المبحث الأول: البر
تعريف البر:
البر ضد العقوق، وفي الحديث: «تمسحوا بالأرض فإنها برَّةٌ بكم» أي: مشفقة عليكم كالوالدة البرة بأولادها. وفي حديث زمزم: «أتاه أتٍ فقال: احفر برة» سماها برة لكثرة منافعها وسعة مائها.
وفي الحديث في بر الوالدين: وهو في حقهما وحق الأقربين من الأهل ضد العقوق والإساءة إليهم والتضييع لحقهم ([1]).
والبر هو الإحسان، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «البر حُسن الخُلُق» وهو في حق الوالدين والأقربين ضد العقوق.
قال الحسن البصري – رحمه الله -: البر أن تطيعهما في كل ما أمراك به ما لم تكن معصية لله ([2]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال أبو بكر في زاد المسافر: من أغضب والديه وأبكاهما يرجع فيضحكهما. وهذا يقتضي أن يبر بهما في جميع المباحات، فما أمراه ائتمر وما نهياه انتهى، وهذا فيما كان فيه منفعة لهما ولا ضرر عليه فيه ظاهر مثل: ترك السفر والمبيت عندهما ناحية ([3]).
والبِرُّ بكسر الباء التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات من اكتساب الحسنات، واجتناب السيئات، ويطلق على العمل الخالص الدائم المستمر إلى الموت ([4]).
بر الوالدين في الكتاب والسنة:
ذكر الله – تعالى – حق الوالدين بعد حقه سبحانه وتعالى، وهذا يعطي دلالة واضحة جلية على عظم حقهما.
قال تعالى: [FONT="]}وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[FONT="]{[/FONT] [النساء: 36]. قال ابن سعدي في تفسيره: أي: أحسنوا بالقول الكريم، والخطاب الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما ([5]).[/FONT]
وقال تعالى: [FONT="]}وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[FONT="]{[/FONT] [العنكبوت: 8]. يقول الله تعالى آمرًا عباده بالإحسان للوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان ولهما عليه غاية الإحسان، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق ([6]).[/FONT]
وقال تعالى: [FONT="]}وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[FONT="]{[/FONT] [الإسراء: 23-24].[/FONT]
قال ابن سعدي في تفسيره: أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان «القول والفعل» فإذا وصلا إلى هذا السن الذي تضعف فيه قواهما ويحتاجان من اللطف والإحسان ما هو معروف [FONT="]}فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ[FONT="]{[/FONT] وهذا أدنى مراتب الأذى، نبه به على ما سواه، والمعنى: لا تؤذهما أدنى أذية، ولا تزجرهما، وتلطف معهما بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما وتطمئن به نفوسهما، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد والأزمان. وتواضع لهما ذلاً لهما ورحمة واحتسابًا للأجر لا لأجل الخوف منهما. ثم ادعُ لهما بالرحمة أحياءً وأمواتًا جزاءً على تربيتهما إياك صغيرًا. ويفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق. وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين له على من رباه حق التربية. اهـ ([7]).[/FONT]
وقال تعالى: [FONT="]}وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[FONT="]{[/FONT] [لقمان: 14].[/FONT]
قال مجاهد: مشقة وهن الولد، وقال قتادة: جهدًا على جهد، وقال عطاء الخراساني: ضعفًا على ضعف. وقوله تعالى: [FONT="]}وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[FONT="]{[/FONT]، أي: تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين كما قال تعالى: [FONT="]}[/FONT]وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ[FONT="]{[/FONT] [البقرة: 233].[/FONT]
ومن هنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل الحمل ستة أشهر. وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهارًا ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه. اهـ ([8]).
ومن السنة:
الأحاديث التي تحث على البر كثيرة أورد بعضًا منها تذكيرًا لنفسي ولإخواني بحق الوالدين، من ذلك:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه»([9]).
وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: «الصلاة على وقتها». قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»([10]).
وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما – قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت علي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: «نعم، صلي أمك»([11]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك». قال: ثم من؟ قال: «أمك». قال: ثم من؟ قال: «أبوك»([12]).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: أقبل رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أُبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، قال: «فهل لك من والديك أحد حي؟» قال: نعم، قال: «فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما»، متفق عليه. وفي رواية لهما: جاء رجل فاستأذنه في الجهاد فقال: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد»([13]).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوالدان أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه»([14]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة»([15]).
بر الأنبياء – عليهم السلام – بآبائهم:
الأنبياء – عليهم السلام – هم صفوة البشر، وهم قدوة في جميع أعمالهم وسلوكهم وأخلاقهم، فلنتعرف على جانب من حياتهم المشرقة ولنرى كيف تعاملهم مع آبائهم وأمهاتهم.
فهذا نوح – عليه السلام – يستغفر لهما، فينادي ربه: [FONT="]}رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا[FONT="]{[/FONT] [نوح: 28].[/FONT]
وهذا إبراهيم الخليل – عليه السلام – يخاطب أباه المشرك بلطف وإشفاق بالغ رغبة في هدايته ونجاته من النار، قال تعالى مخبرًا عنه: [FONT="]}إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا[FONT="]{[/FONT] [مريم: 42-45].[/FONT]
لقد خاطب والده بتلك الكلمات المؤثرة، بل تجد أن كل نصيحة مقرونة بـ«يا أبت، يا أبت» وهذا قمة الإشفاق والحب والحنان لعل الله أن يفتح على قلبه.
وهذا إسماعيل بن إبراهيم – عليهما السلام -، يضرب أروع الأمثلة في البر امتثالاً لأمر والده والذي هو امتثال لأمر الله؛ لأن رؤيا الأنبياء جزء من الوحي عندما أخبره وقال: [FONT="]}يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ[FONT="]{[/FONT] فكان رد الابن [FONT="]}[/FONT]يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ[FONT="]{[/FONT] [الصافات: 102]. فلما تلَّه ليذبحه ووضع السكين على حلق ابنه إسماعيل فلم تحز فشحذها مرتين أو ثلاثًا بالحجر فلم تقطع، فقال الابن عند ذلك: يا أبت، كُبَّني على وجهي فإنك إن نظرت إلى وجهي؛ رحمتني وأدركتك رقة وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع، ففعل ذلك إبراهيم – عليه السلام -([16])، إلى أن نودي [FONT="]}[/FONT]وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ[FONT="]{[/FONT] [الصافات: 104-105].[/FONT]
فأي بر أعظم من هذا البر؟! إنها أخلاق الأنبياء.
وهذا عيسى – عليه السلام – يأتيه الثناء من ربه وهو ما زال في المهد بأنه بار ويقرن هذا بعبوديته لربه عز وجل: [FONT="]}وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا[FONT="]{[/FONT] [مريم: 32].[/FONT]
بر الصحابة رضي الله عنهم والصالحين:
من هذه الصور الناصعة من البر ما روته عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دخلت الجنة فسمعت قراءة، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان». فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كذلكم البرّ، كذلكم البر». وزاد عبد الرزاق في روايته: «وكان أبر الناس بأمه»([17]).
فانظر كيف نال هذا الصحابي تلك المنزلة من الجنة بفضل الله تعالى ثم ببره لوالدته.
بر أبي هريرة رضي الله عنه:
أبو هريرة رضي الله عنه كان يستخلفه مروان وكان بذي الحليفة، فكانت أمه في بيت وهو في آخر، فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها وقال: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فتقول: (وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته)، فيقول: (رحمك الله كما ربيتني صغيرًا)، فتقول: (رحمك الله كما بررتني كبيرًة) ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك ([18]).
تعريف البر:
البر ضد العقوق، وفي الحديث: «تمسحوا بالأرض فإنها برَّةٌ بكم» أي: مشفقة عليكم كالوالدة البرة بأولادها. وفي حديث زمزم: «أتاه أتٍ فقال: احفر برة» سماها برة لكثرة منافعها وسعة مائها.
وفي الحديث في بر الوالدين: وهو في حقهما وحق الأقربين من الأهل ضد العقوق والإساءة إليهم والتضييع لحقهم ([1]).
والبر هو الإحسان، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «البر حُسن الخُلُق» وهو في حق الوالدين والأقربين ضد العقوق.
قال الحسن البصري – رحمه الله -: البر أن تطيعهما في كل ما أمراك به ما لم تكن معصية لله ([2]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال أبو بكر في زاد المسافر: من أغضب والديه وأبكاهما يرجع فيضحكهما. وهذا يقتضي أن يبر بهما في جميع المباحات، فما أمراه ائتمر وما نهياه انتهى، وهذا فيما كان فيه منفعة لهما ولا ضرر عليه فيه ظاهر مثل: ترك السفر والمبيت عندهما ناحية ([3]).
والبِرُّ بكسر الباء التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات من اكتساب الحسنات، واجتناب السيئات، ويطلق على العمل الخالص الدائم المستمر إلى الموت ([4]).
بر الوالدين في الكتاب والسنة:
ذكر الله – تعالى – حق الوالدين بعد حقه سبحانه وتعالى، وهذا يعطي دلالة واضحة جلية على عظم حقهما.
قال تعالى: [FONT="]}وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[FONT="]{[/FONT] [النساء: 36]. قال ابن سعدي في تفسيره: أي: أحسنوا بالقول الكريم، والخطاب الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما ([5]).[/FONT]
وقال تعالى: [FONT="]}وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[FONT="]{[/FONT] [العنكبوت: 8]. يقول الله تعالى آمرًا عباده بالإحسان للوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان ولهما عليه غاية الإحسان، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق ([6]).[/FONT]
وقال تعالى: [FONT="]}وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[FONT="]{[/FONT] [الإسراء: 23-24].[/FONT]
قال ابن سعدي في تفسيره: أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان «القول والفعل» فإذا وصلا إلى هذا السن الذي تضعف فيه قواهما ويحتاجان من اللطف والإحسان ما هو معروف [FONT="]}فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ[FONT="]{[/FONT] وهذا أدنى مراتب الأذى، نبه به على ما سواه، والمعنى: لا تؤذهما أدنى أذية، ولا تزجرهما، وتلطف معهما بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما وتطمئن به نفوسهما، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد والأزمان. وتواضع لهما ذلاً لهما ورحمة واحتسابًا للأجر لا لأجل الخوف منهما. ثم ادعُ لهما بالرحمة أحياءً وأمواتًا جزاءً على تربيتهما إياك صغيرًا. ويفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق. وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين له على من رباه حق التربية. اهـ ([7]).[/FONT]
وقال تعالى: [FONT="]}وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[FONT="]{[/FONT] [لقمان: 14].[/FONT]
قال مجاهد: مشقة وهن الولد، وقال قتادة: جهدًا على جهد، وقال عطاء الخراساني: ضعفًا على ضعف. وقوله تعالى: [FONT="]}وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[FONT="]{[/FONT]، أي: تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين كما قال تعالى: [FONT="]}[/FONT]وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ[FONT="]{[/FONT] [البقرة: 233].[/FONT]
ومن هنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل الحمل ستة أشهر. وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهارًا ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه. اهـ ([8]).
ومن السنة:
الأحاديث التي تحث على البر كثيرة أورد بعضًا منها تذكيرًا لنفسي ولإخواني بحق الوالدين، من ذلك:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه»([9]).
وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: «الصلاة على وقتها». قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»([10]).
وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما – قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت علي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: «نعم، صلي أمك»([11]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك». قال: ثم من؟ قال: «أمك». قال: ثم من؟ قال: «أبوك»([12]).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: أقبل رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أُبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، قال: «فهل لك من والديك أحد حي؟» قال: نعم، قال: «فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما»، متفق عليه. وفي رواية لهما: جاء رجل فاستأذنه في الجهاد فقال: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد»([13]).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوالدان أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه»([14]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة»([15]).
بر الأنبياء – عليهم السلام – بآبائهم:
الأنبياء – عليهم السلام – هم صفوة البشر، وهم قدوة في جميع أعمالهم وسلوكهم وأخلاقهم، فلنتعرف على جانب من حياتهم المشرقة ولنرى كيف تعاملهم مع آبائهم وأمهاتهم.
فهذا نوح – عليه السلام – يستغفر لهما، فينادي ربه: [FONT="]}رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا[FONT="]{[/FONT] [نوح: 28].[/FONT]
وهذا إبراهيم الخليل – عليه السلام – يخاطب أباه المشرك بلطف وإشفاق بالغ رغبة في هدايته ونجاته من النار، قال تعالى مخبرًا عنه: [FONT="]}إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا[FONT="]{[/FONT] [مريم: 42-45].[/FONT]
لقد خاطب والده بتلك الكلمات المؤثرة، بل تجد أن كل نصيحة مقرونة بـ«يا أبت، يا أبت» وهذا قمة الإشفاق والحب والحنان لعل الله أن يفتح على قلبه.
وهذا إسماعيل بن إبراهيم – عليهما السلام -، يضرب أروع الأمثلة في البر امتثالاً لأمر والده والذي هو امتثال لأمر الله؛ لأن رؤيا الأنبياء جزء من الوحي عندما أخبره وقال: [FONT="]}يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ[FONT="]{[/FONT] فكان رد الابن [FONT="]}[/FONT]يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ[FONT="]{[/FONT] [الصافات: 102]. فلما تلَّه ليذبحه ووضع السكين على حلق ابنه إسماعيل فلم تحز فشحذها مرتين أو ثلاثًا بالحجر فلم تقطع، فقال الابن عند ذلك: يا أبت، كُبَّني على وجهي فإنك إن نظرت إلى وجهي؛ رحمتني وأدركتك رقة وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع، ففعل ذلك إبراهيم – عليه السلام -([16])، إلى أن نودي [FONT="]}[/FONT]وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ[FONT="]{[/FONT] [الصافات: 104-105].[/FONT]
فأي بر أعظم من هذا البر؟! إنها أخلاق الأنبياء.
وهذا عيسى – عليه السلام – يأتيه الثناء من ربه وهو ما زال في المهد بأنه بار ويقرن هذا بعبوديته لربه عز وجل: [FONT="]}وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا[FONT="]{[/FONT] [مريم: 32].[/FONT]
بر الصحابة رضي الله عنهم والصالحين:
من هذه الصور الناصعة من البر ما روته عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دخلت الجنة فسمعت قراءة، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان». فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كذلكم البرّ، كذلكم البر». وزاد عبد الرزاق في روايته: «وكان أبر الناس بأمه»([17]).
فانظر كيف نال هذا الصحابي تلك المنزلة من الجنة بفضل الله تعالى ثم ببره لوالدته.
بر أبي هريرة رضي الله عنه:
أبو هريرة رضي الله عنه كان يستخلفه مروان وكان بذي الحليفة، فكانت أمه في بيت وهو في آخر، فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها وقال: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فتقول: (وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته)، فيقول: (رحمك الله كما ربيتني صغيرًا)، فتقول: (رحمك الله كما بررتني كبيرًة) ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك ([18]).
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref1[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][1][/FONT][/FONT][FONT="]) لسان العرب، ج1، طبعة دار إحياء التراث العربي.[/FONT][FONT="][/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref2[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][2][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]ففيهما فجاهد، عبد الملك القاسم.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref3[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][3][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]غذاء الألباب 1/382.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref4[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][4][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]بلوغ المرام، باب البر والصلة، ص433.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref5[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][5][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]تفسير ابن سعدي 1/204.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref6[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][6][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]تفسير ابن كثير 3/537.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref7[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][7][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]تفسير ابن سعدي 1/613.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref8[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][8][/FONT][/FONT][FONT="]) تفسير ابن كثير، 3/575-586.[/FONT][FONT="][/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref9[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][9][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]مسلم (1510)، أخرجه أبو داود (5137)، والترمذي (1907) من كتاب بر الوالدين وصلة الأرحام للشيخ عبد الله الجار الله رحمه الله.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref10[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][10][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]البخاري 10/336، مسلم (85) من كتاب تذكر شباب الإسلام ببر الوالدين وصلة الأرحام للشيخ عبد الله الجار الله.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref11[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][11][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]متفق عليه.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref12[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][12][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]البخاري 10/336، مسلم (2548). قال الشيخ عبد الله الجار الله في تعليق له على هذا الحديث: أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر: وكأن ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الإرضاع. اهـ.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref13[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][13][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]البخاري 6/97-98 و 10/338 ومسلم (2549). يقول الشيخ عبد الله الجار الله في تعليقه: المراد بالجهاد فيهما جهاد النفس في وصل البر إليهما والتلطف بهما وحسن الصحبة والطاعة وأنه آكد من الجهاد إذا كان فرض كفاية فيحرم أن يجاهد إلا بإذنهما.اهـ. انظر كتاب تذكير شباب الإسلام ببر الوالدين وصلة الأرحام، للشيخ عبد الله الجار الله، ص15-16. [/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref14[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][14][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]رواه الترمذي (1901) وإسناده صحيح.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref15[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][15][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]رواه مسلم.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref16[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][16][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]عقوق الوالدين، ص51-54 للشيخ محمد إبراهيم الحمد.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref17[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][17][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]كيف تبر والديك؟ جمع وإعداد إبراهيم الحمود.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref18[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][18][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT][FONT="]عقوق الوالدين، محمد الحمد، ص45.[/FONT]