رجل مثير للريبة
في ذلك "المجمع التجاري" الكبير المكتظ .. كان يجلس على أحد المقاعد رجُلٌ قبيح الشكل والهيئة ولكنه بكامل أناقته ينظرُ في وجوه الجميع بطريقة غريبة جدا يبتسم تارة ويكلم نفسه ضاحكا تارة أخرى , ساعة وساعتين تمر وهو على حالته لم يتغير .. فوق مقعده متكأ وعينيه تتربص بالمارة الذين بدأت تساورهم الشكوك والريبة حول هذا الرجل وماذا يريد بتصرفاته تلك , البعض منهم قال بأنه مجنون .. والبعض الآخر قال بأنه يريد التعرف بفتاة .. وغيرهم قالوا بأنه ربما يكون لصً لما لا .
أنقضت أربع ساعات والرجل على وتيرته المحيرة كحيرة المتسوقين الذين يمرون أمامه بخطواتً حذرة , في أثناء ذلك أحدى النساء أخبرت زوجها بأن الرجل نظر إليها للمرة الثالثة وتبسم في وجهها كأنه يحاول مغازلتها مما أغضب الزوج الذي ذهب إليه مسرعا وصرخ عليه :
- أنت يا هذا ؟ ما بالك تنظر لنساءُنا ؟
رد الرجل بإجابة غريبة :
- أنني أنظر إلى الجميع وليس زوجتك فقط , بالفعل أنا لا أنكر ذلك ولكنني لا أقصد شيئا من وراء هذا ؟
قال الزوج متعجبا :
- ويحك ! وتعترف أيضا بأنك تنظر إلى زوجتي وبقية النساء .
أجابه الرجل بثقة تامة :
- نعم , ولكن أرجو ألا تفهم كلامي خطأً !
راح يصرخ عليه الزوج الغاضب مما حذى بالمتسوقين أن يتجمهرون حولهم ويسألون عن المشكلة .. فأخبرهم الزوج بما جرى .. وبعد أن علموا اصطفوا معه يوبخون الرجل .. بدى الجميع متحاملين عليه ويريدون أن ينتقمون منه .. فلقد طالت نظراته كل من في المجمع . شيئا فشيئا بدأوا يدفعونه بيأيدهم وهو لا يحرك ساكنً ولم يدافع عن نفسه كأنه يقرُ بالجريمة على نفسه , تطور الأمر حتى تجرأوا عليه .. هذا يضربه وذاك يصفعه وآخر يدفعه حتى سقط أرضا .. لكنهم لم يتفرقوا عنه بل ظلوا يركلونه بأرجلهم كما يركل اللاعبون الكرة .. كلهم تكالبوا عليه ينتقمون منه ومن نظراته التي حيرتهم وأخافتهم على حين غرة .. حتى جاء رجال الأمن الخاص بالمجمع وفرقوهم , وبعد أن هدأوا جميعا أمروه رجال الأمن بالمغادرة وعيون من حوله تكاد تأكله حنقا وغضبا وأصواتهم تتعالى مطالبينه بالرحيل كالكلاب التي تهرب من طلقات الرصاص والخروج من المكان وعدم العودة مرة أخرى .
بخطوات متثاقلة مشى مبتعدا عنهم قليلا ثم توقف .. والجميع ينظرون إليه في حيرة كحيرتهم حينما كان يجلس على المقعد .. وبعد لحظات من وقوفه المريب أستدار عليهم وأشار على المقعد الذي كان يجلس عليه وقال وهو مُختلِطً في مشاعرهُ يبتسم باكيا :
- حينما كنت أجلس هنا كنت فرحا للغاية .. شعرت أنني أملك الدنيا كلها .. كانت أسعد لحظات حياتي , مذ كنت صغيرا في الخامسة من عمري وأنا وحيدا يتيم الأبوين .. لا اشقاء ولا اقرباء ولا أحد .. لم أعرف أحدا طوال حياتي .. لا أملك مال ولا أملك زوجة , لا أعرف كيف يتعامل الأصدقاء مع بعضهم والأهل مع أقرباءهم .. كنت وحيدا ولم أعش حياة كهذه .. وهذه المرة الأولى التي أدخل فيها إلى مجمع مكتظ بالناس لأختلط معهم وأعيش مثلهم وأحس بهم وأشعر بأنني أنسان كالبقية مثلكم .
توقف الرجل بعد أن أختنق في عبرته .. بينما المتجمهرين حوله كأن صاعقة ضربتهم في الوسط جعلتهم يطأطأون رؤوسهم خجلا كأنهم أقترفوا جريمة قتلً بحقه , أكمل بعدها بقية أوجاعه بصوتً طغى الحزن على كل همساتهِ :
- في مثل هذا اليوم ولدت .. في مثل هذا اليوم النحس أنجبتني والدتي وليتها لم تفعل .. حينما خرجت إلى هذه الدنيا كنت خلاف بقية الأطفال رأيت ظلمة بدل النور .. اليوم هو عيد ميلادي .. لقد بلغت سن الــ40 , وجئت إلى هنا لأحتفل مع أمي وأبي الذين فارقوني صغيرً دون أن أشعر بهم وليتهم أخذوني معهم , كنت أنظر إلى كل امرأة وأظنها والدتي وأبتسم لها .. كنت أنظر إلى كل رجل وأظنه والدي وأتكلم معه وأضحك , كنت ذلك الطفل الذي لم يكبر .. كنت ذلك الطفل الذي دفن الحلم بداخله .. كنت الطفل الذي لا زال يتذكر أربعون سنة عاشها في ضياع وشتات وخوف بلا سكينة ولا طمأنينة ولا ذرة شفقة من أحد .. كنت الطفل الذي دفن في قلبه قصة لم ينساها يوما .. دفنها في قلبه الذي ينبض بالحياة لكنه بات مقبرة مخيفة كلها توابيت ونعوش .
سكت قليلا يُطالع الأرض مُنكسر .. مشتتً يذرف دموع الطفولة البريئة .. صوت بكاءه يدوي في كل مكان .. وبصوت صاخب قوي ضجيجه هز جدران المجمع بأكمله قال :
- سامحكم الله جميعا ! اليوم عيد ميلادي .... فهل هذه الهدية التي تقدمونها إلي ؟
ملاحظة : كتبت هذه القصة لأن اليوم عيد ميلادي 2-2-1983 بلغت سن 32 .. ولو سألتموني ماذا أريد ؟ لقلت لكم بالطبع أتمنى لو كنت في الــ22 ولكن العمر مضى فيما مضى ولن يعود .. وكما يقول المثل " الأسف على العمر ولا أسف على سواه".... حياة مديدة وسعيدة للجميع .
قلم \ مضطرب
في ذلك "المجمع التجاري" الكبير المكتظ .. كان يجلس على أحد المقاعد رجُلٌ قبيح الشكل والهيئة ولكنه بكامل أناقته ينظرُ في وجوه الجميع بطريقة غريبة جدا يبتسم تارة ويكلم نفسه ضاحكا تارة أخرى , ساعة وساعتين تمر وهو على حالته لم يتغير .. فوق مقعده متكأ وعينيه تتربص بالمارة الذين بدأت تساورهم الشكوك والريبة حول هذا الرجل وماذا يريد بتصرفاته تلك , البعض منهم قال بأنه مجنون .. والبعض الآخر قال بأنه يريد التعرف بفتاة .. وغيرهم قالوا بأنه ربما يكون لصً لما لا .
أنقضت أربع ساعات والرجل على وتيرته المحيرة كحيرة المتسوقين الذين يمرون أمامه بخطواتً حذرة , في أثناء ذلك أحدى النساء أخبرت زوجها بأن الرجل نظر إليها للمرة الثالثة وتبسم في وجهها كأنه يحاول مغازلتها مما أغضب الزوج الذي ذهب إليه مسرعا وصرخ عليه :
- أنت يا هذا ؟ ما بالك تنظر لنساءُنا ؟
رد الرجل بإجابة غريبة :
- أنني أنظر إلى الجميع وليس زوجتك فقط , بالفعل أنا لا أنكر ذلك ولكنني لا أقصد شيئا من وراء هذا ؟
قال الزوج متعجبا :
- ويحك ! وتعترف أيضا بأنك تنظر إلى زوجتي وبقية النساء .
أجابه الرجل بثقة تامة :
- نعم , ولكن أرجو ألا تفهم كلامي خطأً !
راح يصرخ عليه الزوج الغاضب مما حذى بالمتسوقين أن يتجمهرون حولهم ويسألون عن المشكلة .. فأخبرهم الزوج بما جرى .. وبعد أن علموا اصطفوا معه يوبخون الرجل .. بدى الجميع متحاملين عليه ويريدون أن ينتقمون منه .. فلقد طالت نظراته كل من في المجمع . شيئا فشيئا بدأوا يدفعونه بيأيدهم وهو لا يحرك ساكنً ولم يدافع عن نفسه كأنه يقرُ بالجريمة على نفسه , تطور الأمر حتى تجرأوا عليه .. هذا يضربه وذاك يصفعه وآخر يدفعه حتى سقط أرضا .. لكنهم لم يتفرقوا عنه بل ظلوا يركلونه بأرجلهم كما يركل اللاعبون الكرة .. كلهم تكالبوا عليه ينتقمون منه ومن نظراته التي حيرتهم وأخافتهم على حين غرة .. حتى جاء رجال الأمن الخاص بالمجمع وفرقوهم , وبعد أن هدأوا جميعا أمروه رجال الأمن بالمغادرة وعيون من حوله تكاد تأكله حنقا وغضبا وأصواتهم تتعالى مطالبينه بالرحيل كالكلاب التي تهرب من طلقات الرصاص والخروج من المكان وعدم العودة مرة أخرى .
بخطوات متثاقلة مشى مبتعدا عنهم قليلا ثم توقف .. والجميع ينظرون إليه في حيرة كحيرتهم حينما كان يجلس على المقعد .. وبعد لحظات من وقوفه المريب أستدار عليهم وأشار على المقعد الذي كان يجلس عليه وقال وهو مُختلِطً في مشاعرهُ يبتسم باكيا :
- حينما كنت أجلس هنا كنت فرحا للغاية .. شعرت أنني أملك الدنيا كلها .. كانت أسعد لحظات حياتي , مذ كنت صغيرا في الخامسة من عمري وأنا وحيدا يتيم الأبوين .. لا اشقاء ولا اقرباء ولا أحد .. لم أعرف أحدا طوال حياتي .. لا أملك مال ولا أملك زوجة , لا أعرف كيف يتعامل الأصدقاء مع بعضهم والأهل مع أقرباءهم .. كنت وحيدا ولم أعش حياة كهذه .. وهذه المرة الأولى التي أدخل فيها إلى مجمع مكتظ بالناس لأختلط معهم وأعيش مثلهم وأحس بهم وأشعر بأنني أنسان كالبقية مثلكم .
توقف الرجل بعد أن أختنق في عبرته .. بينما المتجمهرين حوله كأن صاعقة ضربتهم في الوسط جعلتهم يطأطأون رؤوسهم خجلا كأنهم أقترفوا جريمة قتلً بحقه , أكمل بعدها بقية أوجاعه بصوتً طغى الحزن على كل همساتهِ :
- في مثل هذا اليوم ولدت .. في مثل هذا اليوم النحس أنجبتني والدتي وليتها لم تفعل .. حينما خرجت إلى هذه الدنيا كنت خلاف بقية الأطفال رأيت ظلمة بدل النور .. اليوم هو عيد ميلادي .. لقد بلغت سن الــ40 , وجئت إلى هنا لأحتفل مع أمي وأبي الذين فارقوني صغيرً دون أن أشعر بهم وليتهم أخذوني معهم , كنت أنظر إلى كل امرأة وأظنها والدتي وأبتسم لها .. كنت أنظر إلى كل رجل وأظنه والدي وأتكلم معه وأضحك , كنت ذلك الطفل الذي لم يكبر .. كنت ذلك الطفل الذي دفن الحلم بداخله .. كنت الطفل الذي لا زال يتذكر أربعون سنة عاشها في ضياع وشتات وخوف بلا سكينة ولا طمأنينة ولا ذرة شفقة من أحد .. كنت الطفل الذي دفن في قلبه قصة لم ينساها يوما .. دفنها في قلبه الذي ينبض بالحياة لكنه بات مقبرة مخيفة كلها توابيت ونعوش .
سكت قليلا يُطالع الأرض مُنكسر .. مشتتً يذرف دموع الطفولة البريئة .. صوت بكاءه يدوي في كل مكان .. وبصوت صاخب قوي ضجيجه هز جدران المجمع بأكمله قال :
- سامحكم الله جميعا ! اليوم عيد ميلادي .... فهل هذه الهدية التي تقدمونها إلي ؟
ملاحظة : كتبت هذه القصة لأن اليوم عيد ميلادي 2-2-1983 بلغت سن 32 .. ولو سألتموني ماذا أريد ؟ لقلت لكم بالطبع أتمنى لو كنت في الــ22 ولكن العمر مضى فيما مضى ولن يعود .. وكما يقول المثل " الأسف على العمر ولا أسف على سواه".... حياة مديدة وسعيدة للجميع .
قلم \ مضطرب