الحبيب الوفي
:: عضوية محظورة ::
- إنضم
- 7 ديسمبر 2014
- المشاركات
- 56
- نقاط التفاعل
- 68
- النقاط
- 3
الحبيب الوفي، تم حظره "حظر دائم". السبب: مخالفة القوانين
لقد وضع الإسلام نظامًا فريدًا للاجتماع، لحمته التراحم والتعاطف، وسداه التكافل والتكاتف، ومبناه على التعاون على البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان، وقيام كل مسلم بما يجب عليه تجاه من يعامله أويصل إليه. وقد عظم الله حق المسلم على المسلم، وحق القريب على قريبه، وحق الجار على جاره.
والقيام بهذه الحقوق من أهم أسباب السعادة للفرد والمجتمع. فإن الناس في هذه الدنيا ممتحنون، والمصائب تحيط بهم من كل جانب. والإنسان بمفرده أضعف من أن يصمد طويلاً أمام هذه الشدائد، ولئن صمد، فإنه يعاني من المشقة والجهد ما كان في غنى عنه لو أن إخوانه التفتوا إليه، وحدبوا عليه، وهرعوا لنجدته، وأعانوه في مشكلته، فالمرء قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه وجيرانه وأهله.
وانطلاقًا من هذه الأهمية نبحث حقوق الجار من خلال المباحث التالية:
الأول: حاجة الجار إلى جاره.
الثاني: أنواع الجيران.
الثالث: حد الجار.
الرابع: عظم حق الجار.
الخامس: مراتب حق الجار.
السادس: أهمية الاجتماعات بين الجيران.
المبحث الأول: حاجة الجار إلى جاره
لقد وضع الإسلام نظامًا فريدًا للاجتماع، لحمته التراحم والتعاطف، وسداه التكافل والتكاتف، ومبناه على التعاون على البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان، وقيام كل مسلم بما يجب عليه تجاه من يعامله أويصل إليه. وقد عظم الله حق المسلم على المسلم، وحق القريب على قريبه، وحق الجار على جاره.
والقيام بهذه الحقوق من أهم أسباب السعادة للفرد والمجتمع. فإن الناس في هذه الدنيا ممتحنون، والمصائب تحيط بهم من كل جانب. والإنسان بمفرده أضعف من أن يصمد طويلاً أمام هذه الشدائد، ولئن صمد، فإنه يعاني من المشقة والجهد ما كان في غنى عنه لو أن إخوانه التفتوا إليه، وحدبوا عليه، وهرعوا لنجدته، وأعانوه في مشكلته، فالمرء قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه وجيرانه وأهله.
وأقرب الناس إلى الإنسان، وأكثرهم ملابسة له، ومعرفة بأحواله -بعد أهله وقرابته- هم جيرانه. بل لربما كان الجار في حالات كثيرة، أقرب إليهم، وأكثر إعانة لهم من القرابة والأصهار، فإن أهل البيت حين يفاجؤون بمشكلة، أو تحل بهم نازلة، ويحتاجون فيها إلى إغاثة عاجلة، فإنهم يهرعون مباشرة إلى جارهم، بحكم قربه منهم، وملاصقة داره لدارهم.
ومن هنا يتبين شدة حاجة الجار إلى جاره، وقوة تأثيره فيه، وعظم حقه عليه، وأن القيام بحقه من أوجب الواجبات، ومن أكبر أسباب التكافل والتعاون في هذه الحياة، لتذليل عقباتها، وتخفيف مصاعبها، وأكبر أسباب الإعانة على البر والخير، والحماية من الإثم والشر.
ولكن هذا الحق العظيم قد أهمله كثير من الناس اليوم، وانشغلوا عنه بخصوصياتهم وحب ذواتهم، وقعدوا عن القيام به بسبب أثرتهم وأنانيتهم، ولم يرعوه حق رعايته بسبب جهلهم وضعف إيمانهم، وتربع الدنيا على قلوبهم، فأصبحوا لا يعيشون إلا لأنفسهم، ولا يهمهم إلا مصالحهم، غير مكترثين بما يجب عليهم تجاه إخوانهم وجيرانهم، فماتت فيهم عواطف الأخوة والمحبة، وخفتت في نفوسهم أخلاق السماحة والنجدة، وخلت قلوبهم من المعاني الإنسانية الجميلة، وربما حملهم حب الدنيا والمنافسة على حطامها على إيذاء جيرانهم وظلمهم، والاعتداء على مصالحهم، وغمطهم حقوقهم.
وليتهم إذ لم يحسنوا إليهم ويقوموا بحقوقهم عليهم، كفَّوا عنهم ظلمهم وعدوانهم. ولقد كان العرب وهم في جاهليتهم يتفاخرون بحسن الجوار وإكرام الجار، ورعاية حقوقه وصون حرماته، وكف الأذى عنه، حتى قال قائلهم:
وقال آخر:
فلما جاء الإسلام أكد هذا الخلق النبيل، وعظم حق الجار على جاره، حتى كاد أن يورِّثه منه كأهله وعياله.
المبحث الثاني: أنواع الجيران
يقول الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ} [النساء من الآية:36[، فجمع سبحانه بين الأمر بعبادته والأمر بالإحسان إلى خلقه، ومن ذلك الإحسان إلى الجار مسلمًا كان أم كافرًا، قريبًا أم غريبًا، ملاصقًا أم بعيدًا.
وقوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} أي: الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجنب أي الغريب الذي لا قرابة بينك وبينه، وهذا قول أكثر المفسرين.
وقيل: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} هو الجار المسلم، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} هو الجار الكافر.
وقيل: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} هو الجار القريب جواره، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} هو المجانب، وهو من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة (انظر: تفسير الطبري 5/178ـ180، وتفسير القرطبي 5/183، وتفسير ابن كثير 1/495، وفتح الباري 10/441، وتفسير الشوكاني 1/743).
وكل هذه المعاني صحيحة والآية تشملها وتدل عليها.
وهؤلاء كلهم لهم حق الجوار، وإن كان حقهم متفاوتًا بحسب تفاوت أحوالهم.
قال الحافظ ابن حجر(فتح الباري 10/441): "واسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب دارًا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها، ثم أكثرها، وهلم جرًا". فالجار الذي بينك وبينه قرابة حقه آكد من حق الجار الأجنبي، وحق الجار المسلم آكد من حق الجار الكافر، والملاصق حقه مقدم على حق البعيد، وقد روى البخاري (صحيح البخاري: 2140) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "قلت: "يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟" قال: «إلى أقربهما منك بابًا»".
وقد دلت النصوص الشرعية على أن الجيران ثلاثة:
1ـ جار له ثلاثة حقوق، وهو الجار المسلم القريب. له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة.
2ـ جار له حقان، وهو الجار المسلم. له حق الجوار، وحق الإسلام.
3ـ جار له حق واحد، وهو الجار الكافر. له حق الجوار. (انظر: تنبيه الغافلين 1/ 153، وتفسير القرطبي 5/184، وفتح الباري 10/441)
المبحث الثالث: حد الجار
اختلف العلماء في من يشمله اسم الجوار على أقوال كثيرة:
1ـ من ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: "من سمع النداء فهو جار"، فكل من يسمع صوت مؤذن الحي الذي يؤذن بدون مكبر صوت، فإنهم يعتبرون جيرانًا.
2ـ وقيل: من سمع إقامة الصلاة، فهو جار.
3ـ وقيل: من صلى معك صلاة الفجر في المسجد فهو جار.
4ـ وقيل: من جمعتهم محلة أو حي، فهم جيران.
5ـ وقيل: حد الجوار أربعون دارًا من كل ناحية. وهذا قول عائشة والأوزاعي والحسن البصري والزهري وغيرهم (انظر: تفسير القرطبي 5/185، وفتح الباري 10/447، وجامع العلوم والحكم 1/347، وفتح القدير للشوكاني 1/743).
5ـ والراجح أن حد الجوار يرجع فيه إلى العرف (قال الآلوسي في تفسيره 5/29: "والظاهر أن مبنى الجوار على العرف")، لأن القاعدة الشرعية تقول: كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة، يرجع فيه إلى العرف (الأشباه والنظائر للسيوطي ص: 98، وفتح القدير للشوكاني 1/743).
وعلى هذا فما اعتبره العرف جارًا فإنه جار، له حق الجوار من الإكرام وبذل الندى وكف الأذى ونحو ذلك.
المبحث الرابع: عظم حق الجار
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ } [النساء من الآية:36] فأوصى بالإحسان إلى الجيران كلهم، قريبهم وبعيدهم، برهم وفاجرهم، مسلمهم وكافرهم. كلٌ بحسب قربه وحاجته وما يصلح لمثله .
أما السنة النبوية فقد حفلت بنصوص كثيرة توصي بالجار، وتؤكد حقه، وتأمر بإكرامه والإحسان إليه، وتتوعد على إيذائه وعقوقه.
فعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (رواه البخاري: 5668، 5669، ومسلم: 2624، 2625).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه ذبح شاة، فقال: "هل أهديتم منها لجارنا اليهودي"، ثلاث مرات، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (رواه أبو داود: 5152، والترمذي: 1943، وأحمد: 6496، وحسنه الترمذي).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» وفي رواية: «فليحسن إلى جاره» (رواه البخاري: 5673، ورواه مسلم: 47، 48).
وهذا يدل على أن إكرام الجار، وطيب المعاملة له من شعب الإيمان، وسمات المؤمنين، وأن من لم يكرم جاره لم يتم إيمانه.
وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه ما يحب لنفسه» (رواه مسلم: 45). فبين عليه الصلاة والسلام أن كمال الإيمان الواجب لا يتم إلا بأن يحب المسلم لجاره ما يحب لنفسه من الخير. وهو يستلزم كذلك أن يكره له ما يكره لنفسه من الشر.
بل بين صلى الله عليه وسلم أن خير الناس وأفضلهم هو خيرهم لجاره وصاحبه، فقال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» (رواه الترمذي: 1944، وأحمد: 6566، والبخاري في " الأدب المفرد ": 115، والدارمي: 2437، وابن خزيمة: 2539، وابن حبان: 518، والحاكم: 1620، وصححه، ووافقه الذهبي. وحسنه الترمذي. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3270). وهذا الحديث المبارك ميزان نبوي عظيم يبين مقياس التفاضل بين الناس عند الله، وأن من كان خيِّرًا في معاملته لجيرانه وأصحابه وزملائه فهو دليل خيريته عند الله، وتوفيقه له، ومحبته إياه، بل هو دليل على أنه خير الناس عند الله، وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلِّم من يعمل بهن؟» فقال أبو هريرة: فقلت: "أنا يا رسول الله". فأخذ بيدي فعد خمسًا، وقال: «اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» (رواه الترمذي: 2305، وأحمد: 8081، والطبراني في الأوسط: 7054، وأبو يعلى: 6240. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 1876، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة: 930).
فبين أن الإحسان إلى الجار دليل على صدق الإيمان، وشعبة من شعبه، وسبب من أسباب زيادته وقوته. وقد قال بعض الحكماء: "ثلاث إذا كن في الرجل لم يشك في عقله وفضله: إذا حمده جاره وقرابته ورفيقه" (الآداب الشرعية: 2/16).
المبحث الخامس: مراتب حق الجار
حق الجار على ثلاث مراتب: أدناها كف الأذى عنه، ثم احتمال الأذى منه، وأعلاها وأكملها: إكرامه والإحسان إليه.
أما المرتبة الأولى: وهي كف الأذى عنه، فهي أقل ما يجب على الجار تجاه جاره، فإنه إذا لم يحسن إليه، فلا أقل من أن يكف أذاه عنه.
والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58]، فكيف إذا كان المؤذَى هو جارك المؤمن، فإن الإثم أشد.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» (رواه البخاري: 5787، ومسلم: 47).
وفي صحيح البخاري (حديث رقم: 5670) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن». قيل: "من يا رسول الله؟" قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» (ورواه مسلم بلفظ (صحيح مسلم: 46): «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» جمع بائقة: وهي الداهية، والغائلة، والشيء المهلك، والأمر الشديد الذي يوافى بغتة. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 2/17، وفتح الباري: 10/443). فأقسم ثلاث مرات على نفي الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه، كما نفى عنه دخول الجنة، وهذا الوعيد الشديد ينبىء عن تعظيم حق الجار، وأن الإضرار به من الكبائر.
والمقرر عند أهل السنة والجماعة: أن مرتكب الكبيرة مؤمن ناقص الإيمان، فلا يسلب منه الإيمان مطلقًا، ولا يعطى الإيمان المطلق، أي: الكامل. هذا حكمه في الدنيا. أما في الآخرة، فهو تحت مشيئة الله إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بقدر كبيرته، ثم يكون مآله إلى الجنة، فهو إن دخل النار لا يخلد فيها كما يخلد الكفار.
وأجابوا عن الأحاديث المتضمنة لنفي الإيمان ونفي دخول الجنة بارتكاب شئ من الكبائر، بجوابين:
الأول: أن هذا في حق المستحل لهذه المعصية. لأنه باعتقاده حلها مع تحريم الله لها بنصوص قاطعة صريحة، يكون مكذبًا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فهو كافر كفرًا أكبر، والجنة عليه حرام.
الثاني: أن معناه نفي كمال الإيمان، أي: ليس مؤمنا كاملاً. ونفي دخول الجنة، معناه: أنه لا يدخلها مع السابقين من أول وهلة، بل قد يعذب في النار حتى يطهر وينقو ويكون أهلاً لدخول الجنة فيدخلها (انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 2/17، وفتح الباري: 10/444).
وذكر بعضهم وجهًا ثالثًا: وهو أن هذا خرج مخرج الزجر والتغليظ والتحذير الشديد، وحقيقته ليست مرادة (فتح الباري 10/444).
ولكن هذا كما يقول أبو عبيد القاسم بن سلام (الإيمان لأبي عبيد بتحقيق الألباني ص: 88): "من أفظع ما تُأوِّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيدًا لا حقيقة له. وهذا يؤول إلى إبطال العقاب، لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها كان ممكنًا في العقوبات كلها".
وقال عليه الصلاة والسلام: «أول خصمين يوم القيامة جاران» ( رواه أحمد: 17410، والطبراني في المعجم الكبير: 836، 852. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3/241: "رواه أحمد واللفظ له، والطبراني بإسنادين أحدهما جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2560). وقد دل الحديث على أن الله تعالى سينتقم للجار المظلوم من جاره الظالم، وأن هذه الخصومة مقدمة على غيرها، مما يدل على خطورة ظلم الجار أوالتقصير في حقه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال: «اذهب فاصبر»، فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: «اذهب فاطرح متاعك في الطريق». فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: فعل الله به وفعل وفعل. فجاء إليه جاره فقال له: "ارجع، لا ترى مني شيئًا تكرهه" وفي رواية: "فأمرني أن أخرج متاعي فأضعه على الطريق، فجعلوا يقولون: اللهم العنه، اللهم أخزه. قال: فبلغ ذلك الرجل فأتاه فقال: ارجع فوالله لا أؤذيك أبدًا" (رواه أبو داود: 5153، وابن حبان: 520، والبخاري في الأدب المفرد: 124، والحاكم: 7303، وقال: حديث صحيح، وله شاهد صحيح عن أبي جحيفة رضي الله عنه. ووافقه الذهبي. وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية 2/14: إسناده جيد).
وعن أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه قال: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها بلسانها". قال: «لا خير فيها، هي في النار». قيل: "فإن فلانة تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بأثوار من أقط (الأثوار، بالثاء: جمع ثور، وهي قطعة من الأقط. والأقط ـ بفتح الهمزة وكسر القاف وبضمها أيضا وبكسر الهمزة والقاف معا وبفتحهما ـ: هو شيء يتخذ من مخيض لبن الأغنام. الترغيب والترهيب 3/242) ولا تؤذي جيرانها". قال: «هي في الجنة» (رواه أحمد: 9673، وابن حبان: 5764، والبخاري في الأدب المفرد: 119، والحاكم: 7304، 7305، وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3/242: رواه أحمد، والبزار، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال صحيح الإسناد. ورواه أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح أيضاً).
وهذا يدل على أن أذى الجار من الأسباب الموصلة إلى النار، وأن كف الأذى عنه سبيل موصل إلى الجنة.
نماذج من أذى الجار:
صور الأذى للجيران كثيرة، ومن أكثرها شيوعًا: التطلع إلى محارمهم، والنظر إلى نسائهم، وتتبع عوراتهم، والتنصت عليهم، والتجسس على أحوالهم، وكشف أسرارهم ونشر قالة السوء عنهم، والوقيعة في أعراضهم، والسعي في الإفساد بينهم، وإذاعة مثالبهم، وطمس مناقبهم، وإيذاؤهم برفع آلات اللهو والغناء المحرم، وكذلك إصدار الأصوات المزعجة، وخصوصًا في أوقات النوم والراحة.
ومن ذلك وضع الحيوانات والطيور التي تؤذيهم برائحتها، وتزعجهم بأصواتها، وكذلك وضع القمائم والزبائل عند أبوابهم ونحو ذلك.
وشر الجيران من تركه جيرانه اتقاء شره، وتباعدوا عنه تجنبًا لضره، وتقاصروا عنه ليسلموا من عدوانه وكيده.
وأخبث منه من ينتهك محارم جاره، أو يسرق من ماله، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أي الذنب أعظم؟" قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك»، قيل: "ثم أي؟" قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك»، قيل: "ثم أي؟" قال: «أن تزاني حليلة جارك» (رواه البخاري: 4207، ومسلم: 86).
وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ما تقولون في الزنا؟» قالوا: "حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة". قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره». قال: فقال: «ما تقولون في السرقة؟» قالوا: "حرمها الله ورسوله فهي حرام". قال: «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره»" (رواه أحمد: 23905،، والبخاري في " الأدب المفرد ": 103، والطبراني في الكبير: 605، والأوسط: 6333. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3/192: رواه أحمد، ورواته ثقات. وكذا قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 8/168).
فلما كان حق الجار على جاره كبيرًا، ومعرفته بأحواله، وقدرته على خيانته وكيده بحكم جواره وقربه أكثر من غيره، كان عدوانه عليه بالزنا بمحارمه أو سرقة ماله أعظم إثمًا وأشد جرمًا.
الجار الصالح من أسباب سعادة المرء:
ولأجل ذلك، فإن من أسباب سعادة العبد أن يوفق بجار صالح يرعى له حرمته، ويعرف له حقه، ويراقب الله تعالى فيه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث خصال من سعادة المرء: الجار الصالح، والمركب الهنيء، والمسكن الواسع» (رواه أحمد: 15409، والبخاري في الأدب المفرد: 116، والحاكم: 7306، وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3/246: رواه أحمد ورواته رواة الصحيح. وصححه السيوطي في الجامع الصغير 3460).
ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق" (بهجة المجالس: 1/291، الآداب الشرعية: 2/15).
وما أجمل قول الشاعر:
وقال آخر:
(بهجة المجالس: 1/291، والآداب الشرعية: 2/16).
وقال بعضهم: "كدر العيش في ثلاث: الجار السوء، والولد العاق، والمرأة السيئة الخلق" (الآداب الشرعية: 2/16)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول» (رواه ابن حبان: 1033، وأبو يعلى: 6536، وابن أبي شية: 25421، والحاكم: 1951، وصححه، ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1443). وأمر بالاستعاذة من شره فقال: «استعيذوا بالله من شر جار المقام، فإن جار المسافر إذا شاء أن يزايل زايل» (رواه النسائي: 5502، وأحمد: 8534، والبيهقي في السنن الكبرى: 7939، والحاكم: 1952، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1443(.
وأما المرتبة الثانية: فهي احتمال الأذى منه، والتغاضي عنه، والتغافل عن زلته.
عن عثمان بن زائدة قال: العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل. فحُدث بذلك أحمد بن حنبل، فقال: "العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل" (الآداب الشرعية 2/17).
والمعنى: أن السلامة من أذى الناس، لا يكون إلا بالتغافل عن شرورهم، والتغاضي عن ظلمهم وغشمهم، وعدم مؤاخذتهم بكل ما يصدر منهم. ومن وفق لذلك فهو العاقل الموفق، والسيد المسوَّد، ولله در القائل:
ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيِّد قومه المتغابي
وقال الحسن البصري: "ليس حسن الجوار كف الأذى عن الجار، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى من الجار" (تنبيه الغافلين 1/153، وبهجة المجالس 2/292).
وقد وصف الله المتقين بأنهم يكظمون الغيظ، ويعفون عن الناس، ويحسنون إليهم بالصفح عنهم، والتسامح معهم، فقال سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران من الآية:134].
وأمر بالعدل والإحسان، فقال: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل من الآية:90]، والعدل: هو أن يستوفي الإنسان حقه، ويؤدي ما عليه. والإحسان: هو أن يتنازل عن حقه أو عن شيء منه، ويؤدي أكثر مما يجب عليه.
والنصوص الشرعية في الحث على العفو والتجاوز، والإصلاح والتسامح كثيرة جدًا. وإذا كان ذلك مأمورًا به مع كل الناس، فهو مأمور به مع الجار من باب أولى وأحرى.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل يحب ثلاثة -ومنهم- رجل له جار سوء فهو يؤذيه ويصبر على أذاه، فيكفيه الله إياه بتحول أو موت» وفي رواية: «حتى يفرق بينهما موت أو ظعن» (رواه أحمد: 5/151، والبيهقي في السنن الكبرى: 18282، والطيالسي: 468. وقال العراقي في تخريج الإحياء 3/131: "رواه أحمد، وفيه ابن الأحمس، ولا يعرف حاله. ورواه هو والنسائي بلفظ آخر بإسناد جيد").
وكثير من الناس يستطيعون ويحرصون على كف أذاهم عن جيرانهم، ولكنهم لا يحرصون، بل ولا يحاولون أن يتحملوا أي أذى من جيرانهم، ولو كان صادرًا عن طريق الزلل والخطأ، فتجدهم متحفزين جاهزين لأدنى إثارة، فيردون الصاع صاعين، والكلمة بعشر، ويجعلون من الصغير كبيرًا، ومن القليل كثيرًا، ومن الحقير خطيرًا، ويصنعون من الحبة قبة، فتنشأ بينهم وبين جيرانهم مشاكل كبيرة، وخلافات كثيرة، وربما كان منشؤها من أمور تافهة حقيرة.
ولو أنهم وطنوا أنفسهم على تحمل الأذى، ودمح الزلات، وغض الطرف عن الهفوات، وطلب المعاذير، وحمل ما يصدر عن الجيران على أحسن المحامل، واحتساب الأجر عند الله تعالى في العفو والمسامحة، لما وصلت بهم الحال إلى ما ذكرت. وكم نشأت نزاعات عريضة بين بعض الجيران بسبب الاختلاف بين أطفالهم، وهو أمر لا يستغرب وجوده بين الأطفال. ولو كان لدى آبائهم شئ من الحكمة والسماحة ومعرفة حق الجار لما ظهرت هذه الخلافات بينهم، ولأمكنهم تجاهلها أو دفنها في مهدها.
وأما المرتبة الثالثة: فهي إكرام الجار والإحسان إليه.
والإحسان إلى الجار معنى واسع تدخل فيه أنواع كثيرة من المكارم والفضائل التي أمر بها الإسلام، فكل ما يجب للمسلم على المسلم من حقوق فإنه يجب على الجار لجاره المسلم من باب أولى وأحرى، لأن له حق الإسلام وحق الجوار أيضًا.
ومن ذلك: محبته والتودد إليه، والسلام عليه، وطلاقة الوجه معه، وعيادته إذا مرض، وتشيعه إذا مات، ونصره إذا ظُلم، وكفه عن الظلم والمعصية بقدر الاستطاعة، ومواساته وبذل المعروف له، وتفريج كربته، وإعانته عند حاجته، وتعزيته عند المصيبة، وتهنئته في الفرح، وإدخال السرور عليه، والإهداء إليه، والنصيحة له ولأولاده وأهله، وتعليمه ما يجهله من أمر دينه ودنياه، وموعظته بالحسنى، وإعانته على طاعة الله تعالى، ودعوته إلى الإسلام وترغيبه فيه إن كان كافرًا، وألا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، وأن يستر عليه ما ينكشف له من عوراته.
وهذه الأنواع تختلف باختلاف الجيران والمناسبات وحالة كل جار، وما ينزل به من أحداث الزمان، كما يختلف باختلاف الشخص من فقر وغنى، ووجاهة وضعة. ومن هذه الأنواع ما هو فرض عين، ومنها ما هو فرض كفاية، ومنها ما يكون مستحبًا (انظر: إحياء علوم الدين 2/213، وفتح الباري 10/446).
والجامع لهذا كله: أن تحسن إليه بكل ما تقدر عليه من قول وفعل، وأن ترجو له الخير، وتحب له ما تحب لنفسك، وتقدم له ما استطعت من معروف أيًا كان نوعه.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "ثلاثة أخلاق كانت في الجاهلية مستحبة، والمسلمون أولى بها:
الأول: لو نزل بهم ضيف لاجتهدوا في بره.
والثاني: لو كانت لواحد منهم امرأة كبرت عنده، لا يطلقها، ويمسكها مخافة أن تضيع.
والثالث: إذا لحق بجارهم دين، أو أصابه شدة أو جهد، اجتهدوا حتى يقضوا دينه ،وأخرجوه من تلك الشدة" (تنبيه الغافلين 1/154).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسن شاة» (رواه البخاري: 2427، ومسلم: 1030)، يعني: ظلف شاة، والمعنى: لا تحقرن جارة أن تهدي لجارتها شيئًا ولو كان شيئًا زهيدًا، لأن الهدية مجلبة للمحبة، مذهبة للغل ووحر الصدر، وهي بمعناها لا بقيمتها وثمنها، وعلى المهدى إليها قبولها وعدم احتقارها مهما صغرت.
قال ابن حجر (فتح الباري 5/198. وذكر نحوه القرطبي في تفسيره: 5/186): "وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا إلى حقيقة الفرسن، لأنه لم تجر العادة بإهدائه، أي لا تمنع جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلاله، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر وإن كان قليلاً، فهو خير من العدم، وذكر الفرسن على سبيل المبالغة. ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع للمهدى إليها وأنها لا تحقر ما يهدى إليها ولو كان قليلاً. وحمله على الأعم من ذلك أولى...
وفي الحديث: الحض على التهادي ولو باليسير، لأن الكثير قد لا يتيسر كل الوقت، وإذا تواصل اليسير صار كثيرًا. وفيه استحباب المودة وإسقاط التكلف".
وقال في موضع آخر(فتح الباري 10/445): "وهو كناية عن التحابب والتوادد، فكأنه قال: لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير. وخص النهي بالنساء، لأنهن موارد المودة والبغضاء، ولأنهن أسرع انفعالاً في كل منهما".
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» (رواه مسلم: 2625). قال القرطبي(تفسير القرطبي 5/185ـ186): "فحض عليه السلام على مكارم الأخلاق، لما يترتب عليها من المحبة وحسن العشرة، ودفع الحاجة والمفسدة، فإن الجار قد يتأذى بقُتَار (القتار ـ بضم القاف ـ: رائحة الطعام في القدر، ومثله رائحة الشواء) قدر جاره، وربما تكون له ذرية، فتهيج من ضعفائهم الشهوة، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة، لا سيما إن كان القائم ضعيفًا أو أرملة، فتعظم المشقة، ويشتد منهم الألم والحسرة.. وكل هذا يندفع بتشريكهم في شئ من الطبيخ يُدفع إليهم.
وقال العلماء: "لما قال عليه السلام: «فأكثر ماءها» نبه بذلك على تيسير الأمر على البخيل تنبيهًا لطيفًا، وجعل الزيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء، ولذلك لم يقل إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها. إذ لا يسهل ذلك على كل أحد".
وما أكرم جاره من بات شبعانًا تاخمًا، وبات جاره جائعًا طاويًا، وفي الحديث الصحيح: «ليس المؤمن الذي يشبع، وجاره جائع إلى جنبه» وفي رواية: «ما آمن بي من بات شبعانًا، وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به» ( رواه البخاري في الأدب المفرد: 112، والبيهقي في السنن الكبرى: 19452، وأبو يعلى: 2699، والطبراني في المعجم الكبير: 751، 12741، والحاكم: 7307، 2166، وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3/243: رجاله ثقات. وكذا قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 8/167. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: 149، وفي صحيح الجامع الصغير:5381).
المبحث السادس: أهمية الاجتماعات بين الجيران
من الأمور المعينة على القيام بحق الجار وبخاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الشواغل والصوارف والمغريات: التقاء الجيران بشكل دوري، واجتماعهم في كل شهر أو شهرين عند أحدهم أو على التناوب فيما بينهم، والاستفادة من ذلك بالتعارف والتآلف، وتوثيق المحبة والصلة بينهم، والوقوف على أحوال بعضهم البعض، ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم، وتفقد غائبهم، وعيادة مريضهم، وإعانة محتاجهم، وتقويم معوجهم، ونصيحة بعضهم لبعض، كما يستفاد من هذا الاجتماع في مدارسة أحوال الحي وما يحتاج إليه من خدمات وإصلاحات، ومعالجة ما قد يكون فيه من مشكلات ومنكرات من تقصير في الصلاة، أو تجمعات مشبوهة، أو تسكع ومعاكسات، ودوران بالسيارات، أو تعديات وسرقات، أو غير ذلك، وكل هذا من التعاون على البر والتقوى، ومن الاهتمام بأمر الجيران والإحسان إليهم.
كما ينبغي العناية بأمر الناشئة والشباب، والحرص على تهيئة البيئة الصالحة لتربيتهم وإعدادهم، وحمايتهم من أنواع المنكرات والفواحش التي قد تنتشر في بعض الأحياء، بسبب إهمال الجيران والآباء، وعدم تعاونهم على تربية هؤلاء الأبناء، وتكوين المناخ الصالح لتزكية نفوسهم، وتهذيب أخلاقهم، وحثهم على التنافس في الخير، والبعد عن مواطن الفساد والشر.
فينبغي أن يكون الحي مكملاً لدور المنزل والمدرسة، ومعينًا على الإصلاح والتربية، وبخاصة مسجد الحي الذي يجب تفعيل دوره، بحيث يكون عامرًا بحلقات التعليم والتحفيظ، وجلسات الوعظ والذكر، ومصدر إشعاع وتوجيه لكل من يرتاده أو يعيش حوله من أهل الحي.
والقيام بهذه الحقوق من أهم أسباب السعادة للفرد والمجتمع. فإن الناس في هذه الدنيا ممتحنون، والمصائب تحيط بهم من كل جانب. والإنسان بمفرده أضعف من أن يصمد طويلاً أمام هذه الشدائد، ولئن صمد، فإنه يعاني من المشقة والجهد ما كان في غنى عنه لو أن إخوانه التفتوا إليه، وحدبوا عليه، وهرعوا لنجدته، وأعانوه في مشكلته، فالمرء قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه وجيرانه وأهله.
وانطلاقًا من هذه الأهمية نبحث حقوق الجار من خلال المباحث التالية:
الأول: حاجة الجار إلى جاره.
الثاني: أنواع الجيران.
الثالث: حد الجار.
الرابع: عظم حق الجار.
الخامس: مراتب حق الجار.
السادس: أهمية الاجتماعات بين الجيران.
المبحث الأول: حاجة الجار إلى جاره
لقد وضع الإسلام نظامًا فريدًا للاجتماع، لحمته التراحم والتعاطف، وسداه التكافل والتكاتف، ومبناه على التعاون على البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان، وقيام كل مسلم بما يجب عليه تجاه من يعامله أويصل إليه. وقد عظم الله حق المسلم على المسلم، وحق القريب على قريبه، وحق الجار على جاره.
والقيام بهذه الحقوق من أهم أسباب السعادة للفرد والمجتمع. فإن الناس في هذه الدنيا ممتحنون، والمصائب تحيط بهم من كل جانب. والإنسان بمفرده أضعف من أن يصمد طويلاً أمام هذه الشدائد، ولئن صمد، فإنه يعاني من المشقة والجهد ما كان في غنى عنه لو أن إخوانه التفتوا إليه، وحدبوا عليه، وهرعوا لنجدته، وأعانوه في مشكلته، فالمرء قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه وجيرانه وأهله.
وأقرب الناس إلى الإنسان، وأكثرهم ملابسة له، ومعرفة بأحواله -بعد أهله وقرابته- هم جيرانه. بل لربما كان الجار في حالات كثيرة، أقرب إليهم، وأكثر إعانة لهم من القرابة والأصهار، فإن أهل البيت حين يفاجؤون بمشكلة، أو تحل بهم نازلة، ويحتاجون فيها إلى إغاثة عاجلة، فإنهم يهرعون مباشرة إلى جارهم، بحكم قربه منهم، وملاصقة داره لدارهم.
ومن هنا يتبين شدة حاجة الجار إلى جاره، وقوة تأثيره فيه، وعظم حقه عليه، وأن القيام بحقه من أوجب الواجبات، ومن أكبر أسباب التكافل والتعاون في هذه الحياة، لتذليل عقباتها، وتخفيف مصاعبها، وأكبر أسباب الإعانة على البر والخير، والحماية من الإثم والشر.
ولكن هذا الحق العظيم قد أهمله كثير من الناس اليوم، وانشغلوا عنه بخصوصياتهم وحب ذواتهم، وقعدوا عن القيام به بسبب أثرتهم وأنانيتهم، ولم يرعوه حق رعايته بسبب جهلهم وضعف إيمانهم، وتربع الدنيا على قلوبهم، فأصبحوا لا يعيشون إلا لأنفسهم، ولا يهمهم إلا مصالحهم، غير مكترثين بما يجب عليهم تجاه إخوانهم وجيرانهم، فماتت فيهم عواطف الأخوة والمحبة، وخفتت في نفوسهم أخلاق السماحة والنجدة، وخلت قلوبهم من المعاني الإنسانية الجميلة، وربما حملهم حب الدنيا والمنافسة على حطامها على إيذاء جيرانهم وظلمهم، والاعتداء على مصالحهم، وغمطهم حقوقهم.
وليتهم إذ لم يحسنوا إليهم ويقوموا بحقوقهم عليهم، كفَّوا عنهم ظلمهم وعدوانهم. ولقد كان العرب وهم في جاهليتهم يتفاخرون بحسن الجوار وإكرام الجار، ورعاية حقوقه وصون حرماته، وكف الأذى عنه، حتى قال قائلهم:
وإليه قبلي تنزل القِدْرُ
أن لا يكون لبابه سترُ
حتى يواريَ جارتي الخِدْرُ
(بهجة المجالس: 1/290، والآداب الشرعية: 2/15).أن لا يكون لبابه سترُ
حتى يواريَ جارتي الخِدْرُ
ناري ونار الجار واحدة
ما ضر جارًا لي أجاوره
أعمى إذا ما جارتي برزت
ما ضر جارًا لي أجاوره
أعمى إذا ما جارتي برزت
وقال آخر:
وأغض طرفي إن بدت ليَ جارتي *** حتى يواريَ جارتي مثواها
فلما جاء الإسلام أكد هذا الخلق النبيل، وعظم حق الجار على جاره، حتى كاد أن يورِّثه منه كأهله وعياله.
المبحث الثاني: أنواع الجيران
يقول الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ} [النساء من الآية:36[، فجمع سبحانه بين الأمر بعبادته والأمر بالإحسان إلى خلقه، ومن ذلك الإحسان إلى الجار مسلمًا كان أم كافرًا، قريبًا أم غريبًا، ملاصقًا أم بعيدًا.
وقوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} أي: الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجنب أي الغريب الذي لا قرابة بينك وبينه، وهذا قول أكثر المفسرين.
وقيل: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} هو الجار المسلم، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} هو الجار الكافر.
وقيل: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} هو الجار القريب جواره، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} هو المجانب، وهو من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة (انظر: تفسير الطبري 5/178ـ180، وتفسير القرطبي 5/183، وتفسير ابن كثير 1/495، وفتح الباري 10/441، وتفسير الشوكاني 1/743).
وكل هذه المعاني صحيحة والآية تشملها وتدل عليها.
وهؤلاء كلهم لهم حق الجوار، وإن كان حقهم متفاوتًا بحسب تفاوت أحوالهم.
قال الحافظ ابن حجر(فتح الباري 10/441): "واسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب دارًا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها، ثم أكثرها، وهلم جرًا". فالجار الذي بينك وبينه قرابة حقه آكد من حق الجار الأجنبي، وحق الجار المسلم آكد من حق الجار الكافر، والملاصق حقه مقدم على حق البعيد، وقد روى البخاري (صحيح البخاري: 2140) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "قلت: "يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟" قال: «إلى أقربهما منك بابًا»".
وقد دلت النصوص الشرعية على أن الجيران ثلاثة:
1ـ جار له ثلاثة حقوق، وهو الجار المسلم القريب. له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة.
2ـ جار له حقان، وهو الجار المسلم. له حق الجوار، وحق الإسلام.
3ـ جار له حق واحد، وهو الجار الكافر. له حق الجوار. (انظر: تنبيه الغافلين 1/ 153، وتفسير القرطبي 5/184، وفتح الباري 10/441)
المبحث الثالث: حد الجار
اختلف العلماء في من يشمله اسم الجوار على أقوال كثيرة:
1ـ من ذلك ما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: "من سمع النداء فهو جار"، فكل من يسمع صوت مؤذن الحي الذي يؤذن بدون مكبر صوت، فإنهم يعتبرون جيرانًا.
2ـ وقيل: من سمع إقامة الصلاة، فهو جار.
3ـ وقيل: من صلى معك صلاة الفجر في المسجد فهو جار.
4ـ وقيل: من جمعتهم محلة أو حي، فهم جيران.
5ـ وقيل: حد الجوار أربعون دارًا من كل ناحية. وهذا قول عائشة والأوزاعي والحسن البصري والزهري وغيرهم (انظر: تفسير القرطبي 5/185، وفتح الباري 10/447، وجامع العلوم والحكم 1/347، وفتح القدير للشوكاني 1/743).
5ـ والراجح أن حد الجوار يرجع فيه إلى العرف (قال الآلوسي في تفسيره 5/29: "والظاهر أن مبنى الجوار على العرف")، لأن القاعدة الشرعية تقول: كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة، يرجع فيه إلى العرف (الأشباه والنظائر للسيوطي ص: 98، وفتح القدير للشوكاني 1/743).
وعلى هذا فما اعتبره العرف جارًا فإنه جار، له حق الجوار من الإكرام وبذل الندى وكف الأذى ونحو ذلك.
المبحث الرابع: عظم حق الجار
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ } [النساء من الآية:36] فأوصى بالإحسان إلى الجيران كلهم، قريبهم وبعيدهم، برهم وفاجرهم، مسلمهم وكافرهم. كلٌ بحسب قربه وحاجته وما يصلح لمثله .
أما السنة النبوية فقد حفلت بنصوص كثيرة توصي بالجار، وتؤكد حقه، وتأمر بإكرامه والإحسان إليه، وتتوعد على إيذائه وعقوقه.
فعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (رواه البخاري: 5668، 5669، ومسلم: 2624، 2625).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه ذبح شاة، فقال: "هل أهديتم منها لجارنا اليهودي"، ثلاث مرات، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (رواه أبو داود: 5152، والترمذي: 1943، وأحمد: 6496، وحسنه الترمذي).
ويقول عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» وفي رواية: «فليحسن إلى جاره» (رواه البخاري: 5673، ورواه مسلم: 47، 48).
وهذا يدل على أن إكرام الجار، وطيب المعاملة له من شعب الإيمان، وسمات المؤمنين، وأن من لم يكرم جاره لم يتم إيمانه.
وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه ما يحب لنفسه» (رواه مسلم: 45). فبين عليه الصلاة والسلام أن كمال الإيمان الواجب لا يتم إلا بأن يحب المسلم لجاره ما يحب لنفسه من الخير. وهو يستلزم كذلك أن يكره له ما يكره لنفسه من الشر.
بل بين صلى الله عليه وسلم أن خير الناس وأفضلهم هو خيرهم لجاره وصاحبه، فقال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» (رواه الترمذي: 1944، وأحمد: 6566، والبخاري في " الأدب المفرد ": 115، والدارمي: 2437، وابن خزيمة: 2539، وابن حبان: 518، والحاكم: 1620، وصححه، ووافقه الذهبي. وحسنه الترمذي. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3270). وهذا الحديث المبارك ميزان نبوي عظيم يبين مقياس التفاضل بين الناس عند الله، وأن من كان خيِّرًا في معاملته لجيرانه وأصحابه وزملائه فهو دليل خيريته عند الله، وتوفيقه له، ومحبته إياه، بل هو دليل على أنه خير الناس عند الله، وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلِّم من يعمل بهن؟» فقال أبو هريرة: فقلت: "أنا يا رسول الله". فأخذ بيدي فعد خمسًا، وقال: «اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب» (رواه الترمذي: 2305، وأحمد: 8081، والطبراني في الأوسط: 7054، وأبو يعلى: 6240. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 1876، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة: 930).
فبين أن الإحسان إلى الجار دليل على صدق الإيمان، وشعبة من شعبه، وسبب من أسباب زيادته وقوته. وقد قال بعض الحكماء: "ثلاث إذا كن في الرجل لم يشك في عقله وفضله: إذا حمده جاره وقرابته ورفيقه" (الآداب الشرعية: 2/16).
المبحث الخامس: مراتب حق الجار
حق الجار على ثلاث مراتب: أدناها كف الأذى عنه، ثم احتمال الأذى منه، وأعلاها وأكملها: إكرامه والإحسان إليه.
أما المرتبة الأولى: وهي كف الأذى عنه، فهي أقل ما يجب على الجار تجاه جاره، فإنه إذا لم يحسن إليه، فلا أقل من أن يكف أذاه عنه.
والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58]، فكيف إذا كان المؤذَى هو جارك المؤمن، فإن الإثم أشد.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» (رواه البخاري: 5787، ومسلم: 47).
وفي صحيح البخاري (حديث رقم: 5670) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن». قيل: "من يا رسول الله؟" قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» (ورواه مسلم بلفظ (صحيح مسلم: 46): «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» جمع بائقة: وهي الداهية، والغائلة، والشيء المهلك، والأمر الشديد الذي يوافى بغتة. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 2/17، وفتح الباري: 10/443). فأقسم ثلاث مرات على نفي الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه، كما نفى عنه دخول الجنة، وهذا الوعيد الشديد ينبىء عن تعظيم حق الجار، وأن الإضرار به من الكبائر.
والمقرر عند أهل السنة والجماعة: أن مرتكب الكبيرة مؤمن ناقص الإيمان، فلا يسلب منه الإيمان مطلقًا، ولا يعطى الإيمان المطلق، أي: الكامل. هذا حكمه في الدنيا. أما في الآخرة، فهو تحت مشيئة الله إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بقدر كبيرته، ثم يكون مآله إلى الجنة، فهو إن دخل النار لا يخلد فيها كما يخلد الكفار.
وأجابوا عن الأحاديث المتضمنة لنفي الإيمان ونفي دخول الجنة بارتكاب شئ من الكبائر، بجوابين:
الأول: أن هذا في حق المستحل لهذه المعصية. لأنه باعتقاده حلها مع تحريم الله لها بنصوص قاطعة صريحة، يكون مكذبًا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فهو كافر كفرًا أكبر، والجنة عليه حرام.
الثاني: أن معناه نفي كمال الإيمان، أي: ليس مؤمنا كاملاً. ونفي دخول الجنة، معناه: أنه لا يدخلها مع السابقين من أول وهلة، بل قد يعذب في النار حتى يطهر وينقو ويكون أهلاً لدخول الجنة فيدخلها (انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 2/17، وفتح الباري: 10/444).
وذكر بعضهم وجهًا ثالثًا: وهو أن هذا خرج مخرج الزجر والتغليظ والتحذير الشديد، وحقيقته ليست مرادة (فتح الباري 10/444).
ولكن هذا كما يقول أبو عبيد القاسم بن سلام (الإيمان لأبي عبيد بتحقيق الألباني ص: 88): "من أفظع ما تُأوِّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيدًا لا حقيقة له. وهذا يؤول إلى إبطال العقاب، لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها كان ممكنًا في العقوبات كلها".
وقال عليه الصلاة والسلام: «أول خصمين يوم القيامة جاران» ( رواه أحمد: 17410، والطبراني في المعجم الكبير: 836، 852. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3/241: "رواه أحمد واللفظ له، والطبراني بإسنادين أحدهما جيد"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2560). وقد دل الحديث على أن الله تعالى سينتقم للجار المظلوم من جاره الظالم، وأن هذه الخصومة مقدمة على غيرها، مما يدل على خطورة ظلم الجار أوالتقصير في حقه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال: «اذهب فاصبر»، فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: «اذهب فاطرح متاعك في الطريق». فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: فعل الله به وفعل وفعل. فجاء إليه جاره فقال له: "ارجع، لا ترى مني شيئًا تكرهه" وفي رواية: "فأمرني أن أخرج متاعي فأضعه على الطريق، فجعلوا يقولون: اللهم العنه، اللهم أخزه. قال: فبلغ ذلك الرجل فأتاه فقال: ارجع فوالله لا أؤذيك أبدًا" (رواه أبو داود: 5153، وابن حبان: 520، والبخاري في الأدب المفرد: 124، والحاكم: 7303، وقال: حديث صحيح، وله شاهد صحيح عن أبي جحيفة رضي الله عنه. ووافقه الذهبي. وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية 2/14: إسناده جيد).
وعن أبي هريرة أيضًا رضي الله عنه قال: "قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها بلسانها". قال: «لا خير فيها، هي في النار». قيل: "فإن فلانة تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بأثوار من أقط (الأثوار، بالثاء: جمع ثور، وهي قطعة من الأقط. والأقط ـ بفتح الهمزة وكسر القاف وبضمها أيضا وبكسر الهمزة والقاف معا وبفتحهما ـ: هو شيء يتخذ من مخيض لبن الأغنام. الترغيب والترهيب 3/242) ولا تؤذي جيرانها". قال: «هي في الجنة» (رواه أحمد: 9673، وابن حبان: 5764، والبخاري في الأدب المفرد: 119، والحاكم: 7304، 7305، وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3/242: رواه أحمد، والبزار، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال صحيح الإسناد. ورواه أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح أيضاً).
وهذا يدل على أن أذى الجار من الأسباب الموصلة إلى النار، وأن كف الأذى عنه سبيل موصل إلى الجنة.
نماذج من أذى الجار:
صور الأذى للجيران كثيرة، ومن أكثرها شيوعًا: التطلع إلى محارمهم، والنظر إلى نسائهم، وتتبع عوراتهم، والتنصت عليهم، والتجسس على أحوالهم، وكشف أسرارهم ونشر قالة السوء عنهم، والوقيعة في أعراضهم، والسعي في الإفساد بينهم، وإذاعة مثالبهم، وطمس مناقبهم، وإيذاؤهم برفع آلات اللهو والغناء المحرم، وكذلك إصدار الأصوات المزعجة، وخصوصًا في أوقات النوم والراحة.
ومن ذلك وضع الحيوانات والطيور التي تؤذيهم برائحتها، وتزعجهم بأصواتها، وكذلك وضع القمائم والزبائل عند أبوابهم ونحو ذلك.
وشر الجيران من تركه جيرانه اتقاء شره، وتباعدوا عنه تجنبًا لضره، وتقاصروا عنه ليسلموا من عدوانه وكيده.
وأخبث منه من ينتهك محارم جاره، أو يسرق من ماله، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أي الذنب أعظم؟" قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك»، قيل: "ثم أي؟" قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك»، قيل: "ثم أي؟" قال: «أن تزاني حليلة جارك» (رواه البخاري: 4207، ومسلم: 86).
وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ما تقولون في الزنا؟» قالوا: "حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة". قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره». قال: فقال: «ما تقولون في السرقة؟» قالوا: "حرمها الله ورسوله فهي حرام". قال: «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره»" (رواه أحمد: 23905،، والبخاري في " الأدب المفرد ": 103، والطبراني في الكبير: 605، والأوسط: 6333. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3/192: رواه أحمد، ورواته ثقات. وكذا قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 8/168).
فلما كان حق الجار على جاره كبيرًا، ومعرفته بأحواله، وقدرته على خيانته وكيده بحكم جواره وقربه أكثر من غيره، كان عدوانه عليه بالزنا بمحارمه أو سرقة ماله أعظم إثمًا وأشد جرمًا.
الجار الصالح من أسباب سعادة المرء:
ولأجل ذلك، فإن من أسباب سعادة العبد أن يوفق بجار صالح يرعى له حرمته، ويعرف له حقه، ويراقب الله تعالى فيه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث خصال من سعادة المرء: الجار الصالح، والمركب الهنيء، والمسكن الواسع» (رواه أحمد: 15409، والبخاري في الأدب المفرد: 116، والحاكم: 7306، وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3/246: رواه أحمد ورواته رواة الصحيح. وصححه السيوطي في الجامع الصغير 3460).
ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق" (بهجة المجالس: 1/291، الآداب الشرعية: 2/15).
وما أجمل قول الشاعر:
اطلب لنفسك جيرانًا تجاورهم *** لا تصلح الدار حتى يصلح الجار
وقال آخر:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي *** ولم يعلموا جارًا هناك ينغِّصُ
فقلت لهم كفوا الملام، فإنما *** بجيرانها تغلو الديار وترخص
فقلت لهم كفوا الملام، فإنما *** بجيرانها تغلو الديار وترخص
(بهجة المجالس: 1/291، والآداب الشرعية: 2/16).
وقال بعضهم: "كدر العيش في ثلاث: الجار السوء، والولد العاق، والمرأة السيئة الخلق" (الآداب الشرعية: 2/16)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول» (رواه ابن حبان: 1033، وأبو يعلى: 6536، وابن أبي شية: 25421، والحاكم: 1951، وصححه، ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1443). وأمر بالاستعاذة من شره فقال: «استعيذوا بالله من شر جار المقام، فإن جار المسافر إذا شاء أن يزايل زايل» (رواه النسائي: 5502، وأحمد: 8534، والبيهقي في السنن الكبرى: 7939، والحاكم: 1952، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1443(.
وأما المرتبة الثانية: فهي احتمال الأذى منه، والتغاضي عنه، والتغافل عن زلته.
عن عثمان بن زائدة قال: العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل. فحُدث بذلك أحمد بن حنبل، فقال: "العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل" (الآداب الشرعية 2/17).
والمعنى: أن السلامة من أذى الناس، لا يكون إلا بالتغافل عن شرورهم، والتغاضي عن ظلمهم وغشمهم، وعدم مؤاخذتهم بكل ما يصدر منهم. ومن وفق لذلك فهو العاقل الموفق، والسيد المسوَّد، ولله در القائل:
ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيِّد قومه المتغابي
وقال الحسن البصري: "ليس حسن الجوار كف الأذى عن الجار، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى من الجار" (تنبيه الغافلين 1/153، وبهجة المجالس 2/292).
وقد وصف الله المتقين بأنهم يكظمون الغيظ، ويعفون عن الناس، ويحسنون إليهم بالصفح عنهم، والتسامح معهم، فقال سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران من الآية:134].
وأمر بالعدل والإحسان، فقال: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل من الآية:90]، والعدل: هو أن يستوفي الإنسان حقه، ويؤدي ما عليه. والإحسان: هو أن يتنازل عن حقه أو عن شيء منه، ويؤدي أكثر مما يجب عليه.
والنصوص الشرعية في الحث على العفو والتجاوز، والإصلاح والتسامح كثيرة جدًا. وإذا كان ذلك مأمورًا به مع كل الناس، فهو مأمور به مع الجار من باب أولى وأحرى.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عز وجل يحب ثلاثة -ومنهم- رجل له جار سوء فهو يؤذيه ويصبر على أذاه، فيكفيه الله إياه بتحول أو موت» وفي رواية: «حتى يفرق بينهما موت أو ظعن» (رواه أحمد: 5/151، والبيهقي في السنن الكبرى: 18282، والطيالسي: 468. وقال العراقي في تخريج الإحياء 3/131: "رواه أحمد، وفيه ابن الأحمس، ولا يعرف حاله. ورواه هو والنسائي بلفظ آخر بإسناد جيد").
وكثير من الناس يستطيعون ويحرصون على كف أذاهم عن جيرانهم، ولكنهم لا يحرصون، بل ولا يحاولون أن يتحملوا أي أذى من جيرانهم، ولو كان صادرًا عن طريق الزلل والخطأ، فتجدهم متحفزين جاهزين لأدنى إثارة، فيردون الصاع صاعين، والكلمة بعشر، ويجعلون من الصغير كبيرًا، ومن القليل كثيرًا، ومن الحقير خطيرًا، ويصنعون من الحبة قبة، فتنشأ بينهم وبين جيرانهم مشاكل كبيرة، وخلافات كثيرة، وربما كان منشؤها من أمور تافهة حقيرة.
ولو أنهم وطنوا أنفسهم على تحمل الأذى، ودمح الزلات، وغض الطرف عن الهفوات، وطلب المعاذير، وحمل ما يصدر عن الجيران على أحسن المحامل، واحتساب الأجر عند الله تعالى في العفو والمسامحة، لما وصلت بهم الحال إلى ما ذكرت. وكم نشأت نزاعات عريضة بين بعض الجيران بسبب الاختلاف بين أطفالهم، وهو أمر لا يستغرب وجوده بين الأطفال. ولو كان لدى آبائهم شئ من الحكمة والسماحة ومعرفة حق الجار لما ظهرت هذه الخلافات بينهم، ولأمكنهم تجاهلها أو دفنها في مهدها.
وأما المرتبة الثالثة: فهي إكرام الجار والإحسان إليه.
والإحسان إلى الجار معنى واسع تدخل فيه أنواع كثيرة من المكارم والفضائل التي أمر بها الإسلام، فكل ما يجب للمسلم على المسلم من حقوق فإنه يجب على الجار لجاره المسلم من باب أولى وأحرى، لأن له حق الإسلام وحق الجوار أيضًا.
ومن ذلك: محبته والتودد إليه، والسلام عليه، وطلاقة الوجه معه، وعيادته إذا مرض، وتشيعه إذا مات، ونصره إذا ظُلم، وكفه عن الظلم والمعصية بقدر الاستطاعة، ومواساته وبذل المعروف له، وتفريج كربته، وإعانته عند حاجته، وتعزيته عند المصيبة، وتهنئته في الفرح، وإدخال السرور عليه، والإهداء إليه، والنصيحة له ولأولاده وأهله، وتعليمه ما يجهله من أمر دينه ودنياه، وموعظته بالحسنى، وإعانته على طاعة الله تعالى، ودعوته إلى الإسلام وترغيبه فيه إن كان كافرًا، وألا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، وأن يستر عليه ما ينكشف له من عوراته.
وهذه الأنواع تختلف باختلاف الجيران والمناسبات وحالة كل جار، وما ينزل به من أحداث الزمان، كما يختلف باختلاف الشخص من فقر وغنى، ووجاهة وضعة. ومن هذه الأنواع ما هو فرض عين، ومنها ما هو فرض كفاية، ومنها ما يكون مستحبًا (انظر: إحياء علوم الدين 2/213، وفتح الباري 10/446).
والجامع لهذا كله: أن تحسن إليه بكل ما تقدر عليه من قول وفعل، وأن ترجو له الخير، وتحب له ما تحب لنفسك، وتقدم له ما استطعت من معروف أيًا كان نوعه.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "ثلاثة أخلاق كانت في الجاهلية مستحبة، والمسلمون أولى بها:
الأول: لو نزل بهم ضيف لاجتهدوا في بره.
والثاني: لو كانت لواحد منهم امرأة كبرت عنده، لا يطلقها، ويمسكها مخافة أن تضيع.
والثالث: إذا لحق بجارهم دين، أو أصابه شدة أو جهد، اجتهدوا حتى يقضوا دينه ،وأخرجوه من تلك الشدة" (تنبيه الغافلين 1/154).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسن شاة» (رواه البخاري: 2427، ومسلم: 1030)، يعني: ظلف شاة، والمعنى: لا تحقرن جارة أن تهدي لجارتها شيئًا ولو كان شيئًا زهيدًا، لأن الهدية مجلبة للمحبة، مذهبة للغل ووحر الصدر، وهي بمعناها لا بقيمتها وثمنها، وعلى المهدى إليها قبولها وعدم احتقارها مهما صغرت.
قال ابن حجر (فتح الباري 5/198. وذكر نحوه القرطبي في تفسيره: 5/186): "وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا إلى حقيقة الفرسن، لأنه لم تجر العادة بإهدائه، أي لا تمنع جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلاله، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر وإن كان قليلاً، فهو خير من العدم، وذكر الفرسن على سبيل المبالغة. ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع للمهدى إليها وأنها لا تحقر ما يهدى إليها ولو كان قليلاً. وحمله على الأعم من ذلك أولى...
وفي الحديث: الحض على التهادي ولو باليسير، لأن الكثير قد لا يتيسر كل الوقت، وإذا تواصل اليسير صار كثيرًا. وفيه استحباب المودة وإسقاط التكلف".
وقال في موضع آخر(فتح الباري 10/445): "وهو كناية عن التحابب والتوادد، فكأنه قال: لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير. وخص النهي بالنساء، لأنهن موارد المودة والبغضاء، ولأنهن أسرع انفعالاً في كل منهما".
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» (رواه مسلم: 2625). قال القرطبي(تفسير القرطبي 5/185ـ186): "فحض عليه السلام على مكارم الأخلاق، لما يترتب عليها من المحبة وحسن العشرة، ودفع الحاجة والمفسدة، فإن الجار قد يتأذى بقُتَار (القتار ـ بضم القاف ـ: رائحة الطعام في القدر، ومثله رائحة الشواء) قدر جاره، وربما تكون له ذرية، فتهيج من ضعفائهم الشهوة، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة، لا سيما إن كان القائم ضعيفًا أو أرملة، فتعظم المشقة، ويشتد منهم الألم والحسرة.. وكل هذا يندفع بتشريكهم في شئ من الطبيخ يُدفع إليهم.
وقال العلماء: "لما قال عليه السلام: «فأكثر ماءها» نبه بذلك على تيسير الأمر على البخيل تنبيهًا لطيفًا، وجعل الزيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء، ولذلك لم يقل إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها. إذ لا يسهل ذلك على كل أحد".
وما أكرم جاره من بات شبعانًا تاخمًا، وبات جاره جائعًا طاويًا، وفي الحديث الصحيح: «ليس المؤمن الذي يشبع، وجاره جائع إلى جنبه» وفي رواية: «ما آمن بي من بات شبعانًا، وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به» ( رواه البخاري في الأدب المفرد: 112، والبيهقي في السنن الكبرى: 19452، وأبو يعلى: 2699، والطبراني في المعجم الكبير: 751، 12741، والحاكم: 7307، 2166، وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3/243: رجاله ثقات. وكذا قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 8/167. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: 149، وفي صحيح الجامع الصغير:5381).
المبحث السادس: أهمية الاجتماعات بين الجيران
من الأمور المعينة على القيام بحق الجار وبخاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الشواغل والصوارف والمغريات: التقاء الجيران بشكل دوري، واجتماعهم في كل شهر أو شهرين عند أحدهم أو على التناوب فيما بينهم، والاستفادة من ذلك بالتعارف والتآلف، وتوثيق المحبة والصلة بينهم، والوقوف على أحوال بعضهم البعض، ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم، وتفقد غائبهم، وعيادة مريضهم، وإعانة محتاجهم، وتقويم معوجهم، ونصيحة بعضهم لبعض، كما يستفاد من هذا الاجتماع في مدارسة أحوال الحي وما يحتاج إليه من خدمات وإصلاحات، ومعالجة ما قد يكون فيه من مشكلات ومنكرات من تقصير في الصلاة، أو تجمعات مشبوهة، أو تسكع ومعاكسات، ودوران بالسيارات، أو تعديات وسرقات، أو غير ذلك، وكل هذا من التعاون على البر والتقوى، ومن الاهتمام بأمر الجيران والإحسان إليهم.
كما ينبغي العناية بأمر الناشئة والشباب، والحرص على تهيئة البيئة الصالحة لتربيتهم وإعدادهم، وحمايتهم من أنواع المنكرات والفواحش التي قد تنتشر في بعض الأحياء، بسبب إهمال الجيران والآباء، وعدم تعاونهم على تربية هؤلاء الأبناء، وتكوين المناخ الصالح لتزكية نفوسهم، وتهذيب أخلاقهم، وحثهم على التنافس في الخير، والبعد عن مواطن الفساد والشر.
فينبغي أن يكون الحي مكملاً لدور المنزل والمدرسة، ومعينًا على الإصلاح والتربية، وبخاصة مسجد الحي الذي يجب تفعيل دوره، بحيث يكون عامرًا بحلقات التعليم والتحفيظ، وجلسات الوعظ والذكر، ومصدر إشعاع وتوجيه لكل من يرتاده أو يعيش حوله من أهل الحي.