بسم الله الرحمن الرحيم
والسلام عليكم ورحمة الله بركاته
اعلم رحمك الله أن الشرك بالله أعظم ذنب عصي الله به
لشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
اعلم رحمك الله أن الشرك بالله أعظم ذنب عصي الله به.
قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم {سئل: أي الذنب أعظم؟ . قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك} . والند المثل.
قال تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} .
وقال تعالى: {وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار} .
فمن جعل لله ندا من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية فقد كفر بإجماع الأمة.
فإن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته: لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب إليه وتفزع إليه
عند الشدائد وما سواه فهو مفتقر مقهور بالعبودية فكيف يصلح أن يكون إلها؟ .
قال الله تعالى: {وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين}
وقال تعالى: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} .
وقال الله تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} .
وقال تعالى: {ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين} .
وقال تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين} فالله - سبحانه - هو المستحق أن يعبد لذاته.
قال تعالى: {الحمد لله رب العالمين} فذكر (الحمد بالألف واللام التي تقتضي الاستغراق لجميع المحامد فدل على
أن الحمد كله لله ثم حصره في قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} .
فهذا تفصيل لقوله: {الحمد لله رب العالمين} . فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه
فقوله: {إياك نعبد} إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته: من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهي.
{وإياك نستعين} إشارة إلى ما اقتضته الربوبية من التوكل والتفويض والتسليم لأن الرب - سبحانه وتعالى -
هو المالك وفيه أيضا معنى الربوبية والإصلاح.
والمالك: الذي يتصرف في ملكه كما يشاء. فإذا ظهر للعبد من سر الربوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى
قال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير} فلا يرى نفعا ولا ضرا ولا حركة ولا سكونا ولا قبضا
ولا بسطا ولا خفضا ولا رفعا إلا والله
- سبحانه وتعالى - فاعله وخالقه وقابضه وباسطه ورافعه وخافضه فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيات.
وهو علم صفة الربوبية.
والأول هو علم صفة الإلهية وهو كشف سر الكلمات التكليفيات فالتحقيق بالأمر والنهي
والمحبة والخوف والرجاء يكون عن كشف علم الإلهية.
والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم: يكون بعد كشف علم الربوبية وهو علم التدبير الساري في الأكوان
كما قال عز وجل: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} . فإذا تحقق العبد لهذا المشهد ووفقه لذلك
بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه في عبوديته فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين
فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم والجمال داخلة في مشهد الربوبية.
ولهذا قيل: إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن: {إياك نعبد وإياك نستعين} لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر
والنهي والمحبة والخوف والرجاء كما ذكرنا وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم وترك الاختيار.
وجميع العبوديات داخلة في ذلك. ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول ورأى قيام الله عز وجل على جميع
الأشياء وهو القيام على كل نفس بما كسبت وتصرفه فيها وحكمه عليها فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ
حكمه وإرادته القادرة فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق وعطل الأمر والنهي والنبوات ومرق من الإسلام مروق
السهم من الرمية.
وإن كان ذلك المشهد قد أدهشه وغيب عقله لقوة سلطانه الوارد وضعف قوة البصيرة أن يجمع بين المشهدين فهذا
معذور منقوص إلا من جمع بين المشهدين: الأمر الشرعي ومشهد الأمر الكوني الإرادي وقد زلت في هذا
المشهد أقدام كثيرة من السالكين لقلة معرفتهم بما بعث الله به المرسلين وذلك لأنهم عبدوا الله على مرادهم منه
ففنوا بمرادهم عن مراد الحق - عز وجل - منهم لأن الحق يغني بمراده ومحبوبه ولو عبدوا الله على مراده منهم
لم ينلهم شيء من ذلك لأن العبد إذا شهد عبوديته ولم يكن مستيقظا لأمر سيده لا يغيب بعبادته عن معبوده
ولا بمعبوده عن عبادته بل يكون له عينان ينظر بأحدهما إلى المعبود كأنه يراه كما {قال صلى الله عليه وسلم
لما سئل عن الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} والأخرى ينظر بها إلى أمر سيده ليوقعه
على الأمر الشرعي الذي يحبه مولاه ويرضاه.
فإذا تقرر هذا فالشرك إن كان شركا يكفر به صاحبه.
وهو نوعان: - شرك في الإلهية وشرك في الربوبية.
فأما الشرك في الإلهية فهو: أن يجعل لله ندا - أي: مثلا في
عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه أو إنابته فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}
وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي
العرب لأنهم أشركوا في الإلهية
قال الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} الآية
{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} الآية
{أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب}
وقال تعالى: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد} - إلى قوله - {الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد} .
{وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين: كم تعبد. قال: ستة في الأرض وواحدا في السماء قال: فمن الذي تعد
لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء.
قال: ألا تسلم فأعلمك كلمات فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي}
وأما الربوبية فكانوا مقرين بها قال الله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر
ليقولن الله} وقال: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله} إلى قوله: {فأنى تسحرون}
وما اعتقد أحد منهم قط أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبره وإنما كان شركهم كما ذكرنا أن
اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وهذا المعنى يدل على أن من أحب شيئا من دون الله كما يحب الله تعالى
فقد أشرك وهذا كقوله: {قالوا وهم فيها يختصمون} {تالله إن كنا لفي ضلال مبين} {إذ نسويكم برب العالمين} .
وكذا من خاف أحدا كما يخاف الله أو رجاه كما يرجو الله وما أشبه ذلك.
وأما النوع الثاني: فالشرك في الربوبية فإن
الرب سبحانه هو المالك المدبر المعطي المانع الضار النافع الخافض الرافع المعز المذل فمن شهد أن المعطي
أو المانع أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل غيره فقد أشرك بربوبيته.
ولكن إذا أراد التخلص من هذا الشرك
فلينظر إلى المعطي الأول مثلا فيشكره على ما أولاه من النعم وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافئه عليه
لقوله عليه السلام {من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه}
لأن النعم كلها لله تعالى كما قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} وقال تعالى: {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك}
فالله سبحانه هو المعطي على الحقيقة فإنه هو الذي
خلق الأرزاق وقدرها وساقها إلى من يشاء من عباده فالمعطي هو الذي أعطاه وحرك قلبه لعطاء غيره.
فهو الأول والآخر.
ومما يقوي هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على
أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.
رفعت الأقلام وجفت الصحف}
قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله ولا يضر غيره وكذا جميع ما ذكرنا
في مقتضى الربوبية.
فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم وأراح الناس من لومه
وذمه إياهم وتجرد التوحيد في قلبه فقوي إيمانه وانشرح صدره وتنور قلبه ومن توكل على الله فهو حسبه
ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله من عرف الناس استراح. يريد - والله أعلم - أنهم لا ينفعون ولا يضرون.
وأما الشرك الخفي
فهو الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه مثل أن يحب مع الله غيره. فإن كانت محبته لله مثل حب النبيين والصالحين
والأعمال الصالحة فليست من هذا الباب لأن هذه تدل على حقيقة المحبة لأن حقيقة المحبة أن يحب المحبوب
وما أحبه ويكره ما يكرهه ومن صحت محبته امتنعت مخالفته لأن المخالفة إنما تقع لنقص المتابعة ويدل على نقص
المحبة قول الله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} الآية.
فليس الكلام في هذا.
إنما الكلام في محبة تتعلق بالنفوس لغير الله تعالى فهذا لا شك أنه نقص في توحيد المحبة لله وهو دليل على نقص
محبة الله تعالى إذ لو كملت محبته لم يحب سواه. ولا يرد علينا الباب الأول لأن ذلك داخل في محبته. وهذا ميزان
لم يجر عليك: كلما قويت محبة العبد لمولاه صغرت عنده المحبوبات وقلت، وكلما ضعفت كثرت محبوباته
وانتشرت.
وكذا الخوف والرجاء وما أشبه ذلك فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئا سواه قال الله تعالى {الذين يبلغون
رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله} وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق وعلى قدر نقص الخوف وزيادته
يكون الخوف كما ذكرنا في المحبة وكذا الرجاء وغيره. فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه إلا
من عصمه الله تعالى.
وقد روي أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. وطريق التخلص من هذه الآفات كلها الإخلاص لله عز
وجل قال الله تعالى {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}
ولا يحصل الإخلاص إلا بعد الزهد ولا زهد إلا بتقوى
والتقوى متابعة الأمر والنهي.
مسلولة من كتاب مجموع الفتاوى
لشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
والسلام عليكم ورحمة الله بركاته
اعلم رحمك الله أن الشرك بالله أعظم ذنب عصي الله به
لشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
اعلم رحمك الله أن الشرك بالله أعظم ذنب عصي الله به.
قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم {سئل: أي الذنب أعظم؟ . قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك} . والند المثل.
قال تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} .
وقال تعالى: {وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار} .
فمن جعل لله ندا من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية فقد كفر بإجماع الأمة.
فإن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته: لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب إليه وتفزع إليه
عند الشدائد وما سواه فهو مفتقر مقهور بالعبودية فكيف يصلح أن يكون إلها؟ .
قال الله تعالى: {وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين}
وقال تعالى: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} .
وقال الله تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} .
وقال تعالى: {ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين} .
وقال تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين} فالله - سبحانه - هو المستحق أن يعبد لذاته.
قال تعالى: {الحمد لله رب العالمين} فذكر (الحمد بالألف واللام التي تقتضي الاستغراق لجميع المحامد فدل على
أن الحمد كله لله ثم حصره في قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} .
فهذا تفصيل لقوله: {الحمد لله رب العالمين} . فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه
فقوله: {إياك نعبد} إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته: من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهي.
{وإياك نستعين} إشارة إلى ما اقتضته الربوبية من التوكل والتفويض والتسليم لأن الرب - سبحانه وتعالى -
هو المالك وفيه أيضا معنى الربوبية والإصلاح.
والمالك: الذي يتصرف في ملكه كما يشاء. فإذا ظهر للعبد من سر الربوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى
قال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير} فلا يرى نفعا ولا ضرا ولا حركة ولا سكونا ولا قبضا
ولا بسطا ولا خفضا ولا رفعا إلا والله
- سبحانه وتعالى - فاعله وخالقه وقابضه وباسطه ورافعه وخافضه فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيات.
وهو علم صفة الربوبية.
والأول هو علم صفة الإلهية وهو كشف سر الكلمات التكليفيات فالتحقيق بالأمر والنهي
والمحبة والخوف والرجاء يكون عن كشف علم الإلهية.
والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم: يكون بعد كشف علم الربوبية وهو علم التدبير الساري في الأكوان
كما قال عز وجل: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} . فإذا تحقق العبد لهذا المشهد ووفقه لذلك
بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه في عبوديته فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين
فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم والجمال داخلة في مشهد الربوبية.
ولهذا قيل: إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن: {إياك نعبد وإياك نستعين} لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر
والنهي والمحبة والخوف والرجاء كما ذكرنا وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم وترك الاختيار.
وجميع العبوديات داخلة في ذلك. ومن غاب عن هذا المشهد وعن المشهد الأول ورأى قيام الله عز وجل على جميع
الأشياء وهو القيام على كل نفس بما كسبت وتصرفه فيها وحكمه عليها فرأى الأشياء كلها منه صادرة عن نفاذ
حكمه وإرادته القادرة فغاب بما لاحظ عن التمييز والفرق وعطل الأمر والنهي والنبوات ومرق من الإسلام مروق
السهم من الرمية.
وإن كان ذلك المشهد قد أدهشه وغيب عقله لقوة سلطانه الوارد وضعف قوة البصيرة أن يجمع بين المشهدين فهذا
معذور منقوص إلا من جمع بين المشهدين: الأمر الشرعي ومشهد الأمر الكوني الإرادي وقد زلت في هذا
المشهد أقدام كثيرة من السالكين لقلة معرفتهم بما بعث الله به المرسلين وذلك لأنهم عبدوا الله على مرادهم منه
ففنوا بمرادهم عن مراد الحق - عز وجل - منهم لأن الحق يغني بمراده ومحبوبه ولو عبدوا الله على مراده منهم
لم ينلهم شيء من ذلك لأن العبد إذا شهد عبوديته ولم يكن مستيقظا لأمر سيده لا يغيب بعبادته عن معبوده
ولا بمعبوده عن عبادته بل يكون له عينان ينظر بأحدهما إلى المعبود كأنه يراه كما {قال صلى الله عليه وسلم
لما سئل عن الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} والأخرى ينظر بها إلى أمر سيده ليوقعه
على الأمر الشرعي الذي يحبه مولاه ويرضاه.
فإذا تقرر هذا فالشرك إن كان شركا يكفر به صاحبه.
وهو نوعان: - شرك في الإلهية وشرك في الربوبية.
فأما الشرك في الإلهية فهو: أن يجعل لله ندا - أي: مثلا في
عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه أو إنابته فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}
وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي
العرب لأنهم أشركوا في الإلهية
قال الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} الآية
{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} الآية
{أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب}
وقال تعالى: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد} - إلى قوله - {الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد} .
{وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين: كم تعبد. قال: ستة في الأرض وواحدا في السماء قال: فمن الذي تعد
لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء.
قال: ألا تسلم فأعلمك كلمات فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي}
وأما الربوبية فكانوا مقرين بها قال الله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر
ليقولن الله} وقال: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله} إلى قوله: {فأنى تسحرون}
وما اعتقد أحد منهم قط أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبره وإنما كان شركهم كما ذكرنا أن
اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وهذا المعنى يدل على أن من أحب شيئا من دون الله كما يحب الله تعالى
فقد أشرك وهذا كقوله: {قالوا وهم فيها يختصمون} {تالله إن كنا لفي ضلال مبين} {إذ نسويكم برب العالمين} .
وكذا من خاف أحدا كما يخاف الله أو رجاه كما يرجو الله وما أشبه ذلك.
وأما النوع الثاني: فالشرك في الربوبية فإن
الرب سبحانه هو المالك المدبر المعطي المانع الضار النافع الخافض الرافع المعز المذل فمن شهد أن المعطي
أو المانع أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل غيره فقد أشرك بربوبيته.
ولكن إذا أراد التخلص من هذا الشرك
فلينظر إلى المعطي الأول مثلا فيشكره على ما أولاه من النعم وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافئه عليه
لقوله عليه السلام {من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه}
لأن النعم كلها لله تعالى كما قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} وقال تعالى: {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك}
فالله سبحانه هو المعطي على الحقيقة فإنه هو الذي
خلق الأرزاق وقدرها وساقها إلى من يشاء من عباده فالمعطي هو الذي أعطاه وحرك قلبه لعطاء غيره.
فهو الأول والآخر.
ومما يقوي هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على
أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.
رفعت الأقلام وجفت الصحف}
قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله ولا يضر غيره وكذا جميع ما ذكرنا
في مقتضى الربوبية.
فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم وأراح الناس من لومه
وذمه إياهم وتجرد التوحيد في قلبه فقوي إيمانه وانشرح صدره وتنور قلبه ومن توكل على الله فهو حسبه
ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله من عرف الناس استراح. يريد - والله أعلم - أنهم لا ينفعون ولا يضرون.
وأما الشرك الخفي
فهو الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه مثل أن يحب مع الله غيره. فإن كانت محبته لله مثل حب النبيين والصالحين
والأعمال الصالحة فليست من هذا الباب لأن هذه تدل على حقيقة المحبة لأن حقيقة المحبة أن يحب المحبوب
وما أحبه ويكره ما يكرهه ومن صحت محبته امتنعت مخالفته لأن المخالفة إنما تقع لنقص المتابعة ويدل على نقص
المحبة قول الله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} الآية.
فليس الكلام في هذا.
إنما الكلام في محبة تتعلق بالنفوس لغير الله تعالى فهذا لا شك أنه نقص في توحيد المحبة لله وهو دليل على نقص
محبة الله تعالى إذ لو كملت محبته لم يحب سواه. ولا يرد علينا الباب الأول لأن ذلك داخل في محبته. وهذا ميزان
لم يجر عليك: كلما قويت محبة العبد لمولاه صغرت عنده المحبوبات وقلت، وكلما ضعفت كثرت محبوباته
وانتشرت.
وكذا الخوف والرجاء وما أشبه ذلك فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئا سواه قال الله تعالى {الذين يبلغون
رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله} وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق وعلى قدر نقص الخوف وزيادته
يكون الخوف كما ذكرنا في المحبة وكذا الرجاء وغيره. فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه إلا
من عصمه الله تعالى.
وقد روي أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. وطريق التخلص من هذه الآفات كلها الإخلاص لله عز
وجل قال الله تعالى {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}
ولا يحصل الإخلاص إلا بعد الزهد ولا زهد إلا بتقوى
والتقوى متابعة الأمر والنهي.
مسلولة من كتاب مجموع الفتاوى
لشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى