له مقدمته ذات الشهرة الكبيرة ، والتي في فصلها الرابع والعشرين يقول " في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها . هذا الفصل ، وما بعده ، مهم لأن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن ، وضررها في الدين كثير ، فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها . وذلك أن قوماً من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله ، الحسي منه وما وراء الحسي ، تُدرك أدواتُه ، وأحوالُه ، بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية ، وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قِبَل النظر لا من جهة السمع ، فإنها بعض من مدارك العقل ".
هذا الرأي لابن خلدون بيّنه البعض ، وانتهى إلى أن الطريقة التي عالج بها ابن خلدون القضية " من شأنها أن تدحض العلم الطبيعي . ولما كان ابن خلدون حريصاً على المنهج العلمي ، فهو ينقض نفسه بنفسه ، ولكي يحقق غاية ثانوية بالنسبة إليه ، وهي تفنيد الفلسفة ، قد فوّت على نفسه غاية أساسية له ، وهي تأسيس المنهج القائم على الاستدلال العقلي من مشاهدات صحيحة " .
يرى ابن خلدون أن العلوم نوعان ، ولكل نوعٍ من النوعين منهجه ... ومن ثم أداته التي يتم عن طريقها تحصيل مواد هذا العلم : العلوم العقلية . والعلوم النقلية .
فالعلوم العقلية تعتمد على الحواس والعقل . والعلوم النقلية تعتمد – وفقط – على الوحي .
ويبين ابن خلدون أنه من الخطأ محاولة استخدام الأداة التي هي للعلم الأول في العلم الثاني ، ذلك لأن " العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلاً وتعليماً هي على صنفين : صنف طبيعي ( = طبعي ) للإنسان يهتدي إليه بفكره . وصنف نقلي يأخذه عمن واضعه . والأول ، هي العلوم الحكمية الفلسفية ، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتى يقفه نظره ويحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر . والثاني ، هي العلوم النقلية الوضعية ، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي ، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول ، لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه ، فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي . إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل وهو نقلي ، فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه " .
هكذا يبيّن لنا ابن خلدون ضرورة أن نحدد المجال المخصص للعقل ، وهو المتعلق بالعلوم الطبيعية ، ثم يشير إلى إمكانية استنباط النتائج التي تلزم عن المسلمات الموحي بها المنقولة عن السلف من العلوم الشرعية.
ونعلم أن ابن خلدون يعطي قدراً " طيباً " للعقل ، فهو – العقل – لا يعيبه كفه عن البحث في ما لم يُخلق له... " اتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك فهو أحرص على سعادتك ، وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك ، وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه ، بل العقل ميزان صحيح ؛ فأحكامه يقينية لا كذب فيها . غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والأخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره ، فإن ذلك طمعٌ في محال ".
إذن ، يرى ابن خلدون أن الفلاسفة يجعلون العقل هو الفيصل في الأمور بأن يخلص المعاني المجردة من الموجودات الحسية ، فيأتي كل معنىً مجرداً صالحاً لأن ينطبق على جميع مفردات النوع الواحد . وتُسمّى هذه المعاني التي تم تجريدها / أخذها من المحسوسات " المعقولات الأوائل ". ثم يقوم العقل بتجريد معانٍ أخرى من هذه المعاني السابقة وأعم منها ، ثم من هذه الأخيرة معانٍ أخرى ... وهكذا إلى أن يصل العقل إلى المعاني البسيطة الكلية التي تنطبق على كل المعاني والمفردات الجزئية ، وإذا ما اجتمعت هذه المعاني إلى بعضها حصلنا على " العلوم " ، وهي التي يسميها الفلاسفة " المعقولات الثواني " .
ثم إنه إذا نظر الفكر / العقل في هذه المعقولات المجردة نظرةً قائمة على البرهان العقلي اليقيني ، أمكنه أن يحصل على تصور عن الوجود صحيحٍ ... وعلى هذا التصور تتوقف سعادة المرء ، ما يعني أن سعادة الإنسان متوقفةٌ على الإدراك العقلي للموجودات كلها .
ويرفض ابن خلدون ما انتهى إليه التفكير الفلسفي ، القاضي بأن " يكون الإنسان – بحكم عقله – قادراً أن يصل إلى التمييز الخُلُقي بين الفضيلة والرذيلة ، حتى لو لم يَرِدْ شرعٌ يعينه على هذا التمييز " . حيث يرى أنه ، والحال هذه ، فسوف " نستغني بالعقل عن الشرع ، وهذا محال " .
إن ابن خلدون يعيب على الفلسفة :
• أنها تعتمد على العقل وحده ، ما يمثل " قصوراً عمّا وراء ذلك من رتب خلق الله ؛ فالوجود أوسع نطاقاً من ذلك ... " ويخلق ما لا تعلمون " . وكأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط والغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المقتصرين على إثبات الأجسام " . وهنا يسوّي ابن خلدون بين من يرى أنه ليس وراء المحسوس شيء ، وبين من يرى أنه ليس وراء المعقول شيء .
لكننا نستطيع ، في المجال الفلسفي ، التمييز " بين ثلاثة وسائل للمعرفة : الحواس ، والعقل ، والحدس ؛ فالمعرفة التي سبيلها الحواس هي تلك الانطباعات التي تنطبع بها العينُ والأُذُن وغيرهما من الحواس الخمسة . وهذا يُسمّى بـ " الملاحظة الخارجية " أو " المشاهدة " " . وهذه ركن أساس في مجال العلوم الطبيعية . والمعرفة التي سبيلها العقل هي تلك التي تأتي نتائجها بطريق الاستدلال ، سواء جاء الاستدلال " من المعلومات الأولية التي جاءتنا عن طريق الحواس ، وذلك هو ما يحدث في مجال العلوم الطبيعية . أو جاء من حقيقة كلية مفروضة ومأخوذة باديء ذي بدء مأخذ التسليم ، وذلك هو ما يحدث في مجال العلوم الرياضية وما يجري مجراها من العلوم الأخرى التي تقوم على أساس الاستنباط ... كالفقه مثلاً . والمعرفة التي سبيلها الحدس هي التي يحصّلها الإنسان " بالعيان المباشر للحقيقة المدرَكة ، فلا هو إدراك بإحدى الحواس الظاهرة ، ولا هو إدراك باستدلال عقلي يسير في خطوات ينتقل بها من المقدمات إلى النتائج ، ولكنه إدراك يتم بالمواجهة المباشرة التي ينكشف بها الحجاب بين الذات المدرِكة والموضوع المدرَك " .
ويمكن وضع ابن خلدون ضمن طائفة من رجال الفكر ترى أنه " من المحال على الحواس ، وعلى العقل ، سواء اجتمعا أو تفرقا ، أن يصلا إلى إدراك الحقيقة في جوهرها ، لأن جوهر الحقيقة كيفيّ ، ولا يدرك الإنسان الكيفي إلا بوجدانه ... فيما يُعرف – اصطلاحاً – بـ " الحدس " .
من هنا ، وعلى أساس أن ابن خلدون يرى أن المعرفة الحدسية ، وحدها ، هي الصادقة في الموضوعات التي تجاوز الظاهر ، نراه يقلل من قيمة الفلسفة ؛ إذ هي – برأيه – " تتعرض لموضوعات لا تخضع للإدراك العقلي القياسي " .
ولو تتبعنا تاريخ الفكر في عالمنا الإسلامي لوجدنا أن ما جاء به / قاله ابن خلدون ليس جديداً ؛ فقد سبقه إليه أبو حامد الغزالي .
إن القياس العقلي ، وهو ما اتُخِذ سبباً لهجوم ابن خلدون ، وغيره ، على الفلسفة ، لا يتم إلا بافتراض مقدمة ، أو مقدمات ، يُقاس عليها لنخرج بالنتائج اللازمة عنها . وهذه المقدمة ، أو المقدمات ، يحصّلها الفلاسفة إما عن طريق الحدس لـ " المباديء الأولية " ... وهؤلاء هم المثاليون . وإما عن طريق " المعطيات الحسية " ... وهؤلاء هم التجريبيون .
• أن الفلسفة تخطيء حين يقول الفلاسفة ، بعد تجريد المعاني الكلية من الموجودات الحسية ، إنّ هذه المعاني الكلية مطابقة لموجودات كوننا القائم أمام أعيننا فيما يُعرف بـ " العلم الطبيعي " . ذلك لأن " المطابقة بين النتائج الذهنية التي تُستَخرَج بالحدود والأقيسة ، وبين ما هو في الخارج غير يقيني ، لأن هذه الأحكام ذهنية كلية عامة ، والموجودات الخارجية مشخصة بموادها ، ولعل في المواد ما يمنع مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي " .
ويرى ابن خلدون رأياً نخالفه فيه شكلاً وموضوعاً ... " فحتى لو سلّمنا بانطباق المعاني المجردة على الطبيعة الخارجية ، فإنه ينبغي علينا الإعراض عن النظر فيها ، إذ هو من تَرْك المسلم لما لا يعنيه ؛ فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنّا في ديننا ولا معاشنا ، فوجب علينا تركُها " .
إن مناداة ابن خلدون إبطالَ الفلسفة لا لشيء إلا أنها تجرد المعقولات من المحسوسات ، ثم ترى مطابقة المعقولات للمحسوسات ، ستؤدي – حين نمد الخطَّ على استقامته – إلى إبطال العلوم الطبيعية كلها ، بما في ذلك علم الاجتماع الذي أراد ابن خلدون أن يقيم كـ بنائه ؛ ذلك لأن العلم ، أي علم ، يَفترِض أن تكون قوانينه العامة صالحةً للتطبيق على الواقع ... بمعنى " أن الصورة العقلية مطابقة ، بوجه من الوجوه ، لمادة العالم الخارجي " .
• أن الفلسفة لا تصيب لأنها تبحث ، إلى جانب ما هو حسي " الموجودات التي وراء الحس ، وهي الروحانية فيما يُعرف بـ " العلم الإلهي " ، وعلم ما بعد الطبيعة ، مع أن هذه الموجودات مجهولة في ذواتها ولا يمكن التوصل إليها ، ولا البرهان عليها ، لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرَك لنا ، ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى " .
وواضح من محاولة ابن خلدون تلك إبطالُ " الفلسفة " ككل ، على حين ما يقوله هو يتناول " فريقاً " من الفلاسفة ، لا كلهم ؛ لأن الفلسفة قد " سارت في أحد طريقين رئيسيين بالنسبة إلى هذا الموضوع : فطريق منهما يؤدي بأصحابه إلى أن يروْن أنه بمقدور الإنسان إدراك هذه الحقائق التي هي وراء الطبيعة إدراكاً يجعلون الحدس أداته ... وهؤلاء هم المثاليون والعقلانيون . وطريق آخر يؤدي بأصحابه إلى القول باستحالة أن يدرك الإنسان إلا ما قد تنطبع به حواسه من الموجودات الخارجية ... وهؤلاء هم التجريبيون .
ويكبو ابن خلدون كبوة لا تُغفَر له ؛ ففي الوقت الذي يرى فيه أن الموجودات الغيبية المجهولة لنا لا حيلة لنا بشأنها إلا ما يأتينا عن طريق الوحي الذي هو خاص بالأنبياء ، يعود ليؤكد – متناقضاً مع نفسه – على " أن للنفس استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى الملائكية ، ليصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات ؛ فللنفس في الاتصال جهتا العلو والسفل ، وهي متصلة بالبدن – من أسفل منها – وتكتسب به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل ، ومتصلة – من جهة الأعلى منها – بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية " .
• أن الفلسفة لا تصيب إذ ترى أن " السعادة مرهونة بالعلم ، علماً عقلياً ، بحقيقة الوجود ". بينما الأمر ، برأيه ، رهنٌ بـ " امتثال ما أُمر به من الأعمال والأخلاق " .
يرى ابن خلدون أن السعادة لا تقوم على الإدراك العقلي ، لأن هذا الإدراك يعتمد ، بالأساس ، على المدركات الحسية ، وهي بدورها نتيجة لازمة لحياة البدن ، فكيف " تكون السعادة صادرةً عن نشاط جسمي ، مع أن من شروطها مقاومة الجسم ونشاطه " ؟.
لكن الرجل يحاول أن يراجع نفسه / فكره ، فيصيب ويخطيء ، وتصبح الفلسفة ، عنده " علم كما رأيته غير واٍف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها ، وليس له ، فيما علمنا ، إلا ثمرة واحدة وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين ، وذلك أن نظم المقايس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطقية وقولهم بذلك في علومهم الطبيعية ، وهم كثيراً ما يستعملونها في علومهم الحكمية من الطبيعيات والتعاليم وما بعدها فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكة الإتقان والصواب في الحجج والاستدلالات ، لأنها ، وإن كانت غير وافية بمقصودهم ، فهي أصح ما علمناه من قوانين الأنظار . هذه ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارها ما علمت ، فليكن الناظر فيها متحرزاً جهده من معاطبها ، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ، ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة فقَلَّ أن يسلم لذلك من معاطبها " .
هذا ابن خلدون ... أحد أساطين تراثنا ، لو صح قوله " لذهبت الفلسفة وذهب معها العلم الذي كان ابن خلدون من أساطينه " .
هذا الرأي لابن خلدون بيّنه البعض ، وانتهى إلى أن الطريقة التي عالج بها ابن خلدون القضية " من شأنها أن تدحض العلم الطبيعي . ولما كان ابن خلدون حريصاً على المنهج العلمي ، فهو ينقض نفسه بنفسه ، ولكي يحقق غاية ثانوية بالنسبة إليه ، وهي تفنيد الفلسفة ، قد فوّت على نفسه غاية أساسية له ، وهي تأسيس المنهج القائم على الاستدلال العقلي من مشاهدات صحيحة " .
يرى ابن خلدون أن العلوم نوعان ، ولكل نوعٍ من النوعين منهجه ... ومن ثم أداته التي يتم عن طريقها تحصيل مواد هذا العلم : العلوم العقلية . والعلوم النقلية .
فالعلوم العقلية تعتمد على الحواس والعقل . والعلوم النقلية تعتمد – وفقط – على الوحي .
ويبين ابن خلدون أنه من الخطأ محاولة استخدام الأداة التي هي للعلم الأول في العلم الثاني ، ذلك لأن " العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلاً وتعليماً هي على صنفين : صنف طبيعي ( = طبعي ) للإنسان يهتدي إليه بفكره . وصنف نقلي يأخذه عمن واضعه . والأول ، هي العلوم الحكمية الفلسفية ، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتى يقفه نظره ويحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر . والثاني ، هي العلوم النقلية الوضعية ، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي ، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول ، لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه ، فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي . إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل وهو نقلي ، فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه " .
هكذا يبيّن لنا ابن خلدون ضرورة أن نحدد المجال المخصص للعقل ، وهو المتعلق بالعلوم الطبيعية ، ثم يشير إلى إمكانية استنباط النتائج التي تلزم عن المسلمات الموحي بها المنقولة عن السلف من العلوم الشرعية.
ونعلم أن ابن خلدون يعطي قدراً " طيباً " للعقل ، فهو – العقل – لا يعيبه كفه عن البحث في ما لم يُخلق له... " اتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك فهو أحرص على سعادتك ، وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك ، وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه ، بل العقل ميزان صحيح ؛ فأحكامه يقينية لا كذب فيها . غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والأخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره ، فإن ذلك طمعٌ في محال ".
إذن ، يرى ابن خلدون أن الفلاسفة يجعلون العقل هو الفيصل في الأمور بأن يخلص المعاني المجردة من الموجودات الحسية ، فيأتي كل معنىً مجرداً صالحاً لأن ينطبق على جميع مفردات النوع الواحد . وتُسمّى هذه المعاني التي تم تجريدها / أخذها من المحسوسات " المعقولات الأوائل ". ثم يقوم العقل بتجريد معانٍ أخرى من هذه المعاني السابقة وأعم منها ، ثم من هذه الأخيرة معانٍ أخرى ... وهكذا إلى أن يصل العقل إلى المعاني البسيطة الكلية التي تنطبق على كل المعاني والمفردات الجزئية ، وإذا ما اجتمعت هذه المعاني إلى بعضها حصلنا على " العلوم " ، وهي التي يسميها الفلاسفة " المعقولات الثواني " .
ثم إنه إذا نظر الفكر / العقل في هذه المعقولات المجردة نظرةً قائمة على البرهان العقلي اليقيني ، أمكنه أن يحصل على تصور عن الوجود صحيحٍ ... وعلى هذا التصور تتوقف سعادة المرء ، ما يعني أن سعادة الإنسان متوقفةٌ على الإدراك العقلي للموجودات كلها .
ويرفض ابن خلدون ما انتهى إليه التفكير الفلسفي ، القاضي بأن " يكون الإنسان – بحكم عقله – قادراً أن يصل إلى التمييز الخُلُقي بين الفضيلة والرذيلة ، حتى لو لم يَرِدْ شرعٌ يعينه على هذا التمييز " . حيث يرى أنه ، والحال هذه ، فسوف " نستغني بالعقل عن الشرع ، وهذا محال " .
إن ابن خلدون يعيب على الفلسفة :
• أنها تعتمد على العقل وحده ، ما يمثل " قصوراً عمّا وراء ذلك من رتب خلق الله ؛ فالوجود أوسع نطاقاً من ذلك ... " ويخلق ما لا تعلمون " . وكأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط والغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المقتصرين على إثبات الأجسام " . وهنا يسوّي ابن خلدون بين من يرى أنه ليس وراء المحسوس شيء ، وبين من يرى أنه ليس وراء المعقول شيء .
لكننا نستطيع ، في المجال الفلسفي ، التمييز " بين ثلاثة وسائل للمعرفة : الحواس ، والعقل ، والحدس ؛ فالمعرفة التي سبيلها الحواس هي تلك الانطباعات التي تنطبع بها العينُ والأُذُن وغيرهما من الحواس الخمسة . وهذا يُسمّى بـ " الملاحظة الخارجية " أو " المشاهدة " " . وهذه ركن أساس في مجال العلوم الطبيعية . والمعرفة التي سبيلها العقل هي تلك التي تأتي نتائجها بطريق الاستدلال ، سواء جاء الاستدلال " من المعلومات الأولية التي جاءتنا عن طريق الحواس ، وذلك هو ما يحدث في مجال العلوم الطبيعية . أو جاء من حقيقة كلية مفروضة ومأخوذة باديء ذي بدء مأخذ التسليم ، وذلك هو ما يحدث في مجال العلوم الرياضية وما يجري مجراها من العلوم الأخرى التي تقوم على أساس الاستنباط ... كالفقه مثلاً . والمعرفة التي سبيلها الحدس هي التي يحصّلها الإنسان " بالعيان المباشر للحقيقة المدرَكة ، فلا هو إدراك بإحدى الحواس الظاهرة ، ولا هو إدراك باستدلال عقلي يسير في خطوات ينتقل بها من المقدمات إلى النتائج ، ولكنه إدراك يتم بالمواجهة المباشرة التي ينكشف بها الحجاب بين الذات المدرِكة والموضوع المدرَك " .
ويمكن وضع ابن خلدون ضمن طائفة من رجال الفكر ترى أنه " من المحال على الحواس ، وعلى العقل ، سواء اجتمعا أو تفرقا ، أن يصلا إلى إدراك الحقيقة في جوهرها ، لأن جوهر الحقيقة كيفيّ ، ولا يدرك الإنسان الكيفي إلا بوجدانه ... فيما يُعرف – اصطلاحاً – بـ " الحدس " .
من هنا ، وعلى أساس أن ابن خلدون يرى أن المعرفة الحدسية ، وحدها ، هي الصادقة في الموضوعات التي تجاوز الظاهر ، نراه يقلل من قيمة الفلسفة ؛ إذ هي – برأيه – " تتعرض لموضوعات لا تخضع للإدراك العقلي القياسي " .
ولو تتبعنا تاريخ الفكر في عالمنا الإسلامي لوجدنا أن ما جاء به / قاله ابن خلدون ليس جديداً ؛ فقد سبقه إليه أبو حامد الغزالي .
إن القياس العقلي ، وهو ما اتُخِذ سبباً لهجوم ابن خلدون ، وغيره ، على الفلسفة ، لا يتم إلا بافتراض مقدمة ، أو مقدمات ، يُقاس عليها لنخرج بالنتائج اللازمة عنها . وهذه المقدمة ، أو المقدمات ، يحصّلها الفلاسفة إما عن طريق الحدس لـ " المباديء الأولية " ... وهؤلاء هم المثاليون . وإما عن طريق " المعطيات الحسية " ... وهؤلاء هم التجريبيون .
• أن الفلسفة تخطيء حين يقول الفلاسفة ، بعد تجريد المعاني الكلية من الموجودات الحسية ، إنّ هذه المعاني الكلية مطابقة لموجودات كوننا القائم أمام أعيننا فيما يُعرف بـ " العلم الطبيعي " . ذلك لأن " المطابقة بين النتائج الذهنية التي تُستَخرَج بالحدود والأقيسة ، وبين ما هو في الخارج غير يقيني ، لأن هذه الأحكام ذهنية كلية عامة ، والموجودات الخارجية مشخصة بموادها ، ولعل في المواد ما يمنع مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي " .
ويرى ابن خلدون رأياً نخالفه فيه شكلاً وموضوعاً ... " فحتى لو سلّمنا بانطباق المعاني المجردة على الطبيعة الخارجية ، فإنه ينبغي علينا الإعراض عن النظر فيها ، إذ هو من تَرْك المسلم لما لا يعنيه ؛ فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنّا في ديننا ولا معاشنا ، فوجب علينا تركُها " .
إن مناداة ابن خلدون إبطالَ الفلسفة لا لشيء إلا أنها تجرد المعقولات من المحسوسات ، ثم ترى مطابقة المعقولات للمحسوسات ، ستؤدي – حين نمد الخطَّ على استقامته – إلى إبطال العلوم الطبيعية كلها ، بما في ذلك علم الاجتماع الذي أراد ابن خلدون أن يقيم كـ بنائه ؛ ذلك لأن العلم ، أي علم ، يَفترِض أن تكون قوانينه العامة صالحةً للتطبيق على الواقع ... بمعنى " أن الصورة العقلية مطابقة ، بوجه من الوجوه ، لمادة العالم الخارجي " .
• أن الفلسفة لا تصيب لأنها تبحث ، إلى جانب ما هو حسي " الموجودات التي وراء الحس ، وهي الروحانية فيما يُعرف بـ " العلم الإلهي " ، وعلم ما بعد الطبيعة ، مع أن هذه الموجودات مجهولة في ذواتها ولا يمكن التوصل إليها ، ولا البرهان عليها ، لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرَك لنا ، ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى " .
وواضح من محاولة ابن خلدون تلك إبطالُ " الفلسفة " ككل ، على حين ما يقوله هو يتناول " فريقاً " من الفلاسفة ، لا كلهم ؛ لأن الفلسفة قد " سارت في أحد طريقين رئيسيين بالنسبة إلى هذا الموضوع : فطريق منهما يؤدي بأصحابه إلى أن يروْن أنه بمقدور الإنسان إدراك هذه الحقائق التي هي وراء الطبيعة إدراكاً يجعلون الحدس أداته ... وهؤلاء هم المثاليون والعقلانيون . وطريق آخر يؤدي بأصحابه إلى القول باستحالة أن يدرك الإنسان إلا ما قد تنطبع به حواسه من الموجودات الخارجية ... وهؤلاء هم التجريبيون .
ويكبو ابن خلدون كبوة لا تُغفَر له ؛ ففي الوقت الذي يرى فيه أن الموجودات الغيبية المجهولة لنا لا حيلة لنا بشأنها إلا ما يأتينا عن طريق الوحي الذي هو خاص بالأنبياء ، يعود ليؤكد – متناقضاً مع نفسه – على " أن للنفس استعداداً للانسلاخ من البشرية إلى الملائكية ، ليصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات ؛ فللنفس في الاتصال جهتا العلو والسفل ، وهي متصلة بالبدن – من أسفل منها – وتكتسب به المدارك الحسية التي تستعد بها للحصول على التعقل بالفعل ، ومتصلة – من جهة الأعلى منها – بأفق الملائكة ومكتسبة به المدارك العلمية والغيبية " .
• أن الفلسفة لا تصيب إذ ترى أن " السعادة مرهونة بالعلم ، علماً عقلياً ، بحقيقة الوجود ". بينما الأمر ، برأيه ، رهنٌ بـ " امتثال ما أُمر به من الأعمال والأخلاق " .
يرى ابن خلدون أن السعادة لا تقوم على الإدراك العقلي ، لأن هذا الإدراك يعتمد ، بالأساس ، على المدركات الحسية ، وهي بدورها نتيجة لازمة لحياة البدن ، فكيف " تكون السعادة صادرةً عن نشاط جسمي ، مع أن من شروطها مقاومة الجسم ونشاطه " ؟.
لكن الرجل يحاول أن يراجع نفسه / فكره ، فيصيب ويخطيء ، وتصبح الفلسفة ، عنده " علم كما رأيته غير واٍف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها ، وليس له ، فيما علمنا ، إلا ثمرة واحدة وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين ، وذلك أن نظم المقايس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطقية وقولهم بذلك في علومهم الطبيعية ، وهم كثيراً ما يستعملونها في علومهم الحكمية من الطبيعيات والتعاليم وما بعدها فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكة الإتقان والصواب في الحجج والاستدلالات ، لأنها ، وإن كانت غير وافية بمقصودهم ، فهي أصح ما علمناه من قوانين الأنظار . هذه ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارها ما علمت ، فليكن الناظر فيها متحرزاً جهده من معاطبها ، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ، ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة فقَلَّ أن يسلم لذلك من معاطبها " .
هذا ابن خلدون ... أحد أساطين تراثنا ، لو صح قوله " لذهبت الفلسفة وذهب معها العلم الذي كان ابن خلدون من أساطينه " .