يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
"حسين بن عبد العزيز آل الشيخ"
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسِي بتقوى الله عزّ وجلّ.
معاشرَ المسلمين، إنَّ في تاريخ العظَماء لخَبرًا، وإنَّ في أحوالِ النّبَلاء لمُدَّكرا، وإنّه ليحلو الحديث ويطيب الكلام حينما يكون عن الشمائلِ المحمديةِ والحياة النبويّة والسيرة الزّاكيَة لخيرِ البشرية. كيف لا يحلو الحديثُ عن رسولٍ منَحَه ربُّه من الشمائل أحسنَها وأبهاها، ومِنَ الفضائل أسماها وأرضَاهَا، ومِن محاسنِ الأخلاق أعلاهَا وأزكاها، ومن الآدابِ أشرَفَها وأكرَمَها، ومن الخصالِ الحميدة أتمَّها وأكملَها؟! فربنا جلّ وعلا يقول: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]. روى أحمد أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بعِثتُ لأتمِّم مكارمَ الأخلاق».
نبيٌّ وصفَه ربُّه جلّ وعلا بقولِه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]، قال المفسرون: "رحمة للجنِّ والإنس ولجميع الخلق". روى أحمد أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقفَ عند بعيرٍ وقال: «أينَ صاحبُ البعير»؟ فجاء فقال: «بعْنِيه»، قال: بل أهبُه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنّه شكَا كثرةَ العمل وقِلَّةَ العلَف، فأحسنوا إليه» رواه أحمد.
كيف لا يكون رَحيمًا وقد أحسَّ برحمته حتى الجمَاد، ففي قصّةِ جِذع النخلة الذي كانَ يتّكئُ عليه وهو يخطب أنَّ الجذعَ حَنَّ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم لمَّا تَرَكَه، قال الرَّاوي: حَنَّ ذلك الجذعُ حتى سمِعنا حنينه، فوضع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه عليه فسكَنَ، وفي روايةٍ: أنّه لما حنَّ احتضَنَه صلى الله عليه وسلم وقال: «لَو لم أحضِنه لحنَّ إلى يومِ القيامة» رواه الدارمي.
نبيٌّ بعثه الله بشِيرًا بالخيراتِ والمسرَّات، ونذيرًا عن الشرورِ والموبقات، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [الأحزاب:45]. له الخصائصُ الجليلة التي تتَّفق مع مكانتِه العظمى عند ربِّه ومنزلته العُليا عند خالقِه، (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ) [الحج:75]. يأمُر بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، وينهى عن القبائح والموبقات، فوصفه ربُّه بقولِه: (وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ) [الأعراف:157]. روى البخاريّ عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبدَ الله بنَ عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: أجَل، والله إنَّه لموصوفٌ في التوراةِ ببعض صفته في القرآن: "يا أيّها النبيّ، إنّا أرسلناك شاهدًا ومبشِّرًا ونذيرًا وحِرزًا للأمّيّين، أنت عبدِي ورَسولي، سميتُك المتوكِّل، ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّابٍ في الأسواقِ، ولا يدفَع بالسيئة السيئةَ، ولكن يعفو ويغفِر، ولن يقبِضَه الله حتى يقيمَ به الملّةَ العوجاء، بأن يقولوا: لا إلهَ إلا الله، ويفتح به أعيُنًا عُميًا وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلفًا".
حازَ خِصال الكمالِ في الأنبياءِ كلِّهم واجتَمَعت فيه، وتخلَّق بجميع أخلاقهم ومحاسِنِهم وآدابهم حتّى صارَ صلى الله عليه وسلم أكملَ الناس وأجمَلَهم وأَعلاهم قَدرًا وأعظمَهم محلاًّ وأتمَّهم حُسنًا وفضلاً. جمع محاسنَ البشرية كلِّها، واتَّصف بالبرِّ الشامِل والرِّفق الكامِل. رَوَى البيهقيّ وأبو نُعيم والطَّبراني عن عائشةَ رضي الله عنها قالَت: قامَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أتاني جبريلُ فقال: قلَّبتُ مشارقَ الأرض ومغاربها فلم أرَ رجُلاً أفضَل من محمد»، وفي الصحيح عن أنسٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أُتِيَ بالبراق لَيلةَ أسرِيَ بي، فَاستُصعِبَ عليه، فقالَ جبريل: أبِمحمَّدٍ تفعل هذا؟! فما ركِبَك أحدٌ أكرم على الله من محمّد».
رسولٌ هو أفضل الخَلق خَلقًا وخُلقًا، أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه، وآواه فهَداه، وأعلى ذكره، فقال جل وعلا: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ). يصِف جعفر بنُ أبي طالبٍ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمام النجاشيّ فيقول: "أيّها الملِك، كنّا في جاهليّة؛ نعبُد الأصنام، ونأكُل الميتةَ، ونأتي الفواحشَ، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوارَ، يأكُل القويّ منّا الضعيفَ، فكنا على ذلك حتى بعَث الله إلينا رَسولاً نعرِف نَسَبَه وأمانَتَه وعَفافَه، فدعا إلى الله لنوحِّده ونعبدَه ونخلع ما كنّا نحن نعبد وآباؤنا من دونِه من الحجارة والأوثان، يأمُرنا بصدقِ الحديث وأداءِ الأمانة وصِلَة الأرحام وحُسن الجوار والكفِّ عن المحارم والدِّماء، وينهانا عن الفواحش وقولِ الزور" إلى آخر قوله.
هو صلى الله عليه وسلم أجودُ الناس وأكرمُهم وأسخَاهُم عطاءً، يعطِي عطاءَ من لا يخشى الفقر، زهِد في هذه الدنيا زُهدًا لا نظيرَ له ولا مثيل، يمرّ الشهر والشهران وما أُوقِد في أبياتِه نارٌ، إنما عيشُه الماء والتَّمر، متواضعٌ، متقشِّفٌ، يدخل عليه الفاروق يومًا فيجده صلى الله عليه وسلم جالسًا على حصيرٍ عليه إزارٌ ليس عليه غيرُه، وقد أثَّر في جنبه، ويرَى قليلاً من الشعير في مسكنِه، فيبكي عمر، فيسأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن سببِ بُكائه فيقول: يا نبيَّ الله، ما لي لا أبكي وهذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبك، وهذه خزانتُك لا أرى فيها إلاّ ما أرى من الشعير، وذاك كِسرى وقيصَر في الثمار والأنهار، وأنت نبيُّ الله وصفوته، وهذه خزانتك؟! فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «أمَا ترضى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا»؟!
كرامتُه للإنسان بلَغَت مبلغًا عظيمًا وشأنًا كَبيرًا، قال أنس: "خدمتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشرَ سِنين ما قال لي: أُفّ قط، وما قال لشيء صنعتُه: لِمَ صنعته؟ ولا لشيءٍ تركتُه: لِمَ تركتَه". يقِف للصّغيرِ والكبيرِ والذّكر والأنثَى حتى يسمَعَ كلامَه ويَعرِض مسألته ويقضِي حاجته، يزور المرضى ويخالِط الفقراء ويصادِق المساكين، بعيدٌ عن التكبّر والتفاخر والتباهِي، قالت عائشة: "كان صلى الله عليه وسلم يخصِف نعلَه، ويخيط ثوبَه، ويعمَل بِيَده كما يعمَل أحدُكم في بيته، وكان بَشرًا من البَشَر، يفلِي ثوبَه ويحلب شاتَه ويخدم نفسه"، وتقول أيضًا: "ما عَاب رسول صلى الله عليه وسلم طعامًا قط، إن اشتهَاه أكَلَه وإن لم يشتهيهِ سكَت، وما ضرَب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قَطّ بيَدِه ولا امرأةً ولا خادِمَه إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله، وما نِيل منه شيءٌ قطّ فينتقم من صاحبِه إلا أن يُنتهَك شيء من محارم الله فينتقم لله.
عَطوفٌ على الأطفال والصغار، يسلِّم عليهم ويقبِّلهم ويحمِلهم ويداعِبهم ويلاطِفهم، ويقول: «مَن لا يَرحم لا يُرحم». محبٌّ للتيسير والتسهيل والسماحة، وما خُيِّر بَين أمرَين إلا اختَار أيسرَهما ما لم يَكن إثمًا. مَشهورٌ بالحياء، قال أبو سعيد الخدريّ: "كان صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً مِنَ العذراء في خِدرِها، وكان إذا كرِه شيئًا عَرفنَاه في وجهه".
بعيدٌ ـ هو بأبي وأمي ـ عن الفحش والتفحُّش، يقول عبد الله بن عمرو: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا، ويقول: قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِن خيارِكم أحاسِنَكم أخلاقًا». ولما قيل له: يا رسول الله، ادعُ على المشركين قال: «إني لم أُبعَث لَعّانًا، وإنما بُعثتُ رحمة»، ويقول: «إنَّ الله رفيق يحبّ الرفقَ، ويعطي على الرفقِ ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه». لا يقِرُّ الظلمَ ولا يرضَى به، ويقول: «إنَّ الله يعذِّب الذين يعذِّبون الناسَ في الدنيا». وما أحسَنَ قولَ القائل فيهِ صلى الله عليه وسلم:
أنصفتَ أهلَ الفقر من أهل الغِنـى *** فالكل فِي حقِّ الْحيـاة سواء
يعين أصحابَه، ويمازحهم بحقٍّ، ويربِّيهم علَى أحسن السّجايَا وأكرم الطبائع. كانَ في سَفرةٍ واتَّفق أصحابه على طَبخِ شاةٍ، فقال لَه أحدُهم: عليَّ ذبحها، وقال الآخر: عليَّ سلخُها، وقال الآخر: عليَّ طَبخها، فقال هو صلى الله عليه وسلم: «وعَليَّ جمعُ الحطَب»، فقالوا: نحن نكفيك يا رسول الله، قال: «قد علمتُ أنكم تكفوني، ولكن أكرَه أن أتميَّز عليكم»، فقام بجمع الحطب.
كانت أخلاقُه طبعًا لا تطبُّعًا، وسلوكًا لا يعرِف زمانًا دونَ زَمان ومكانًا دون مكان وغنيًّا دون فقير، وكبيرًا دون صغير، ورئيسًا دون مرؤوس، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة لا تجارَى وإحسان لا يُبارَى وعطفٌ لا ينتهي أمده ولا ينقطع عطاؤُه، قال حسان:
وضمَّ الإلـهُ اسمَ النبيِّ إلى اسْمـه *** إذَا ما قال في الخمسِ المؤذِّن أشهدُ
وشـقَّ لـه مـنِ اسمِـه ليُجلَّـه *** فذو العرش محمـودٌ وهـذا محمّدُ
وقال أيضًا:
نبيٌّ أتـانـا بعـد يـأسٍ وفَتـرةٍ *** من الرسل والأوثان في الأرض تعبدُ
فأمسـى سراجًا مستنيرًا وهَـادِيًا *** يَلوح كمـا يلوح الصقيل الْمهنَّدُ
ويقول كعب في بُردتِه:
أُنْبِئتُ أنَّ رسولَ الله أَوعَدَني *** والعفوُ عِند رسولِ الله مأمَولُ
إلى أن قالَ:
إنَّ الرسول لنورٌ يستضاء به *** ومهنَّد من سيوفِ الله مسلولُ
هذه كَلِماتٌ موجزة ومعاني مقتَضَبة، وهي [غيضٌ من فيضٍ] مِن صفاتِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم الذي ارتَضاه خالق البشَر ليكونَ خاتمًا لرسُلِه ونبيًّا لكافّة خلقه، فاصطفَاه واجتباه وخصَّه بالخصائصِ الكبرى والصِّفات العظمى. وفي تفاصيل سيرتِه وجزئيّات حياته وهديِه من الخصائِص الأخلاقية والسِّماتِ الأدبيّة ما تسابق العلماء إلى كتابتِه وتسطيره، وتنافستِ الأقلامُ في ذِكره وتعدادِه، وتبارتِ الأفكار في عرضه وإيضاحه؛ حتى أصبح بحقٍّ مثالاً أعلى للخلق الكريم من جميع وجوهِه ولِقِيَم الخير والفضيلة من شتّى جوانبها.
معاشرَ الناس، من أعجَب العجب في عالم اليوم الذي ينادي أهلُه بالحرّيّة والمساواة واحترامِ الآخرين أن تنخرِطَ جهاتٌ كثيرة بعضُها عن جهلٍ وكثيرٌ منها عن مكرٍ وسوءِ نية وحِقد دفين في الصدور، تنخرِط بتهمةِ الإسلام ونبيِّه العظيم وتصويرِه بالإرهابِ والعنف وسيِّئِ الأوصاف في حملةٍ شَرِسة ضدَّ الإسلام ونبيِّ الإسلام، حملةٌ شرِسَة تحتمل اتِّهامات كاذبةً وتشكيكات باطلة ومثَالب ساقِطة وتجريحاتٍ وقِحة، حَمَلات تثير زوابِعَ منتِنة وَتَنفثُ سمومًا متنوِّعة. كلّ ذلك وهم يعلمون أنَّ ما يزعمونه كذِبٌ فاضح وقَلبٌ للحقائِقِ وتحريضٌ على الصِّراع بين الحضارات، وصدَق الله إذ يقول: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء:89].
ومِن هذا المنطلَق ننادي من على منبرِه صلى الله عليه وسلم، ننادِي إلى العمل بالإنصافِ والحياديّة، ندعو عقلاءَ الإنسانيّة إلى التعرُّف على هذا النبيِّ العظيم؛ ليعلموا أنه نبيٌّ أصلُ دعوته تحريرُ الإنسان من عبوديّة غير الله والإخلاصُ للخالِق المعبود وإقامة المثُل العليا والمبادئ العظمى من مبادئ المساواةِ بين البشر وإرساء مبادئِ العدل وتكريم المرأةِ والكفّ عن كلِّ أنواع الظلم والالتزام بمكارِمِ الأخلاق وأفضَلِ السجايا والدعوة إلى تحقيق الأمن والأمان والعَدل والسلام.
إنَّ على عقلاء العالم وحكمائِه أن يتبصَّروا في الحقائق التاريخيّة؛ ليعلموا أن الإسلام ونبيَّه قد ظلِمَا واتُّهما زورًا وظلمًا وبهتانًا في ظلِّ ضَعف المسلمين، فالإسلام لم يكن يومًا مَا وَراء أيِّ كارثةٍ من كوارث التاريخ، ومِن أقربِها لعالم اليَوم الحروبُ العالمية التي قُتِل فيها عشراتُ الملايين، لم يَكن الإسلامُ سَببًا لجرائِمِ التَّميِيز العنصرِيّ التي ثارَت في كثيرٍ مِن بقاع العالم، والتي لا تخفى على سياسيٍّ ولا عالم اجتماعي، لم يكن الإسلام على علاقةٍ بأيٍّ من الكوارِث النوويّة الهائلة التي شهِدَها القرن الماضي والحالي، والتي تهدِّد العالم واستقرارَه وأمنه. ولم يكن الإسلام ولا نبيُّه سببًا لما يعانِيه العالم في كثيرٍ من بقاعِه من فقر وتخلّفٍ وأمراض، بل إنَّ الإسلام وتعاليمَ نبيِّ الإسلام بكلِّ ما تضمَّنته من خيراتٍ ورحمة ولين ورفقٍ وإحسان لو تمسَّكت بها البشريّةُ حقَّ التمسّك لما حصل لها ما حصل من هلاك ودمارٍ وشقاء وظلمٍ وعَناء، بل لحصَّلت كلَّ خير وسعادةٍ وأمنٍ وسلاَم، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].
معاشر المسلِمين، لِيَعلَمْ كلُّ ناعِق ويستَيقِن كلُّ حاقد أنَّ الإسلام قويٌّ قوةَ الجبال الراسِيات، لا تهزُّه عبرَ التاريخِ حملة عاتِيَةٌ تستهدف تشويهَ ضيائه وإطفاءَ نوره، بل لا تزيدُه تلك المكايِدُ والدّسائس إلاّ انتشارًا وسَرَيانا، ولا غروَ في ذلك فسنّةُ الله في هذا الدين في كلِّ وقت وحين أنّه منصور محفوظ عزيزٌ، فربّ البشرية يقول: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة:32]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلُغَّنَّ هذا الدينُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مَدَرٍ ولا وبَرٍ إلاَّ أَدخله الله هذا الدينَ، بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزًّا يعزّ الله به الإسلام، وذلاً يذلّ به الكفر» رواه أحمد والحاكم والبيهقي.
وليعلَم خفافيش الظلام أنَّ الإسلام سيظلّ صامدًا في أيِّ وجهِ حملة عاتيةٍ تستهدف صفاءَه المتألِّق ونوره المشرِق، فهناك سرٌّ عظيم يجِب أن يدركه الحاقِدون وهو أن الإسلام من عند الله، وأنّه رضيَه لخلقه بوابةَ سعادةٍ وإصلاح، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا) [المائدة:3]، محفوظٌ بحفظ الله إلى يوم القيامة، (وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود:65]، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر:9].
بلِ العالمُ بأسرِه وهو يضلّ في متاهات المادّيّات وجحيمِ الحروب وجفافِ الأرواح والقلوب ويحيطُ به الشقاءُ المعنويّ والحسّيّ وتُنذر به أسبابُ الهلاك والدّمار وتعصف به المطامع الدنيويّة والقوة المادية وتتحطَّم فيه المبادئ السامية لفي أمسِّ الحاجة إلى الرجوع إلى خالقه والرجوع إلى ربِّه والاهتداء بهذا النبيِّ الذي ارتضاه له خالقُه نبيًّا ورسولاً إليه كافّة، رحمةً مهداه ونعمة مجتباة.
معاشرَ المسلمين، إنَّ واجبَ المسلمين، قادَةً وعلماءَ ورعيّة، أن يرفضوا تلك الأكاذيب التي تُكادُ للإسلام ونبيِّ الإسلام، وأن يدينوها، وأن يقِفوا لها بالمرصاد، وأن يَعلموا أنّها بَليّة ابتُلُوا بها لتحدوَ المؤمنين الصادقين إلى الثبات بهذا الدين والاتّصاف بسيرة سيد الأنبياءِ والمرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم والرجوع الحقيقي للمحبة الصادقة لله جل وعلا ولرسوله صلى الله عليه وسلم وإيثارهِما على كلِّ المحابِّ والمشتَهَيات، فالله جل وعلا يقول: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران:186].
إنّ الأمّةَ الإسلاميّة وهي تسمع الهجَمَاتِ الشرسة على هذا النبيّ العظيم لمُطَالبَة أن تثبِتَ للعالم أنَّ هذه الهجمات لا تزِيدُها إلا رجوعًا إلى مَعينِ المحبّة الصادقة لهذا النبيّ الكريم والتمسك بسيرته وهديه ونسفِ المستنقعات الآسِنَة مِنَ الأفكار التي لا تتَّفِق مع دعوتِه وسيرته وهَديه وطريقته. عليها أن تبيِّن للعدو أن هذه الأمّةَ لن تفرِّط في شيءٍ من ثوابتها مهما كادَ لها الكائدون ومكرَ بها الماكرون.
معاشرَ المسلمين، إنَّ هذه الهجماتِ الشَّرسةَ تفرِض علينَا أن نُجنِّدَ القلوبَ والأقلامَ ووسائلَ الإعلام إلى عَرض السيرةِ العطرة والحياة الطيّبة لأعظم إنسان وأفضلِ مخلوق محمّدٍ عليه أفضل الصلاة والسلام من واقع أوثَق المصادر العلميّة لسيرته التي سطرتها الأيادي الأمينة والكتابات الموضوعيّة الصادقة. واجبنا - نحن المسلمين - أن نسعَى بكلّ ما أُوتينَا من مقوِّمات ووسائل لنقدِّم حياةَ الرسول الطاهرة ورسالتَه العظيمة بما فيها من الفضائل والمحاسنِ إلى العالَم ليعرِف المنصِف والجاهلُ الحقيقةَ التي يشوِّهُها الحاقدون ويحرِّفها الحاسدون.
كما أنَّ من أوجب الواجبات على الساسةِ والعلماء والمثقَّفين الدفاع عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم والذبّ عن شخصيّته وهديه وسيرته بالقلم واللسان والحوار الهادف، بالطرق السياسيّة والطرق العلمية، وفقَ خطاب حضاريٍّ مقبول وسلوكٍ أخلاقيّ مؤثر، وعبرَ عمل مخلِص، بمنهج قويم وأسلوب سليم يُوصل الرسالة العالميّةَ التي بُعِث بها خير الخلق، ويبرز محاسنها ونورها الوضّاء وشمسَها المشرقة.
أما لله والإسلام حقٌّ *** يدافع عنه شُبّانٌ وشيب؟!
فكلُّ مسلِم على ثغر من ثغور الإسلام في خِدمة دينه وعقيدته وسنّة رسوله بحسبِ مكانه ومسئوليته.
وإنَّ من الواجب على كل مسلم أينما يعيش أن يبرهنَ بسلوكه الإسلاميّ وأخلاقه النبويةِ، أن يبرهن للعالم كله حقيقةَ هذا الرسول ودينه، فحيئنذٍ فمن كان منصفًا من العالَم عَلِمَ أن الخيرَ المطلق والمحاسنَ الكاملة والصلاحَ الشامل والرقيَّ التام يكمن في هذا الدينِ وفي أخلاقِ هذا الرسول الأمين، فبالسلوك الحسن وبالعمل بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم دخَل الدينَ كثيرٌ من الخلق؛ لِمَا رَأَوهُ في أخلاق المسلمِين وتعامُلهم من رقيٍّ وسلوك حَسن، بل قد آن للمسلمين أن يحمِلوا الرسالة الخالدةَ بكل الوسائل الممكنة تحت شعارٍ هو: "حبُّ الله، وحبُّ رسوله حَيٌّ في قلوبِنا مطبَّق في واقعنا ظاهر على سلوكنا"، لاسيّما والعالَم اليومَ يعاني من وَيلات الحضارةِ الماديّة الخاوِيَة من مقوِّمات الروحِ والإيمان؛ مما أدخلها في آفاتِ الهموم وعواملِ النّقص والإفلاس.
أمّةَ الإسلام، إنّه مما يُفرِح المسلمَ الغيور أنَّ مثلَ هذه الهجماتِ نَشأت عنها ردّة أفعال جمَعت المسلمين على شيءٍ واحد هو الغَضبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والاتِّفاقُ على اتِّخاذ موقفٍ حِيال التجنِّي السافر عن جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإلى المزيدِ مِنَ المواقِف الصامدة الرّافضة رَفضًا قاطعًا للباطل والتجني على سيِّدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلُّ ذلك في فلَك التحلِّي بالصبر والرفق والتثبُّت والتعامل بالحكمة والبُعد عن مسالك العنف والتطرّف.
هذا، وإنَّ الدعوة متجدِّدة بإلحاحٍ شديد في عصرنَا الحاضر أن تتوافَق جُهودُ الحكّام والعلماءِ والدّعاة وأهلِ الثراء واليسارِ ورِجال الأعمال والاقتدار إلى إيجادِ قَنَوات إعلاميّة إسلاميّة تبثُّ الدعوةَ إلى الله، وتبيِّن محاسنَ الدين القويم وسيرةَ سيّد الأنبياء والمرسلين بلغاتٍ شتى؛ لِما للإعلام من دَور كبير في التأثير على جميع الفئات، وَفق خططٍ سليمة ومنهجيّة مدروسة قويمة؛ لنثبِتَ للعالَم صدقَ توجّهاتنا وسلامةَ مقاصدنا وسموَّ أهدافنا.
وواجبٌ على علماء الإسلام ودعاتِه في كل مكان أن يعمَلوا بتوجيهِ القرآن في حوارِ عُقلاء الملَلِ استجابةً لقوله جل وعلا: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت:46]، حِوارٌ مبني على الموضوعيّة والالتزام بأصول الأخلاق الكريمةِ المتَّسمة بأفضل العبارات وأحسنِ الأساليب. يقول العلامة ابن القيّم في تعدَادِ فِقه غزوةِ تبوك: "ومنها جوازُ مجادلةِ أهلِ الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته"، إلى أن قال رحمه الله: "ولولا خشيةُ الإطالة لذكرنا من الحجج التي تلزِم أهل الكتابَين الإقرارَ بأنه رسول الله في كُتُبهم وبما يفتقِدونه لما لا يمكنهم دفعه ما يزيد عن مائة طريق"، ثم ساق مناظرةً بينَه وبين عُلمائهم فيمن يقدَح منهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألزمهم -رحمه الله- فيها بالحجّة الدامغة والبرهان القاطع مما كان سببًا في إيمان بعضهم بسببِ هذه الحوارات وإقامة الحجة القاطعة على المعاندين والمكابرين منهم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا.
أيّها الحكماء في كلّ مكان، أيّها العُقَلاء في كلّ مكان، إنَّ المنصفين من غيرِ المسلمين الباحِثين عن الحقيقةِ المتمسِّكين بالموضوعيّة والإنصاف والبحثِ عن الحقيقة لذاتها شهادتُهم قائمةٌ وسِجِلاّتُهم موجودةٌ في الماضي وفي الحاضر، موجودَةٌ تحمل الحقيقةَ التي تَحمِلها سيرةُ سيِّد الأنبياء والمرسلين، والقائل يَقول:
وشمائِلٌ شهِدَ العدوّ بفضلها *** والفضلُ ما شهِدت به الأعداء
فهذا صاحب الكتاب المشهور الذي يقرَؤه المثقفون: "الخالدون مائة أعظمُهم محمّد صلى الله عليه وسلم"، وهذا آخر يقول: "إنني أعتقِد أنَّ رجلاً كمحمَّد لو تسلَّم زِمام الحكم في العالم أجمعِه اليومَ لتمَّ له النجاحُ في حُكمه، ولقاد العالَم إلى الخير وحلَّ مشاكِلَه على وجهٍ يحقِّق للعالَم كلِّه السلام والسعادةَ المنشورة"، ثم يستطرد إلى أن يصِل إلى نتيجة وهي أنّه لا منقذَ للعالم من دمار محقَّق وهلاكٍ لا مناص منه إلاّ بالإسلام الذي جاءَ به محمّد، وإنَّ دينَ محمد هو النظام الذي يؤسِّس دعائمَ السلام، ويُستَنَد على فلسفَتِه في حلّ المعضلات والمشكلات. انتهى كلامه. ويقول فيلسوف آخر في كتابه "الرسالة المحمدية": "لقد أصبَح من أكبر العار على كلِّ متمدِّن من أبناء هذا العصرِ أن يصغيَ إلى ما يدَّعيه المدَّعون من أنَّ دين الإسلام كذِبٌ وأنّ محمّد خدَّاع مزوِّر، وآنَ لنا أن نحارِبَ ما يُشاع مِن مِثلِ هذه الأقوالِ السخيفةِ المخجِلة". ومثلُ هذه الشهادات كثير وكثيرٌ تمتلئ به المكتبات.
أيّها المسلمون، إنَّ مِن أفضل الأعمال وأزكاها عند ربِّنا جلّ وعلا الإكثارَ من الصلاة والسلام على سيِّدنا ونبيِّنا.
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أذلَّ الشرك والمشركين، اللّهمّ انصُر عبادَك الموحِّدين في كلّ مكان...
نقلا عن موقع ملتقى الخطباء.