تدبر القرآن واتباعه للشيخ محمد الوزاني.
الحمد لله أولا وآخرا وصلى الله وسلم على نبيه محمد الشَّفيع المشفَّع في الآخرة، وعلى آله وصحبه أولي البصائر النيِّرة، والقلوب الطَّاهرة، أمَّا بعد:
فإنَّ الكلام عن القرآن الكريم أمرٌ له شأن عظيم؛ إذ هو حديث عن كلام ربِّ العالمين ذي القوَّة المتين، الَّذي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، وهو حديث عن كلامٍ وصفَهُ المتكلِّم به فقال:﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: 21].
ومن آثار ذلك: أنَّ الَّذي يخوض فيه برَأيه دون استِنادٍ إلى علم صحيح فهو على شفا تهلكة، ومن تعلَّمه وعلَّمه فهو خيرُ النَّاس كما قال النَّبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، والَّذي يتعلَّم ولو آيةً منه له مِن الأجر عند الله سبحانه ما يربُو على أضعاف ما يتنافس فيه أهلُ الدُّنيا ممَّا يعدُّونه أغلى وأنفس المكاسِب، قال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لبعض أصحابه ذات يومٍ وهم في الصُّفَّة: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطْحَان أَوِ العَقِيقِ فَيَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ (1) يَأْخُذُهُمَا فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ؟»، قالوا: كلُّنا يا رسول الله يحبُّ ذلك، فقال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «فَلَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ إِلَى المسْجِدِ فَيَتَعَلَّم آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ وَمِنْ أعدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ»(2).
وإني لآمل ـ وأنا أتحدَّث في هذا الموضوع ـ أن لا يفوتَني هذا الفَضلُ، وأن يكون حديثي عن القُرآن من باب تعلِيمه وتعلُّمه والدَّعوة إليه.
كلُّنا يعلم بأنَّ القرآن إنما أُنزِل لنتدبَّر آياتِه ونتفقَّه فيها، ولنتَّبِعه ونعمَل بما تضمَّنه من أحكامٍ، قال الله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأنعام: 155].
وقال: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [إبراهيم: 52].
وقال سبحانه: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29].
فالآيات صريحةٌ في بيان الحكمة الَّتي من أجلها أُنزِل القرآن؛ ألا وهي التدبُّر والتذكُّر والاتِّباع، ودلالتها على ذلك واضِحةٌ لا تحتاج إلى شرحٍ ولا بيانٍ.
بل إنَّ أعظمَ حقوقِ القُرآن علينا تدبُّرُ آياته والعملُ بأحكامه، وقد ضَمِن اللهُ لمن حقَّق ذلك بأن لا يضِلَّ ولا يشقَى؛ فقال سبحانه: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ [طه: 123]، وأن لا يخافَ ولا يحزَن؛ فقال: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38].
فالقراءة المقرونة بالتدبُّر والاتِّباع تلك هي التِّلاوة الحقيقِيَّة التي أثنى اللهُ تعالى على أهلِها في قوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 121].
فمن هم هؤلاء المؤمنون الَّذين يتلونه حقَّ تِلاوته يا تُرى؟
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: يتَّبِعونه حقَّ اتِّباعه، ثمَّ قرأ: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾ [الشمس: 2] يقول: اتَّبَعها(3).
ولا يُتصوَّر اتِّباعٌ وعملٌ مِن غير تدبُّرٍ ولا فَهمٍ لما يراد العملُ به.
ولكن مع الأسف! فإنَّ هذا الجانِب قد ناله الإهمالُ والتَّفريط لدى كثِيرٍ من المسلِمين؛ فقَد انصرف أكثرُهم عن تلاوة القرآن وضبطه واستِظهاره، والَّذين قاموا بذلك منهم وحقَّقوه فإنَّ القلِيل منهم الَّذين يتدبَّرون آياته ويتفقَّهون فيها، والأقلُّ منهم الَّذين يعمَلون بما فيها من أحكام، ناهيك بأولئك الَّذين اتَّخذوا تلاوتَه حِرفةً ومهنةً، واشتروا بآياته ثمنًا قليلاً، فلا يعرِفون كتاب الله إلاَّ لقراءته على الموتى في مقابِل ثمنٍ بخسٍ دراهمَ معدودةٍ، وعرض من حُطام الدُّنيا قليل.
فمن الواجب التنبِيه على هذا الحقِّ والتذكيرُ به دائمًا، والدِّلالة على مواقعه من آيات الكتاب الكريم، والسُّنة النَّبوية على صاحبها أزكى الصَّلاة وأتمُّ التَّسلِيم، وأن يختار له أصرَح الآيات والأحاديث في معناه، وأظهر الجُمل في الدِّلالة عليه، وأقرب الألفاظ لتقرِيره في الأذهان.
معنى التَّدَبُّر وفوائده:
تدبر الكلام أن ينظر القارئ أو السامع في أوله وآخره ثم يعيد نظره مرة بعد مرة، ولهذا جاء على وزن تفعُّل المشعر بالتكرار كالتّجرُّع والتّفهُّم والتّبيُّن، وإذا قارنَّا بينه وبين التّذكُّر علمنا بأنَّ لكلٍّ منهما فائدةً غير فائدة الآخر، فالتَّذكر يفيد تَكرار القلب على ما علمه وعرفه ليرسخ فيه ويثبُت، ولا ينمحي فيذهب أثرُه من القلب جملةً، والتفكُّر يفيد تكثير العِلم واستِجلاب ما ليس حاصلاً عند القلب، فالتفكُّر يحصله والتذكُّر يحفظه، ويذكر في هذا المعنى عن الحسن أنَّه قال: «إنَّ أهل العَقل لم يزالوا يعُودون بالذِّكر على الفِكر وبالفِكر على الذِّكر حتَّى استيقظت قلوبُهم فنطقت بالحِكمة»(4).
فتدبُّر القرآن إذن هو تحديق نظَر القلب إلى معانيه، وجمع الفِكر على تعقُّله والنَّظر في معاني آياته وإعادة الفِكر فيها مرَّةً بعد مرَّة، وبذلك يستخرج علمها وأسرارها وحكمها، وتحصل بركةُ التِّلاوة وخيرها، وأعظمُ فائدة يصِل إليها المتدبِّر للقرآن أن يعلَم ويوقِن بأنَّه كلامُ الله؛ لأنَّه يراه يصدِّقُ بعضُه بعضًا، ويوافق أولُه آخرَه، فيرى الأحكام والقصص والأخبار تعاد في القرآن في عدَّة مواضع، كلُّها متوافِقة متعاضدة، لا ينقض بعضُها بعضًا، ولا يخالف أولُها آخرَها، ومن ثَمَّ يدرك كمالَ القرآن، وأنَّه لا يمكن أن يأتي إلاَّ مِن عند الله المتفرِّد بالكمال والجلال، الَّذي أحاط علمُه بالجهر وما يخفى، إذ لو كان من كلام البشر لما سلِمَ من عَيبٍ، ولَوُجِد فيه من النَّقائص كالتَّناقض والاِضطراب والاِختلاف والخطأ ما يناسِبُ طبيعة البَشر وصفاتهم الَّتي لا تنفكُّ عن النَّقص، فلذلك قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82] أي: لما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلاً.
وقد عدَّد ابنُ القيم ـ رحمه الله تعالى ـ فوائد تدبُّر القرآن فقال:
«فليس شيءٌ أنفعَ للعبد في مَعاشه ومعاده وأقربَ إلى نجاتِه مِن تدبُّر القرآن، وإطالة التَّأمُّل، وجمع فيه الفكر على معاني آياته، فإنَّها تُطلِع العبد على معالم الخير والشر بحذافِيرهما، وعلى طرقاتِهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتَتُلُّ في يده مفاتيح كنوز السَّعادة والعلوم النَّافعة وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيِّد بنيانه، وتوطِّد أركانه، وتريه صورة الدُّنيا والآخرة، والجنَّة والنَّار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيَّام الله فيهم، وتبصره مواقِع العِبَر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرِّفه ذاته، وأسماءَه وصفاتِه وأفعاله، وما يحبُّه وما يبغِضه، وصراطه الموصِل إليه، وما لسالِكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطِع الطَّريق وآفاتها، وتعرفه النَّفس وصفاتها، ومفسِدات الأعمال ومصحِّحاتها، وتعرِّفه طريق أهل الجنَّة وأهل النَّار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتِب أهل السَّعادة وأهل الشَّقاوة، وأقسام الخَلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتِراقهم فيما يفترِقون فيه.
وبالجملة تعرِّفه الربَّ المدعوَّ إليه، وطريق الوُصول إليه، وما له من الكَرامة إذا قدم عليه، وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشَّيطان والطَّريق الموصِلة إليه، وما للمستجِيب لدعوته مِن الإِهانة والعذاب بعد الوصول إليه»(5).
وقد أنكر الله تعالى على المعرِضين عن تدبُّر القرآن في مواضع كثيرة فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
وقال: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: 68].
وقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].
ولنَستمع إلى ذلك الوعيد الشَّديد الَّذي توعَّد به رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من يقرأ القرآن ولا يتفكَّر في آياته.
فعن عطاء قال: «دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا؟! فقال: أقول يا أُمَّهْ! كما قال الأوَّل: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا، قال: فقالت: دَعُونا من رَطانتِكم هذه، قال ابن عمير: أخبِرينا بأعجب شيءٍ رأيتِه من رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، قال: فسكتت، ثمَّ قالت: لما كان ليلة مِن اللَّيالي، قال: «يَا عَائِشَةُ! ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلةَ لرَبِّي» ، قلت: والله إنِّي لأحبُّ قربَك وأحبُّ ما سَرَّكَ، قالت: فقام فتطهَّر، ثمَّ قام يصلِّي، قالت: فلم يزل يبكي حتَّى بلَّ حِجرَه، قالت: ثمَّ بكى، فلم يزل يبكِي حتَّى بلَّ لحيَتَه، قالت: ثمَّ بكى، فلم يزل يبكِي حتَّى بلَّ الأرض، فجاء بلال يُؤْذِنه بالصَّلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! لِمَ تبكي وقد غفر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ الآية»(6).
كما أنَّه تعالى ذمَّ المعرِضين عن القرآن في آياتٍ كثيرَةٍ، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ [الكهف: 57] الآية، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾ [السجدة: 22].
ومعلومٌ أنَّ كلَّ من لم يشتغِل بتدبُّر آيات القُرآن العظيم؛ بتصَفُّحها وتفهُّمِها، وإدراك معانِيها والعملِ بها فإنَّه معرِضٌ عنها بحسَب ما ترَك مِن ذلك، فيستَحقُّ الإنكارَ والتَّوبيخ المذكور في الآيات، إن كان اللهُ أعطاه فهمًا يقدِر به على التدبُّر، وقد اشتكى النَّبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ إلى ربِّه مِن هجر قومِه للقرآن، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30].
اتباع القرآن:
أمَّا الاتِّباع فهو ثمْرةُ التدبُّر، وهو الَّذي لا تتحقَّق الغاية التي يرمي إليها القرآنُ إلاَّ به، وقد تكرَّر ذِكرُه في القرآن في معارِض شتَّى تدلُّ المتأمِّلَ فيها على أنَّه هو سِرُّ الدِّين وغايته العُظمى، وأنَّه المحقِّق للكمال، والعاصِم من الهلاك والضَّلال، فليتدبَّر التالي هذه الأمثلة من الآيات القرآنية.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31].
وقال ـ عزَّ وجلَّ ـ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153].
وقال سبحانه: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3].
وقال: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ [طه: 123].
وقال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18].
وأُلفِت نظر القارِئ هنا إلى ملاحظةِ السرِّ البديع في الجَمع بين الأمر بالاتِّباع والأمر بالتدبُّر، وهو أنَّ الاتِّباع ضَربٌ مِن قَفوِ أثر غيرِه، وترسُّم خطاه، والانقياد له، والاشتراك معه في النتِيجة خيرًا كانت أو شرًّا، وهذا من المعاني المذمومَة والمستهجَنة في الاتِّباع؛ لأنَّه ينافي الاستِقلال الفكري والذَّاتي، فتجِد القرآن يدفَع عنك أيُّها المسلِم أثرَ هذا المعنى المستهجَن العارض فيأمرُك بالتدبُّر واستِعمال الحواسِّ الظَّاهرة والباطنة في وظائفها الفِطرية قبل أن يأمرَك بالاتِّباع حتَّى تطمئِنَّ إلى أنك إنما تتَّبِع فيما هو حقٌّ وخيرٌ ورحمةٌ، ثمَّ إذا أمرَك بالاتِّباع فإنَّما ذاك فيما يتعالى عن فِكرك إدراكُه ويعسُر عليك تمييزُه، أو يخاف فيه غلبةُ الهوى عليك.
وحتَّى يؤكِّد سبحانه هذا المعنى الإيجابي للاتِّباع، ويوضِّح الحقَّ الَّذي ينبغي أن يتَّبَع، ينهى ـ بعد الأمر بالاتِّباع ـ عن اتِّباع الهوى المضِلِّ عن الحقِّ، وعن اتِّباع أهواء الَّذين لا يعلمون، وعن اتِّباع خطوات الشَّيطان، وعن اتِّباع السُّبل المتفرِّقة الَّتي ما من سبِيلٍ إلاَّ وعليه شيطانٌ يدعو إليه، والآياتُ في ذلك كثِيرةٌ ومعروفةٌ.
فالنَّتيجة الحتمِيَّة الَّتي يصِل إليها النَّاظر في القرآن المتدبِّر في آياته أن يطمئِنَّ ويوقِن بأنَّ الاتِّباع الَّذي يدعو إليه القُرآن إنَّما هو تحرُّرٌ من رقِّ العبودِيَّة للأهواء والشَّهوات، وتخلُّصٌ من ذلِّ الانقياد لشياطين الجنِّ والإنس الَّذين يوحِي بعضُهم إلى بعضٍ زخرُفَ القول غرورًا.
فالإِعراض عن النَّظر في كتاب الله وتفهُّمه والعمل به وبالسُّنة الثَّابتة المبيِّنة له من أعظم المنكرات وأشنَعها، ومثله أو أشدُّ ما شاع في وسط كثيرٍ مِن المسلمين من القَول بمنع العملِ بكتاب الله وسنَّة رسوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، بحجَّة انتفاء الحاجة إلى تعلُّمهما لوجود ما يكفِي ويغني عنهما من مذاهِب الأئمَّة المدوَّنة والاكتِفاء بتقليدها.
فهذا مخالِفٌ لكتاب الله وسنَّة رسوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وإجماعِ الصَّحابة، ومخالِفٌ لأقوال الأئمَّة الأربعة أصحاب المذاهِب أنفسهم، فمُرتكِبه مخالفٌ لله ولرسوله ولأصحابِه جميعًا وللأئمَّة رحمهم الله.
(1) ناقة كَوْماء: عَظيمة السَّنام طويلته وهي من خيار مال العرب.
(2) رواه مسلم (1/ 552) وابن حبان (1/321) والنسائي (1/ 542) وأبو داود (2/71) وأحمد (4/ 54) والطبراني (17/290) والبيهقي في «الشعب» (2/325) من حديث عقبة بن عامر الجهني.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (1/319).
(4) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (10/19).
(5) «مدارج السالكين» (1/451).
(6) أخرجه ابن حبان (2/386) والطحاوي في «المشكل» (11/203) وأبو الشيخ في «أخلاق النبي» (ص200) من طرق عن عطاء به، وهو في «الصحيحة» (1/106).
نقلا عن موقع راية الاصلاح.
الحمد لله أولا وآخرا وصلى الله وسلم على نبيه محمد الشَّفيع المشفَّع في الآخرة، وعلى آله وصحبه أولي البصائر النيِّرة، والقلوب الطَّاهرة، أمَّا بعد:
فإنَّ الكلام عن القرآن الكريم أمرٌ له شأن عظيم؛ إذ هو حديث عن كلام ربِّ العالمين ذي القوَّة المتين، الَّذي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، وهو حديث عن كلامٍ وصفَهُ المتكلِّم به فقال:﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: 21].
ومن آثار ذلك: أنَّ الَّذي يخوض فيه برَأيه دون استِنادٍ إلى علم صحيح فهو على شفا تهلكة، ومن تعلَّمه وعلَّمه فهو خيرُ النَّاس كما قال النَّبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، والَّذي يتعلَّم ولو آيةً منه له مِن الأجر عند الله سبحانه ما يربُو على أضعاف ما يتنافس فيه أهلُ الدُّنيا ممَّا يعدُّونه أغلى وأنفس المكاسِب، قال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لبعض أصحابه ذات يومٍ وهم في الصُّفَّة: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطْحَان أَوِ العَقِيقِ فَيَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ (1) يَأْخُذُهُمَا فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ؟»، قالوا: كلُّنا يا رسول الله يحبُّ ذلك، فقال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «فَلَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ إِلَى المسْجِدِ فَيَتَعَلَّم آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ وَمِنْ أعدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ»(2).
وإني لآمل ـ وأنا أتحدَّث في هذا الموضوع ـ أن لا يفوتَني هذا الفَضلُ، وأن يكون حديثي عن القُرآن من باب تعلِيمه وتعلُّمه والدَّعوة إليه.
كلُّنا يعلم بأنَّ القرآن إنما أُنزِل لنتدبَّر آياتِه ونتفقَّه فيها، ولنتَّبِعه ونعمَل بما تضمَّنه من أحكامٍ، قال الله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأنعام: 155].
وقال: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [إبراهيم: 52].
وقال سبحانه: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29].
فالآيات صريحةٌ في بيان الحكمة الَّتي من أجلها أُنزِل القرآن؛ ألا وهي التدبُّر والتذكُّر والاتِّباع، ودلالتها على ذلك واضِحةٌ لا تحتاج إلى شرحٍ ولا بيانٍ.
بل إنَّ أعظمَ حقوقِ القُرآن علينا تدبُّرُ آياته والعملُ بأحكامه، وقد ضَمِن اللهُ لمن حقَّق ذلك بأن لا يضِلَّ ولا يشقَى؛ فقال سبحانه: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ [طه: 123]، وأن لا يخافَ ولا يحزَن؛ فقال: ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 38].
فالقراءة المقرونة بالتدبُّر والاتِّباع تلك هي التِّلاوة الحقيقِيَّة التي أثنى اللهُ تعالى على أهلِها في قوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 121].
فمن هم هؤلاء المؤمنون الَّذين يتلونه حقَّ تِلاوته يا تُرى؟
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: يتَّبِعونه حقَّ اتِّباعه، ثمَّ قرأ: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾ [الشمس: 2] يقول: اتَّبَعها(3).
ولا يُتصوَّر اتِّباعٌ وعملٌ مِن غير تدبُّرٍ ولا فَهمٍ لما يراد العملُ به.
ولكن مع الأسف! فإنَّ هذا الجانِب قد ناله الإهمالُ والتَّفريط لدى كثِيرٍ من المسلِمين؛ فقَد انصرف أكثرُهم عن تلاوة القرآن وضبطه واستِظهاره، والَّذين قاموا بذلك منهم وحقَّقوه فإنَّ القلِيل منهم الَّذين يتدبَّرون آياته ويتفقَّهون فيها، والأقلُّ منهم الَّذين يعمَلون بما فيها من أحكام، ناهيك بأولئك الَّذين اتَّخذوا تلاوتَه حِرفةً ومهنةً، واشتروا بآياته ثمنًا قليلاً، فلا يعرِفون كتاب الله إلاَّ لقراءته على الموتى في مقابِل ثمنٍ بخسٍ دراهمَ معدودةٍ، وعرض من حُطام الدُّنيا قليل.
فمن الواجب التنبِيه على هذا الحقِّ والتذكيرُ به دائمًا، والدِّلالة على مواقعه من آيات الكتاب الكريم، والسُّنة النَّبوية على صاحبها أزكى الصَّلاة وأتمُّ التَّسلِيم، وأن يختار له أصرَح الآيات والأحاديث في معناه، وأظهر الجُمل في الدِّلالة عليه، وأقرب الألفاظ لتقرِيره في الأذهان.
معنى التَّدَبُّر وفوائده:
تدبر الكلام أن ينظر القارئ أو السامع في أوله وآخره ثم يعيد نظره مرة بعد مرة، ولهذا جاء على وزن تفعُّل المشعر بالتكرار كالتّجرُّع والتّفهُّم والتّبيُّن، وإذا قارنَّا بينه وبين التّذكُّر علمنا بأنَّ لكلٍّ منهما فائدةً غير فائدة الآخر، فالتَّذكر يفيد تَكرار القلب على ما علمه وعرفه ليرسخ فيه ويثبُت، ولا ينمحي فيذهب أثرُه من القلب جملةً، والتفكُّر يفيد تكثير العِلم واستِجلاب ما ليس حاصلاً عند القلب، فالتفكُّر يحصله والتذكُّر يحفظه، ويذكر في هذا المعنى عن الحسن أنَّه قال: «إنَّ أهل العَقل لم يزالوا يعُودون بالذِّكر على الفِكر وبالفِكر على الذِّكر حتَّى استيقظت قلوبُهم فنطقت بالحِكمة»(4).
فتدبُّر القرآن إذن هو تحديق نظَر القلب إلى معانيه، وجمع الفِكر على تعقُّله والنَّظر في معاني آياته وإعادة الفِكر فيها مرَّةً بعد مرَّة، وبذلك يستخرج علمها وأسرارها وحكمها، وتحصل بركةُ التِّلاوة وخيرها، وأعظمُ فائدة يصِل إليها المتدبِّر للقرآن أن يعلَم ويوقِن بأنَّه كلامُ الله؛ لأنَّه يراه يصدِّقُ بعضُه بعضًا، ويوافق أولُه آخرَه، فيرى الأحكام والقصص والأخبار تعاد في القرآن في عدَّة مواضع، كلُّها متوافِقة متعاضدة، لا ينقض بعضُها بعضًا، ولا يخالف أولُها آخرَها، ومن ثَمَّ يدرك كمالَ القرآن، وأنَّه لا يمكن أن يأتي إلاَّ مِن عند الله المتفرِّد بالكمال والجلال، الَّذي أحاط علمُه بالجهر وما يخفى، إذ لو كان من كلام البشر لما سلِمَ من عَيبٍ، ولَوُجِد فيه من النَّقائص كالتَّناقض والاِضطراب والاِختلاف والخطأ ما يناسِبُ طبيعة البَشر وصفاتهم الَّتي لا تنفكُّ عن النَّقص، فلذلك قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82] أي: لما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلاً.
وقد عدَّد ابنُ القيم ـ رحمه الله تعالى ـ فوائد تدبُّر القرآن فقال:
«فليس شيءٌ أنفعَ للعبد في مَعاشه ومعاده وأقربَ إلى نجاتِه مِن تدبُّر القرآن، وإطالة التَّأمُّل، وجمع فيه الفكر على معاني آياته، فإنَّها تُطلِع العبد على معالم الخير والشر بحذافِيرهما، وعلى طرقاتِهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتَتُلُّ في يده مفاتيح كنوز السَّعادة والعلوم النَّافعة وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيِّد بنيانه، وتوطِّد أركانه، وتريه صورة الدُّنيا والآخرة، والجنَّة والنَّار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيَّام الله فيهم، وتبصره مواقِع العِبَر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرِّفه ذاته، وأسماءَه وصفاتِه وأفعاله، وما يحبُّه وما يبغِضه، وصراطه الموصِل إليه، وما لسالِكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطِع الطَّريق وآفاتها، وتعرفه النَّفس وصفاتها، ومفسِدات الأعمال ومصحِّحاتها، وتعرِّفه طريق أهل الجنَّة وأهل النَّار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتِب أهل السَّعادة وأهل الشَّقاوة، وأقسام الخَلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتِراقهم فيما يفترِقون فيه.
وبالجملة تعرِّفه الربَّ المدعوَّ إليه، وطريق الوُصول إليه، وما له من الكَرامة إذا قدم عليه، وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشَّيطان والطَّريق الموصِلة إليه، وما للمستجِيب لدعوته مِن الإِهانة والعذاب بعد الوصول إليه»(5).
وقد أنكر الله تعالى على المعرِضين عن تدبُّر القرآن في مواضع كثيرة فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
وقال: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: 68].
وقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].
ولنَستمع إلى ذلك الوعيد الشَّديد الَّذي توعَّد به رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من يقرأ القرآن ولا يتفكَّر في آياته.
فعن عطاء قال: «دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا؟! فقال: أقول يا أُمَّهْ! كما قال الأوَّل: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا، قال: فقالت: دَعُونا من رَطانتِكم هذه، قال ابن عمير: أخبِرينا بأعجب شيءٍ رأيتِه من رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، قال: فسكتت، ثمَّ قالت: لما كان ليلة مِن اللَّيالي، قال: «يَا عَائِشَةُ! ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلةَ لرَبِّي» ، قلت: والله إنِّي لأحبُّ قربَك وأحبُّ ما سَرَّكَ، قالت: فقام فتطهَّر، ثمَّ قام يصلِّي، قالت: فلم يزل يبكي حتَّى بلَّ حِجرَه، قالت: ثمَّ بكى، فلم يزل يبكِي حتَّى بلَّ لحيَتَه، قالت: ثمَّ بكى، فلم يزل يبكِي حتَّى بلَّ الأرض، فجاء بلال يُؤْذِنه بالصَّلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! لِمَ تبكي وقد غفر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ الآية»(6).
كما أنَّه تعالى ذمَّ المعرِضين عن القرآن في آياتٍ كثيرَةٍ، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ [الكهف: 57] الآية، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾ [السجدة: 22].
ومعلومٌ أنَّ كلَّ من لم يشتغِل بتدبُّر آيات القُرآن العظيم؛ بتصَفُّحها وتفهُّمِها، وإدراك معانِيها والعملِ بها فإنَّه معرِضٌ عنها بحسَب ما ترَك مِن ذلك، فيستَحقُّ الإنكارَ والتَّوبيخ المذكور في الآيات، إن كان اللهُ أعطاه فهمًا يقدِر به على التدبُّر، وقد اشتكى النَّبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ إلى ربِّه مِن هجر قومِه للقرآن، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30].
اتباع القرآن:
أمَّا الاتِّباع فهو ثمْرةُ التدبُّر، وهو الَّذي لا تتحقَّق الغاية التي يرمي إليها القرآنُ إلاَّ به، وقد تكرَّر ذِكرُه في القرآن في معارِض شتَّى تدلُّ المتأمِّلَ فيها على أنَّه هو سِرُّ الدِّين وغايته العُظمى، وأنَّه المحقِّق للكمال، والعاصِم من الهلاك والضَّلال، فليتدبَّر التالي هذه الأمثلة من الآيات القرآنية.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31].
وقال ـ عزَّ وجلَّ ـ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153].
وقال سبحانه: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3].
وقال: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ [طه: 123].
وقال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18].
وأُلفِت نظر القارِئ هنا إلى ملاحظةِ السرِّ البديع في الجَمع بين الأمر بالاتِّباع والأمر بالتدبُّر، وهو أنَّ الاتِّباع ضَربٌ مِن قَفوِ أثر غيرِه، وترسُّم خطاه، والانقياد له، والاشتراك معه في النتِيجة خيرًا كانت أو شرًّا، وهذا من المعاني المذمومَة والمستهجَنة في الاتِّباع؛ لأنَّه ينافي الاستِقلال الفكري والذَّاتي، فتجِد القرآن يدفَع عنك أيُّها المسلِم أثرَ هذا المعنى المستهجَن العارض فيأمرُك بالتدبُّر واستِعمال الحواسِّ الظَّاهرة والباطنة في وظائفها الفِطرية قبل أن يأمرَك بالاتِّباع حتَّى تطمئِنَّ إلى أنك إنما تتَّبِع فيما هو حقٌّ وخيرٌ ورحمةٌ، ثمَّ إذا أمرَك بالاتِّباع فإنَّما ذاك فيما يتعالى عن فِكرك إدراكُه ويعسُر عليك تمييزُه، أو يخاف فيه غلبةُ الهوى عليك.
وحتَّى يؤكِّد سبحانه هذا المعنى الإيجابي للاتِّباع، ويوضِّح الحقَّ الَّذي ينبغي أن يتَّبَع، ينهى ـ بعد الأمر بالاتِّباع ـ عن اتِّباع الهوى المضِلِّ عن الحقِّ، وعن اتِّباع أهواء الَّذين لا يعلمون، وعن اتِّباع خطوات الشَّيطان، وعن اتِّباع السُّبل المتفرِّقة الَّتي ما من سبِيلٍ إلاَّ وعليه شيطانٌ يدعو إليه، والآياتُ في ذلك كثِيرةٌ ومعروفةٌ.
فالنَّتيجة الحتمِيَّة الَّتي يصِل إليها النَّاظر في القرآن المتدبِّر في آياته أن يطمئِنَّ ويوقِن بأنَّ الاتِّباع الَّذي يدعو إليه القُرآن إنَّما هو تحرُّرٌ من رقِّ العبودِيَّة للأهواء والشَّهوات، وتخلُّصٌ من ذلِّ الانقياد لشياطين الجنِّ والإنس الَّذين يوحِي بعضُهم إلى بعضٍ زخرُفَ القول غرورًا.
فالإِعراض عن النَّظر في كتاب الله وتفهُّمه والعمل به وبالسُّنة الثَّابتة المبيِّنة له من أعظم المنكرات وأشنَعها، ومثله أو أشدُّ ما شاع في وسط كثيرٍ مِن المسلمين من القَول بمنع العملِ بكتاب الله وسنَّة رسوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، بحجَّة انتفاء الحاجة إلى تعلُّمهما لوجود ما يكفِي ويغني عنهما من مذاهِب الأئمَّة المدوَّنة والاكتِفاء بتقليدها.
فهذا مخالِفٌ لكتاب الله وسنَّة رسوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وإجماعِ الصَّحابة، ومخالِفٌ لأقوال الأئمَّة الأربعة أصحاب المذاهِب أنفسهم، فمُرتكِبه مخالفٌ لله ولرسوله ولأصحابِه جميعًا وللأئمَّة رحمهم الله.
(1) ناقة كَوْماء: عَظيمة السَّنام طويلته وهي من خيار مال العرب.
(2) رواه مسلم (1/ 552) وابن حبان (1/321) والنسائي (1/ 542) وأبو داود (2/71) وأحمد (4/ 54) والطبراني (17/290) والبيهقي في «الشعب» (2/325) من حديث عقبة بن عامر الجهني.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (1/319).
(4) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (10/19).
(5) «مدارج السالكين» (1/451).
(6) أخرجه ابن حبان (2/386) والطحاوي في «المشكل» (11/203) وأبو الشيخ في «أخلاق النبي» (ص200) من طرق عن عطاء به، وهو في «الصحيحة» (1/106).
نقلا عن موقع راية الاصلاح.