرق بالمفهوم البيولوجي ومسألة اللغة والحضارة وذكر أنه إذا كان الدم البربري يميل تدريجيا إلى محو آثار الغزاة المشارقة فإن اللغة العربية والدين الإسلامي ما زالا يحققان فتوحات كبيرة لدى البربر«[15].
و يمكن للباحث أن يلاحظ أن المؤرخين ذوي النزعة الاستعمارية لم يبدو أي اعتراض على أعمال الإدارة الاستعمارية التي تمثلت في الاستيلاء على الأوقاف الإسلامية وتحويل المساجد إلى كنائس ولا على تهديم بعضها ولو كان هذا الاعتراض باسم المحافظة على الآثار، بل إننا نجد في كتاباتهم عبارات " الإسلام الجزائري" وهم يعنون بذلك –كما يقول سعد الله- الإسلام كما يمارسه الجزائريون الذين هم –في نظرهم – لم يعتنقوه عن وعي وقناعة وإنما » هو عندهم نوع من العادات والتقاليد الموروثة [16]«. كما حاول بعض المؤرخين الاستعماريين ربط الرموز التاريخية للمقاومة الجزائرية المسلحة بخدمة مصالح الاستعمار ومثال ذلك تناولهم لشخصية الأمير عبد القادر والمقراني والشيخ الحداد و حمدان خوجة . ويرى سعد الله أن الهدف من ذلك هو » تجريد الجزائريين من أبطالهم « إذ يقول جورج إيفر عن الأمير عبد القادر » إنه لم يكن بطل جنسية عربية في الجزائر « لأن هذه الجنسية في رأيه لم توجد أصلا[17]. وسنرى في العنصر القادم رد النخبة الإصلاحية على الأطروحة الاستعمارية التي كانت تحرص على نسف الأسس التي يمكن أن يقوم عليها مشروع المجتمع الجزائري الجديد في غير الإطار الاستعماري.
2.الــرّد الإصلاحـــي
إذا كان بُناة الأيديلوجية الاستعمارية بالجزائر » قد صاغوا نظرة عدمية عن تاريخ المغرب العربي وعن تراثه الوطني والحضاري وحكموا على النسيج الاجتماعي الثقافي والإتني لمجتمعاته بالتفكك والجمود«[18] فإن النخبة الإصلاحية الجزائرية(*) استجابت لهذا التحدي بنظرة جديدة من أجل» دعم مقاومة الإسلام ضد الحضارة الأوربية « كما يقول ديبارمي[19]. وسنركز في هذا العنصر على تجربة مبارك الميلي(**) الذين يعتبره المحللون» من مؤسسي الكتابة التاريخية الحديثة في الجزائر«[20].
ولا يفوتنا في البداية أن ننوه بما ذكره مراد من كون مبارك الميلي مع ابن باديس والإبراهيمي كانوا يمثلون الثلاثي القوي والأكثر فعالية في الحركة الإصلاحية الجزائرية لأنهم يمثلون النواة المذهبية لهذه الحركة[21]
كتاب مبــارك الميلـــي في التاريخ
إن مبارك الميلي نفسه [22] فيَذكر أنه كان يطمح دائما إلى كتابة تاريخ وطني للجزائر، وقد تم له ذل[23]ك فأصدر مؤلفه الموسوم (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) في جزأين صدر الأول منهما بقسنطينة عام 1928[24]. ولعل ما يجعل عمل الميلي هذا في - نظر بعض الباحثين - جهدا معتبرا هو أنه أخرجه في ظروف سياسية صعبة » فليس من اليسير –يقول مرتاض- تأليف مثل هذا الكتاب في عهد كان المحتلون الأجانب يتربصون بأهل العلم الدوائر. فليس أشق ولا أشد على المستعمرين من أن ينبري كاتب يؤرخ لأمته ويذكرها بمجدها التليد وعزها القديم وماضيها العريق. «، فذلك بالنسبة للاستعمار هو » تهديم لكل ما بنى وهدرا لكل ما شيد من أوهام على أنقاض الرمال.«[25]. إن الميلي لم يترك التاريخ مجرد سرد للأحداث وإنما ربطه بموضوع الأمة والمجتمع والحضارة، إذ يصف التاريخ بأنه » مرآة الأمة ورقيها في الحاضر والشاهد على حياتها ووثائق تثبت ألقاب مجدها وذكرى عبقريتها وآصرة وحدتها ومرتقى تطورها«[26].
3.نقــد التــاريخ الأيديلوجــي
تضطرنا الموضوعية العلمية أن نورد إلى جانب الإشادة بهذا التأسيس للتاريخ الجزائري نقد المحللين لهذا النوع من الكتابة التاريخية. إن جوليان يرى أن هؤلاء الرواد جازفوا بالنقد التاريخي لأنهم-في رأيه- أخضعوه للدين مثلما فعل رجال الدين المسيحيون في أوربا الغربية خلال العصور الوسطى. ونصح هذا المؤرخ المثقفين الجزائريين بالتدرب على منهجية كتابة التاريخ بدل أن يعيدوا تكييف الماضي بطريقة دعائية[27]. ويعيب نفس المؤرخ على رواد الكتابة التاريخية الجزائرية قولهم بأن » الانحطاط نبع من الاحتلال في كل بلد خضع للأجنبي.. «، ويعيب عليهم أيضا استنادهم » إلى وثائق منفردة يتغافلون عن نقدها وتمحيصها ليصفوا تونس الحسينية وجزائر الدايات والمغرب الأقصى العلوي بألوان يبالغون في بهائها، وتدفعهم قوة الإحساس الوطني إلى اعتبار فحول الجاهليين أمثلة تترجم سيرتهم لفائدة الدعاية، وهكذا أصبح التاريخ-يقول جوليان- يستغل لتأييد المسلمين في افتخارهم بالماضي وثقتهم بالمستقبل«[28]. ويذكر المالكي أن مثل هذه الكتابات صيغت » بنظرة لا تاريخية لا تعدم بمقتضاها واقع الاستعمار ولكن ترفضه جملة وتفصيلا، دون أن ترقى فكريا إلى التمييز بين ما راكمته التجارب الأوربية من مكتسبات وثورات والضرورات التي حتمت انتقالها إلى طور الاستعمار أولاً ثم الإمبريالية لاحقاً[29]«.
أما ردنا على هذه الانتقادات الموجه إلى كتاب الميلي فيتمثل في كون الأفكار السياسية-كما يقول فلاسفة السياسة- لاتهم صحتها بقدر ما يهمنا فعاليتها في تحريك المقاومة ضد الاستعمار[30]، وقد وجدنا هذا الرأي لدى منظري الاستعمار فنجد ديبارمي قد حلل أبعاد تأسيس كتابة تاريخية جزائرية لتاريخ الجزائر وأبرز خطورة مثل هذه المبادرات على وجود الاستعمار بالجزائر وذكر بأن » الذين يكتبون هذا النوع من التاريخ إنما يسلحون أرواح الأهالي للمقاومة وينبغي أن نعترف- يقول ديبارمي- أنهم يعرفون وسطهم أكثر من غيرهم..
مبارك الميلي أنموذجا
1.الأطـروحة الاستعماريــة
إن المؤرخين الاستعماريين الفرنسيين خصوصاً انطلقوا في كتابتهم لتاريخ الجزائر من معطيات ثلاثة هي: كونهم تغلبوا على الجزائريين بالقوة، وكونهم شعباً متحضراً يحكم شعباً متخلفاً، وكونهم مسيحيين قبضوا على زمام شعب مسلم[1]. وهذه المنطلقات هي التي حددت أهداف واتجاهات هذا النوع من الدراسات التاريخية التي نصفها بالاستعمارية التي كانت ترمي إلى »إضعاف الوعي القومي بالماضي وإبعاد الناشئة عن الاعتزاز بأحداثه والتأثر بمآثره والالتزام بقضاياه«[2]. وقد أتى هذا الجهد الاستعماري في مجال التاريخ بنتائجه الباهرة في أوساط النخبة المتعلمة في المدارس الفرنسية(*) إذ نجد بن حبيلس سنة 1913 لا يرى في تاريخ الجزائر خلال عهد الأتراك سوى » الاضطراب والفوضى العامة في الحالة الاجتماعية للمسلمين في شمال إفريقيا تحت الحكم "المجرم" للأتراك«[3] ، كما يرى هذا الأخير أنه من الضروري عند دراسة المجتمع الجزائري أن ينطلق الباحث من مبدأ واحد أنه لا وجود لعنصر عربي بالمعنى الحقيقي في الجزائر[4].
إنه يمكن الجزم أن تاريخ الجزائر منذ 1830 احتكرته الأقلام الاستعمارية الفرنسية إذ نجد أجيالا من المؤرخين محترفين وهواة قاموا يفتشون في تاريخ الجزائر متعلقين بفكرة الجزائر الفرنسية، والظاهر أن جميع تحليلاتهم توخّت هدفا واحداً تمثل في تبرير وجود النظام الاستعماري وعدم جدوى أي عمل لتغيير الأوضاع الحالية[5] فقد أكد ستيفان قزال S.Gsell في مقدمة كتابه (تاريخ ومؤرخو الجزائر) على أهدافه الأيديولوجية والسياسية بقوله :» إن التاريخ يحدد لنا واجباتنا أيضا، وهي تتمثل في إرادتنا المصممة على أن نكون أسياداً في كل مكان وإلى الأبد«[6]. فالتاريخ بالنسبة للاستعمار مرتبط بضمان السلطة والهيمنة على المجتمع الجزائري. وأصدر نفس المؤرخ سنة 1913 كتابا تحت عنوان (التاريخ القديم لشمال إفريقيا) L'Histoire ancienne del'Afriquedunord ذكر فيه أن » إفريقيا الشمالية لا تشكل مجموعة منسجمة ولم يكن لها من الأيام وحدة سياسية كما أن البربر –في رأيه – لم يفلحوا يوما في تكوين أمة [7]«.
والخلاصة أن المؤرخين الاستعماريين استعملوا جميع المصادر النابعة من العلم أو من الخيال في سبيل الحصول على أدلة تبرر مصادراتهم الأيديولوجية المتمثلة في كون الجزائر بلدا تابعا لفرنسا بالفطرة. وقد لعب قوتييه E.F.Gautier و قزال S.Gsell دورا رائدا في هذا الميدان أحدهما بنظرياته المتعلقة بعدم تحول الطبيعة البربرية L'immobilisme berbèreوالآخر بطروحاته الجغرافية والاجتماعية. وجاء بعد هذين المؤرخين من بنى على طروحاتهما وبالغ فيها[8].
وقد صادف ميلاد المدارس تكوين المعلمين الفرنسية موجة استعمارية عنيفة بلغت أقصى مداها في الجزائر سنة 1930 مع الاحتفالات المئوية. والملاحظ –كما يقول سعد الله – أن الدراسات التاريخية التي ظهرت خلال هذه المرحلة كانت تعكس مدى ذاتية المؤرخ عندما يرتبط بمصالح وطنه » ذلك أن كتابات هذا العهد كانت تعمل على تبرير الاستعمار والتأريخ له وتعمل في النهاية على نجاحه واستمراره «[9]وبالتالي استمرار نموذج المجتمع القائم في الجزائر كما أراده المعمرون.
ويذكر أنه انعقد بين 14-16 أفريل عام 1930 المؤتمر الثاني للعلوم التاريخية وكان المؤتمر الأول قد انعقد بباريس سنة 1927 [10] وقد حضر هذا المؤتمر مؤرخون معروفون مثل ألازار Alazar وإسكر Esquer و ليسيبس Lespes ومارسي Marçais وكلهم متخصصون في تاريخ الجزائر. وقد علق قداش على هذا المؤتمر بقوله: » إنَّ التاريخ،في هذا المؤتمر،وضع في خدمة الاستعمار إذ كان المؤتمرون يتحدثون عن الجزائر ويربطونها بفرنسا ويقابلون بين روما وفرنسا (في شمال إفريقيا) »[11] . وكان تركيز المؤرخ الاستعماري على إلغاء كل ما يمكن أن يبعد الجزائر عن فرنسا، ولذا يلاحظ الباحث تهجم هذا الأخير على العروبة والإسلام وتاريخها في هذه البلاد، إذ يؤكد قزال في مقدمة كتابه (تاريخ ومؤرخو الجزائر ) قائلا بأن الجزائر هي » جزء اقتطع تعسفا من إفريقيا الشمالية في العهد التركي حيث عرف حدوده الحالية تقريبا. إنها وحدة مزيفة – يقول قزال- جعلت منها فرنسا قدر المستطاع وحدة حقيقية«[12].
ويرى ريمون أن مجيء العرب إلى بلاد البربر واستيلائهم على هذه البلاد صاحبه عملية أسلمةIslamisationوهي -بغض النظر عن مدى عمقها لدى البربر- قد حفرت بين إفريقيا القديمة (اللاتينية ) وإفريقيا الجديدة (بعد مجيء العرب ) "خندقا" يصعب ردمه.. «. وأكد نفس المحلل على خطورة هذا الوضع وتساءل فيما إذا كان أحفاده في مستقيل الأيام » سوف يجدون إفريقيا في صورتها الرومانية القديمة ؟« كما صرح أنه متخوف من المستقبل لأن روما –في رأيه- لم تكن تواجه سوى طموحات استقلالية مشروعة لدى البربر، بينما الأمر يختلف بالنسبة لفرنسا التي تواجه في القرن العشرين وضعا أصعب بكثير يمثله حضور الإسلام والعروبة في الشمال الإفريقي[13].
لقد تجلى عداء المؤرخ الاستعماري للعروبة والإسلام في وصف هذا الأخير للفتح الإسلامي "بالغزو العربي" وكذلك من خلال تركيزه على أحداث تاريخية معينة كحادثة الكاهنة مع حسان بن النعمان وحادثة كسيلة مع عقبة بن نافع، وعندما يصل هذا المؤرخ إلى الهجرة الهلالية فإنه يصفها – كما يقول سعد الله- كغارة ذئاب لأجل فرض دينهم ولغتهم على السكان[14]. ويذكر برنار ، وهو أحد المهتمين بدراسة نفسية الأهالي، أن منظري الاستعمار كانوا مع بدايات الغزو يعتقدون أن الجزائر مأهولة بالعنصر العربي فقط وذلك نظرا لما لاحظوه من هيمنة الإسلام واللغة العربية على السكان » ولكنهم عندما اكتشفوا العنصر البربري حاولوا أن يبنوا سياستهم كلها على أساس التمييز بين العنصر البربري المتميز بقابليته للإدماج والعنصر العربي المتعصب..«. ولفت هذا المحلل نظر هؤلاء المنظرين إلى خلطهم بين مسألة العرق بالمفهوم البيولوجي ومسألة اللغة والحضارة وذكر أنه إذا كان الدم البربري يميل تدريجيا إلى محو آثار الغزاة المشارقة فإن اللغة العربية والدين الإسلامي ما زالا يحققان فتوحات كبيرة لدى البربر«[15].
و يمكن للباحث أن يلاحظ أن المؤرخين ذوي النزعة الاستعمارية لم يبدو أي اعتراض على أعمال الإدارة الاستعمارية التي تمثلت في الاستيلاء على الأوقاف الإسلامية وتحويل المساجد إلى كنائس ولا على تهديم بعضها ولو كان هذا الاعتراض باسم المحافظة على الآثار، بل إننا نجد في كتاباتهم عبارات " الإسلام الجزائري" وهم يعنون بذلك –كما يقول سعد الله- الإسلام كما يمارسه الجزائريون الذين هم –في نظرهم – لم يعتنقوه عن وعي وقناعة وإنما » هو عندهم نوع من العادات والتقاليد الموروثة [16]«. كما حاول بعض المؤرخين الاستعماريين ربط الرموز التاريخية للمقاومة الجزائرية المسلحة بخدمة مصالح الاستعمار ومثال ذلك تناولهم لشخصية الأمير عبد القادر والمقراني والشيخ الحداد و حمدان خوجة . ويرى سعد الله أن الهدف من ذلك هو » تجريد الجزائريين من أبطالهم « إذ يقول جورج إيفر عن الأمير عبد القادر » إنه لم يكن بطل جنسية عربية في الجزائر « لأن هذه الجنسية في رأيه لم توجد أصلا[17]. وسنرى في العنصر القادم رد النخبة الإصلاحية على الأطروحة الاستعمارية التي كانت تحرص على نسف الأسس التي يمكن أن يقوم عليها مشروع المجتمع الجزائري الجديد في غير الإطار الاستعماري.
2.الــرّد الإصلاحـــي
إذا كان بُناة الأيديلوجية الاستعمارية بالجزائر » قد صاغوا نظرة عدمية عن تاريخ المغرب العربي وعن تراثه الوطني والحضاري وحكموا على النسيج الاجتماعي الثقافي والإتني لمجتمعاته بالتفكك والجمود«[18] فإن النخبة الإصلاحية الجزائرية(*) استجابت لهذا التحدي بنظرة جديدة من أجل» دعم مقاومة الإسلام ضد الحضارة الأوربية « كما يقول ديبارمي[19]. وسنركز في هذا العنصر على تجربة مبارك الميلي(**) الذين يعتبره المحللون» من مؤسسي الكتابة التاريخية الحديثة في الجزائر«[20].
ولا يفوتنا في البداية أن ننوه بما ذكره مراد من كون مبارك الميلي مع ابن باديس والإبراهيمي كانوا يمثلون الثلاثي القوي والأكثر فعالية في الحركة الإصلاحية الجزائرية لأنهم يمثلون النواة المذهبية لهذه الحركة[21]
كتاب مبــارك الميلـــي في التاريخ
إن مبارك الميلي نفسه [22] فيَذكر أنه كان يطمح دائما إلى كتابة تاريخ وطني للجزائر، وقد تم له ذل[23]ك فأصدر مؤلفه الموسوم (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) في جزأين صدر الأول منهما بقسنطينة عام 1928[24]. ولعل ما يجعل عمل الميلي هذا في - نظر بعض الباحثين - جهدا معتبرا هو أنه أخرجه في ظروف سياسية صعبة » فليس من اليسير –يقول مرتاض- تأليف مثل هذا الكتاب في عهد كان المحتلون الأجانب يتربصون بأهل العلم الدوائر. فليس أشق ولا أشد على المستعمرين من أن ينبري كاتب يؤرخ لأمته ويذكرها بمجدها التليد وعزها القديم وماضيها العريق. «، فذلك بالنسبة للاستعمار هو » تهديم لكل ما بنى وهدرا لكل ما شيد من أوهام على أنقاض الرمال.«[25]. إن الميلي لم يترك التاريخ مجرد سرد للأحداث وإنما ربطه بموضوع الأمة والمجتمع والحضارة، إذ يصف التاريخ بأنه » مرآة الأمة ورقيها في الحاضر والشاهد على حياتها ووثائق تثبت ألقاب مجدها وذكرى عبقريتها وآصرة وحدتها ومرتقى تطورها«[26].
3.نقــد التــاريخ الأيديلوجــي
تضطرنا الموضوعية العلمية أن نورد إلى جانب الإشادة بهذا التأسيس للتاريخ الجزائري نقد المحللين لهذا النوع من الكتابة التاريخية. إن جوليان يرى أن هؤلاء الرواد جازفوا بالنقد التاريخي لأنهم-في رأيه- أخضعوه للدين مثلما فعل رجال الدين المسيحيون في أوربا الغربية خلال العصور الوسطى. ونصح هذا المؤرخ المثقفين الجزائريين بالتدرب على منهجية كتابة التاريخ بدل أن يعيدوا تكييف الماضي بطريقة دعائية[27]. ويعيب نفس المؤرخ على رواد الكتابة التاريخية الجزائرية قولهم بأن » الانحطاط نبع من الاحتلال في كل بلد خضع للأجنبي.. «، ويعيب عليهم أيضا استنادهم » إلى وثائق منفردة يتغافلون عن نقدها وتمحيصها ليصفوا تونس الحسينية وجزائر الدايات والمغرب الأقصى العلوي بألوان يبالغون في بهائها، وتدفعهم قوة الإحساس الوطني إلى اعتبار فحول الجاهليين أمثلة تترجم سيرتهم لفائدة الدعاية، وهكذا أصبح التاريخ-يقول جوليان- يستغل لتأييد المسلمين في افتخارهم بالماضي وثقتهم بالمستقبل«[28]. ويذكر المالكي أن مثل هذه الكتابات صيغت » بنظرة لا تاريخية لا تعدم بمقتضاها واقع الاستعمار ولكن ترفضه جملة وتفصيلا، دون أن ترقى فكريا إلى التمييز بين ما راكمته التجارب الأوربية من مكتسبات وثورات والضرورات التي حتمت انتقالها إلى طور الاستعمار أولاً ثم الإمبريالية لاحقاً[29]«.
أما ردنا على هذه الانتقادات الموجه إلى كتاب الميلي فيتمثل في كون الأفكار السياسية-كما يقول فلاسفة السياسة- لاتهم صحتها بقدر ما يهمنا فعاليتها في تحريك المقاومة ضد الاستعمار[30]، وقد وجدنا هذا الرأي لدى منظري الاستعمار فنجد ديبارمي قد حلل أبعاد تأسيس كتابة تاريخية جزائرية لتاريخ الجزائر وأبرز خطورة مثل هذه المبادرات على وجود الاستعمار بالجزائر وذكر بأن » الذين يكتبون هذا النوع من التاريخ إنما يسلحون أرواح الأهالي للمقاومة وينبغي أن نعترف- يقول ديبارمي- أنهم يعرفون وسطهم أكثر من غيرهم..