تحذيـر الإخـوان مـن هـجـران الـقـرآن للشيخ نجيب جلواح
أنزل الله تعالى على سيِّد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم خير كتبه وأعظمها ـ القرآن الكريم ـ؛ فيه الهدى والنُّور: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾[الشورى:52].
وأمر الله تعالى عباده أنْ يتمسَّكوا به ليهتدوا، وإلاَّ كانوا في ضلالٍ مبينٍ، فقال: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾[آل عمران:103].
وحبلُ الله الممدود مِن السَّماء إلى الأرض: هو القرآن العظيم، وبه فسَّره رسولُنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فعن زيد بن أرقم ـ مرفوعًا ـ: «كِتَابُ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ هُوَ حَبْلُ اللهِ؛ مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلاَلَةٍ»(1).
ولـمَّا هجر القومُ كتابَ الله، وأعرَضوا عمَّا فيه مِن الهدى، شكاهم نبيُّنا صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه، فقال تعالى ـ حاكيًا قولَه ـ: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾[الفرقان:30].
وعبَّر عن قريشٍ بالقَوم؛ فقال: ﴿إِنَّ قَوْمِي﴾: زيادةً في تشنِيع صنيعهم معه؛ لأنَّ مِن شأنِ قومِ الرَّجُلِ أنْ يوافِقوه، لا أنْ يخالفوه، وأنْ يُصدِّقوه، ولا يُكذِّبوه.
واتِّخاذُهم ﴿هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ له معنَيان:
فإنْ كان مِنَ «الهُجْر» ـ بضمِّ الهاء ـ فمعناه: ادِّعاؤهم فيه السَّيِّء مِن القول، وقولهم فيه هُجْرًا، أي: زعمهم أنَّه سِحرٌ وشِعرٌ وكِهانةٌ وكذِبٌ وأساطير الأوَّلين، قاله مجاهد(2).
وإنْ كان مِنَ «الهَجْر» ـ بفتح الهاء ـ: فهو التَّرْكُ والبُعْدُ، أي: جعلوه متروكًا مُبْعَدًا مَقْصِيًّا، وأعرَضوا عنه، ولم يسمعوا له، وهذا قول جابر بن زيد(3).
ولا مانِع مِن الأخذ بالقولين، لا سيما أنَّ الآية تحتمل المعنيينِ معًا، فيكون هجر القرآن بهذا وبهذا، بل وبغيرهما(4)، كما سيأتي بيانه في أنواع الهجر.
وهذا الإخبار مِن النَّبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم حِكايةٌ عن قوله في الدُّنيا ـ وهذا قول الجمهور، وهو الظَّاهر ـ بدليل ما يتبعه مِن التَّسلية والمؤانسة في الآية الموالية، فيكون ـ حينئذٍ ـ معطوفًا على قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾[الفرقان:21]، وما بينهما اعتراض.
وقيل: هذا سيكون مِن قوله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فيكون معطوفًا على قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾[الفرقان:27].
وفي هذه الشِّكاية مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخويفٌ عظيمٌ لقومه، وترهيبٌ لهم؛ لأنَّ أنبياءَ الله ورسلَه كانوا إذا شَكَوْا قومَهم إلى ربِّهم حلَّت بهم نِقمة الله، وعجَّل لهم عذابه، ولم يُنْظَروا، وفي هذا وعيدٌ شديدٌ لكلِّ مَن كان هاجرًا للقرآن، بأيِّ وجهٍ مِن وُجوه الهجران.
فعزَّى الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم فيمَن سبقه مِن النَّبيِّين والمرسَلين، وجعل ذلك تسليةً له ومواساةً، ووعده النُّصرة على أعدائه، وأخبره بأنَّ هؤلاء القوم لهم سَلَفٌ صنعوا مِثل صنيعهم، فقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾[الفرقان:31] أي: كما حصل لك أيُّها النَّبيُّ الكريم ـ في قومك ـ مِن هجرانهم للقرآن، والباعث على هذا هو العداوة، والعداوة مِن شأنها أنْ تؤدِّي إلى هَجر الأقوال والأفعال، فكذلك وقع للأنبياء ـ قبلك ـ مع أممهم، فلَك فيهم أسوةٌ، فلْتصبرْ على ما تلقاه، كما صبر أولُو العزم مِن الرُّسل(5).
وقد استَدلَّ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله بهذه الآيات على أنَّ هاجر القرآن: مِن أعداء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال:
«فبيَّن أنَّ مَن هجر القرآن: فهو مِن أعداء الرَّسول، وأنَّ هذه العداوة أمرٌ لابدَّ منه، ولا مَفرَّ عنه»(6).
وتجدرُ الإشارة ـ هنا ـ إلى أنَّّ هذه الآية ـ آية الشَّكوى ـ، وإنْ نزلت في حقِّ المشركين، وفي هجرهم للقرآن الكريم وكفرهم به، غير أنَّ نظمها ممَّا يُرهب ويُخيف عموم الهاجرين لكتاب الله وإنْ كانوا به مِن المؤمنين.
قال الشَّيخ ابن باديس رحمه الله:
«وفي حِكاية القرآن لهذه الشَّكوى: وعيدٌ كبير للهاجرين، بإنزال العقاب بهم، إجابة لشكوى نبيِّه، ولـمَّا كان الهجرُ طبقات، أعلاها عدم الإيمان به، فلِكلِّ هاجر حظُّه مِن هذه الشَّكوى وهذا الوعيد. ونحن ـ معشر المسلمين ـ قد كان منَّا للقرآن العظيم هجرٌ كثيرٌ في الزَّمان الطَّويل، وإنْ كنَّا به مؤمنين»(7).
ولقد حذَّر الله تعالى مِن الإعراض عن القرآن فقال: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون﴾[فُصِّلَت:3-4].
وتوعَّد من يفعل ذلك؛ فقال: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً﴾[طه:99-101].
فعلى ضوء ما أورَدَتْه كتبُ التَّفسير، يُعلم بأنَّ هجر القرآن ـ أو الإعراض عنه ـ له جانبان:
2 جانب يتعلَّق بالقرآن ـ مع عدم الإيمان به ـ: وهذا صنيع الكفَّار والمنافقين.
2 وجانب يتعلَّق بالقرآن ـ مع الإيمان والإقرار به ـ: وهذا صنيع المقصِّرين مِن المسلمين(8).
* أنواع هُجران القرآن
هجرُ القرآن ليس له صُورة واحدة، بل هو أنواع مختلفة، كما دلَّت عليه نصوص الوحيَين.
وقد أشار إليها بعض أهل العلم، أذكر ـ هنا ـ نقلين لعلَمين منهم، وهما: ابن القيِّم وابن كثير ـ عليهما رحمة الله ـ.
قال ابن كثير:
«كانوا إذا تُلي عليهم القرآن أكثروا اللَّغط والكلام في غيره حتَّى لا يسمعوه، فهذا مِن هُجرانه، وترك علمه وحفظه ـ أيضًا ـ مِن هُجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه مِن هُجرانه، وترك تدبُّره وتفهُّمه مِن هُجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره مِن هُجرانه، والعُدول عنه إلى غيره ـ مِن شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة مِن غيره ـ مِن هُجرانه»(9).
وقال ابن القيِّم:
«[فائدة]: هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
والثَّاني: هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وإنْ قرأه وآمن به.
والثَّالث: هجر تحكيمه والتَّحاكم إليه، في أصول الدِّين وفروعه، واعتقاد أنَّه لا يُفيد اليقين، وأنَّ أدلَّته لفظيَّة لا تحصل العِلم.
والرَّابع: هجر تدبُّره وتفهُّمه ومعرفة ما أراد المتكلِّم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتَّداوي به، في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه مِن غيره، ويهجر التَّداوي به. وكلُّ هذا داخل في قوله: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾[الفرقان:30]، وإنْ كان بعض الهجر أهون مِن بعض»(10).
1 وتفصيل ذلك فيما يلي:
أنزل الله تعالى على سيِّد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم خير كتبه وأعظمها ـ القرآن الكريم ـ؛ فيه الهدى والنُّور: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾[الشورى:52].
وأمر الله تعالى عباده أنْ يتمسَّكوا به ليهتدوا، وإلاَّ كانوا في ضلالٍ مبينٍ، فقال: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾[آل عمران:103].
وحبلُ الله الممدود مِن السَّماء إلى الأرض: هو القرآن العظيم، وبه فسَّره رسولُنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فعن زيد بن أرقم ـ مرفوعًا ـ: «كِتَابُ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ هُوَ حَبْلُ اللهِ؛ مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلاَلَةٍ»(1).
ولـمَّا هجر القومُ كتابَ الله، وأعرَضوا عمَّا فيه مِن الهدى، شكاهم نبيُّنا صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه، فقال تعالى ـ حاكيًا قولَه ـ: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾[الفرقان:30].
وعبَّر عن قريشٍ بالقَوم؛ فقال: ﴿إِنَّ قَوْمِي﴾: زيادةً في تشنِيع صنيعهم معه؛ لأنَّ مِن شأنِ قومِ الرَّجُلِ أنْ يوافِقوه، لا أنْ يخالفوه، وأنْ يُصدِّقوه، ولا يُكذِّبوه.
واتِّخاذُهم ﴿هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ له معنَيان:
فإنْ كان مِنَ «الهُجْر» ـ بضمِّ الهاء ـ فمعناه: ادِّعاؤهم فيه السَّيِّء مِن القول، وقولهم فيه هُجْرًا، أي: زعمهم أنَّه سِحرٌ وشِعرٌ وكِهانةٌ وكذِبٌ وأساطير الأوَّلين، قاله مجاهد(2).
وإنْ كان مِنَ «الهَجْر» ـ بفتح الهاء ـ: فهو التَّرْكُ والبُعْدُ، أي: جعلوه متروكًا مُبْعَدًا مَقْصِيًّا، وأعرَضوا عنه، ولم يسمعوا له، وهذا قول جابر بن زيد(3).
ولا مانِع مِن الأخذ بالقولين، لا سيما أنَّ الآية تحتمل المعنيينِ معًا، فيكون هجر القرآن بهذا وبهذا، بل وبغيرهما(4)، كما سيأتي بيانه في أنواع الهجر.
وهذا الإخبار مِن النَّبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم حِكايةٌ عن قوله في الدُّنيا ـ وهذا قول الجمهور، وهو الظَّاهر ـ بدليل ما يتبعه مِن التَّسلية والمؤانسة في الآية الموالية، فيكون ـ حينئذٍ ـ معطوفًا على قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾[الفرقان:21]، وما بينهما اعتراض.
وقيل: هذا سيكون مِن قوله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فيكون معطوفًا على قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾[الفرقان:27].
وفي هذه الشِّكاية مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخويفٌ عظيمٌ لقومه، وترهيبٌ لهم؛ لأنَّ أنبياءَ الله ورسلَه كانوا إذا شَكَوْا قومَهم إلى ربِّهم حلَّت بهم نِقمة الله، وعجَّل لهم عذابه، ولم يُنْظَروا، وفي هذا وعيدٌ شديدٌ لكلِّ مَن كان هاجرًا للقرآن، بأيِّ وجهٍ مِن وُجوه الهجران.
فعزَّى الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم فيمَن سبقه مِن النَّبيِّين والمرسَلين، وجعل ذلك تسليةً له ومواساةً، ووعده النُّصرة على أعدائه، وأخبره بأنَّ هؤلاء القوم لهم سَلَفٌ صنعوا مِثل صنيعهم، فقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾[الفرقان:31] أي: كما حصل لك أيُّها النَّبيُّ الكريم ـ في قومك ـ مِن هجرانهم للقرآن، والباعث على هذا هو العداوة، والعداوة مِن شأنها أنْ تؤدِّي إلى هَجر الأقوال والأفعال، فكذلك وقع للأنبياء ـ قبلك ـ مع أممهم، فلَك فيهم أسوةٌ، فلْتصبرْ على ما تلقاه، كما صبر أولُو العزم مِن الرُّسل(5).
وقد استَدلَّ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله بهذه الآيات على أنَّ هاجر القرآن: مِن أعداء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال:
«فبيَّن أنَّ مَن هجر القرآن: فهو مِن أعداء الرَّسول، وأنَّ هذه العداوة أمرٌ لابدَّ منه، ولا مَفرَّ عنه»(6).
وتجدرُ الإشارة ـ هنا ـ إلى أنَّّ هذه الآية ـ آية الشَّكوى ـ، وإنْ نزلت في حقِّ المشركين، وفي هجرهم للقرآن الكريم وكفرهم به، غير أنَّ نظمها ممَّا يُرهب ويُخيف عموم الهاجرين لكتاب الله وإنْ كانوا به مِن المؤمنين.
قال الشَّيخ ابن باديس رحمه الله:
«وفي حِكاية القرآن لهذه الشَّكوى: وعيدٌ كبير للهاجرين، بإنزال العقاب بهم، إجابة لشكوى نبيِّه، ولـمَّا كان الهجرُ طبقات، أعلاها عدم الإيمان به، فلِكلِّ هاجر حظُّه مِن هذه الشَّكوى وهذا الوعيد. ونحن ـ معشر المسلمين ـ قد كان منَّا للقرآن العظيم هجرٌ كثيرٌ في الزَّمان الطَّويل، وإنْ كنَّا به مؤمنين»(7).
ولقد حذَّر الله تعالى مِن الإعراض عن القرآن فقال: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون﴾[فُصِّلَت:3-4].
وتوعَّد من يفعل ذلك؛ فقال: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً﴾[طه:99-101].
فعلى ضوء ما أورَدَتْه كتبُ التَّفسير، يُعلم بأنَّ هجر القرآن ـ أو الإعراض عنه ـ له جانبان:
2 جانب يتعلَّق بالقرآن ـ مع عدم الإيمان به ـ: وهذا صنيع الكفَّار والمنافقين.
2 وجانب يتعلَّق بالقرآن ـ مع الإيمان والإقرار به ـ: وهذا صنيع المقصِّرين مِن المسلمين(8).
* أنواع هُجران القرآن
هجرُ القرآن ليس له صُورة واحدة، بل هو أنواع مختلفة، كما دلَّت عليه نصوص الوحيَين.
وقد أشار إليها بعض أهل العلم، أذكر ـ هنا ـ نقلين لعلَمين منهم، وهما: ابن القيِّم وابن كثير ـ عليهما رحمة الله ـ.
قال ابن كثير:
«كانوا إذا تُلي عليهم القرآن أكثروا اللَّغط والكلام في غيره حتَّى لا يسمعوه، فهذا مِن هُجرانه، وترك علمه وحفظه ـ أيضًا ـ مِن هُجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه مِن هُجرانه، وترك تدبُّره وتفهُّمه مِن هُجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره مِن هُجرانه، والعُدول عنه إلى غيره ـ مِن شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة مِن غيره ـ مِن هُجرانه»(9).
وقال ابن القيِّم:
«[فائدة]: هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
والثَّاني: هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وإنْ قرأه وآمن به.
والثَّالث: هجر تحكيمه والتَّحاكم إليه، في أصول الدِّين وفروعه، واعتقاد أنَّه لا يُفيد اليقين، وأنَّ أدلَّته لفظيَّة لا تحصل العِلم.
والرَّابع: هجر تدبُّره وتفهُّمه ومعرفة ما أراد المتكلِّم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتَّداوي به، في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه مِن غيره، ويهجر التَّداوي به. وكلُّ هذا داخل في قوله: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾[الفرقان:30]، وإنْ كان بعض الهجر أهون مِن بعض»(10).
1 وتفصيل ذلك فيما يلي:
–—˜