هو واحدٌ ممن أسسوا لقيمة العقل في تراثنا المعرفي عامة ، والديني خاصة .
بقدر عقلانيته ، فهو شديد التدين ، زاهد ناسك متعبد .
• حج أربعين مرة لأربعين سنة ماشياً من موطنه ببصرة العراق ، وراحلته ( = الجمل الذي يركبه ) متروكٌ للفقراء والضعفاء والزمنَى .
• عُرضَ عليه مالٌ كثير ، فرفض ، وعلّل الأمر : لم يأخذ أحدٌ من أحد شيئاً إلا ذُلّ له . والرجل يكره أن يُذلّ إلا لله تعالى .
• يعرّف بلاغة الموعظة الحسنة في أسلوب رشيق : " هي تقرير حجة الله في عقول المكلفين ، وتخفيف المئونة على المستمعين ، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين ، بالألفاظ المستحسنة في الآذان ، المقبولة عند الأذهان ، رغبةً في سرعة استجابتهم ، ونفي الشواغل في قلوبهم بالموعظة الحسنة من الكتاب والسنة " .
• من دعائه : " اللهم أغنني بالافتقار إليك ، ولا تفقرني بالاستغناء عنك . اللهم أعنّي على الدنيا بالقناعة ، وعلى الدين بالعصمة " .
• تمنَّى مستحيلاتٍ ... فقال ... : " أعيتني ثلاثُ خِلال : تَرْكي ما لا يعنيني ، ودرهم من حلال ، وأخٌ إذا احتجتُ إلى ما في يده بذله لي " .
• مرّ ، بزمن الأُمويين ، على رجال للشرطة يسوقون رجلاً فقيراً متهماً بسرقة مال " قليل "... ليقطعوا يده ... فقال : لا إله إلا الله ، سارقُ السرّ يقطع سارق العلن .
هذا هو عمرو بن عبيد بن باب ( 80هـ : 144 هـ = 699 م : 761 م ) ، أصله من كابل الأفغانية . وُلدَ ، ونشأ ، في البصرة العراقية .
هو أحد أهم تلاميذ الحسن البصري على الإطلاق ، وقف ، فكرياً وحركياً ، ضد مقولة الجبر ( = الإنسان مسيّر ) ... تلك التي أشاعها النظام الحاكم وقتها تبريراً لكثير من الأخطاء ، والخطايا ، التي لحقت سواء بنظام / طريقة الحكم ، أم بالمحكومين ؛ حيث تحول الأمر السياسي من " الشورى " إلى " المُلْك " ، وسادت المظالم الاجتماعية والسياسية ، وعمّت الاضطهادات طوائفَ المعارضين على اختلاف أطيافهم شيعةً وخوارج ... إلى أن انتهى الأمر بمأساة كربلاء التي استُشهِد فيها الحسين ، رضي الله تعالى عنه .
أعلنت مدرسة الحسن البصري ، وخاصة على لسان عمرو بن عبيد ، أن " الإسلام ينحاز بالكامل إلى حرية الإنسان واختياره ومسؤوليته ، وأن الجبريين ، بدعوتهم تلك ، يلحقون " الجور " بالذات الإلهية ، إنْ هي حاسبت الناس على أعمال هي التي أجبرتهم عليها ؛ فالعدل ، وهو من صفات الله تعالى ، يقتضي تقرير الحرية والاختيار والمسؤولية للإنسان " .
إن صحيح العقيدة لا بد أن ينتهي بالإنسان إلى الإيمان بأن الله تعالى هو موجد هذا العالم بما فيه ومن فيه ، لكن صريح العقل لا بد أن ينتهي بالإنسان العاقل المكلّف إلى الاعتراف – كذلك – بوجود قوانين طبيعية واجتماعية لها تأثيرها في الأشياء ، تمهيداً لإفساح المجال أمام العقل البشري ليعرف هذه القوانين ، فتكون – من ثم – أداةً طيّعة في يده يسخّر بها الكون لخدمته ، ليكون – كالأمر القرآني – خليفةً في الأرض ، والخليفة يكون مستقوياً على ما استخلف فيه ، وهذه القوة تكمن في العلم بالقوانين الكونية : طبيعيةً كانت أم اجتماعية .
إن الآلية التي تحاول أن ترد كل الظواهر – طبيعية واجتماعية – إلى علة واحدة ، ووحيدة ، وبعيدة ، وأُولَى ، تقوم بإلغاء كل العلل القريبة ، ما ينتج عنه – لا محالة – إبطال أي معرفة بشرية علمية بالطبيعة ، إذ المعرفة العلمية تستلزم – بحسب مفردات المنهج العلمي – ثبات القوانين والنواميس التي تتحكم في الظاهرة موضع البحث .
وإذا كان نفي العلة – أو العلل – القريبة سيؤدي – على المستوى الطبيعي – إلى نفي المعرفة الإنسانية ، فإنه – على المستوى الاجتماعي – سيؤدي إلى نفي الإنسان ذاته ، إذ سيكون القول بإنكار قوانين السببية في العالم والطبيعة مدخلاً إلى القول " باحتمالية " الظواهر ، وهذا بدوره سيؤدي إلى القول " بجبرية " الإنسان اجتماعياً وسياسياً ؛ فالقول بعلة أولى واحدة ، ووحيدة ، لكل الظواهر الطبيعية والاجتماعية ما هو إلا تجهيل بالأوضاع الطبيعية ، وتكريس للأوضاع الاجتماعية والسياسية ، ويصبح كل ما يقال عن علل طبيعية وعلاقات ضرورية محددة بين الأسباب والنتائج – بحسب هذا التصور – ضرباً من الوهم والخيال ... فمن الجائز – حينئذ ، وعند من ينفي العلل القريبة – أن : " يحدث شبع رغم عدم تناول الطعام ، وأن يحدث جوع رغم تناول الطعام ، وأن يقع الاتصال بين القطن والنار دون حدوث احتراق ، وأن يتحول القطن إلى رماد محترق دون ملاقاة النار " .
كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ( 95 هـ : 158 هـ = 714 م : 775 م ) من أتباع عمرو بن عبيد ، بل كان " يتولى جميع نفقات عمرو من المريدين ، ويظهر له الميل الشديد ، ويكنّ له أعظم الود والإجلال والتوقير " .
برغم كون عمرو ذا أصول عرقية غير عربية ، إذ كان من الموالي ، إلا أن هذا لم يمنعه أن يقدم رأياً لمفهوم حضاري يرى أن " للعادات والتقاليد والثقافة ، باعتبارها صلات ووشائج ، قوةً تفوق في قوة توحيدها وتأليفها بين الناس قوةَ الأنساب والعروق والأرحام " . ومن ثم تصبح هذه الروابط الحضارية ، يقول الجاحظ ، " بمثابة الرحم الواحد ، ولدتهم منه العروبة ولادة جديدة ، كي يؤلفوا معاً مجتمعهم الواحد والجديد " .
وكان للرجل رأي سياسي له اعتباره ؛ فحين تولى عمر بن عبد العزيز أمر الخلافة ، وقف البعض ، معه ، يصادر " أموال أمراء بني أُمية ويبيعها ، في مزاد علني ، لحساب الأمة " . وسأله أحدهم : " كيف تعترف بإمامة عمر بن عبد العزيز ، وهو قد تولّى الخلافة بالميراث دون شورى ؟ . أجابه : لقد أخذ عمر الخلافة بغير حقّها لا باستحقاق لها ، لكنه استحقها بالعدل حين أخذها " .
وهذا النص يبين أنه رغم أن عمر لم يصبح إماماً ، لا بالتفويض ، ولا بالبيعة ، لكنه أصبح إماماً ، بكل معنى الكلمة ، لما أحدث في المجتمع ، والدولة ، تحوّلات اجتماعية واقتصادية وسلوكية ، حمده عليها أهلُ الحل والعقد ... فالناس أجمعون إلى يومنا هذا .
ولما أصبح المنصور خليفةً استدعى عمراً وقال له : " لقد أمرْنا لك بعشرة آلاف درهم . فرد عمرو : " لا حاجة لي فيها " . فقال المنصور : " والله لتأخذها " . فيرد عمرو : " والله لا آخذها " . فيتدخل ولي العهد ، المهدي ، ابن المنصور ، ويقول لعمرو مستنكراً : " يحلف أمير المؤمنين ، وتحلف أنت " ؟ . فيقول عمرو ، بعد أن عرف مَن الفتى / الشاب : " والله لقد ألبسك أبوك لباساً ما هو من لباس الأبرار ، ولقد سماك باسمٍ ما استحققتَه عملاً ، ومهّد لك أمراً أنت أمتع ما تكون به أشغل ما تكون عنه . اعلم يا فتى أنْ نعم ، يحلف أبوك وأحلف أنا ، فإنه إذا حلف أبوك وأحنثه عمُّك – يقصد نفسَه – فذلك لأن أباك أقوى على كفّارات اليمين من عمك " . فيسأله المنصور : " ألك حاجة " ؟ . فيرد : " نعم ، لا تبعثْ إلي حتى أجيئك " . فيقول المنصور : " إذن لا نلتقي أبداً " . هنا ودّعه الخليفة واقفاً تقديراً واحتراماً لعالم زاهد غير هيّاب ولا وجل ، وأنشد في إثْره :
كلكم يمشي رويد
كلكم يطلب صيــد
غير عمر بن عبيـد .
بقدر عقلانيته ، فهو شديد التدين ، زاهد ناسك متعبد .
• حج أربعين مرة لأربعين سنة ماشياً من موطنه ببصرة العراق ، وراحلته ( = الجمل الذي يركبه ) متروكٌ للفقراء والضعفاء والزمنَى .
• عُرضَ عليه مالٌ كثير ، فرفض ، وعلّل الأمر : لم يأخذ أحدٌ من أحد شيئاً إلا ذُلّ له . والرجل يكره أن يُذلّ إلا لله تعالى .
• يعرّف بلاغة الموعظة الحسنة في أسلوب رشيق : " هي تقرير حجة الله في عقول المكلفين ، وتخفيف المئونة على المستمعين ، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين ، بالألفاظ المستحسنة في الآذان ، المقبولة عند الأذهان ، رغبةً في سرعة استجابتهم ، ونفي الشواغل في قلوبهم بالموعظة الحسنة من الكتاب والسنة " .
• من دعائه : " اللهم أغنني بالافتقار إليك ، ولا تفقرني بالاستغناء عنك . اللهم أعنّي على الدنيا بالقناعة ، وعلى الدين بالعصمة " .
• تمنَّى مستحيلاتٍ ... فقال ... : " أعيتني ثلاثُ خِلال : تَرْكي ما لا يعنيني ، ودرهم من حلال ، وأخٌ إذا احتجتُ إلى ما في يده بذله لي " .
• مرّ ، بزمن الأُمويين ، على رجال للشرطة يسوقون رجلاً فقيراً متهماً بسرقة مال " قليل "... ليقطعوا يده ... فقال : لا إله إلا الله ، سارقُ السرّ يقطع سارق العلن .
هذا هو عمرو بن عبيد بن باب ( 80هـ : 144 هـ = 699 م : 761 م ) ، أصله من كابل الأفغانية . وُلدَ ، ونشأ ، في البصرة العراقية .
هو أحد أهم تلاميذ الحسن البصري على الإطلاق ، وقف ، فكرياً وحركياً ، ضد مقولة الجبر ( = الإنسان مسيّر ) ... تلك التي أشاعها النظام الحاكم وقتها تبريراً لكثير من الأخطاء ، والخطايا ، التي لحقت سواء بنظام / طريقة الحكم ، أم بالمحكومين ؛ حيث تحول الأمر السياسي من " الشورى " إلى " المُلْك " ، وسادت المظالم الاجتماعية والسياسية ، وعمّت الاضطهادات طوائفَ المعارضين على اختلاف أطيافهم شيعةً وخوارج ... إلى أن انتهى الأمر بمأساة كربلاء التي استُشهِد فيها الحسين ، رضي الله تعالى عنه .
أعلنت مدرسة الحسن البصري ، وخاصة على لسان عمرو بن عبيد ، أن " الإسلام ينحاز بالكامل إلى حرية الإنسان واختياره ومسؤوليته ، وأن الجبريين ، بدعوتهم تلك ، يلحقون " الجور " بالذات الإلهية ، إنْ هي حاسبت الناس على أعمال هي التي أجبرتهم عليها ؛ فالعدل ، وهو من صفات الله تعالى ، يقتضي تقرير الحرية والاختيار والمسؤولية للإنسان " .
إن صحيح العقيدة لا بد أن ينتهي بالإنسان إلى الإيمان بأن الله تعالى هو موجد هذا العالم بما فيه ومن فيه ، لكن صريح العقل لا بد أن ينتهي بالإنسان العاقل المكلّف إلى الاعتراف – كذلك – بوجود قوانين طبيعية واجتماعية لها تأثيرها في الأشياء ، تمهيداً لإفساح المجال أمام العقل البشري ليعرف هذه القوانين ، فتكون – من ثم – أداةً طيّعة في يده يسخّر بها الكون لخدمته ، ليكون – كالأمر القرآني – خليفةً في الأرض ، والخليفة يكون مستقوياً على ما استخلف فيه ، وهذه القوة تكمن في العلم بالقوانين الكونية : طبيعيةً كانت أم اجتماعية .
إن الآلية التي تحاول أن ترد كل الظواهر – طبيعية واجتماعية – إلى علة واحدة ، ووحيدة ، وبعيدة ، وأُولَى ، تقوم بإلغاء كل العلل القريبة ، ما ينتج عنه – لا محالة – إبطال أي معرفة بشرية علمية بالطبيعة ، إذ المعرفة العلمية تستلزم – بحسب مفردات المنهج العلمي – ثبات القوانين والنواميس التي تتحكم في الظاهرة موضع البحث .
وإذا كان نفي العلة – أو العلل – القريبة سيؤدي – على المستوى الطبيعي – إلى نفي المعرفة الإنسانية ، فإنه – على المستوى الاجتماعي – سيؤدي إلى نفي الإنسان ذاته ، إذ سيكون القول بإنكار قوانين السببية في العالم والطبيعة مدخلاً إلى القول " باحتمالية " الظواهر ، وهذا بدوره سيؤدي إلى القول " بجبرية " الإنسان اجتماعياً وسياسياً ؛ فالقول بعلة أولى واحدة ، ووحيدة ، لكل الظواهر الطبيعية والاجتماعية ما هو إلا تجهيل بالأوضاع الطبيعية ، وتكريس للأوضاع الاجتماعية والسياسية ، ويصبح كل ما يقال عن علل طبيعية وعلاقات ضرورية محددة بين الأسباب والنتائج – بحسب هذا التصور – ضرباً من الوهم والخيال ... فمن الجائز – حينئذ ، وعند من ينفي العلل القريبة – أن : " يحدث شبع رغم عدم تناول الطعام ، وأن يحدث جوع رغم تناول الطعام ، وأن يقع الاتصال بين القطن والنار دون حدوث احتراق ، وأن يتحول القطن إلى رماد محترق دون ملاقاة النار " .
كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ( 95 هـ : 158 هـ = 714 م : 775 م ) من أتباع عمرو بن عبيد ، بل كان " يتولى جميع نفقات عمرو من المريدين ، ويظهر له الميل الشديد ، ويكنّ له أعظم الود والإجلال والتوقير " .
برغم كون عمرو ذا أصول عرقية غير عربية ، إذ كان من الموالي ، إلا أن هذا لم يمنعه أن يقدم رأياً لمفهوم حضاري يرى أن " للعادات والتقاليد والثقافة ، باعتبارها صلات ووشائج ، قوةً تفوق في قوة توحيدها وتأليفها بين الناس قوةَ الأنساب والعروق والأرحام " . ومن ثم تصبح هذه الروابط الحضارية ، يقول الجاحظ ، " بمثابة الرحم الواحد ، ولدتهم منه العروبة ولادة جديدة ، كي يؤلفوا معاً مجتمعهم الواحد والجديد " .
وكان للرجل رأي سياسي له اعتباره ؛ فحين تولى عمر بن عبد العزيز أمر الخلافة ، وقف البعض ، معه ، يصادر " أموال أمراء بني أُمية ويبيعها ، في مزاد علني ، لحساب الأمة " . وسأله أحدهم : " كيف تعترف بإمامة عمر بن عبد العزيز ، وهو قد تولّى الخلافة بالميراث دون شورى ؟ . أجابه : لقد أخذ عمر الخلافة بغير حقّها لا باستحقاق لها ، لكنه استحقها بالعدل حين أخذها " .
وهذا النص يبين أنه رغم أن عمر لم يصبح إماماً ، لا بالتفويض ، ولا بالبيعة ، لكنه أصبح إماماً ، بكل معنى الكلمة ، لما أحدث في المجتمع ، والدولة ، تحوّلات اجتماعية واقتصادية وسلوكية ، حمده عليها أهلُ الحل والعقد ... فالناس أجمعون إلى يومنا هذا .
ولما أصبح المنصور خليفةً استدعى عمراً وقال له : " لقد أمرْنا لك بعشرة آلاف درهم . فرد عمرو : " لا حاجة لي فيها " . فقال المنصور : " والله لتأخذها " . فيرد عمرو : " والله لا آخذها " . فيتدخل ولي العهد ، المهدي ، ابن المنصور ، ويقول لعمرو مستنكراً : " يحلف أمير المؤمنين ، وتحلف أنت " ؟ . فيقول عمرو ، بعد أن عرف مَن الفتى / الشاب : " والله لقد ألبسك أبوك لباساً ما هو من لباس الأبرار ، ولقد سماك باسمٍ ما استحققتَه عملاً ، ومهّد لك أمراً أنت أمتع ما تكون به أشغل ما تكون عنه . اعلم يا فتى أنْ نعم ، يحلف أبوك وأحلف أنا ، فإنه إذا حلف أبوك وأحنثه عمُّك – يقصد نفسَه – فذلك لأن أباك أقوى على كفّارات اليمين من عمك " . فيسأله المنصور : " ألك حاجة " ؟ . فيرد : " نعم ، لا تبعثْ إلي حتى أجيئك " . فيقول المنصور : " إذن لا نلتقي أبداً " . هنا ودّعه الخليفة واقفاً تقديراً واحتراماً لعالم زاهد غير هيّاب ولا وجل ، وأنشد في إثْره :
كلكم يمشي رويد
كلكم يطلب صيــد
غير عمر بن عبيـد .