[FONT="]"يسبون مذمما و أنا محمد"[/FONT]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و ارتضى له الإسلام دينا، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله بعثه للعالمين هاديا و منيرا، و أتم عليه نعمه و رزقه خلقا كريما، صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنه من المعلوم من سنة الله تعالى في خلقه التمحيص و الامتحان و الابتلاء، قال الله تعالى {لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران 154]، و قال عز و جل {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران 141]، و ذلك ليُعليَ الله تعالى درجة عبده المؤمن و يرفع قدره و شأنه، و يغفر ذنبه، و هو من علامة حب الله تعالى لعبده، روى ابن ماجه في السنن عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال : "عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" حسنه الألباني في صحيح الجامع (285)، و إن أشد الناس ابتلاء هم الأنبياء، عن سعد بن أبي وقاص قال : قلت : يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال : "الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" رواه ابن حبان و صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (992).
و إن نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم كان من أشد الأنبياء ابتلاء، فقد ابتلي في عرضه و جسده و ولده، روى أبو نعيم في الحلية عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أوذي أحد مثل ما أوذيت في الله" حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (5567)، فما كان منه صلوات الله و سلامه عليه إلا الصبر على الابتلاءات و المحن، بل و الرضا بذلك.
و إنه مما ابتلي به نبينا الكريم عليه الصلاة و أتم التسليم أذى المشركين له؛ و ذلك من أول بعثته و المشركون يحاربونه و يحاولون إيقاف دعوته و الصدَّ عنها بشتى الطرق و الوسائل. فآذوه بالقول قال تعالى {وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص 4]، {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر 6]، و آذوه بالفعل روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض : أيكم يجيء بسَلَى جزُورِ بني فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم، وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئا، لو كان لي منعة، قال : فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحت عن ظهره، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ثم قال : "اللهم عليك بقريش". ثلاث مرات، فشق عليهم إذ دعا عليهم، قال : وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى : "اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط" -وعد السابع فلم يحفظ-، قال : فوالذي نفسي بيده، لقد رأيت الذين عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى، في القليب قليب بدر.
و إن أذية المشركين الكفرة الأنجاس لرسول الله صلى الله عليه و سلم لم تنقطع بموته، فلا تزال مستمرة، ففي كل حين من الزمن يطل علينا كافر زنديق يسب أو يستهزأ بنبينا صلى الله عليه و سلم، و في هذه الأيام الأخيرة ظهر أمر عظيم من قبل الصحيفة الكافرة الفاجرة الفرنسية في حق رسول الله صلى الله عليه و سلم؛ و هو عبارة عن رسومات تمثل النبي صلى الله عليه و سلم في صور بشعة هم أحق أن يوصفوا بها.
و لكن ولله الحمد نعلم يقينا أن نبينا صلى الله عليه و سلم منزه عمَّا قالوه أو كتبوه أو رسموه، فهو صلى الله عليه و سلم "سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر" رواه ابن حبان و صححه الألباني في صحيح الجامع (1468)، و هو صلى الله عليه و سلم بريء مما ينسب إليه فإنهم "يشتمون مذمما، ويلعنون مذمما وأنا محمد" كما قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة، فإنه منزه عما ينسبون إليه.
و انطلاقا من فعل فاطمة رضي الله عنها فيما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش من المشركين، إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسَلَى جزورٍ، فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه حتى جاءت فاطمة عليها السلام، فأخذتْ من ظهره، ودعتْ على من صنع ذلك"، فقد دفعت الأذى عنه صلى الله عليه و سلم و رضي عنها، أكتب هذه الأسطر القليلة دفاعا عن نبينا صلى الله عليه و سلم، ذابا عنه و مبينا خلقه و فضله على الأمة، فهذا الذي نطيقه و لا حول لنا و لا قوة إلا بالله.
أرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه و سلم للناس كافة {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف 158]، أرسله بشيرا و نذيرا { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ 28] {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل 36].
و امتن الله على المؤمنين ببعثة النبي صلى الله عليه و سلم فقال {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران 164]، فكان فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ذا خلق كريم و هدي قويم، فتعلموا منه صلى الله عليه و سلم الأخلاق الحميدة و الآداب الحسنة، و تعلموا كل ما يهمهم من أمور دينهم و دنياهم روى مسلم في صحيحه عن سلمان، قال : قيل له : قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة قال : فقال : أجل "لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط، أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم"، و قال أبو ذر رضي الله عنه فيما رواه ابن سعد في الكبرى : "لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما".
و إن أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم الفاضلة شهد له بها الأعداء و الأصحاب، ففي بناء الكعبة لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد دخل من الباب، قالوا : قد جاء الأمين، كما في الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط من حديث علي رضي الله عنه، و شهد له أبو جهل أيضا، روى الحاكم في المستدرك عن علي رضي الله عنه قال : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : "قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم، وتصدق الحديث، ولا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به".
و أثنى عليه ربه جل و علا في كتابه قائلا {وَ إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم 4]، حيث كان "خلقه القرآن" كما قالت عائشة رضي الله عنها كما ثبت في الصحيحين.
فإنه صلى الله عليه و سلم كان رحيمًا، قال تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة 128]، و قال تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهَِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران 159].
فمن رحمته صلى الله عليه و سلم مبالغته في تحذير أمته مما يضرها أو يهلكها و حرصه على نجاتها، روى البخاري و غيره عن أبي موسى، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثلي ومثل ما بعثني الله، كمثل رجل أتى قوما فقال : رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجا النجاءَ، فأطاعته طائفة فأدلجوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة فصبحهم الجيش فاجتاحهم". و روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنَه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وهم يقتحمون فيها".
و من رحمته أنه كان يسمع بكاء الصبي في الصلاة فيخفف حتى لا يشق على أمه رحمة بها، روى البخاري –واللفظ له- و مسلم عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه" و في رواية للبخاري "فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه".
و من رحمته صلى الله عليه و سلم ترك الأمر بالشيء خشية أن يشق على أمته، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة"، و له أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : "لولا أن أشق على أمتي ، لأمرتهم أن يصلوها هكذا"، و له أيضا عن ابن عباس : أخَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة فجاء عمر فقال : يا رسول الله، رقد النساء والولدان، فخرج وهو يمسح الماء عن شقه يقول : "إنه للوقت لولا أن أشق على أمتي".
و كان رحيما بالنساء، روى البخاري –و اللفظ له- و مسلم عن أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير" قال أبو قلابة : يعني النساء، و في رواية "لا تكسر القوارير".
و كان رحيما بالصبيان و الأطفال، روى البخاري و غيره عن أبي قتادة، قال : "خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم، وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلى، فإذا ركع وضع، وإذا رفع رفعها".
و من خلقه صلى الله عليه و سلم الجود و الكرم، حيث بلغ فيهما مبلغا لم يبلغ أحد غيره، روى أبو داود في السنن عن عبد الله الهوزني، قال : لقيت بلالا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب، فقلت : يا بلال حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفي، وكان إذا أتاه الإنسان مسلما ، فرآه عاريا، يأمرني فأنطلق فأستقرضُ فأشتري له البردة فأكسوه، وأطعمه" صححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3056)، و روى الشيخان و غيرهما عن جابر رضي الله عنه، قال : "ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال : لا"، و روى مسلم عن أنس، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال : "أي قوم أسلموا، فوالله إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر"، و قال عن ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" رواه الشيخان.
و من خلقه صلى الله عليه و سلم التواضع، مع ما له من المكانة العالية فهو "سيد ولد آدم".
فكان متواضعا لربه، روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة، قال : جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال له جبريل : هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال : يا محمد أرسلني إليك ربك أملكا جعلك لهم أم عبدا رسولا؟ فقال له جبريل : تواضع لربك يا محمد، فقال صلى الله عليه وسلم : "لا بل عبدا رسولا" صححه الألبانيؤ رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (3280).
و كان متواضعا للخلق، روى البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت" ، و روى ابن ماجه في السنن عن أبي مسعود، قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فكلمه، فجعل ترعد فرائصه، فقال له : "هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد" صححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه (3375)، و روى أحمد في المسند عن علي بن أبي طالب : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يركب حمارا اسمه عفير" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (4829).
و من خلقه صلى الله عليه و سلم العدل، فكان عادلا صلوات الله و سلامه عليه، مستجيبا لأمر الله تعالى {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى 15].
فكان عادلا بين الناس، روى النسائي في الصغرى عن عائشة : أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا : من يكلم فيها؟ قالوا : من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما هلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" صححه الألباني في صحيح سنن النسائي (4916).
و كان عادلا بين أزواجه، روى الدارمي عن عائشة، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول : "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك، ولا أملك" جود الألباني إسناده في المشكاة (3235).
و كان يأمر بالعدل و ينهى عن الجور، روى مسلم عن النعمان بن بشير، أن أمه بنت رواحة، سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها، فالتوى بها سنة ثم بدا له، فقالت : لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابني، فأخذ أبي بيدي وأنا يومئذ غلام، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله، إن أم هذا بنت رواحة أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا بشير ألك ولد سوى هذا؟" قال : نعم، فقال : "أكلهم وهبت له مثل هذا؟" قال : لا، قال : "فلا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور".
و من خلقه صلى الله عليه و سلم الحياء، روى البخاري و مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه"، و روى البخاري عن أنس رضي الله عنه، قال : بني على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعيا فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعو، فقلت : يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه، قال : "ارفعوا طعامكم" وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : "السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله"، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن، يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة من رهط في البيت يتحدثون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة فما أدري آخبرته أو أخبر أن القوم خرجوا فرجع، حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة، وأخرى خارجة أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب.
و من خلقه صلى الله عليه و سلم الصبر، فإنه مما كان يأمر به صلى الله عليه و سلم، روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال : مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة عند قبر وهي تبكي، فقال : "اتقي الله واصبري".
و قد صبر على أذى المشركين، روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي، قال : "لما كسرت على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضة، وأدمي وجهه، وكسرت رباعيته، وكان علي يختلف بالماء في المجن، وجاءت فاطمة تغسل عن وجهه الدم، فلما رأت فاطمة عليها السلام الدم يزيد على الماء كثرة، عمدت الى حصير فأحرقتها، وألصقتها على جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرقأ الدم".
و قد صبر على مشاق الحياة، روى ابن ماجه و الترمذي عن عبد الله بن مسعود، قال : اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، على حصير فأثر في جلده، فقلت : بأبي وأمي، يا رسول الله لو كنت آذنتنا ففرشنا لك عليه شيئا يقيك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أنا والدنيا إنما أنا والدنيا ****ب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها" صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (5668)، و روى البخاري و مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت لعروة : ابن أختي "إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار" فقلت يا خالة : ما كان يعيشكم؟ قالت : "الأسودان : التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا".
و من خلقه صلى الله عليه و سلم الشجاعة، فقد كان صلى الله عليه و سلم يتقدم أصحابه في الحروب و المعارك، و كان يثبت في الحرب، روى البخاري في صحيحه، عن أبي عثمان، قال :"لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم، في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير طلحة، وسعد"، و روى الشيخان و غيرهما عن البراء رضي الله عنه، قال له رجل : يا أبا عمارة وليتم يوم حنين؟ قال : لا، والله ما ولى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ولى سرعان الناس، فلقيهم هوازن بالنبل، والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، و للبخاري عن أنس، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت ، وهو يقول : "لن تراعوا لن تراعوا" وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال : "لقد وجدته بحرا. أو : إنه لبحر".
و من خلقه صلى الله عليه و سلم العفو و الحلم، فقد استجاب صلى الله عليه و سلم لأمر ربه عز و جل حيث قال {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف 199] و قال تعالى عن جزاء العفو {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى 40].
فقد عفى عمن أساء القول إليه، روى الشيخان عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، أنه حدثه : أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة، التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري : سرح الماء يمر، فأبى عليه؟ فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير : "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فغضب الأنصاري، فقال : أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال : "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر"، فقال الزبير : "والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك : {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}".
و قد عفى عن المنافق ابن سلول، روى البخاري عن أسامة بن زيد رضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار، عليه قطيفة فدكية، وأسامة وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني حارث بن الخزرج، قبل وقعة بدر، فسارا حتى مرا بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبيّ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر ابن أبي أنفه بردائه وقال : لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال له عبد الله بن أبي ابن سلول : أيها المرء، لا أحسن مما تقول إن كان حقا، فلا تؤذنا به في مجالسنا، فمن جاءك فاقصص عليه. قال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته، فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أي سعد، ألم تسمع ما قال أبو حباب -يريد عبد الله بن أبي- قال كذا وكذا" فقال سعد بن عبادة : أي رسول الله، بأبي أنت، اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب" الحديث.
و عفى عن الأعرابي الذي أراد قتله، روى الشيخان و غيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما أدركته القائلة، وهو في واد كثير العضاه، فنزل تحت شجرة واستظل بها وعلق سيفه، فتفرق الناس في الشجر يستظلون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا، فإذا أعرابي قاعد بين يديه، فقال : "إن هذا أتاني وأنا نائم، فاخترط سيفي، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، مخترط صلتا، قال : من يمنعك مني؟ قلت : الله، فشامه ثم قعد، فهو هذا "قال : ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و عفى عن اليهودية التي أرادت قتله صلى الله عليه و سلم، روى البخاري و مسلم –و اللفظ له- عن أنس، أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك؟ فقالت : أردت لأقتلك، قال : "ما كان الله ليسلطك على ذاك" قال : -أو قال- "عليّ" قال قالوا : ألا نقتلها ؟ قال : "لا"، قال : "فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فهذه بعض أخلاق نبينا الكريم عليه الصلاة و أتم التسليم، شهد له بها العدو و الصديق الحميم، عمل بها و علم أتباعه، أما "أشقى القوم" –الصحيفة- فقد كذبوا و افتروا و ارتكبوا جرما عظيما، و لكن الله تعالى وعد نبيه صلى الله عليه و سلم بأن يكفيه المستهزئين فقال {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر 95]، و أخبر ربنا جل و علا أنه يدافع عن عباده المؤمنين حيث قال {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج 38]، و هذا في حق عباد الله المؤمنين فكيف بمن اتخذه "خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا" رواه مسلم. قال ابن السِّعدي رحمه الله في تفسيره (410) : "{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} بك و بما جئت به، و هذا وعد من الله لرسوله، أن لا يضره المستهزئون، و أن يكفيه إياهم بما شاء من أنواع العقوبة. و قد فعل تعالى، فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه و سلم و بما جاء به؛ إلا أهلكه، و قتله شر قتلة".
أسأل الله تعالى أن يوفقنا للتأسي بنينا الكريم، و الاهتداء بهديه القويم، و أن يهدينا الصراط المستقيم، فبه النجاة من الجحيم، و الخلود في جنات النعيم.
و صلى الله و سلم علي نبينا محمد الأمين، و على آله الطاهرين، و صحبه الطيبين، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سبحانك اللهم و بحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك.
كتبه : يوسف صفصاف
الخميس 24 ربيع الأول 1436
الموافق لـ 15 يناير 2015
آخر تعديل: