الخرطوم: بثينة عبد الرحمن
السياحة في السودان لا تزال مطمورة، تنقصها عدة مقومات مثل البنية التحتية والتخطيط والاستثمار الجاذب الصحيح، وذلك رغم أن الشعب السوداني معروف بكونه مضيافا لا يهاب الغريب، ورغم وفرة الفرص الطبيعية من حيث اختلاف الأنشطة التقليدية والثقافية والشعبية وتنوع المواقع الجغرافية والتاريخية التي لو حظيت ولو بقليل من الاهتمام لأصبحت مصدر رزق وفير ولأسهمت في تغيير الصورة النمطية للسودان.
وعلى الرغم من وجود وزارة سياحة وآثار وحياة برية، ومبان ضخمة، فإن السائح غالبا ما يكون تائها ما لم يحظ برفقة دليل يطلعه على المواقع السياحية وكيفية الوصول إليها بأسهل الطرق وأقل وقت، مما قد يتيح له الاستمتاع ببرامج ترفيهية وتثقيفية ممتعة ومشوقة.
تعتبر هذه الشهور من العام أي فصل الشتاء هي الأفضل لزيارة السودان حيث يسوده طقس جميل، بارد بالنسبة لأهل البلد ممن حباهم الله بشمس وحر معظم العام.
في رحلة سريعة لم يسمح لنا الوقت بزيارة مواقع سياحية بعيدة عن العاصمة كمناطق الآثار الفرعونية بشمال السودان أو الاستمتاع برياضة الغوص بالبحر الأحمر ومياهه الشفافة وشعابه المرجانية، أو الصيد بوديان كردفان والسفاري وتتبع حيوانات وطيور نادرة في بيئتها الطبيعية في جنوب النيل الأزرق. كما لم تتثن لنا رؤية المنتجعات الطبيعية بجبل مرة، لذلك اكتفينا بالبقاء بالعاصمة المثلثة الخرطوم، حيث يقترن النيلان الأبيض والأزرق في زيجة أبدية سعيدة مكونين النيل الخالد.
على ضفاف النيل تجد النساء اللاتي يطلق عليهن اسم «ستات الشاي» وهن يبعن الشاي والقهوة والكركدي، يجلس الزوار من حولهن لتناول المشروبات الساخنة. مهنة بيع الشاي التي تقوم بها تلك النساء ليست سوى ظاهرة اقتصادية واجتماعية، إذ لم يكن معروفا عن المرأة السودانية الخروج للعمل على هذا النحو قبل عمليات النزوح بسبب الجفاف والتصحر وقبل الحروب في أكثر من إقليم طرفي. وقد دفعت الأوضاع الاقتصادية الكثير من النساء للبحث عن مختلف سبل الرزق الشريف للمشاركة في توفير مصاريف الحياة خصوصا الصحة والتعليم.
تلك الجلسات لشرب الشاي والأنس، والتي لا بد أن يجربها سائح الخرطوم، أمست منفذا ترفيهيا انتشر بكثرة في أنحاء أخرى من العاصمة، ولقلة نفقاتها أطلق عليها بعض الشباب اسم «حبيبي مفلس»، ولكونها مفتوحة أمام أعين الملأ من المارة يسميها آخرون «أبوي عارفني»، بمعنى أن الجالسين خاصة إن كانوا شبابا وشابات أهلهم على علم بما يفعلون.
* الأكل
* في توسع ملحوظ للمطاعم الفخمة والمتنزهات، ووجود أكثر من فندق بمقومات حديثة كفندق «روتانا» وبرج الفاتح الذي تم تغيير اسمه بعد الثورة الليبية إلى كورنثيا (وإن ظل اسمه القديم هو الشائع) والفندق الكبير وفندق «الهيلتون» الذي أصبح كورالا وفنادق أخرى أصغر حجما، ظهرت مطاعم ومحال عربية الطابع في زيادة مطردة بعد هجرة واسعة لفلسطينيين وعراقيين وسوريين استجاروا بالخرطوم، ناهيك عن وجود مكثف لمحال تركية.
ومن أكثر محال الأكل انتشارا بالخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري هي المطاعم التقليدية التي تقدم سمك النيل من بلطي وعجل وشلب وبياض وكبروس وأسماك البحر الأحمر كالجمبري والهامور محمرة ومشوية بأشهى الطرق السودانية البسيطة. ومن تلك المطاعم «بيت السمك» و«صاج السمك» و«سمكنا» و«منتجع السمك» و«حوش السمك» و«عوضية للأسماك».
ولـ«عوضية» قصة كفاح تستحق الإشارة، إذ بدأت سيدة واسمها عوضية بتنظيف الأسماك بموقع معروف بحي الموردة بأم درمان يستقبل في ساعة مبكرة من كل صباح ما يعود به الصيادون من أسماك. نشطت عوضية في تنظيف ما تقدر عليه من أسماك، وشيئا فشيئا تحولت لبيع ما تنظفه محمرا في الموقع ذاته، وعندما زاد رزقها فتحت مطعما كاملا باسمها. مما يحبب الناس فيها كونها لم تتغير، ولتبرعاتها ومساهمتها في أعمال الخير، ومعلوم أنها ترسل أسبوعيا بكميات من السمك لسجن النساء. ويحكي عنها سكان الموردة الكثير من الحكايات الإنسانية الجميلة.
معظم محال السمك أصبحت تنافس محلات بيع اللحوم والمشاوي التي كانت الأكثر انتشارا بين السودانيين، وتوفر خصوصية لزبائنها لكونها عبارة عن حوش كبير بداخله عدد من القطاطي، وهي نوع من المباني المعروفة بالقرى، سقفها من القش وجوانبها من الطين وأرضها من الرمل، مع أثاث تقليدي بسيط.
تقدم الأسماك شهية طازجة في صينيات مدورة، وتؤكل على الطريقة السودانية بالأيدي، ومعظمها يتبل بالثوم والشمر، وتتوافر كاملة أو قطعا صغيرة «فيليه» تأتي من «الصاج» مباشرة مع خبز بلدي وسلطة خضراء (كما يسميها السودانيون) رغم أنها ملونة من مكوناتها الأساسية الطماطم والجزر والبصل والعجور والجرجير، وبالطبع هناك كمية وفيرة من الشطة والليمون.
* المتاحف
* من متاحف الخرطوم اكتفينا بزيارة لمتحف الخليفة بأم درمان، وهو نفس المنزل الذي سكنه الخليفة عبد الله المشهور بود تورشين، خليفة البطل السوداني محمد أحمد المهدي، ويضم أهم متعلقات الرجل الذي أدار وحكم السودان المستقل 14 عاما، منذ وفاة المهدي 1885 وحتى وفاته بام دبيكرات 1899.. وبذلك انتهت الدولة المهدية وانتهت طموحات الخليفة في تصديرها، وأصبح السودان مستعمرة حتى استقلاله 1956.
بعيدا عن بقية المتاحف والمواقع السياحية التقليدية حظينا برفقة شابة خبيرة نظمت لنا برامج غير تقليدية سودانية مائة في المائة، منها صباح كامل قضيناه في خلاء وفضاء واسع وعريض في تجربة غير مسبوقة خارج أم درمان لمشاهدة سباق للهجن.. نعم سباق إبل.
ينعم السودان بثروة هائلة من الأبل التي تربيها أكثر من قبيلة، أهمها قبيلة الكبابيش بغرب السودان وقبيلة الرشايدة بشرق السودان بجانب قبائل أخرى، ومن إبلهم الإبل المخصصة للحم وأهم أسواقها سوق دراو المصري. وهناك إبل مخصصة للحمل (إبل تمريح وتوليد وسعاية)، وهناك إبل يربونها ويدربونها للسباق ومن أهم مقوماتها خفة الوزن وصغر الحجم وأنها تمتلك أرجلا طويلة وسريعة. ولهذه النوعية، كإبل العنافي والفياض والبشاري، سمعة لا تضاهى في دول الخليج خصوصا السعودية والإمارات وقطر.
عرفت تلك القبائل وغيرها سباق الإبل منذ قديم الزمان كممارسة تقليدية أسرية تقام في المناسبات الاجتماعية تنافسا بين الفرسان، ومن ثم تحول الأمر لتجارة فظهرت اتحادات وقيادات وعمليات بيع وشراء وسباقات أسبوعية منتظمة تعتمد على وسائل تقنية حديثة استبدلت صغار الرعاة والفرسان من أبناء القبائل ممن كانوا يمتطون الإبل بـ«روبوتات» وأجهزة إلكترونية صغيرة يتم التحكم فيها من سيارات تتابع السباق جريا من خارج المضامير التي تتسابق فيها الهجن، وتلك مهارة تتطلب شغفا وتدريبا.
خلافا لبقية السباقات سواء سباقات السيارات والرالي أو الخيول حيث يقتصر الجري على المتسابقين فقط، فإن سباقات الهجن تشهد جري قطاعات أخرى تركض محاذية للإبل المتسابقة. ومن الملاحظ كيف يتابع كثيرون السباقات وهم حفاة ويلحقون بالإبل بينما تندفع سيارات رباعية الدفع جريا في محاذاة الإبل حتى يتم تحريك الجهاز الإلكتروني الذي «يعتقد» الجمل أنه فارس يحثه على الركض.
قبل الدخول في السباقات يتم تدريب الهجن يوميا ولأكثر من ساعة في أوقات مختلفة، كما يتم الاهتمام بها وتسميتها وإلباسها غطاءات مزركشة تحميها من الهجير وتزيدها جمالا.
هذا ولا تزال سباقات الهجن أكثر شهرة خارج السودان منها داخله، وذلك هو حال محفل سياحي آخر زارته «الشرق الأوسط» عصر يوم جمعة وتسبقه بدوره شهرة دولية بين السياح الأجانب ممن يجذبهم «صراع أولاد النوبة»، وهم شباب قبائل من إقليم كردفان يشتهرون بقوة الأجسام وتناسقها طولا وحجما، انتقلوا للخرطوم لأسباب مختلفة منها توسعة في الرزق أو بحثا عن الأمن والأمان بعد انتشار حروب دمرت ولا تزال تدمر السودان بسبب صراعات لإثنية وسياسية ضد الحكومات المركزية التي لا تعترف باستحالة حكم السودان الواسع مترامي الأطراف من الخرطوم كمركز بدلا عن حكم إقليمي يوفر لكل إقليم فرص تنمية متوازنة.
أشهر حلبات هذا الصراع حاليا موجودة بمنطقة الحاج يوسف شرق الخرطوم، وهذه الأماكن تفتقر لوجود العنصر النسائي فيها.
ومع اشتداد الحماس يزيد المتصارعان من مناوراتهما ولسعاتهما لاستفزاز الخصم ودفعه لارتكاب خطأ جسيم ينتهي برميه أرضا فيلتهب الجمهور حماسا معبرا عن إعجابه بمزيد من الهتاف والتوجيهات والإرشادات، بل ويرمي بعضهم نقودا، فيما يسارع آخرون لحمل الفائز ما إن تنهي صفارة الحكم الجولة.
يطلق المتصارعون على أنفسهم أسماء هي انعكاس للسياسة العالمية والداخلية، وهناك من يسمي نفسه «دمار شامل» و«دولار» و«المديرية»، فيما قال مصارع شاب لا يزال تحت التمرين، لـ«الشرق الأوسط»: «كنت أفكر في اسم أوباما، لكني أعتقد أن بوتين أقوى، خاصة أن العالم حلبة مصارعة وبوتين مصارع متمرس».