إنَّ من تمام شكر الله ـ جلَّ وعلا ـ، شكر النَّاس على ما أسدوه من معروف، والإقرار لهم بالجميل، وهذا شيء مفطور في النُّفوس، مجبولة عليه القلوب، فالنَّاس يميلون ميلا طبيعيًّا إلى المحسن، والألسنة والأفئدة تتحرَّك إليه بالشُّكران، وقد جاءت الشَّريعة السَّمحة وأقرَّت بهذا الموجود في الفطر السَّليمة الَّتي لم تتلوَّث، فدعت إلى شكر النَّاس، وجعلته من تمام شكر الله ـ جلَّ وعلا ـ، قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أشْكَرَ النَّاسِ للهِ أشكرُهُم للنَّاس»(1).
ذلك أنَّ الاعتراف بالفضل لأهل الفضل وذويه، من خصال الكرام، المعروفين بجميل الرِّعاية، وحسن العهد، وهو خلق متفرّع ـ عند علماء الأخلاق والسُّلوك ـ عن خلق الوفاء، وهو بدوره مرتبط بالدِّين والأمانة ارتباطًا وثيقًا، إذ الوفاء من جملة تحمل الأمانة والقيام بشأنها وأدائها على وجهها، وهي من خصال المؤمنين حقًّا، وكثيرًا ما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يشيد بها في خطبه، الَّتي كان يعلِّم النَّاس فيها ما فيه صلاحهم وإصلاحهم في الدَّارين، فعن أَنَسِ ابن مالك رضي الله عنه قال: ما خَطَبَنَا نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: «لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ»(2).
والوفاء في لغة العرب يدور معناه على الأداء والإتمام، وهو في الشَّرع الحنيف «ملاَزمَةُ طَرِيقِ المُوَاسَاةِ، ومُحافظةُ العُهُودِ، وحفْظُ مَرَاسِمِ المحَبَّةِ والمُخَالَطَةِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً، حُضُورًا وَغَيْبَةً»(3)، فهو خلق سامي القدر، عظيم الفائدة، لا يكون إلا من كبار النُّفوس، الَّتي امتلأت حبًّا للخير، وإيثارًا له، وحرصًا على إيصاله للنَّاس، وهو دليل على الصِّدق، وأمارة على المروءة والشَّهامة، ينبِّئ عن صفاء السَّريرة وسلامتها.
فالوفيُّ نقيُّ الصَّدر، صحيح الضَّمير، ذو نبل بين النَّاس، وهو صاحب وجدان حيٍّ، ونزعة نفسيَّة حرَّة وأبيَّة، قد انتقل بقلبه وجوراحه ـ طوعًا ـ من حمأة الجفاء والجحود والنُّكران إلى روضة الوفاء والإقرار والعرفان.
إنَّ الوفيَّ ترى أثر وفائه فيمن يعاشره ويخالطه، من والدين، وولدان، وأقارب، وزوجة، وجيران وخلان، فهو دائم الوصال لهم، صادق المحبَّة والمودَّة معهم، يرتاحون إلى حديثه وكلامه، ويطمئنُّون لرأيه ومشورته ونصحه، ويأنسون لرفقته، ويبتهجون لمجالسته وصحبته، يُسقون لذَّة روحية لا يعرف كنهها إلا مَن ذاق طعمَها ممَّن رُزق وُدًّا خالصًا من الدَّرن، وأعطي محبَّةً صافية من الكدر، ويُحرمها كلُّ ختّال مَذَّاع سقيم العهد سخيف الذمَّة، ممَّن لا يرعى في معاشرته إلا ولا سببًا!
* وللوفاء صور شتَّى، وأشكال متنوِّعة:
أسماها وأعلاها ما كان فيه وفاء لحقِّ الله ـ جلَّ وعلا ـ على العباد، وذلك بتحقيق العبوديَّة له كما يحبُّ ويرضى، فيعلم العبد أن ما يأتيه من الخالق ـ جلَّ وعلا ـ يوجب عليه الحمد والشُّكر، ولله تعالى فيه النِّعمة والفضل، وأن ما يأتي من العبد لربِّه ومولاه ـ على جهة العبادة ـ يوجب منه الاعتذار بسبب النَّقص الملازم للمخلوق، وما كان من النَّاقص فهو ناقص لا محالة، فالعبد مع إحسانه تراه دائم الاعتذار لربِّه، مسيئ الظَّن بنفسه، شاهدًا عليها بالتَّقصير والنّقصان، شاهدًا لربِّه بكماله، قد استحق أعظم ممَّا قدمه إليه من طاعته، فلا يرى ما يتقرَّب به إليه صالحًا يواجه ويقابل به ربَّه ومولاه(4)، فينتابه بذلك شعور وإحساس بالعجز عن أداء شكر ربِّه حقَّ الأداء، وهذا من صدق العبد ووفائه.
ومن صوره: الوفاء بحقِّ المخلوق، وأخصُّ بالذِّكر هنا أحقَّهم وفاءً على النَّاس وهو النَّبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم، سيِّد الأوَّلين والآخرين، الدَّاعي إلى صراط الله المستقيم، أمرَ اللهُ تعالى بطاعته، وجعل فيها الهداية إلى كلِّ برٍّ وخير في الدُّنيا والآخرة، وطريقًا موصلا إلى رضوانه وجنَّته، وفي مخالفته ومشاقته في الدُّنيا الفتنة والضَّلال والهلاك والصّغار، وفي الآخرة المصير إلى النَّار وبئس القرار.
وإنَّ الوفاء بحقِّه يقتضي الوفاء بسنَّته من بعده من أن يُزادَ فيها أو يُنقص، أو ينتحلَها المبطلون، أو يحرِّفَها الغالون، أو يُحدثَ فيها أهل الأهواء والبدع ما هم مُحدثون!
وأثنّي بورثة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الوفاء بحقِّهم، وهم علماء الشَّريعة الربَّانيون، مصابيح الهدى، ذوو الأحلام والنّهى، أحدُ صنفي ولاة الأمور، تولَّوا بيان الشَّريعة للنَّاس ودعوتهم إليها، والدِّفاع والذبَّ عنها، قد جعل اللهُ طاعتَهم تابعةً لطاعته وطاعة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، يهتدي الخَلق بهم في أمور دينهم ودنياهم، فهم أسدُّ رأيًا وأقوم قِيلا.
فينبغي الوفاء بحقِّ العلماء ـ والجِلّة والكبار منهم خاصَّة ـ، وحفظه لهم، لأنَّ هذا شأن المنتسب ـ بحقٍّ ـ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وسنَّته وأهلها، قال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا»(5)يعني حقَّه، وهذا صنيع المحبِّ والشَّاكر لهم، المثني عليهم، ممن عرف قدرهم، وشهد بفضلهم، فلزم ركبهم، وصدر عن رأيهم، لا يجاوزه إلى آراء غيرهم من الرِّجال، ولو كان ممن بفكره وعقله في الشَّريعة صال وجال.
إنَّ الجحود والنّكران لأهل العلم، خسّةٌ وهوان ، وممَّا يسمع ويقرأ ما يبث في بعض وسائل الإعلام المرئيَّة والمقروءة، وما يكتب في بعض مواقع الإنترنت، من الطَّعن في العلماء السَّلفيين، والردِّ عليهم ـ بالجهل والجهالة والباطل ـ بأقلام ران على قلوب أصحابها ران الإعجاب بالرَّأي، والانفراد به، والاغترار بالنَّفس، والاعتزاز الخاطئ بها، حتَّى أضحت نموذجًا للطّغيان الفكري، ومثالا للضَّلال العلمي، راح ضحيَّتَه أوَّلا المُعجَب برأيه نفسُه، ثمَّ ثانيًا مَن تابعه على غيّه وضلاله، ممَّن يقلِّده بغير علم ولا حجَّة ولا كتاب منير!
قال صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوَى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ. وَثَلاثٌ مُنْجِيَاتٌ: خَشْيَةُ اللهِ فِي السِّرِّ والعلانية والقصد في الفقر والغنى والعدل في الغضب والرِّضا»(6).
وقال صلى الله عليه وسلم: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَخَشَيْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ العَجَب»(7).
وكلَّما ازداد سمك الحاجب عن الإدراك عميت البصيرة عن إبصار الحقِّ على ما هو عليه، ـ أو كادت تَعمى ـ ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾[الحج:46].
وبلوغ هذه الحال من الصُّعوبة والخطورة على صاحبها بمكان، لأنَّ ما كان محتملا لوجهي الحقِّ والباطل، ـ ممَّا يسمِّيه بعضهم تلبيسًا: «مسائل الاجتهاد» ـ للخروج من التقيّد بأقوال العلماء الربَّانيين الرَّاسخين في العلم! ـ قد انقلب عند مَن هذه حاله، إلى فكرة راسخة في الذِّهن، عالقة بالقلب، يصعب زعزعتها، قد أمست عقدية (عقد قلبه عليها) فوالى عليها وعادى عليها، ألبسها ثيابَ الحقِّ في تصوُّره ونظره القاصر، فعسر تنحيتها وإبطالها، ولو كانت في حقيقة الأمر، ـ وعند العلماء الكبار ـ من الباطل، وبينها وبين الصَّواب مفاوز ومنازل.
إنَّ من النِّعم العظيمة في ديننا الحنيف: صحَّة الفهم وحسن القصد، وتحرِّي الصَّواب، وهي: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾[إبراهيم:25]، وإنَّ من النِّقم الخطيرة الجسيمة ما يقابل ذلك من: فساد الفهم، واتِّباع الهوى، وإيثار الدُّنيا، وطلب المحمدة من الخلق، وترك تقوى الله، واتِّباع الباطل، والضَّلال والغيّ(8)،﴿وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾[الأعراف:58].
إنَّ الوفي بحقّ لا يغيِّره الزَّمان ولا المكان:
أمَّا الزَّمان فبما يجيء فيه من متغيِّرات ومستجدَّات، من مختلف المسرَّات والمضرَّات الَّتي قد تأسر قلبَ مَن يعبدُ ربَّه على حرف! عن رؤية مواطن الاختبارات والامتحانات والابتلاءات، وهي دائرة بين النِّعم والنِّقم.
فإنّ مَن خوَّله الله نعمةً من عنده فظنَّ أنَّه أهل لها ومستحق، فهذا ممَّن عَدَّ المحنةَ منحةً وهو لا يدري، وما ذلك إلا فتنة له، والأمرُ كما قُدّر ـ كونًا ـ على وفقه يجري، قال جلَّ وعلا: ﴿فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون﴾[الزُّمَر:49] وقال جلَّ وعلا: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون﴾[الأنبياء:35].
وأمَّا المكان فبما أدخل النَّاس عليه من تاء التَّأنيث، فانصبَّ اهتمامهم بالمكانة، وسعيهم لتحصيلها، أكثر من الاهتمام بها عند الخالق ـ جلَّ وعلا ـ، حسنت مكانة بعضهم عند الخلق ـ ولو بالتزلف والتملّق والكذب والزُّور والنِّفاق وسوء الأخلاق ـ، ولم يراوحوا مكانهم عند الخالق، مثلهم مَثل من لم يرفع بالسنَّةِ رأسًا، ولا تسمع لهم في الذبّ عنها وعن أهلها ـ بحق ـ صوتًا ولا همسًا.
فكم بين هؤلاء وبين أهل الصِّدق والحقِّ والوفاء من تفاوف فارجع البصر كرَّتين إن أردت رفع الشكِّ باليقين: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب﴾[هود:88].
والحمد لله ربِّ العالمين.
(1) صحيح لغيره. رواه أحمد (21846)، والبيهقي في «الشعب» (9120).
(2) حسن: أحمد (12383).
(3) «الموسوعة الفقهيَّة الكويتيَّة» (44/93).
(4) انظر: «مدراج السالكين» (2/324) بتصرف وزيادة.
(5) رواه أحمد (22755)، وانظر: «صحيح الترغيب والترهيب» (101).
(6) حسن: «الصحيحة» (1802).
(7) حسن لغيره «صحيح الترغيب والترهيب» (2921).
(8) انظر: «إعلام الموقعين» (1/87) بتصرف وزيادة.
ذلك أنَّ الاعتراف بالفضل لأهل الفضل وذويه، من خصال الكرام، المعروفين بجميل الرِّعاية، وحسن العهد، وهو خلق متفرّع ـ عند علماء الأخلاق والسُّلوك ـ عن خلق الوفاء، وهو بدوره مرتبط بالدِّين والأمانة ارتباطًا وثيقًا، إذ الوفاء من جملة تحمل الأمانة والقيام بشأنها وأدائها على وجهها، وهي من خصال المؤمنين حقًّا، وكثيرًا ما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يشيد بها في خطبه، الَّتي كان يعلِّم النَّاس فيها ما فيه صلاحهم وإصلاحهم في الدَّارين، فعن أَنَسِ ابن مالك رضي الله عنه قال: ما خَطَبَنَا نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: «لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ»(2).
والوفاء في لغة العرب يدور معناه على الأداء والإتمام، وهو في الشَّرع الحنيف «ملاَزمَةُ طَرِيقِ المُوَاسَاةِ، ومُحافظةُ العُهُودِ، وحفْظُ مَرَاسِمِ المحَبَّةِ والمُخَالَطَةِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً، حُضُورًا وَغَيْبَةً»(3)، فهو خلق سامي القدر، عظيم الفائدة، لا يكون إلا من كبار النُّفوس، الَّتي امتلأت حبًّا للخير، وإيثارًا له، وحرصًا على إيصاله للنَّاس، وهو دليل على الصِّدق، وأمارة على المروءة والشَّهامة، ينبِّئ عن صفاء السَّريرة وسلامتها.
فالوفيُّ نقيُّ الصَّدر، صحيح الضَّمير، ذو نبل بين النَّاس، وهو صاحب وجدان حيٍّ، ونزعة نفسيَّة حرَّة وأبيَّة، قد انتقل بقلبه وجوراحه ـ طوعًا ـ من حمأة الجفاء والجحود والنُّكران إلى روضة الوفاء والإقرار والعرفان.
إنَّ الوفيَّ ترى أثر وفائه فيمن يعاشره ويخالطه، من والدين، وولدان، وأقارب، وزوجة، وجيران وخلان، فهو دائم الوصال لهم، صادق المحبَّة والمودَّة معهم، يرتاحون إلى حديثه وكلامه، ويطمئنُّون لرأيه ومشورته ونصحه، ويأنسون لرفقته، ويبتهجون لمجالسته وصحبته، يُسقون لذَّة روحية لا يعرف كنهها إلا مَن ذاق طعمَها ممَّن رُزق وُدًّا خالصًا من الدَّرن، وأعطي محبَّةً صافية من الكدر، ويُحرمها كلُّ ختّال مَذَّاع سقيم العهد سخيف الذمَّة، ممَّن لا يرعى في معاشرته إلا ولا سببًا!
* وللوفاء صور شتَّى، وأشكال متنوِّعة:
أسماها وأعلاها ما كان فيه وفاء لحقِّ الله ـ جلَّ وعلا ـ على العباد، وذلك بتحقيق العبوديَّة له كما يحبُّ ويرضى، فيعلم العبد أن ما يأتيه من الخالق ـ جلَّ وعلا ـ يوجب عليه الحمد والشُّكر، ولله تعالى فيه النِّعمة والفضل، وأن ما يأتي من العبد لربِّه ومولاه ـ على جهة العبادة ـ يوجب منه الاعتذار بسبب النَّقص الملازم للمخلوق، وما كان من النَّاقص فهو ناقص لا محالة، فالعبد مع إحسانه تراه دائم الاعتذار لربِّه، مسيئ الظَّن بنفسه، شاهدًا عليها بالتَّقصير والنّقصان، شاهدًا لربِّه بكماله، قد استحق أعظم ممَّا قدمه إليه من طاعته، فلا يرى ما يتقرَّب به إليه صالحًا يواجه ويقابل به ربَّه ومولاه(4)، فينتابه بذلك شعور وإحساس بالعجز عن أداء شكر ربِّه حقَّ الأداء، وهذا من صدق العبد ووفائه.
ومن صوره: الوفاء بحقِّ المخلوق، وأخصُّ بالذِّكر هنا أحقَّهم وفاءً على النَّاس وهو النَّبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم، سيِّد الأوَّلين والآخرين، الدَّاعي إلى صراط الله المستقيم، أمرَ اللهُ تعالى بطاعته، وجعل فيها الهداية إلى كلِّ برٍّ وخير في الدُّنيا والآخرة، وطريقًا موصلا إلى رضوانه وجنَّته، وفي مخالفته ومشاقته في الدُّنيا الفتنة والضَّلال والهلاك والصّغار، وفي الآخرة المصير إلى النَّار وبئس القرار.
وإنَّ الوفاء بحقِّه يقتضي الوفاء بسنَّته من بعده من أن يُزادَ فيها أو يُنقص، أو ينتحلَها المبطلون، أو يحرِّفَها الغالون، أو يُحدثَ فيها أهل الأهواء والبدع ما هم مُحدثون!
وأثنّي بورثة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الوفاء بحقِّهم، وهم علماء الشَّريعة الربَّانيون، مصابيح الهدى، ذوو الأحلام والنّهى، أحدُ صنفي ولاة الأمور، تولَّوا بيان الشَّريعة للنَّاس ودعوتهم إليها، والدِّفاع والذبَّ عنها، قد جعل اللهُ طاعتَهم تابعةً لطاعته وطاعة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، يهتدي الخَلق بهم في أمور دينهم ودنياهم، فهم أسدُّ رأيًا وأقوم قِيلا.
فينبغي الوفاء بحقِّ العلماء ـ والجِلّة والكبار منهم خاصَّة ـ، وحفظه لهم، لأنَّ هذا شأن المنتسب ـ بحقٍّ ـ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وسنَّته وأهلها، قال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا»(5)يعني حقَّه، وهذا صنيع المحبِّ والشَّاكر لهم، المثني عليهم، ممن عرف قدرهم، وشهد بفضلهم، فلزم ركبهم، وصدر عن رأيهم، لا يجاوزه إلى آراء غيرهم من الرِّجال، ولو كان ممن بفكره وعقله في الشَّريعة صال وجال.
إنَّ الجحود والنّكران لأهل العلم، خسّةٌ وهوان ، وممَّا يسمع ويقرأ ما يبث في بعض وسائل الإعلام المرئيَّة والمقروءة، وما يكتب في بعض مواقع الإنترنت، من الطَّعن في العلماء السَّلفيين، والردِّ عليهم ـ بالجهل والجهالة والباطل ـ بأقلام ران على قلوب أصحابها ران الإعجاب بالرَّأي، والانفراد به، والاغترار بالنَّفس، والاعتزاز الخاطئ بها، حتَّى أضحت نموذجًا للطّغيان الفكري، ومثالا للضَّلال العلمي، راح ضحيَّتَه أوَّلا المُعجَب برأيه نفسُه، ثمَّ ثانيًا مَن تابعه على غيّه وضلاله، ممَّن يقلِّده بغير علم ولا حجَّة ولا كتاب منير!
قال صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوَى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ. وَثَلاثٌ مُنْجِيَاتٌ: خَشْيَةُ اللهِ فِي السِّرِّ والعلانية والقصد في الفقر والغنى والعدل في الغضب والرِّضا»(6).
وقال صلى الله عليه وسلم: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَخَشَيْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ العَجَب»(7).
وكلَّما ازداد سمك الحاجب عن الإدراك عميت البصيرة عن إبصار الحقِّ على ما هو عليه، ـ أو كادت تَعمى ـ ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾[الحج:46].
وبلوغ هذه الحال من الصُّعوبة والخطورة على صاحبها بمكان، لأنَّ ما كان محتملا لوجهي الحقِّ والباطل، ـ ممَّا يسمِّيه بعضهم تلبيسًا: «مسائل الاجتهاد» ـ للخروج من التقيّد بأقوال العلماء الربَّانيين الرَّاسخين في العلم! ـ قد انقلب عند مَن هذه حاله، إلى فكرة راسخة في الذِّهن، عالقة بالقلب، يصعب زعزعتها، قد أمست عقدية (عقد قلبه عليها) فوالى عليها وعادى عليها، ألبسها ثيابَ الحقِّ في تصوُّره ونظره القاصر، فعسر تنحيتها وإبطالها، ولو كانت في حقيقة الأمر، ـ وعند العلماء الكبار ـ من الباطل، وبينها وبين الصَّواب مفاوز ومنازل.
إنَّ من النِّعم العظيمة في ديننا الحنيف: صحَّة الفهم وحسن القصد، وتحرِّي الصَّواب، وهي: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾[إبراهيم:25]، وإنَّ من النِّقم الخطيرة الجسيمة ما يقابل ذلك من: فساد الفهم، واتِّباع الهوى، وإيثار الدُّنيا، وطلب المحمدة من الخلق، وترك تقوى الله، واتِّباع الباطل، والضَّلال والغيّ(8)،﴿وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾[الأعراف:58].
إنَّ الوفي بحقّ لا يغيِّره الزَّمان ولا المكان:
أمَّا الزَّمان فبما يجيء فيه من متغيِّرات ومستجدَّات، من مختلف المسرَّات والمضرَّات الَّتي قد تأسر قلبَ مَن يعبدُ ربَّه على حرف! عن رؤية مواطن الاختبارات والامتحانات والابتلاءات، وهي دائرة بين النِّعم والنِّقم.
فإنّ مَن خوَّله الله نعمةً من عنده فظنَّ أنَّه أهل لها ومستحق، فهذا ممَّن عَدَّ المحنةَ منحةً وهو لا يدري، وما ذلك إلا فتنة له، والأمرُ كما قُدّر ـ كونًا ـ على وفقه يجري، قال جلَّ وعلا: ﴿فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون﴾[الزُّمَر:49] وقال جلَّ وعلا: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون﴾[الأنبياء:35].
وأمَّا المكان فبما أدخل النَّاس عليه من تاء التَّأنيث، فانصبَّ اهتمامهم بالمكانة، وسعيهم لتحصيلها، أكثر من الاهتمام بها عند الخالق ـ جلَّ وعلا ـ، حسنت مكانة بعضهم عند الخلق ـ ولو بالتزلف والتملّق والكذب والزُّور والنِّفاق وسوء الأخلاق ـ، ولم يراوحوا مكانهم عند الخالق، مثلهم مَثل من لم يرفع بالسنَّةِ رأسًا، ولا تسمع لهم في الذبّ عنها وعن أهلها ـ بحق ـ صوتًا ولا همسًا.
فكم بين هؤلاء وبين أهل الصِّدق والحقِّ والوفاء من تفاوف فارجع البصر كرَّتين إن أردت رفع الشكِّ باليقين: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب﴾[هود:88].
والحمد لله ربِّ العالمين.
(1) صحيح لغيره. رواه أحمد (21846)، والبيهقي في «الشعب» (9120).
(2) حسن: أحمد (12383).
(3) «الموسوعة الفقهيَّة الكويتيَّة» (44/93).
(4) انظر: «مدراج السالكين» (2/324) بتصرف وزيادة.
(5) رواه أحمد (22755)، وانظر: «صحيح الترغيب والترهيب» (101).
(6) حسن: «الصحيحة» (1802).
(7) حسن لغيره «صحيح الترغيب والترهيب» (2921).
(8) انظر: «إعلام الموقعين» (1/87) بتصرف وزيادة.