قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- : هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة في غالب أحيانه، وربما صلى الصلوات بوضوء واحد، وكان يتوضأ بالمُدِّ تارةً وبثلثيه تارةً وبأزيد منه تارة، وذلك نحو أربع أواق بالدمشقي إلى أوقيتين وثلاث.
وكان من أيسر الناس صبًّا لماء الوضوء، وكان يحذِّر أمته من الإسراف فيه، وأخبر أنه يكون في أمته من يتعدَّى في الطهور وقال: «إن للوضوء شيطانًا يقال له:الولهان؛فاتقوا وسواس الماء». ومر على سعد وهو يتوضأ فقال: «لا تسرف في الماء». فقال: وهل في الماء إسراف؟ قال: «نعم، وإن كنتَ على نهر جار».
وصح عنه أنه توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، وفي بعض الأعضاء مرتين وبعضها ثلاثًا، وكان يتمضمض ويستنشق تارة بغرفة، وتارة بغرفتين، وتارة بثلاث، وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق؛ فيأخذ نصف الغرفة لفمه ونصفها لأنفه، ولا يمكن في الغرفة إلا هذا، وأما الغرفتان والثلاث فيمكن فيهما الفصل والوصل؛ إلا أن هديه صلى الله عليه وسلم كان الوصل بينهما، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «تمضمض واستنشق من كف واحدة. فعل ذلك ثلاثا». وفي لفظ: «تمضمض واستنثر بثلاث غرفات». فهذا أصح ما روي في المضمضة والاستنشاق، ولم يجئ الفصل بين المضمضة والاستنشاق في حديث صحيح البتة، لكن في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق، ولكن لا يروى إلا عن طلحة عن أبيه عن جده، ولا يعرف لجده صحبة. وكان صلى الله عليه وسلم يستنشق بيده اليمنى ويستنثر بيده اليسرى.
وكان يمسح رأسه كله، وتارة يقبل بيديه ويدبر، وعليه يحمل حديث من قال: «مسح برأسه مرتين». والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه، بل كان إذا كرر غسل الأعضاء وأفرد مسح الرأس، وهكذا جاء عنه صريحا، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم خلافه البتة؛ بل ما عدا هذا: إما صحيح غير صريح كقول الصحابي: توضأ ثلاثا ثلاثا. وكقوله: مسح برأسه مرتين. وإما صريح غير صحيح: كحديث ابن البيلماني عن أبيه عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فغسل كفيه ثلاثًا». ثم قال: «ومسح برأسه ثلاثًا». وهذا لا يحتج به، وابن البيلماني وأبوه مضعَّفان، وإن كان الأب أحسن حالا. وكحديث عثمان الذي رواه أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم: «مسح رأسه ثلاثا». وقال أبو داود: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة، ولم يصح عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة؛ ولكن كان إذا مسح على ناصيته كمَّل على العمامة.
فأما حديث أنس الذي رواه أبو داود: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة». فهذا مقصود أنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله، ولم ينف التكميل على العمامة، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره؛ فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه، ولم يتوضأ صلى الله عليه وسلم إلا تمضمض واستنشق، ولم يحفظ عنه أنه أخل به مرة واحدة. وكذلك كان وضوؤه مرتبًا متواليًا، ولم يخلَّ به مرة واحدة البتة. وكان يمسح على رأسه تارة، وعلى العمامة تارة، وعلى الناصية والعمامة تارة. وأما اقتصاره على الناصية مجردة فلم يحفظ عنه كما تقدم.
وكان يغسل رجليه إذا لم يكونا في خفَّيْن ولا جوربين، ويمسح عليهما إذا كانا في الخفين أو الجوربين. وكان يمسح أذنيه مع رأسه، وكان يمسح ظاهرهما وباطنهما، ولم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماء جديدًا؛ وإنما صح ذلك عن ابن عمر، ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة، ولم يحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئًا غير التسمية، وكل حديث فى أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا منه، ولا علَّمَه لأمته، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله، وقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين». في آخره، وفي حديث آخر في سنن النسائي مما يقال بعد الوضوء أيضًا: «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك».
ولم يكن يقول في أوله: نويت رفع الحدث، ولا استباحة الصلاة، لا هو ولا أحد من أصحابه البتة، ولم يرد عنه في ذلك حرف واحد؛ لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، ولم يتجاوز الثلاث قط، وكذلك لم يثبت عنه أنه تجاوز المرفقين والكعبين، ولكنْ أبو هريرة كان يفعل ذلك ويتأول حديث إطالة الغرة.
وأما حديث أبي هريرة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين، ورجليه حتى أشرع في الساقين». فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء، ولا يدل على مسألة الإطالة.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتاد تنشيف أعضائه بعد الوضوء، ولا صح عنه في ذلك حديث البتة، بل الذي صح عنه خلافه، وأما حديث عائشة: «كان للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة يتنشف بها بعد الوضوء». وحديث معاذ بن جبل: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح على وجهه بطرف ثوبه». فضعيفان لا يحتج بمثلهما؛ في الأول: سليمان بن أرقم: متروك، وفي الثاني: عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي: ضعيف. قال الترمذي: ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء.
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يُصبَّ عليه الماء كلما توضأ؛ ولكن تارة يصب على نفسه، وربما عاونه من يصب عليه أحيانا لحاجة، كما في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة «أنه صب عليه في السفر لما توضأ».
وكان يخلل لحيته أحيانًا، ولم يكن يواظب على ذلك، وقد اختلف أئمة الحديث فيه؛ فصحح الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته، وقال أحمد وأبو زرعة: لا يثبت في تخليل اللحية حديث.
وكذلك تخليل الأصابع لم يكن يحافظ عليه، وفي السنن عن المستورد بن شداد: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره.
وهذا إن ثبت عنه فإنما كان يفعله أحيانا؛ ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه؛ كعثمان وعلي وعبد الله بن زيد والربيِّع بن معوِّذ وغيرهم، على أن في إسناده عبد الله بن لهيعة.
وأما تحريك خاتمه فقد رُوي فيه حديث ضعيف من رواية معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ حرك خاتمه». ومعمر وأبوه ضعيفان. ذكر ذلك الدارقطني.
فهاك سياق صلاته صلى الله عليه وسلم من حين استقبال القبلة، وقوله: «الله أكبر»؛ إلى حين سلامه، كأنه تشاهده عيانًا؛ ثم اختر لنفسك بعد ما شئت!!
استقبال القبلة (الكعبة)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة، واستقبل القبلة، ووقف في مصلاه -رفع يديه إلى فروع أذنيه واستقبل بأصابعه القبلة ونشرها، وقال: «الله أكبر».
ولم يكن يقول قبل ذلك: نويت بأن أصلي كذا وكذا مستقبل القبلة أربع ركعات فريضة الوقت أداء لله تعالى إمامًا! ولا كلمة واحدة من ذلك في مجموع صلاته من أولها إلى آخرها! فقد نقل عنه أصحابه حركاته وسكناته وهيئاته، حتى اضطراب لحيته في الصلاة! حتى إنه حمل بنت ابنته مرة في الصلاة فنقلوه ولم يهملوه! فكيف يتفق مَلَؤُهُم من أولهم إلى آخرهم على ترك نقل هذا المهم الذي هو شعار الدخول في الصلاة؟! وَلَعَمر الله لو ثبت عنه من هذا كلمة واحدة لكنا أول من اقتدى به فيها، وبادر إليها.
وضع اليمنى على اليسرى على الصدر
ثم كان يمسك شماله بيمينه، فيضعها عليها فوق المفصل، ثم يضعها على صدره.
أدعية الاستفتاح
ثم يقول: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد».
وكان يقول أحيانًا: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمِرْتُ وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا؛ لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك».
ولكن هذا إنما حفظ عنه في صلاة الليل.
وربما كان يقول:«الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكْرَة وأصيلا».
وربما كان يقول: «الله أكبر، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده».
الاستعاذة
ثم يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، أو ربما قال: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه»، وربما قال: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه».
ركنية الفاتحة وفضائلها
ثم يقرأ فاتحة الكتاب. فإن كانت الصلاة جهرية أسمعهم القراءة، ولم يسمعهم: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فربه أعلم هل كان يقرأها أم لا؟ وكان يقطِّع قراءته آية آية، ثم يقف على [FONT="]}رَبِّ الْعَالَمِينَ[FONT="]{[/FONT]، ثم يبتدئ [FONT="]}[/FONT]الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[FONT="]{[/FONT] ويقف، ثم يبتدئ [FONT="]}[/FONT]مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[FONT="]{[/FONT] - على ترسل وتمهل وترتيل - يمد الرحمن ويمد الرحيم، وكان يقرأ: [FONT="]}[/FONT]مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[FONT="]{[/FONT] بالألف، وإذا ختم السورة، قال: «آمين»، يجهر بها ويمد بها صوته، ويجهر بها من خلفه حتى يرتجَّ المسجد.[/FONT]
واختلفت الرواية عنه: هل كان يسكت بين الفاتحة وقراءة السورة أم كانت سكتة بعد القراءة كلها؟
فقال يونس عن الحسن بن سمرة: حفظت سكتتين؛ سكتة إذا كبر الإمام حتى يقرأ، وسكتة إذا فرغ من فاتحة الكتاب وسورة -عند الركوع-. وصدقه أُبَيّ بن كعب على ذلك، ووافق يونس أشعت الحمراني عن الحسن فقال: سكتة إذا استفتح وسكتة إذا فرغ من القراءة. وخالفهما قتادة فقال: عن الحسن بن سمرة بن جندب وعمران بن حصين تذاكرا فحدث سمرة أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين؛ سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة [FONT="]}غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ[FONT="]{[/FONT] فقط، فحفظ ذلك سمرة وأنكر عليه عمران بن حصين، فكتبا في ذلك إلى أُبَيّ بن كعب، فكان في كتابه أن سمرة قد حفظ.[/FONT]
وقال قتادة أيضًا عن الحسن عن سمرة: سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد: وإذا قال: [FONT="]}غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ[FONT="]{[/FONT]. فقد اتفقت الأحاديث أنهما سكتتان فقط؛ إحداهما: سكتة الافتتاح، والثانية: مختلف فيها، فالذي قال إنها بعد قراءة الفاتحة هو قتادة، وقد اختلف على سمرة، فمرة قال ذلك، ومرة قال بعد الفراغ من القراءة، ولم يختلف على يونس وأشعث أنها بعد فراغه من القراءة كلها، وهذا أرجح الروايتين، والله أعلم.[/FONT]
وبالجملة فلم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه كان يسكت بعد قراءة الفاتحة حتى يقرأها من خلفه، وليس في سكوته في هذا المحل إلا هذا الحديث المختلف فيه كما رأيت، ولو كان يسكت هنا سكتة طويلة يدرك فيها قراءة الفاتحة لما اختفى ذلك على الصحابة، ولكان معرفتهم به ونقلهم أهم من سكتة الافتتاح.
قراءته صلى الله عليه وسلم بعد الفاتحة
ثم يقرأ بعد ذلك: سورة طويلة تارة وقصيرة تارة ومتوسطة تارة. ولم يكن يبتدئ من وسط السورة ولا من آخرها، وإنما كان يقرأ من أولها، فتارة يكملها، وهو أغلب أحواله، وتارة يقتصر على بعضها، ويكملها في الركعة الثانية، ولم ينقل أحد عنه أنه قرأ بآية من سورة أو بآخرها إلا في سنة الفجر؛ فإنه كان يقرأ فيها هاتين الآيتين:[FONT="]}قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا[FONT="]{[/FONT] الآية [البقرة: 136]، [FONT="]}[/FONT]قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ[FONT="]{[/FONT][آل عمران: 64]، وكان يقرأ بالسورة في الركعتين، وتارة يعيدها في الركعة الثانية، وتارة يقرأ سورتين في الركعة.[/FONT]
أما الأول: فكقول عائشة أنه قرأ في المغرب بالأعراف فرقَّها في الركعتين.
وأما الثاني: فقراءته في الصبح: (إذا زلزلت) في الركعتين كلتيهما. والحديثان في (السنن).
وأما الثالث: فكقول ابن مسعود: ولقد عَرَفتَ النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينها، فذكر عشرين سورة من المفصّل، سورتين في ركعة، وهذا في (الصحيحين).
وكان يمد قراءة الفجر ويطيلها أكثر من سائر الصلوات، وأقصر ما حفظ عنه أنه كان يقرأ بها فيها في الحضر (ق) ونحوها. وكان يجهر بالقراءة في الفجر والأوليين من المغرب والعشاء، ويسر فيما سوى ذلك، وربما كان يسمعهم في قراءة السر أحيانًا، وكان يقرأ في فجر يوم الجمعة: [FONT="]}الم * تَنْزِيلُ[FONT="]{[/FONT] السجدة، و[FONT="]}[/FONT]هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ[FONT="]{[/FONT] كاملتين، ولم يقتصر على إحداهما ولا على بعض هذه وبعض هذه قط.[/FONT]
وكان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين كاملتين، ولم يقتصر على أواخرهما، وربما كان يقرأ بسورة (الأعلى) و(الغاشية)، وكان يقرأ في العيدين (ق) و[FONT="]}اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ[FONT="]{[/FONT] كاملتين، ولم يقتصر على أواخرهما.[/FONT]
وكان يقرأ في صلاة السر سورة فيها (السجدة) أحيانًا فيسجد للسجدة ويسجد معه من خلفه، وكان يقرأ في الظهر قدر [FONT="]}الم * تَنْزِيلُ[FONT="]{[/FONT] السجدة، أو نحو ثلاثين آية، ومرة كان يقرأ فيها [FONT="]}[/FONT]سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى[FONT="]{[/FONT] و[FONT="]}[/FONT]اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى[FONT="]{[/FONT]، و[FONT="]}[/FONT]السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ[FONT="]{[/FONT]، و[FONT="]}[/FONT]السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ[FONT="]{[/FONT]، ونحوها من السور، ومرة بـ(لقمان) و(الذاريات) وكان يقوم في الركعة الأولى منها حتى لا يَسْمَعَ وَقْعَ قَدَم، وكذلك كان يطيل الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية، وكانت قراءته في العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وكان يقرأ في المغرب بـ(الأعراف) تارة، وبـ(الطور) تارة، و(المرسلات) تارة، وبـ(الدخان) تارة.[/FONT]
وروي عنه أنه قرأ فيها بـ: [FONT="]}قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[FONT="]{[/FONT]، و[FONT="]}[/FONT]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[FONT="]{[/FONT]، تفرد به ابن ماجه. ولعل أحد رواته وَهِمَ من قراءته بهما في سنة المغرب، فكان يقرأ بهما في سنة المغرب، فقال: كان يقرأ بهما في المغرب، أو سقطت (سنة) من النسخة، والله أعلم. وكان يقرأ في العشاء الآخرة بـ: [FONT="]}[/FONT]التِّينِ وَالزَّيْتُونِ[FONT="]{[/FONT] وسورة [FONT="]}[/FONT]إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ[FONT="]{[/FONT]، ويسجد فيها جميع من خلفه، وبـ: [FONT="]}[/FONT]الشَّمْسِ وَضُحَاهَا[FONT="]{[/FONT]، ونحو ذلك من السور. وكان إذا فرغ من القراءة سكت هنيهة ليراجع إليه نَفَسَه.[/FONT]
صفة الركوع
ثم كان يرفع يديه إلى أن يحاذي بهما فروع أذنيه كما رفعهما في الاستفتاح، وصح عنه ذلك كما صح التكبير للركوع، بل الذين رووا عنه رفع اليدين هاهنا أكثر من الذين رووا عنه التكبير. ثم يقول: «الله أكبر»، ويخر راكعًا، ويضع يديه على ركبتيه فيمكنهما من ركبتيه، وفرج بين أصابعه، وجافى مرفقيه عن جنبيه، ثم اعتدل وجعل رأسه حيال ظهره، فلم يرفع رأسه ولم يصوبه، وهصر ظهره -أي مده ولم يجمعه-، ثم قال: «سبحان ربي العظيم».
وروي عنه أنه كان يقول: «سبحان ربي العظيم وبحمده»، قال أبو داود: أخاف ألا تكون هذه الزيادة محفوظة. وربما مكث قدر ما يقول القائل عشر مرات، وربما مكث فوق ذلك، ودونه، وربما قال: «سبحانك اللهم [ربنا] وبحمدك اللهم اغفر لي»، وربما قال: «سبوح قدوس رب الملائكة والروح»، وربما قال: «اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت، أنت ربي، خشع قلبي وسمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين»، وربما كان يقول: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة». وكان ركوعه مناسبًا لقيامه في التطويل والتخفيف، وهذا بين في سائر الأحاديث.
صفة الاعتدال من الركوع
ثم كان يرفع رأسه قائلا: «سمع الله لمن حمده»، ويرفع يديه كما يرفعهما عند الركوع، فإذا اعتدل قائمًا قال: «ربنا ولك الحمد»، وربما قال: «اللهم ربنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد».
وربما زاد على ذلك: «اللهم طهرني بالثلج والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ».
وكان يطيل هذا الركن حتى يقول القائل: قد نسى. وكان يقول في صلاة الليل فيه: «لربي الحمد، لربي الحمد».
كيف يخر للسجود؟
ثم يكبر ويخر ساجدًا ولا يرفع يديه، وكان يضع ركبتيه قبل يديه، هكذا قال عنه وائل بن حجر وأنس بن مالك، وقال عنه ابن عمر: إنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، واختلف على أبي هريرة؛ ففي (السنن) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه».
وروى عنه المَقْبَري عن النبي صلى الله عليه وسلم:
«إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه».
فأبو هريرة قد تعارضت الرواية عنه، وحديث وائل وابن عمر تعارضًا، فرجحت طائفة حديث ابن عمر ورجحت طائفة حديث وائل بن حجر، وسلكت طائفة مسلك النسخ، وقالت: كان الأول وضع اليدين قبل الركبتين ثم نسخ بوضع الركبتين أولا، وهذه طريقة ابن خزيمة في ذكر الدلائل على أن الأمر بوضع اليدين عند السجود منسوخ، فإن وضع الركبتين قبل اليدين ناسخ، ثم روى من طريق [إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل حدثني أبي عن أبيه عن سلمة بن مصعب بن سعد عن سعد] قال: (كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأُمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين).
وهذا لو ثبت لكان فيه الشفاء، لكن يحيى بن سلمة بن كهيل قال البخاري: عنده مناكيره، وقال ابن معين: ليس بشيء، لا يكتب حديثه، وقال النسائي: متروك الحديث. وهذه القصة مما وهم فيها يحيى أو غيره، وإنما المعروف عن مصعب بن سعد عن أبيه نسخ التطبيق في الركوع بوضع اليدين على الركبتين، فلن يحفظ هذا الراوي، وقال: المنسوخ وضع اليدين قبل الركبتين. قال السابقون باليدين: قد حديث ابن عمر فإنه من رواية عبيد الله عن نافع عنه.
قال ابن أبي داود: وهو قول أهل الحديث، قالوا -وهم أعلم بهذا من غيرهم؛ فإنه نقل محض- قالوا: وهذه سنة، رواها أهل المدينة، وهم أعلم بها من غيرهم. قال ابن أبي داود: ولهم فيها إسنادان:
أحدهما: محمد عبد بن الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.
والثاني: الدَّرَاورْدي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر. قالوا: وحديث وائل ابن حجر له طريقان، وهما معلولان، وفي أحدهما شريك، تفرد به، قال الدارقطني: وليس بالقوي فيما يتفرد به. والطريق الثاني من رواية عبد الجبار بن وائل عن أبيه، ولم يسمع من أبيه. قال السابقون بالركبتين: حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة وابن عمر، قال البخاري: حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة لا يُتابع عليه، فيه محمد بن عبد الله بن الحسن، قال: ولا أدري سمع من أبي الزناد أم لا.
وقال الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت منه، قال: وزعم بعض العلماء أنه منسوخ، ولهذا لم يحسنه الترمذي وحكم بغرابته، وحسَّن حديث وائل. قالوا: وقد قال في حديث أبي هريرة: لا يبرك كما يبرك البعير، والبعير إذا برك بدأ بيديه قبل ركبتيه، وهذا النهي لا يوافق قوله: «وليضع يديه قبل ركبتيه» بل ينافيه، ويدل على أن هذه الزيادة غير محفوظة، ولعل لفظها انقلب على بعض الرواة، قالوا: ويدل على ترجيح هذا أمران آخران:
أحدهما: ما رواه أبو داود من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة). وفي لفظ: (نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة)، ولا ريب أنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه اعتمد عليهما، فيكون قد أوقع جزءًا من الصلاة معتمدًا على يديه بالأرض، وأيضًا فهذا الاعتماد نظير الاعتماد في الرفع منه، سواء، فإذا نهى عن ذلك كان نظيره كذلك.
الثاني: أن المصلي في انحطاطه ينحط منه إلى الأرض الأقرب إليها أولا، ثم الذي من فوقه، ثم الذي من فوقه، حتى ينتهي إلى أعلى ما فيه، وهو وجهه. فإذا رفع رأسه من السجود ارتفع أعلى ما فيه أولا، ثم الذي دونه، ثم الذي دونه، حتى يكون آخر ما يرتفع منه ركبتاه. والله أعلم.
صفة السجود
ثم كان يسجد على جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وأطراف قدميه، ويستقبل بأصابع يديه ورجليه القبلة، وكان يعتمد على أليتي كفيه، ويرفع مرفقيه، ويجافي عضديه عن جنبيه حتى يبدو بياض إبطيه، ويرفع بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويعتدل في سجوده ويمكن وجهه من الأرض مباشرًا به للمصلى غير ساجد على كور العمامة.
قال أبو حميد الساعدي -وعشرة من الصحابة يسمعون كلامه-:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائمًا ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قال: «الله أكبر» وركع، ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه ولم يقنعه، ووضع يديه على ركبتيه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده» ثم رفع واعتدل ثم رجع كل عضو في موضعه معتدلا، ثم هوى ساجدًا وقال: «الله أكبر»، ثم جافى وفتح عضديه عن بطنه، وفتح أصابع رجليه، ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها واعتدل حتى يرجع كل عظم موضعه معتدلا، ثم هوى ساجدًا وقال: «الله أكبر»، ثم ثنى رجله وقعد عليها حتى يرجع كل عضو إلى موضعه، ثم نهض فصنع في الركعة الثانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتح الصلاة، ثم صنع كذلك، حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها الصلاة أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متورِّكًا ثم سلم.
وكان يقول في سجوده: «سبحان ربي الأعلى».
وروي أنه كان يزيد عليها: «وبحمده». وربما قال: «اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره؛ فتبارك الله أحسن الخالقين».
وكان يقول أيضًا: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي». وكان يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت». وكان يقول: «سبوح قدوس رب الملائكة والروح». وكان يقول: «اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره». وكان يقول: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك». وكان يجعل سجوده مناسبًا لقيامه. ثم يرفع رأسه قائلا: «الله أكبر»، غير رافع يديه، ثم يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويضع يديه على فخذيه ثم يقول: «اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني». وفي لفظ: «وعافني» بدل «واجبرني»؛ هذا حديث ابن عباس. وقال حذيفة: كان يقول بين السجدتين: «رب اغفر لي»، والحديثان في (السنن).
وكان يطيل هذه الجلسة حتى يقول القائل قد أوهم أو قد نسي.
صفة القيام من السجود
ثم يكبر ويسجد غير رافع يديه، ويصنع في الثانية مثل ما صنع في الأولى، ثم يرفع رأسه مكبرًا، وينهض على صدور قدميه معتمدًا على ركبتيه وفخذيه.
جلسة الاستراحة
وقال مالك بن الحُوَيْرِث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا. فهذه تسمى جلسة الاستراحة، ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم فعلها، ولكن هل فعلها على أنها من سنن الصلاة وهيئاتها كالتجافي وغيره، أو لحاجته إليها لما أسن وأخذه اللحم؟ وهذا الثاني أظهر، لوجهين:
أحدهما: أن فيه جمعًا بينه وبين حديث وائل بن حجر وأبي هريرة؛ أنه كان ينهض على صدور قدميه.
الثاني: أن الصحابة الذين كانوا أحرص الناس على مشاهدة أفعاله وهيئات صلاته كانوا ينهضون على صدور أقدامهم، فكان عبد الله بن مسعود يقوم على صدور قدميه في الصلاة، ولا يجلس.
رواه البيهقي عنه، ورواه عن ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبي سعيد الخدري من رواية عطية العوفي عنهم، وهو صحيح عن ابن مصعود.
ولم يكن يرفع يديه في هذا القيام، وكان إذا استتم قائمًا أخذ في القراءة ولم يسكت، وافتتح قراءته بـ [FONT="]}الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[FONT="]{[/FONT]. فإذا جلس في التشهد الأول جلس مفترشًا كما يجلس بين السجدتين ويضع يده اليسرى على ركبته اليسرى واليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه السبابة، ووضع إبهامه على أصبعه الوسطى كهيئة الحلقة، وجعل بصره إلى موضع إشارته، وكان يرفع أصبعه السبابة ويحنيها قليلا ويوحد بها ربه عز وجل.[/FONT]
وذكر أبو داود من حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: هكذا الإخلاص -يشير بأصبعه التي تلي الإبهام- وهكذا الدعاء -يرفع يديه مدًّا حذو منكبيه- وهكذا الابتهال -فرفع يديه مدًّا-. وقد روي موقوفًا.
ثم كان يقول: «التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله»، وكان يعلمه أصحابه كما يعلمهم القرآن، وكان أيضًا يقول: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله»، هذا تشهد ابن عباس، والأول تشهد ابن مسعود وهو أكمل؛ لأن تشهد ابن مسعود يتضمن جملا متغايرة، وتشهد ابن عباس جملة واحدة، وأيضًا في (الصحيحين)، وفيه زيادة الواو، وكان يعلمهم إياه كما يعلمهم القرآن وروى ابن عمر عنه: «التحيات لله الصلوات الطيبات». وفيه أنواع أخر كلها جائزة. وكان يخفف هذه الجلسة حتى كأنه جالس على الرضف، وهي الحجارة المحماة، ثم يكبر وينهض فيصلي الثالثة والرابعة، ويخففهما عن الأوليين، وكان يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، وربما زاد عليها أحيانًا.
صفة القنوت
وكان إذا قنت لقوم أو على قوم يجعل قنوته في الركعة الأخيرة بعد رفع رأسه من الركوع، وكان أكثر ما يفعل ذلك في صلاة الصبح، وقال حميد عن أنس: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا بعد الركوع يدعو على رعل وذكوان.
وقال ابن سيرين: قلتُ لأنس: قنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح ؟ قال: نعم بعد الركوع يسيرًا.
وقال ابن سيرين: عن أنس: «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا بعد الركوع في صلاة الفجر يدعو على عُصية».
متفق على هذه الأحاديث.
فهؤلاء أعلم الناس بأنس قد حكوا عنه أن قنوته كان بعد الركوع، وحُميد هو الذي روى عن أنس أنه سئل عن القنوت فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده، والمراد بهذا القنوت طول القيام.
وقد أخبر أبو هريرة مثل ما أخبر به أنس سواء: أنه صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع لما قال: «سمع الله لمن حمده»، وقال قبل أن يسجد: «اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين» متفق عليه.
وقال ابن عمر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول: «اللهم العن - فلانًا - وفلانًا» بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد».
وقد اتفقت الأحاديث أنه قنت بعد الركوع وأنه قنت لعارض ثم تركه.
ثم قال أنس: القنوت في المغرب والفجر. رواه البخاري. وقال البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الفجر والمغرب. رواه مسلم.
وقنت أبو هريرة في الركعة الأخيرة من الظهر والعشاء والآخرة وصلاة الصبح بعد ما يقول: «سمع الله لمن حمده» يدعو للمؤمنين ويلعن الكفار، وقال: لأقربن «لكم» صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكره البخاري.
وقال أحمد: (صلاة العصر ) مكان (صلاة العشاء).
وقال ابن عباس: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال: «سمع الله لمن حمده» من الركعة الأخيرة يدعو على حي من بني سليم، ويؤمِّن من خلفه - ذكره أحمد وأبو داود.
وقد اتفقت الأحاديث كما ترى على أنه في الركعة الأخيرة بعد الركوع وأنه عارض لا راتب، وفي «صحيح مسلم» عن أنس: قنت يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه. وعند الإمام أحمد: قنت شهرًا ثم تركه. وقال أبو مالك الأشجعي: قلت لأبي: يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعثمان، وعلي بالكوفة ههنا قريبا من خمس سنين - أكانوا يقنتون ؟ قال: أي بني إنه محدث. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
ورواه النسائي ولفظه: «صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف عثمان فلم يقنت، وصليت خلف عليٍّ فلم يقنت، ثم قال: يا بُني بدعةٌ».
فمن كره القنوت في الفجر احتج بهذه الأحاديث وبقول أنس: ثم تركه. قالوا: فهو منسوخ.
ومن استحبه قبل الركوع فحجته الآثار عن الصحابة التابعين بذلك. قال أبو داود الطيالسي: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن أبي رجاء عن أبي مغفل: أنه قنت في الفجر قبل الركوع.
وقال مالك: عن هشام بن عروة عن أبي أنه كان يقنت قبل الركوع. قال أصبغ بن الفرج والحارق بن مسكين وابن أبي عمر: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال: سئل مالك عن القنوت في الصبح: أي ذلك أعجب إليك؟ قال: الذي أدركت الناس عليه وهو أمرٌ الناس عليه، وهو أمر الناس القديم القوت قبل الركوع قلت: أي ذلك تأخذ في خاصة نفسك؟ قال: القنوت قبل الركوع. قلت: فالقنوت في الوتر؟ قال: ليس فيه قنوت.
فصل
ومن استحبه بعد الركوع فذهب إلى الأحاديث التي صرحت بأنه بعد الركوع، وهي صحاح كلها، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: يقول أحد في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع غير عاصم الحول؟ قال: ما علمت أحدًا يقوله غيره، خالف عاصم قلت: هشام عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع، والتيمي عن أبي مجلز عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع، وأيوب عن محمد قال: سألت أنسًا، وحنظلة السدوسي عن أنس - أربعة وجوه، قيل لأبي عبد الله: سائر الأحاديث أليس إنما هي بعد الركوع؟ قال: بلى، كلها خفاف، أين كانت وأبو هريرة؟! قلت لأبي عبد الله: فلم ترخص إذن في القنوت قبل الركوع وإنما صحت الأحاديث بعد الركوع؟ فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع وفي الوتر مختار بعد الركوع، ومن قنت قبل الركوع فلا بأس لفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلافهم فيه، فأما في الفجر فبعد الركوع، والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القنوت في النوازل، ثم تركه، ففعله سنة وتركه سنة.
وعلى هذا دلت جميع الأحاديث، وبه تتفق السنة.
قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن القنوت في أي صلاة؟ قال: في الوتر بعد الركوع، فإن قنت رجل في الفجر اتباع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت دعاء للمستضعفين فلا بأس، فإن قنت رجل بالناس يدعو لهم ويستنصر الله تعالى فلا بأس.
وقال إسحاق الحربي: سمعت أبا ثور يقول لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ما تقول في القنوت في الفجر؟ فقال أبو عبد الله: إنما يكون القنوت في النوازل. فقال له أبو ثور: وأي نوازل أكثر من هذه النوازل التي نحن فيها؟ قال: فإذا كان كذلك فالقنوت. وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن القنوت في الفجر فقال: نعم في الأمر يحدث كما قنت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على قوم. قلت له: ويرفع صوته؟ قال: نعم، ويؤمن من خلفه كذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: القنوت في الفجر بعد الركوع، وسمعته قال لما سئل عن القنوت في الفجر - فقال: إذا نزل بالمسلمين أمر قنت الإمام وأمن من خلفه.
ثم قال: مثل ما نزل بالناس من هذا الكافر، يعني: بابك.
وقال عبدوس بن مالك العطار: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل فقلت: إني رجل غريب من أهل البصرة، وإن قومًا قد اختلفوا عندنا في أشياء وأحب أن أعلم رأيك فيما اختلفوا فيه.
قال: سل عما أحببت، قلت: فإن بالبصرة قومًا يقنتون، كيف ترى في الصلاة خلف من يقنت؟ فقال: قد كان المسلمون يصلون خلف من يقنت، وخلف من لا يقنت.
فإن زاد في القنوت حرفًا أو دعاء بمثل: إنا نستعينك، أو عذابك الجد، أو نحفد، فإن كنت في الصلاة فاقطعها.
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير
وشرع لأمته أن يصلوا عليه في التشهد الأخير فيقولوا: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد».
وأمرهم أن يتعوذوا بالله من عذاب النار وعذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال.
وعلم الصديق أنه يدعو في صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم».
وكان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررتُ وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدمُ وأنت المؤخر لا إله إلا أنت».
ثم كان يسلم عن يمينه: «السلام عليكم ورحمة الله»، وعن يساره: «السلام عليكم ورحمه الله»، وروى ذلك خمسة عشر صاحبيًّا.
وكان إذا سلم قال: «استغفر الله» ثلاثًا، يقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام»، «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»، «لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون». وشرع لأمته التسبيح والتحميد والتكبير عقيب الصلاة. وأمر عقبة بن عامر أن يقرأ بالمعوذتين عقيب كل صلاة. وروى عنه النسائي من حديث أبي أمامة أنه قال: «من قرأ آية الكرسي عقيب كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت».
هديه صلى الله عليه وسلم في السنن والرواتب
وكان يصلي قبل الظهر أربعًا وبعدها ركعتين دائمًا، ولما شغل عنهما يومًا صلاهما بعد العصر.
وندب إلى أربع بعدها فقال: «من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع ركعات بعدها حرمه الله من النار». قال الترمذي: حديث صحيح.
ولم ينقل عنه أنه كان يصلي قبل العصر حديث صحيح، وفي السنن عنه قال: «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا».
وكان يصلي بعد المغرب ركعتين وبعد العشاء ركعتين، وقبل الصبح ركعتين. فهذه اثنتا عشرة ركعة سننًا راتبة، والفرائض سبع عشرة ركعة، وكان يصلي من الليل عشر ركعات، وربما صلى اثنتي عشرة ركعة ويوتر بواحدة. فهذه أربعون ركعة كانت ورده دائمًا، الفرائض وسننها وقيام الليل والوتر، ولم يكن من سننه الدعاء بعد الصبح والعصر، وإنما كان من هديه الدعاء في الصلاة وقبل السلام منها. والله أعلم. تم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.