تقرير عن شخصية ابن الرومي

ضآحكة مستبشرة

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
27 جويلية 2014
المشاركات
15,118
نقاط التفاعل
39,538
النقاط
13,026
محل الإقامة
العاصمة
الجنس
أنثى
المقدمة :
ليس من السهل الكشف عن أحوال الشاعر الشخصية وما يمرّ به من دقائق الأمور من خلال شعره ؛ وذلك لأن الشعراء غالبًا يتجنبون ذكر همومهم الشخصية ودقائق حياتهم في شعرهم ، لكن شعر ابن الرومي جاء على غير ذلك ، إذ يعدّ شعره بحق انعكاسًا واضحًا لشخصيته وبيئته ، فتجد همومه ومتاعبه وضعف جسمه وما يشعر به من مخاوف يطفو تارة على سطح شعره ، ويستقر تارة أخرى في أعماق شعره ، يُكتشف بالتأويل والتفسير .
فكان شعر ابن الرومي تعبيرًا عن النفس أولاً ، بل لا نكون مبالغين إذا اعتبرنا ابن الرومي مجددًا في ذلك ؛ لأنه ابتعد عن دائرة الرسميات المتعارف عليها عند شعراء عصره أو في العصور السابقة لعصره .
ويبدو ذلك التجديد جليًا في قصائده المدحية التي يجعلها في الغالب مقسمة بينه وبين الممدوح، وإذا كان المتنبي قد قسّم مدائحه بينه وبين الممدوح ، يفتخر في قسمه بنفسه فإن ابن الرومي جعل قسمه مخصصًا للحديث عن همومه ومشاعره وأحاسيسه .
ولا شك أن هذه الحالة الشعرية التي نجدها عند ابن الرومي لها أسباب ومؤثرات ، جعلت شعره صورة صادقة لحياتهِ ومشاعره بعضها عائد إلى البيئة والعصر الذي عاش فيه بما فيه من مناسبات وأحداث وفتن وبعضها عائد إلى طبيعة جسمه وشخصيته ونفسيته ، فخصصتُ المبحث الأول للحديث عن العامل البيئي وقسمته إلى ثلاثة أفرع ، الفرع الأول تحدثتُ فيه عن أثر المناسبات في شعره ، أما الفرع الثاني فتحدثتُ فيه عن ثقافة العصر وأثرها في شعره ، أما الفرع الثالث والأخير فتحدثتُ فيه عن تعبير ابن الرومي عن قضايا خاصة به ، وخصصتُ المبحث الثاني للحديث عن العامل الشخصي ، وقسمته إلى فرعين الأول تحدثتُ فيه عن جسمه وأثره في شعره ، والثاني تحدثتُ فيه عن نفسه وأثرها في شعره .
وسأحاول في هذا البحث تفصيل هذه العوامل التي جعلت من شعر ابن الرومي صورة صادقةً لعصرهِ ولشخصيتهِ .
ولعل من أكبر المشاكل التي واجهتني خلال هذا البحث هو قلة المصادر والمراجع التي تناولت هذه الظاهرة ، وانعدامها كموضوع رئيسي تناوله أحد الباحثين .
أما المنهج الذي سرتُ عليه في بحثي هذا ألا وهو المنهج التكاملي والذي يشمل المنهج الوصفي والنفسي والتاريخي .
المبحث الأول :
* المؤثرات العامة (البيئة والعصر) :ـ
عاش ابن الرومي في عصر مضطرب أشد الاضطراب ، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعقائدياً، كما عاش في بيئة أسرية منكوبة ، بل إن المصائب أحاطت بها من كل حدب وصوب.
وكان لابد لهذا الاضطراب أن ينعكس في شعره ، أو أن يترك آثاره فيه ، وأن يستجيب استجابات مختلفة للواقع الذي عاشه في مجتمعه ، وقد تجلت هذه الاستجابات في الإكثار من أشعار المناسبات كالمديح والتهاني والمراثي ذات الطابع الرسمي، وفي الاستجابة للتطور العقلي الذي شهده العصر العباسي الثاني ، وفي ظهور مفردات أعجمية في شعره ، وفي التعبير عن قضايا خاصة به .
الفرع الأول : المنـاسـبات
استجاب ابن الرومي لأحداث عصره المختلفة وشارك فيها من خلال رصده لها وتعبيره عن مشاعره تجاهها ، وهي مشاعر غير صادقة أملتها طبيعة مهنته بوصفه شاعراً مداحاً يعيش على مهنة الشعر وما فيها من مديح وتهانٍ ورثاء؛ فقد شارك في أحداث عصره مهنئاً بالخلافة وبالوزارة وبولاية العهد، وبالقدوم من السفر ، والشفاء من المرض، وبناء الدُّور ، وبالأعياد المختلفة، وبالزفاف والولادة والخِتان، وأشاد بالأعمال الإيجابية للخلفاء ووزرائهم وقوادهم، كالقضاء على الخارجين على الخلافة، والانتصار على الروم واستعادة ما اغتصبوه من بلاد المسلمين ، والإصلاحات الإدارية والاقتصادية ، كما رثى من مات من أقرباء الخلفاء والوزراء وغيرهم .([1])
ويبدو أن ابن الرومي كان يقصد من هذا الشعر التكسب والمجاملة ؛ لذا نجد شعره ضعيفًا لا يرقي إلى تلك الأشعار التي يعبر فيها عن نفسه .
لكن هناك مناسبة نجد ابن الرومي يعبر عنها تعبيرًا صادقًا وهي ثورة الزنج ؛ والسبب في ذلك أن هذه المناسبة عامة تأثر فيها المسلمون أجمعون ، لذا نجده يمدح المُوَفَّق أخا المعتمد الذي استطاع القضاء عليها بعد ما استمرت خمسة عشر عامًا .
فتأثر ابن الرومي كثيرًا لما أصاب الناس ولما أصاب مدينة البصرة من خراب ، وصوّر ما فعله الزنج بالناس من تعذيب وإذلال ، وما ألحقوه بالبصرة من تخريب في قصيدة طويلة هي من أجمل ما قيل في رثاء البلدان ؛ لأن ابن الرومي رثاها من خلال إحساسه بالفاجعة التي أصابتها وأصابت أهلها ، ومن خلال خوفه من الشر والموت والدمار .
وقد صوّر في هذه القصيدة خراب المدينة وتشرد أهلها ، وما لحقهم من شر ، وتأسّى على تلك المدينة العظيمة وتذكر ماضيها الزاهر يقول : ـ
ذاد عن مُقْلَتـــي لذيذَ المنامِ

شُغْلُها عنه بالدموعِ السِّجَامِ([2])
أيّ نومٍ مِنْ بعدِ ما حَلَّ بالبَصْـ

ـرَةِ مِنْ تِلْكُمُ الهَنَاتِ العِظام؟([3])
أيّ نومٍ من بعدِ ما انْتَهَكَ الزَّنْـ

ـجُ جِهاراً مَحَارِمَ الإسلام؟
وينتقل إلى الحديث عما أصاب الناس على أيدي الزنج من قتل وتشريد، ويفصّل في كل مشهد على عادته في التفصيل ؛ فقد باغت الزنج أهل البصرة وهم نيام ، وأعملوا فيهم السيف، ولم يراعوا كبيراً ولا صغيراً ، ولا رجلاً ولا امرأة، بل إنهم بالغوا في إلحاق الأذى بالناس؛ فاغتصبوا العذارى علانية ، وفضحوا النساء المصونات المحجبات ، وفرقوا بين أفراد الأسرة الواحدة بين قتل وسَبْيِ واغتصاب .([4])
ومن هنا يكون مديحه للموفق عِرفانًا بالفضل وإحقاقًا للحق ، وليس مديح مجاملة أو تكسب ، فقد رأى ابن الرومي في الموفق فارساً مغواراً لا يخاف الأعداء مهما بلغوا من قوة ، وهو رجل ترك نعيم العيش ورغده والخمر والنساء لغيره ، وسَمَتْ هِمَّتُهُ إلى قيادة الجيش وإعداده للفتك بأعداء الدين ، لذا انتصر عليهم وشتت شملهم .
وقد كان الموفق كما قال ابن الرومي تماماً فارساً مغواراً حمل هَمَّ الخلافة، واستطاع أن يقضي على ثورة الزنج وعلى تسلط القواد الأتراك، فلم يجرؤوا على ارتكاب المظالم والاستبداد بالسلطة ما دام حياً .([5])
وهناك أمثلة كثيرة تبين اهتمام ابن الرومي بالمناسبات مثل رثاءه لأبي الحسين يحيى بن عمر بن حسين بن علي ، ومدحه لـ أحمد بن ثوابه ، وإسماعيل بن بلبل وزير المعتمد ، وأمير خراسان ، وهجاءه لـ صاعد بن مخلد ، وأبي حفص الوراق .([6])
الفرع الثاني : ثقـافة العصـر
تثقف ابن الرومي بثقافات عصره المختلفة ، فلسفية وغير فلسفية ، وبرع فيها، ولاسيما الاعتزال([7]) ، وقد تبين من خلال ديوانه معرفة بذلك ، وتمكنه من أدواته ومنهجه ؛ لأنه لون من ألوان الفكر الخصب .
وقد بلغ ابن الرومي من تلك الثقافات الغاية حتى قيل : إن الشعر كان أقل أدواته. وكان لابد لتلك الثقافة من أن تظهر في شعره ، وتتجلى في أمورٍ منها الخصب في المعاني فنجد في شعر ابن الرومي معاني كثيرة جدًا ، غنية وعميقة ، تدل على تمكنه من ناصية الفلسفة والمنطق في عصره .
لكن ابن الرومي لم يستطع أن يقدم الفلسفة والمنطق دائماً في إهاب الفن ، بل إنه كان يقع أحياناً فريسة للمعنى الفلسفي من غير أن يقدر على تذليله لفنه ، فيبدو المعنى نابياً وبعيداً عن روح الشعر .
من ذلك قوله يمدح([8]) :ـ
إذا صَبَتْ زُهْرَتُهُ صَبْوَةً قال لها هِرْمِسُهُ هَنْدِسِ
وإن عَدَا هِرْمِسُهُ حَدَّهُ قالت لـه زُهْرتُهُ نَفِّس
"والزُّهْرَةُ هي رَبّةُ الجمال واللهو، وهِرْمِس هو اسم عُطارِد عند الفُرْس وهو رَبُّ الكتابة والحكمة... يعني أن ممدوحه يميل مع اللهو والجمال فتهيبُ به الحكمة والمعرفة، ويُرهق نفسه بهذه فتدعوه الزُّهرَةُ إلى التنفيس"([9]) .
وهذا المعنى صعب ، ويبدو التكلف واضحاً فيه ، لكن ابن الرومي آثر أن يقدم ذلك المعنى البسيط تقديماً فلسفياً إظهاراً للمقدرة وإثباتاً للشاعرية والمعرفة بالفلسفة ، وإن جاء كل ذلك على حساب الفن .
أو كقوله يعاتب ممدوحاً تأخّر عليه بالعطاء الذي كان قد وعده به :ـ
كنتَ مِمَّنْ يَرى التَّشَيُّعَ لكنْ مِلْتَ في حاجتي إلى الإرْجاءِ
يريد أن يقول لممدوحه إنك تنكرت لأصدقائك وأرجأت حاجتي لديك فلم تقضها لي، لكنه عبّر عن هذا المعنى من خلال مصطلحين سياسيين دينيين ، أولهما مصطلح التشيع : ويعني تأييد أبناء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأحفاده في حقهم في خلافة المسلمين ، أما المصطلح الثاني وهو الإرجاء : أي لم يكفروا أحداً من أهل السنة والشيعة وغيرهم ، وإنما أرجئوا الأمر كله إلى الله لينظر فيه .([10])
وابن الرومي لا يقبل بعرض المعنى وتقديمه بلا تعليل ؛ لأن التعليل عنده جزء مهم من أجزاء توضيح المعنى([11]) ، فقد تكلم الشعراء ـ قبل ابن الرومي وبعده ـ على الصداقة ورأوا أن الصديق قد يتحول إلى عدو ، لذا يجب الحذر من الصديق أضعاف الحذر من العدو ، لكن ابن الرومي لم يرضَ بتقديم هذا المعنى كما يقدمه غيره ، بل لجأ إلى التعليل والقياس ، فقاس الصديق على الطعام ، والغدر على الداء ، فوجد أن الداء يكون خطيراً عندما يكون داخل الطعام لا نراه ؛ لأننا لو رأيناه ما أكلناه ، وكذلك الصديق الذي يتحول إلى عدو فيأتي خطره من حيث لا نتوقع الخطر:
عَدُوُّكَ مِنْ صديقِكَ مُسْتَفادٌ فلا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّـحابِ
فـإنَّ الداءَ أكثرُ ما تَـراه يَحُولُ مِنَ الطعامِ أو الشَّراب
ثم يتكلم عن كثرة الأصدقاء ، ويرى أن كثرتهم لا تغني شيئاً ، وأن الخير في القليل منهم . وهذا المعنى مألوف ، لكن ابن الرومي لا يرضى به على هذه الصورة ، بل يعلله بقوله : إن البحر على اتساعه وعظمه مالح لا ينفع العطشان ، على عكس القطرة من الماء الصافي العذب([12]) .
ولو كان الكثيرُ يَطِيْبُ كانت مُصاحَبَةُ الكثيرِ مِنَ الصَّوابِ
فَدَعْ عنكَ الكثيرَ فكم كثيرٍ يُعافُ وكم قليلٍ مُسْتــَطاب([13])
وما اللُّجَجُ المِلاحُ بِمُرْوِياتٍ وتَلْقَى الرِّيَّ في النُّطَفِ لعّذاب([14])
وثقافته الواسعة المتنوعة ، وقدرته على الجدل والاحتجاج جعلتاه يقف عند المعنى الواحد المألوف فيفصل القول فيه مادحاً ، ثم يذمه مفصلاً في ذكر عيوبه ، دون أن يخلَّ بالمعنى في كلتا الحالتين .
ومنها استقصاء المعاني ، فثقافة ابن الرومي الواسعة وقدرته على الجدل والحجاج قادته إلى تقصي المعاني واعتصارها اعتصاراً شديداً لا يبقى فيه زيادة لمستزيد ، مع المحافظة على الوحدة العضوية فيها ، فكل بيت يرتبط ـ غالباً ـ بأخيه من قبل ومن بعد ؛ لأن المعنى لا يكتمل إلا إذا قرأنا ما قبله وما بعده ، فالمعاني عنده متولد بعضها من بعض ، ولا سبيل إلى الفصل بينها في كثير من الأحيان ؛ وهذا سبب من أهم أسباب إطالة القصائد في شعره .
وهذا التقصي واضح كل الوضوح في شعره ، لا تكاد تخلو قصيدة منه ، فالشيب مثلاً موضوع تكلم فيه الشعراء كثيراً منذ الجاهلية ، لكن ابن الرومي لم يترك معنى يمكن أن يقال في الشباب والمشيب إلا أتى به ، من خلال تفصيل زائد يعتصر فيه المعنى ولا يترك فيه شيئاً .
من ذلك قوله في رثاء شبابه ، وقد جعله مقدمة لقصيدة مدحية من مئة وخمسة وسبعين بيتاً، منها سبعون بيتاً في رثاء الشباب والتفجع عليه ، وفي هذه الأبيات السبعين يكرر عبارة (يُذَكِّرني الشبابَ...) ثماني مرات ؛ فمرة يذَكِّره الشبابَ عطشُه الطويل إلى رضاب النساء الجميلات فيفصّل القول في ذلك ، ومرة أخرى يذكّره الشبابَ انصرافُ النساء عنه لشيبه ، ومرة ثالثة يذكّره الشبابَ ما فعلته أحداق النساء بقلبه ، وهكذا قبل أن يصل إلى المديح فيقول([15]) :
يُذَكِّرُني الشَّبابَ صَدىً طويلٌ إلى بَــرَدِ الثَّنايا الرُّضـابِ([16])
وشُـحُّ الغانــياتِ عليه إلا عن ابنِ شَبيْبَةٍ جَوْنِ لغُــراب([17])
فإن سَقَّيْنَني صَرَّدْنَ شُـُرْبي ولم يَكُ عن هَوىً بلْ عنْ ِلاب([18])
يذكرني الشبابَ هَوَانُ عَتَبْي وصَدُّ الغانيــاتِ لدى عِتابـي
ومنها أيضًا ظهور مفردات أعجمية ، ففي شعر ابن الرومي مفردات أعجمية ليست بالقليلة ، معظمها فارسي ، وأغلب الظن أن ابن الرومي كان يجريها على لسانه لكثرة ما يسمعها في اليوم من العامة ، ومن المعلوم أن العصر العباسي هو عصر تمازج الأعراق والأمم والثقافات ، أو أنه كان يقولها تظرفاً ومجاراة لذوق معاصريه العام الذي يميل إلى التملّح بالألفاظ الأعجمية .
وأغلب الظن أن جريان الأعجمي على لسان ابن الرومي كان بسبب تأثير البيئة المحيطة به ؛ ولأن في اللغة العربية كثيرًا من الألفاظ الأعجمية منذ العصر الجاهلي،
وقد تأثر الشعراء العرب بهذه الألفاظ ، وأوردوها في أشعارهم .
ومن نماذج الأعجمي في شعر ابن الرومي قوله على سبيل المثال في قصـيدة يمدح بها أبا القاسـم الشِّطْرَنْجِيّ ويعاتبه على مَـطْلِهِ في تنفيذ وعـدٍ كان قد وعده إيـاه
فيقـول([19]) :ـ
تَهْزِمُ الجَمــْعَ أَوْحَدِيّاً وتُلْوي بالصّــَناديدِ أَيَّما إلْــواءِ([20])
وتَحُطُّ الرِّخاخَ بعد الفَرازِيْــ ـنِ فَتَزْدادُ شِدَّةَ اسْتِــعْلاء([21])
غَلِطَ الناسُ لستَ تَلعبُ بالشِّطْـ ـرَنْجِ لكنْ بِأَنْفُسِ اللُّعــَباء
تَقْتُلُ الشَّاهَ حيثُ شِئْتَ مِنَ الرُّقْـ ـعَةِ طَبّاً بالقِتْلَةِ النَّكْــراءِ([22])
غيرَ ما ناظِـرٍ بعيـنِكَ في الدَّ ستِ ولا مُقْبِلٍ على الرُّسلاءِ([23])
فهو يمدحه من خلال مصطلحات الشطرنج ، وهي مصطلحات أعجمية ابتداء من اسم اللعبة (الشطرنج) وانتهاء بأحجارها ورقعتها . ومعاني هذا المديح من المعاني التي جَدَّتْ في العصر العباسي بعد أن كان الرجل يمدح بالقيم المعروفة من كرم وشجاعة ونجدة وحمية وحلم... أما هذا الممدوح فهو بطل في ميدان جديد ، ليس فيه إلا المنافسون من اللاعبين ، وليس فيه أسلحة إلا العقول ، وأرضُ المعركة هي رقعة الشطرنج بأحجارها المختلفة الموزعة بين الجنود والخيول والفرسان والوزراء والملوك، وهذا الممدوح متفوق على أقرانه في لعبة الشطرنج ، فلا ينظر إلى الرقعة أو إلى اللاعبين عندما يلعب ، وكأنه حفظها عن ظهر قلب([24]) .
الفرع الثالث : تعبـيره عن قضـايا خاصة به
التفت ابن الرومي إلى أحواله كثيراً وتأملها وعبّر عنها في شعره ، مبيناً ما لحقه من ظلم وغَبْنٍ على أيدي أبناء مجتمعه ، أو على أيدي الطبيعة التي زادت في مصائبه ونُوَبِهِ ، فقد أشار إلى زرعه الذي قضى عليه الجراد ، وإلى ممتلكاته التي أتى عليها الحريق ، كما أشار إلى محاولات عدة لاغتصاب ممتلكاته ، مرة على يد أحد المتسلطين ، ومرة على يد إحدى النساء ذوات اليد الطولى في الدولة .
وهذا الشعر يضيء جوانب كثيرة في حياة ابن الرومي ، ويساعد في الكشف عن كثير من أخباره التي ضاعت عبر الزمن ، فتغدو أشعاره عندئذ وثيقة تاريخية لا تقل أهمية عما جاء به المؤرخون من أخبار عن ذلك العصر المضطرب .
فقد أتى الجراد على زرعه فقضى عليه ، فلم يجد ابن الرومي إلا ممدوحه يستعطفه على ما أصابه من أضرار فيقول([25]) : ـ
ليَ زرعٌ أتى عليه الجرادُ عادَنـي مُذْ رُزتُهُ العُـوَّادُ
كنتُ أرجو حَصَـادَهُ فأتاه قبل أنْ يَبْلُغَ الحصـادَ حصادُُ
ثم جاء الحريق فقضى على ما بقي من أملاكه([26]) :
وبعدُ فإن عُذري في قُصُوري عنِ البابِ المُحَجَّبِ ذي البَهاءِ
حُدوثُ حَوادثٍ منها حريـقٌ تَحَيَّفَ ما جَمَعَتُ مِنَ الثَّـراء
أُعاني ضَيْعَةً مازلتُ فــيها بِحَــمْدِ اللهِ قِدْماً في عَنـاء
ويقول ابن الرومي يباهي بأصله الرومي أو اليوناني من جهة أبيه([27]) ، وبأصله الفارسي الساساني من جهة أمه ، مشيراً إلى أنه سيصل إلى الأمجاد التي وصل إليها أجداده فيقول([28]) :ـ
إنْ لم أَزُرْ مَلِكَاً أُشْجي الخُطوبَ به فلم يَلِدْنيْ أبو الأملاكِ يونانُ
بل إنْ تَعَدَّتْ فلم أُحْسِـنُ سِياسَتَها فلم يَلِدْنيْ أبوالسُّوَّاسِ ساسان
ثم يرى أن الروم أهل أمجاد وقوة وحكمة ، وأنه وقومه لا يرون وجوههم في المرايا كالنساء ، وإنما يرونها في صفحات السيوف البيض القاطعة فيقول([29]) :ـ
ونحن بنو اليـونانِ قومٌ لنا حِجاً ومَجْدٌ وعِيْدانٌ صِـلابُ المَـعاجِمِ
وحِلْمٌ كأركانِ الجـبالِ رَزانَـةً وجَـهْلٌ تَفادَى منه جِنُّ الصّـَرائِم
وما تتراءى في المَرايا وجوهُنا بل في صفاحِ المُرْهَفاتِ الصَّوارم
المبحث الثاني :
* المؤثرات الشخصية ( جسمه ونفسه ) :
وصف ابن الرومي جسمه ونفسه بكل ما فيهما من عيوب وأوجاع ومآخذ ، وأسرف في ذلك الوصف حتى لم يستطع أحد من الشعراء غيره اللحاق به في هذا المجال ، بل إن معظم شعره يمكن أن يُحمل على هذا الوصف .
وثمة نماذج شعرية كثيرة له في وصف جسده بما فيه من علل وعيوب ، ونفسه بما فيها من مخاوف وأوهام وظنون ، لكنني سأقف عند شاهد واحد هاهنا يصور فيه ابن الرومي جملة من المصائب التي نزلت به في جسده وفي نفسه ، وهذه المصائب هي التي ركز عليها في شعره أكثر من غيرها ، وفصل القول فيها .
كقوله يمدح الوزير القاسم بن عبيد الله ويعاتبه ، في قصيدة تتألف من مئتين وستة عشر بيتاً ، ثلثاها في تصوير سوء حاله فيقول([30]) :ـ

أنا مَولاكَ أنت أَعْتَقْتَ رِقّي بعدما خِفْتُ حـالةً نَكْـراءَ
فَعَلامَ انصرافُ وجهِكَ عني وتَنَاسـيْكَ حاجتـي إلْغـاء
أنا عارٍ مِنْ كلِّ شيءٍ سوى فَضْـ لِكَ لا زلْتَ كِسْوَةً وغِـطاء
أنا مَنْ خَفَّ واسْتَدَقَّ فما يُثْـ ـقِلُ أرضاً ولا يَسُدَّ فضاء([31])
أنا لَيْثُ اللُّيوثِ نَفْساً وإنْ كُنْـ ـتُ بجسمي ضَئِيْلَةً رَقْشاء([32])
لستُ باللُّقْطَةِ الخَسِيْسَةِ فاعرِف ليَ قَدْري واسألْ به الفُهَماء([33])
أنا ذاك الذي سَقَتْهُ يَدُ السُّقْـ ـمِ كُؤوساً مِنَ المُرَارِ رِوَاء([34])
ورأيتُ الحِمامَ في الصُّوَرِ الشُّنْـ ـعِ وكانتْ لولا القضاءُ قَضاء
ورَماهُ الزمــانُ في شُقَّةِ النَّفْـ ـسِ فَأَصْمَى فُـؤَادَهُ إصْماء([35])
وابتلاهُ بالعُسْرِ في ذاكَ والوَحْـ ـشَةِ حتى أَمَـلَّ منه البَـلاء
وثكِلْتُ الشبابَ بعد رَضَاعٍ كان قبـلَ الغِـذاءِ قِدْماً غِذاء
كلُّ هذا لَقِيْتَهُ فَأَبـَتْ نَفْـ سِيَ إلاَّ تَعَــزُّزاً لا اخْتـِتاء([36])
وأَرى ذِلَّتـي تُرِيْكَ هَوَاني ودُنُوِّي يَزيدُنـي إقْصــاء
إن هذه الأبيات تصور حقاً حال ابن الرومي تمام التصوير ، وتعبر عما يحسه من هموم وعذاب في جسده وفي نفسه ، وقد توجه بهذه الأبيات إلى ممدوحه الذي وصفه بأنه سيده ومالك أمره الذي سيقضي له حوائجه ، ثم يشير إلى أن ضعف بنيته لا يؤثر في همته وشجاعة نفسه وإبائه ، وأنه ذو أصل عريق، وليس لقيطاً لا يُعرف والدُه أو أصله، وهو الذي تكالبت عليه الأمراض والعلل حتى طحنت جسده ، وهو يكره الأشكال القبيحة ويراها كالموت الذي يكرهه ولا يحب لقاءه ، وهو فوق كل ذلك مُعْسِرٌ وحيد في حياته ، فقدَ الشباب في سن مبكرة . لكن كل ما أصابه لم يجعل ممدوحه يَحِنُّ عليه أو يقدّر سوء حاله ، بل ظن أن ما به من تذلل وخضوع له هو مِنْ هَوانِ نفسه ، فما زاده ذلك التذلل إلاَّ إبعاداً له عن مُجالسه وتنكراً له .
وهذه المعاني تصور ما أصاب ابن الرومي في حياته ، وإن كان فيها بعض المبالغة، لكن هذه المبالغة تخفي خلفها حقيقة ما أصابه .
وقد أثرت هذه الأوضاع التي ذكرها ابن الرومي في شعره كثيراً ، لكن تأثيرها لم يكن واحداً ، بل أخذ منحنيين اثنين :ـ أولهما التعبير عن هذه الأوضاع تعبيراً حقيقياً من خلال مئات القصائد والمقطوعات التي تدور في معظمها حول هذه المعاني، وثانيهما تجاوز هذه المعاني والبحث عن معانٍ مناقضة لها على سبيل التعويض، فادعى أشياء لم تكن فيه ، وصور نفسه بصورة بعيدة عما هي عليه ، كما حوّل ضعف بنيته إلى قوة مبالَغ فيها ، ولم يقف عند هذا الحد بل أثرت أحواله الجسدية والنفسية في طبيعة شعره أيضاً .
الفرع الأول : جسـمه
كان ابن الرومي ضعيف البنية ، يُغَرْبِلُ في مشيته([37])، ويستند على العصا في آخر أيامه، ضعيف البصر والسمع ، يشكو من ضعفٍ جنسي ، ومن الشيب الذي غزا رأسه في سن الشباب ، والصلعِ ، ودقِّ عوده ، وتقوّسِ ظهره ، واختلالِ أعصابه ، واضطرابِ قواه ، وضعفِ سمعه ، وشحِّ بصره ، وكانت هذه المصائب تترى على الشاعر ، وأصداؤها جميعًا تتردّد في قصائده ، علاوة على نهمه الشديد إلى الطعام([38])
وكما ذكرنا سابقًا بأنه كان أقرع الرأس ( أصلع ) ، وقد وصف ذلك في شعره بقوله([39]) :
تعممت إحصـانًا لرأسي بـرهة من القر يومًا والحرور إذا سفعْ
فلـما وهي طـول التعـمم لمتى فأزرى بها بعد الأصاله والفرَع([40])
عزمـت على لبس العمامة حيلة لتستر ما جرت على من الصلع
وكان له شأن مهم مع أصحاب اللحى الطويلة ؛ لأنه كان يكره إطالة اللحية ، ويراها تعبيراً عن الحمق والنقص في صاحبها ، وهذا أمر مألوف من شاعر ينفر من مظاهر القبح في كل شيء .
لكن ابن الرومي في هجومهِ على أصحاب اللحى الطويلة كان يشعر بعقدة النقص تجاههم ؛ لأن لحيته هو كانت قصيرة ، ولا سبيل إلى إطالتها ، فلابد إذاً أن يقصروها هم .([41])
ومن هاهنا نستطيع أن نفهم سر هجومه على أصحاب اللحى الطويلة ؛ لأن نصف شبر منها يكفي علامة على الرجولة كما يقول ، فما الداعي إلى تلك الإطالة؟
أو فَقَصِّرْ منها فَحَسْـبُكَ منها نِصْـفُ شِبْرٍ علامةَ التذكيرِ([42])
فالقضية لم تعد نفوراً من منظر قبيح فحسب ، بل صارت تعويضاً نفسياً ، وتعالياً على تهمة قد تُوجَّه إليه بسبب قصر لحيته ، فبادر بالهجوم على الآخرين قبل أن يهاجموه هم ، بل راح يُزَيِّنُ في أعينهم اللحية القصيرة ، حتى لا يظن أحد منهم أن قِصَرَ لحيته عيبٌ فيه، بل يُظهر للآخرين أنه هو الذي يريدها أن تكون قصيرة ، فكان كمن يقول إن العنب حصرم ؛ لأنه لا يستطيع الوصول إليه .
وما أروع الشاعر الفنان ، إذا أجاد البُكاء فأبكى ، وإذا أحسن الضحك فأضحك ، وإذا أثار الاشمئزاز من القبح ، حتى ولو تجسّد القبح في ذاته([43]) .
فيقول هازئًا بنفسه :
شُغفت بالخرد الحسان وما يصلحُ وجـهي إلاّ لذيَ وَرعِ
وقوله :
عزمتُ على لبس العمامةِ حيلةً لتستُر ما جرَّت عليَّ من الصَّلعِ
الفرع الثاني : نفـسه
انعكست نفس ابن الرومي في شعره تمام الانعكاس ، وأثرت فيه تأثيراً واضحاً ، حتى ليصِحّ أن نقول : إننا لا نستطيع فَهَم شعره ما لم نفهم نفسه حق الفهم ، وانعكاسُ نفسه في شعره أخذ عدداً من الأشكال أو المظاهر ؛ منها ما كان تعبيراً صادقاً عن تلك النفس في مختلف أحوالها ، ومنها ما كان تعويضاً عن هزائم وانتكاسات نفسية أخذت شكل ادعاءات مختلفة .
ولو حاولت أن تستكشف نفسية ابن الرومي من خلال شعره لداخَلَك شعوران لا سبيل إلى الريبة فيهما : أولهما ، أن ما تقرأ من شعره ، هو تاريخ حياة ، وسجل أحداث ، وصورة نفسيته جرّحها الدهر وأذابها ، فبات صاحبُها لا يتحرج عن وصف كل ما في شخصه من مساوئَ أو محاسنَ على حدٍّ سواء .
وثانيهما ، أنك تعيش في جوّ من الإنسانية العميقة التي تخفق فيها شرايين قلب نابض بالحياة ، مفعم بحرارتها وحركتها .
ونفسية ابن الرومي تتجلَّى ، من خلال شعره في أكثر من صوره فهو نهمٌ متهالك على اللذائذ لا عن شراهة مادية رخيصة ، بل عن إحساس دفين بالحرمان ، وتوقف دائب إلى الرِّيّ من ظمأ ، والشبع من سغَب فيقول([44]) :
إذا برَّكت في صـوم لقوم دعوت لهم بتطويل العـذاب
وما التبريك في شهر طويل يطاول يومه يـوم الحساب ؟
وهو دقيق الإحساس متيقّظ ، متنّبه أمام كل لونٍ من ألوان الجمال المادي أو المعنوي الذي يوازي الحياة ، في اعتقاده والذي يعتبره منبه اللذة ، بحيث لا معنى للجمال بلا لذة ، ولا معنى للحياة بلا جمال فهو شديد النفور من القبح ، مبالغ في نفوره ثائرٌ في كل شكل من أشكال الحياة .([45])
كان ابن الرومي مرهف الحس ، يهتاج لأدنى سبب مما قد لا يهتاج له الآخرون من الأسوياء ، فقد كان يكبّر الأشياء ويضخمها لينفّر الناس منها ؛ لأنه هو ينفر منها لقبحها في ذاته أو لقبحها في نظره ، كما تجلت رهافة حسه أيضاً في ضيق صدره وسرعة غضبه وتبرمه بالناس وعدم القدرة على تحملهم .
وكان ابن الرومي يخاف الموت خوفاً شديداً ملك عليه نفسه ، لكثرة مَنْ وَدَّع من أحباب وأهل وأصحاب ، حتى أيقن أخيراً أنه مخصوص بالمصائب ، وأن الموت يقصده دون غيره ، لذا أجاد إجادة عظيمة في المراثي ، فهو الموضوع الأقرب إلى نفسه البائسة التي طحنتها المصائب ؛ فقدْ فَقَدَ كلَّ من يحب في الدنيا ، أباه وخاله وخالته وشقيقه وأولاده الثلاثة وزوجته وأمه ، ثم فقد المغنية (بستان) التي كان يأنس بها ويرتاح إليها ، وفقد صحته وشبابه . وهذا الشعور العميق بالفَقْدِ ، وما جُبلت عليه نفسه من مخاوف وتَطُّير ، وما لحقه من مصائب في ممتلكاته جعل مشاعره ترق وتصفو ليحلق عالياً في فن الرثاء .
ولعل أهم موضوع من موضوعات الرثاء التي شغلته وملأت ديوانه بنغمات حزينة رحيلُ الشباب عنه في سن مبكرة قبل أوان الرحيل عند أقرانه ، فقد أصابه الشيب وهو في الحادية والعشرين من عمره كما يقول([46]) :ـ
فَظُلْمُ الليـالي أنهن أَشَبْنَني لعشرينَ يَحْدُوهنّ حَوْلٌ مُجَرَّمُ([47])
ويقيم ابن الرومي مآتم على شبابه الذي رحل عنه فرحلت معه البشاشة والسعادة والهناء، لذا يطلب من الناس أن يعزّوه به ، ويتفنن في عرض حزنه على الشباب وبيان أثر رحيله في نفس .([48])
ولا أبالغ إذا قلت إن بكاءه على شبابه أخذ ثلث ديوانه ، وأخذت الشكوى الثلث الآخر وتوزع الثلث الأخير على هجائه وما تبقى من مديحه التي توجه بها إلى الممدوحين ، بداعٍ وبغير داعٍ ، وقد يقدم به لقصائده في المديح ، وقد يجعله غرضاً مستقلاً يُدِير حوله القصائد الطويلة .
ويبكي ابن الرومي الشباب في قصيدة بديعة قلَّ نظيرها في تاريخ الأدب العربي ، من خلال مشهدين رائعين : أولهما مشهد الشمس الآفلة التي حان موعد غروبها ، فودعت الدنيا والكائنات الحية لتقضي نحبها ، بين بكاء تلك الكائنات وحزنها على فراقها ، وثانيهما مشهد الطائر الصريع الذي سقط في شباك الصياد فيما كان يبحث عن طعامه وهو وسط جماعته من الطير .
يريد ابن الرومي أن يقول في هذه القصيدة البديعة إن الشباب رحل ولن يعود مثلما رحلت تلك الشمس فرحل معها يوم لن يعود مرة أخرى ، ومثلما مات ذلك الطائر ولن يعود إلى الحياة ، أو إلى حريته وسط أقرانه ، وقد افتتح القصيدة بالبكاء على الشباب فيقول([49]) :ـ
بكيتَ فلم تَتْرُكْ لِعَيْنَيْكَ مَدْمَعا زَماناً طَوَى شَرْخَ الشبابِ فوَدَّعا
ثم يبدأ بتوضيح حزنه على فقد الشباب من خلال مشهد الشمس الآفلة ، فيقول :
إذا رَنَّقَتْ شَمْسُ الأَصيلِ ونَفَّضَتْ على الأُفـقِ الغربيِّ وَرْساً مُذَعْذَعا
ووَدَّعَتِ الدُّنـيا لِتقْضِيَ نَحْبَـها وشَـوَّلَ باقـي عُمْـرِها فَتَشَـعْشَعا
ولاحَظَتِ النُّـوَّارَ وهْي مَريضةٌ وقد وضَعَتْ خَدّاً إلى الأرضِ أََضْرَعا
كما لاحـظتْ عُوَّادَهُ عَيْنُ مُدْنَفٍ تَوَجَّـعَ مِنْ أَوْصـابِهِ مـا تَوَجَّـعا
وظلتْ عُيونُ النُّوْرِ تَخْضَلُّ بالنَّدَى كما اغْـرَوْرَقَتْ عينُ الشَّجِيِّ لِتَدْمَعا
يُراعِيْنَها صُـوْراً إليـها رَوانِياً ويَلْحَظْنَ ألحاظاً مِنَ الشَّـجْوِ خُشَّعا
وبَيَّنَ إِغْـضاءُ الفِـراقِ عليهما كأنهـما خِلاّ صـَفاءٍ تَوَدَّعـا
فهو يرسم منظراً رائعاً للغروب ، حيث لم يبق من عمر الشمس إلاَّ القليل ، ومال لونها إلى الاصفرار وكأنها أمسكت بيدها ورساً أحمر مصفرّاً ونثرته على الأفق (لون الشمس عند الغروب) ، ومضت مودعة الدنيا والكائنات الحية ، لكن تلك الكائنات حزنت لفراقها ، ولاسيما النوار ، تلك الزهرة البيضاء الرقيقة التي آلمها الفراق فانحنت ووضعت خدها على الأرض متضرعة إلى الشمس ألا تغيب ، مثلما يتضرع المريض إلى زواره لئلا يتركوه وحيداً مع أحزانه ، وكأنه يستمد مِنْ بقائهم الشفاء، وتحول الجو إلى مأتم حقيقي ، إذ راحت زهور النوار تبكي بحزن على فراق الشمس، وامتلأت محاجرها بالندى كما تمتلئ عيون الحزين المهموم بالدمع ، وظلت هذه الزهور تراقب الشمس وتتجه نحوها مودعةً إياها بألحاظ حزينة خاشعة ، وقد ظهرت آثار الفراق على الشمس والنوار وكأنهما خلان متصافيان جمعتهما المودة والمحبة ثم افترقا .
وهذا المشهد بديع حقاً ؛ لأن الشاعر لجأ إلى التشخيص وإخراج ما بداخله من مشاعر الحزن العميق على الشباب ، فقد أقام علاقة إنسانية عفيفة بين الشمس والكائنات الحية ولاسيما النوار ، وجعلهما إنسانين يستجيبان للمحبة ويتجرعان غصص الفراق .
وفي هذا المشهد يجمع ابن الرومي كل عناصر الحزن والفجيعة على شبابه الراحل؛ من مشاعر حزينة أقامها بين الشمس الراحلة والكائنات الحية ولاسيما النوار ، وألوانٍ تجلت في لون الشمس المصفرّ عندما تميل إلى الغروب ، وفي لون الورس الأحمر المصفرّ ، وفي لون المرض الذي أصاب النوار وذلك المُدْنَف ، وفي مفردات الحزن التي حشدها في هذا النص مثل : ( ودعت، نَحْبَها، مريضة، أضرعا، عُوَّاده، إغضاء الفراق، تودَّعا) ، وكل ما في هذا المشهد حزين ؛ وداعٌ ، ودموعٌ ، وحزنٌ ، واصفرارٌ ، وتضرُّعٌ ، وزاد فيه الشاعر بأن جعل رويَّ القصيدة حرف العين الممدودة بألف (عا) ، وكأنه يصرخ في وادي الحياة بأعلى صوته ليعيد إليه شبابه الراحل ، فلا يسمع إلا الصدى ، لكن ابن الرومي أبى إلا أن يُظْهِرَ تشاؤمه وتطيره في هذا المشهد ؛ فلم يَرَ في رحيل الشمس بدايةً ليوم جديد ، وإنما رأى في رحيلها موتاً لها ، بل موتًا للكائنات الحية والحياة كلها .([50])
لكن إجادته العظمى في المراثي تجلت في قصيدته التي رثى فيها ابنه الأوسط محمداً، وقد مات هذا الابن وهو صغير لم يتجاوز سن الطفولة بسبب مرض أصابه ، لم يشر ابن الرومي إلى نوعه ، وإن أشار إلى بعض أعراضه ، كالصُّفرة والنزف .
وقد بدأ ابن الرومي قصيدته بذكر البكاء ، وكأنه يفتتح به حزنه على ولده ، ثم رأى أن هذا البكاء سيشفيه من أحزانه ، لذا يأمر عينيه بأن تجودا بالبكاء على ابنه الذي يَعْدِلُ عنده تلك العينين ، لكن ذلك البكاء لن يعيد محمداً إلى الحياة فيقول([51]) :ـ
بكاؤُكُما يَشْفي وإنْ كان لا يُجْدِي فَجُودا فقد أَوْدَى نَظِيْرُكُما عندي
ثم يرى أنّ الموت تَوَخْى ابنه هو من بين كل الأبناء ، على عادته في توهم الاضطهاد والشعور بأنه مخصوص دون غيره بالظلم ، وهذا الولد كان أوسط إخوته سناً ، فهو كالجوهرة الكبيرة الغالية التي تكون في وسط العقد ، لكن الموت قصد هذه الجوهرة دون غيرها ، ليفرط عقد ابن الرومي فيقول :
تَوَخَّى حِمَامُ الموتِ أَوْسَطَ صِبْيَتي فَلِلَّهِ كيف اختارَ واسِـطَةَ العِقْدِ
طَواه الرَّدى عني فأضحى مَزارُه بعيداً على قُرْبٍ قريباً على بُعْد
والأمر في البيت الثاني ليس لعباً بلاغياً ، بل هو حقيقة يؤمن بها ابن الرومي ؛ لأن الحياة في نظره قائمة على أساس التناقض كما أشرنا من قبل ، فابنه مَطْوِيّ تحت طبقات الثرى ، بعيدٌ كل البعد عنه على الرغم من قرب قبره ، فهو قريب بعيد ، بعيد قريب([52]) .
وابن الرومي كما مر بنا في هذه القصيدة يعتقد أن الموت توخَّى ابنه توخّياً من بين كل الأبناء ، أي أن هذا الموت قصده هو دون غيره من الآباء ، وهذا الاعتقاد مقصود بالظلم مخصوصٌ به وحده راسخُ في نفسه تمام الرسوخ([53]) .
الخاتمة
نتوصل مما سبق إلى أن شعر ابن الرومي كان صورة صادقةً لحياته بكلّ ما فيها ، حتى كأن شعره مرآةٌ صافية تعكسُ عصره وبيئته وشخصيته .
فقد عبّر عن مناسبات عصره الكثيرة من حروب وفتن وتعاقب خلفاء ، وبرزت في شعره تقافات عصره المختلفة المتمازجة كما عبّر عن طبيعة جسمه وشخصيته ونفسيته ، فانعكس ما يعانيه من ضعف جسدي وعيوب خلقيّة في كثير من قصائده حتى بات يقسم مِدْحَته بينه وبين ممدوحه يعبّر في قسم كبير منها عن مشاعره وهمومه .
ولاحظنا من خلال التعبير عن هذه المعاني قدرة ابن الرومي على الغوص في أعماق المعنى واستقصائه من كل جوانبه ، وتعليله لمعانيه وتشخيصه لمظاهر الطبيعة حتى كأنها شخوص مفعمة بالحياة تشارك الشاعر أحاسيسه ومشاعره .
وأنا ، في بحثي هذا ، أَشهدُ أنّني لم أَدّخر وُسعًا في إعطاء المعلومة الصحيحة ، وبذل الجهودِ المضينه للوصول إلى الحقيقة ، غير حاسبٍ لصحَّتي ووقتي حسابًا ومُردّدًا قول ابن الأثير في المثَل السّائر " ليس الفاضِلُ مَن لا يَغلطُ ، بل الفاضِلُ من يُعَدُّ غَلَطه " .
وبهذا ....
أتمنى أن أكون قد وفقت في تقديم بحثي هذا ، وإن كنت قصّرت عن ذلك، فلأن النقص من طبائع البشر .

المصادر والمراجع
أولاً : المعاجم
1 ـ لسان العرب ، ابن منظور أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأفريقي المصري ، المجلد التاسع ، ط1 ، 1955م ، دار صادر للطباعة والنشر ، بيروت .
2 ـ المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية ، سنة النشر (بلا) ، جمهورية مصر العربية ، ج1 ، دار الدعوة .
ثانيًا : المصادر
1 ـ تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ج12 .
2 ـ تاريخ الطبري ( تاريخ الرسل والملول ) ، محمد بن جرير الطبري ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف ، مصر ، عشرة أجزاء ، سلسلة ذخائر العرب 30 .
3 ـ الجامع في تاريخ الأدب العربي ، حنا فاخوري ، دار الجيل ، بيروت ، ط2 ، 1995م .
4 ـ الصناعتين الكتابة والشعر ، تحقيق : مفيد قميحه ، دار الكتب العلمية ، ط2 ، 1984م .
5 ـ ديوان ابن الرومي ، علي بن عباس بن جريج ، تحقيق : حسين نصار ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، ط2 ، 1993م .
6 ـ ديوان ابن الرومي ، تحقيق : عبد الأمير مهنا ، مكتبة الهلال ، بيروت .
7 ـ معجم الشعراء ، المرزباني ، تحقيق : عبد الستار أحمد فراج ، دار الجيل ، بيروت ، ط1 ، 1991م .
ثالثًا : المراجع
1 ـ ابن الرومي الشاعر المغبون ، د . جورج عبدو معتوق ، دار الكتاب اللبناني ، مكتبة المدرسة ، ط2 ، 1984م .
2 ـ ابن الرومي الشاعر المغبون ، د . محمد حمود ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، ط1 ، 1994م .
3 ـ ابن الرومي ، خليل شرف الدين ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت ، 1984م .
4 ـ ابن الرومي ، د . خليل مردم بك ، دار صادر ، بيروت ، ط1 ، 1988م .
5 ـ ابن الرومي ، د . سمير محمد الكبريت ، دار المعرفة ، بيروت ، ط2 ، 1995م .
6 ـ ابن الرومي ، محمد عبد الغني حسن ، دار المعارف ، القاهرة ، 1860م .
7 ـ ابن الرومي حياته من شعره ، عباس محمود العقاد ، سلسلة كتاب الهلال ، العدد 214 ، 1969م ، صادر عن دار الهلال ، القاهرة .
8 ـ ابن الرومي شاعر الغربة النفسية ، د . فوزي عطوي ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، ط1 ، 1989م .
9 ـ ابن الرومي عصره حياته نفسيته فنه من خلال شعره ، د . عبد المجيد الحرّ ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط1 ، 1992م .
10 ـ ابن الرومي فنه ونفسيته من خلال شعره ، د . حاوي إيليا سليم ،
11 ـ ابن الرومي في الصورة والوجود ، د . علي شلق ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، 1982م .
12 ـ قراءة في ديوان ابن الرومي ، د . كامل سعفان ، دار المعارف ، القاهرة ، 1986م .
(1) :ـ انظر ديوان ابن الرومي ، تحقيق : د . حسين نصار ، طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، ط2 ، 1993م ، 1 : 232 ، 331 ، 298 ، 341 ، 347 ، 2 : 637 ، 668 ، 789 ، 3 : 954 ، 968 ، 5 : 1957 .
(1) :ـ السِّجَامِ : التي تسيل ، انظر ديوان ابن الرومي ، 6 : 2377 .
(2) :ـ الهنات : جمع هَنَة وهي الأشياء ، أنضر : المصدر السابق .
(3) :ـ ديوان ابن الرومي : 6 : 2377 ، وانظر أيضًا : ابن الرومي في الصورة والوجود ، د . علي شلق ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، 1982م ، ص237 ـ 242 .
(1) :ـ المصدر السابق .
(2) :ـ ابن الرومي الشاعر المغبون ، د . محمد حمود ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، ط1 ، 1994 ، ص64 + 88 + 109 ، وانظر أيضًا : ابن الرومي في الصورة والوجود ، ص260 ـ 263 .
(3) :ـ المعتزلة :ـ في اللغة تعني فرقةٌ من المتكلمين يخالفون أهل السنة في بعض المعتقدات ، على رأسهم واصل بن عطاء الذي أعتزل بأصحابه حلقة الحسن البصري. أما في الاصطلاح هم أصحاب فكر حر مستنير منفتح على كل الثقافات العربية والأجنبية ولا سيما اليونانية ؛ لأنهم تسلحوا بتلك الثقافات للرد على أصحاب النحل والأديان الوضعية والمُلْحِدَة والزنادقة . انظر : المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية ، جمهورية مصر العربية ، القاهرة ، ط2 ، 1972م ، ج2 ، ص629 .
(1) :ـ ديوان ابن الرومي : 3 : 81283 .
(2) :ـ ابن الرومي حياته من شعره ، عباس محمود العقاد ، سلسة كتاب الهلال ، العدد 214 ، 1969م ، صادر عن دار الهلال ، القاهرة ، ص88 ـ 89 .
(3) :ـ ديوان ابن الرومي : 1 : 71 .
(4) :ـ وهي سمة واضحة في شعر ابن الرومي ، وله قصيدة يبين فيها علّة حبه للوطن ، فهو لا يكتفي بتقديم المعنى بل يعلله ، انظر : معجم الشعراء ، المرزباني ، تحقيق : عبد الستار أحمد فراج ، دار الجيل ، بيروت ، ط1 ، 1991م ، ص146 + 147 .
(1) :ـ ديوان ابن الرومي : 1 : 231 ـ 232 .
(2) :ـ يعاف : يترك .
(3) :ـ اللّجج : جمع لُجَّة : وهي معظم البحر وتردد أمواجه . النّطف : جمع نُطْفة : وهي الماء الصافي أو القطرة منه .
(1) :ـ ديوان ابن الرومي : 1 : 257 .
(2) :ـ صَدى : العطش الشديد ، الثَّنايا : الأسنان ، الرُّضابِ : الريق . انظر : المعجم الوسيط ، ص536 + 122 .
(3) :ـ شُحُّ : بخل ، الغانيات : النساء الجميلات ، ابن شبيبةٍ : الشباب ، جَوْنِ : اسود ، جون الغراب : هنا كناية عن الشباب ؛ لأن الغراب اسود اللون وكذلك الشعر أيام الشباب .
(4) :ـ صَرَّدْنَ : سقينني جرعات متفرقة أو قلّلن في السقاية ، خِلاب : مخادعة وافتتان قلب .
(1) :ـ ديوان ابن الرومي : 1 : 66 ـ 67 .
(2) :ـ تلوي : تصرع وتهزم ، الصناديد : الشجعان الشرفاء .
(3) :ـ الرِّخاخ : جمع رُخَّ ، وهي حجرة من حجارة الشطرنج ، الفرازين : جمع فِرزان : وهو الوزير .
(4) :ـ الشاه : الملك ، القِتْلة : أي النظراء في القتال وغيره ، وهنا يريد خصومه من اللاعبين .
(5) :ـ الدَّست : رقعة الشطرنج ، الرُّسلاء : الناس الذين يلعبون معه .
(1) :ـ انظر ما جمعه العقاد من الألفاظ الأعجمية في كتابه : ابن الرومي حياته من شعره ، ص94 .
(2) :ـ ديوان ابن الرومي : 2 : 667 .
(3) :ـ المصدر السابق : 1 : 56 ـ 57 .
(1) :ـ وهذا يقودنا إلى القوا بأن العصر العباسي كما هو معلوم بأنه عصر امتزاج عرقي بين العرب والأعاجم ولا سيما الفرس ، ومن هنا برزت مشكلة تتعلق بهذا الامتزاج وهي الاعتداد بتلك الأصول على حساب الأصول العربية ، فابن الرومي قد غُمِزَ في أصله غير العربي .
(2) :ـ ديوان ابن الرومي : 6 : 2425 .
(3) :ـ المصدر السابق : 6 : 2272 .
(1) :ـ ديوان ابن الرومي : 1 : 82 ـ 91 .
(2) :ـ خَفّ : صار خفيفًا ، استدقَّ : صار دقيق البنية .
(3) :ـ رقشاء : أفعى .
(4) :ـ الُلقطَةِ : اللقيط له أب أو أصل .
(5) :ـ رِواء : الشرب حتى الشبع .
(6) :ـ أصْمَى : أصابه بالصمم .
(1) :ـ اختِتاء : حيلة ومخادعة .
(1) :ـ يغربل : غربل فلان في الأرض أي ذهب فيها ، والمغربِل من صناعته الغربلة ، وغربل الشيء أي نقّاه ، وغربل الناس أي كشف حالهم ، انظر : المعجم الوسيط ، ج2 ، ص680 . ويقول في ذلك : إن لي مشية أغربل فيها آمنًا أن أُساقط الأسقاطا ، انظر : ابن الرومي الشاعر المغبون ، د . محمد حمود ، ص26 ، وانظر : ابن الرومي عصره ، حياته ، نفسيته ، فنه من خلال شعره ، د . عبد المجيد الحرّ ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1992م ، ص63 + 64 .
(2) :ـ ابن الرومي حياته من شعره ، العقاد ، ص97 . وانظر أيضًا : ابن الرومي شاعر الغربة النفسية ، د . فوزي عطوي ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، 1989 ، ص94 . وانظر أيضًا : ابن الرومي الشاعر المغبون ، د . محمد حمود ، ص21 ـ 26 .
(3) :ـ ابن الرومي ، محمد عبد الغني حسن ، دار المعارف ، القاهرة ، 1960 ، ص23 . وانظر أيضًا : جمع الجواهر ، الحصري ، طبعة عيسى الحلبي ، 1953 ، ص17 .
(4) :ـ الفرع : غزير الشعر ، وهو أفرعُ وهي فَرْعَاءُ ، انظر : المعجم الوسيط ، ج2 ، ص717 .
(5) :ـ ابن الرومي الشاعر المغبون ، د . محمد حمود ، ص25 ، وله قصيدة من خمسة عشر بيتًا في هذا الموضوع يسهب ويوضح رأيه في اللحية الطويلة ، انظر : ابن الرومي ، د . سمير محمد كبريت ، دار المعرفة ، بيروت ، 2001م ، ص154 ـ 157 .
(1) :ـ المصدر السابق : 3 : 928 .
(2) :ـ ابن الرومي شاعر الغربة النفسية ، د . فوزي عطوي ، ص94 .
(1) :ـ هذه الأبيات تدل على نهمة على اللذات وتشاؤمه ، انظر : ابن الرومي ، د . محمد عبد الغني ، ص29 .
(2) :ـ ابن الرومي شاعر الغربة النفسية ، ص95 .
(1) :ـ ديوان ابن الرومي : 5 : 2091 . وانظر : قراءة في ديوان ابن الرومي ، د . كامل سعفان ، دار المعارف ، القاهرة ، مكتبة الدراسات الأدبية 96 ، ص155 ـ 157 .
(2) :ـ يحدُوهنّ : يَتبعُهن ، حولٌ : عام ، مُجَرَّمُ : تام ومنقضٍ .
(3) :ـ ابن الرومي ، د . خليل مردم بك ، دار صادر ، بيروت ، ط1 ، 1988م ، ص35 + 36 .
(1) :ـ المصدر السابق : 4 : 1473 ـ 1479 .
(1) :ـ كما أنه رسم مشهد آخر غير المشهد السابق الذكر ليؤكد حزنه وحرصه على اعتصار المشهد من كل جوانبه ، ويتقصى كل صغيرة وكبيرة فيه حتى لايترك فيه لغيرة من الشعراء شيئًا . انظر ديوان ابن الرومي : 4 : 1473 ـ 1479 .
(2) :ـ ديوان ابن الرومي ، تحقيق : عبد الأمير علي مهنا ، دار مكتبة الهلال ، بيروت ، ج2 ، ص145 .
(1) :ـ ديوان ابن الرومي ، تحقيق : حسين نصار ، 2 : 624 ـ 625 .
(2) :ـ المصدر السابق : 3 : 923 .​
 
رد: تقرير عن شخصية ابن الرومي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مقدمة ونبذة عن الشاعر الكبير ابن الرومي وأعماله.

على بركة الله نبدأ بالتعريف بشاعرنا ..

السيرة الذاتية للشاعر أبو تمام :

هو :أبو الحسن علي بن عباس بن جريح مولى عبد الله بن عيسى بن جعفر البغدادي ، الشهير بابن الرومي الشاعر. (2 رجب 221هـ بغداد - 283هـ).

كان ابن الرومي مولى لعبد الله بن عيسى ، ولا يشكّ أنّه رومي الأصل ، فإنّه يذكره ويؤكّده في مواضع من ديوانه
وكانت أُمّه من أصل فارسي ، وهي امرأة تقية صالحة رحيمة ، كما هو واضح من رثائه لها .

ولم يبقَ لابن الرومي بعد موت أخيه أحدٌ يُعوِّل عليه من أهله ، أو من يُحسَبون في حكم أهله ، إلاّ أُناس من مواليه الهاشميين العباسيين ، كانوا يبرُّونَه حِيناً ، ويتناسونه أحياناً ، وكان لِعهد الهاشميين الطالبيين أحفظ منه لِعهد الهاشميين العباسيين .

وقد مات مسموماً عام 283 هـ.

قالوا إنه كان يتشائم من الأسماء ويتطير منها، فإذا كان الاسم حسناً فتح له بابه ،وإذا كان شؤماً رده إلى صاحبه.

تحكى في طيرته أقاصيص غريبه منها: " أن أحد الأمراء إشتاق اليه فعلم بحالته من الطيره، فبعث مرسولاً اسمه "إقبال" ،فلما أتى ابن الرومي قال له:عد إلى صاحبك فإن مقلوب اسمك " لابقاء". "

وليس غريباً عليه هذا فقد مات جميع المقربين إليه من الأهل وهذا قد يولد هذا النوع من الطيرة.

عاصر ابن الرومي في بيئته كثير من الشعراء ، من أشهرهم في عالم الشعر : الحُسين بن الضحَّاك ، دعبل الخزاعي ، البُحتُري ، علي بن الجهم ، ابن المعتز ، أبو عثمان الناجم .

وليس لهؤلاء ولا لغيرهم ، مِمَّن عاصروه وعرفوه ، أو لم يعرفوه ، أثر يُذكر في تكوينه غير اثنين فيما نظنُّ هما : الحسين بن الضحّاك ، ودعبل الخزاعي.

*****
المصدر:

ابن الرومي - بوابة الشعراء - بوابتك إلى عالم الشعر - Poetsgate


دراسات ادبية ونقدية

نظرات في المنجز النّصي الساخر عند ابن الرومي - سعيد موزون

مقدمة حول مأساة الشاعر مع التاريخ والنقاد والدارسين:

إن الحديث عن ابن الرومي ذلكم الهرم الهجَّاء في الشعر العربي برمته - إلى جانب الحطيئة والأخطل والفرزدق وجرير وبشار ودعبل - ليستلزم منا كلاما عريضا طويل الذيل، سيّما حينما تلفى في بطون الكتب كلاما عنه كهذا الكلام:
"إنه لعنة السماء".
"إنه شاعر هجَّاء لم يسلم أحد من لسانه".
"رجل متطير قليل الحيلة، موسوس لسانه أطول من عقله، وهجاؤه لاذع يجيد السب والشتائم".
"كان لسانه أطول من عقله حتى قتله الهجاء".
والشاعر بلا ريب خلاف ذلك مما يورد عنه، لأن ديوانه ينطق بقدرته الفنية على التصوير والتجسيم والاستقصاء البارع البعيد المدى في تناول أدق التفاصيل، وبذاتيته المتفردة كشاعر، تلك التي تتفجر بها كلماته وموسيقاه وقوافيه ومعانيه.

"وهذا الشاعر الكبير ظُلم من القدماء والمحدثين على السواء فلم يعطه هؤلاء ولا أولئك حقه ولم ينصفوه، وأطلقوا عليه بعض الأحكام العفوية أو المقصودة لتشوه أدبه"، فلا تكاد تجد له أثرا في الموسوعات الأدبية القديمة ولا التراجم ولا كتب تاريخ الأدب كالأغاني للأصفهاني و"العقد الفريد" لابن عبد ربه، وطبقات ابن المعتز و"الكامل في اللغة والأدب" للمبرد ... اللهم إشارات يتيمة يسيرة عن بعض أخباره منثورة في استحياء في بعض الكتب مثل: "طبقات النحويين" للزبيدي، و"زهر الآداب" للحصري، و"العمدة" لابن رشيق و"رسالة الغفران" للمعري و"الفهرست" لابن النديم.

ولعل ما يفسر تجاهل التاريخ لهذا الرجل ولأثره الأدبي الرفيع، هو هجاؤه اللاذع وسلاطة لسانه، ولذا سكت عنه أبو الفرج الأصفهاني في "الأغاني" مع العلم أنه أورد عددا غير يسير لشعراء وأدباء لا يصلون في الشعر ما وصل إليه ابن الرومي، ولا يبلغون من جمالية شعره وثقافته الموسوعية ما بلغه، وهذا ما ذهب إليه العقاد بقوله: "سكت أبو الفرج عن هذا الشاعر اتقاء لمن هجاهم وأقذع في هجائهم من سروات زمانه وأولهم أستاذ أبي الفرج، ولعله سكت لأسباب أخرى...وبعض هذه الأسباب أن صاحب الأغاني لم يكن مستطيعا أن يقدر ابن الرومي حق قدره وأنه كان أمويا، وكان ابن الرومي شديد الكراهية للأمويين

قال محمد زغلول سلام في هذا الصدد بأن ابن المعتز "رتب الشعراء في الكتاب على غير قاعدة أو منهج مرسوم، إلا أنه بدأ بذكر شعراء المديح ومن مدحوا خلفاء بني العباس خاصة، ولم يذكر من تعرض منهم لهجائهم، وقد أهمل جماعة من الشعراء المشهورين مع ذلك أمثال ديك الجن الحمصي وابن الرومي، ولعل سبب إهماله الأخير أنه هجا والده المعتز بالله". بقوله:

دع الخلافة يا معتز من كثـب*****فلـيس يكسوك منها الله ما سلـبا
فكيف يرضاك بعد الموبقات لها*****لا كيف؟ لا كيف؟إلا المين والكذبا

و سكت عنه المبرد أيضا في "الكامل" لأنه لم يسلم من هجائه هو الآخر فقال فيه:

ودَّ المـبرد أن الله بَـدَّله*****من كل جارحة في جسمه دبرا
فاعطه يا إله الناس منيته*****ولا تُبَقِّ له سمعا ولا بصـرا

إنّ ما يبدو على الأصفهاني وابن المعتز والمبرد أن المنطلقات المعيارية التي يعتمدونها لوضع تراجم الشعراء يطغى عليها قسط مُهول من الأهواء والنزوات الشخصية.

1) - كرونولوجيا الهجاء بين القديم و"الرومي":

كان الهجاء لدى شعراء النقائض وسيلة لغاية قبلية، يقوم أساسا على الطعن في المعنويات والأوصاف الخلقية، مثل وصف الخصم بالبخل وانتهاك حرمة الجار والهزيمة والمذلة والصَّغار، والدافع إلى هذا الهجاء دافع سياسي محض،والملاحظ أن هذا الهجاء لا يبلغ من الحدة والشدة ما بلغه الهجاء عند ابن الرومي أودعبل الخزاعي أو بشار بن برد، لأن أغلب الأساليب الموظفة في النقائض تقوم على ألفاظ لا توغل في الفحش والبذاءة، ولا تقوم على التفصيل في المعايب والنقائص كما يفعل ابن الرومي في تتبعه لدقائق المعايب والمخازي،

فلقد كان يرسم صورة ساخرة للمهجويين، من خلال مطاعن خلقية ونفسية تقوم على تحقيرهم وتصغيرهم والحط من منزلتهم، إذ كان لحدة مزاجه وبراعة قدرته على لمح دقائق العيوب، يعبث بمن يتلقاهم بالهجاء عبثا لاذعا أشبه ما يكون صورا كاريكاتورية، يلتقط بها ما صغر وما كبر من النقائص والمساوئ، فيضخمها في صور تهويلية ومشوهة تترك أثرا بليغا في نفوس المهجويين. ومن الأمثلة على ذلك قوله في صاحب لحية طويلة:

ولحية يحملها مـائق*****مثل الشراعين إذا أشرعا
تقوده الريح بها صاغرا*****قودا عنيفا يتعب الأخدعا
فإن عدا والريح في وجهه*****لم ينبعث في وجهه إصبعا
لو غاص في البحر بها غوصة*****صـاد بها حيتانه أجمعا

شبه ابن الرومي لحية المهجو بالشراع تدفع به الرياح كما تندفع السفينة به، وهذه الصورة السافرة أوحت له بالصورة الثانية، فتخيله يغوص في البحر بلحيته، فتكون عنذئذ كشبكة العائد ولكنها لضخامتها لا تعيد صغار السمك، بل تصيد الحيتان، فاعتمد الشاعر المبالغة الباعثة على الضحك والسخرية من خلال استحضار هذه اللحية في الذهن، كأنها شراع تهب عليه الريح.
ويتضح باستقراء بعض القصائد الهجائية لابن الرومي أنه قد تأثر بدعبل الخزاعي شاعر الهجاء المعروف، مما جعل بعض الأدباء يقرنونه به، ويعتبرونهما علمين من أعلام الهجاء في الشعر العربي. قال فيه أبو العلاء المعري:

لو نطق الدهر هجا أهله كأنه الرومي أو دعبل

فلا تختلف الصورة الفنية في هجاء ابن الرومي عن مثيلتها عند دعبل، إلا في طبيعة كل شاعر، وبواعثه على الهجاء "نتيجة للفرق بين المذهب البدوي الذي يمثله دعبل والمذهب الحضري الذي يمثله ابن الرومي في الهجاء.

2) - خصائص الهجاء عند ابن الرومي:

عموما إن الهجاء عند ابن الرومي يتميز بمظاهر تجديدية تميزه عن القديم -الجاهلي والإسلامي- والجديد - العباسي -
فقد أصبح الهجاء عنده سلاحا يدافع به عن نفسه، ويحمي به نفسه وشعره،وهو غالبا يتخذ هذا السلاح لرد العدوان والأذى عن نفسه:

ألم تر أنني قبل الأهاجي*****أقدم في أوائلها النسيبا
لتخرق في المسامع ثم يتلو *****هجائي محرقا يكوي القلوبا

• استخدام مقارنات غريبة: بالإتيان بسخرية تصور المهجويين بتصاوير مشوهة، كانت نتيجة اشمئزاز الشاعر لمرأى كل قبيح.

• دقة الملاحظة ووصف الحركة وبعث الصور البعيدة الإيحاء: وفي هذا يقول طه حسين:"إن ابن الرومي كان قوي الخيال جدا،وكان خياله بعيدا ليس بالقريب،وكان حاد الحس جدا وكان قوي الشعور،فكان إذا ألم بمعنى من المعاني تأثر به تأثرا واضحا"
• عبقرية الحس والفحش في اللفظ والبذاءة فيه: بالاعتماد على السب والشتم بشكل رهيب، ودون مراعاة للحدود الأخلاقية، والمبالغة في وصف العيوب والمساوئ، والطعن في العرض والنسب دون وجل ولا خجل، يظهر مثلا في هجائه لابن فراس:

يا ابن فراس لك أم فاجرة*****فاسقة من النساء عـاهرة

• التجديد على مستوى الموضوعات الهجائية.

• الواقعية : تتمثل أساسا في نوعين من الهجاء: الهجاء الاجتماعي والهجاء الفردي.

أ‌. الهجاء الاجتماعي:

أتى هذا النوع من الهجاء نتيجة نقمة الشاعر على المجتمع وتشاؤمه من الواقع، بسبب الحرمان الذي عانى منه منذ صباه، والازدراء الذي لقيه في مجتمعه، ونتيجة أيضا لتطيره من سلوكات أفراده، فأطلق لسانه في أعراض الناس ليحمي نفسه من الظلم والازدراء، ويهاجم أقواما في زمنه قد وصلوا منازل ليسوا لها بأهل. والباعث الواقعي على الهجاء الاجتماعي عند الشاعر ليس هو الحقد على المجتمع، وإنما تفشي الأمراض الاجتماعية في مجتمعه وفقدانه لروح الإخاء بين الناس، فلا يجد من يواسيه ويعطف عليه، وإذا قدم ليمدح الناس منعوه من العطاء، وإذا أتى يستجدي العطف ويستميل اللطف، ويلتمس العون أعرضوا عنه، وكلما تقرب منهم نفروا منه فكان لزاما - انطلاقا من هذه العوامل الموضوعية- أن يسخط على المجتمع برمته .

، كما يرى إيليا حاوي في قوله: "تراكمت الثارات والأحقاد في نفس ابن الرومي، كما تراكمت الخيبات والمصائب أما المصائب فقد توالت عليه في موت ولده وأخيه وزوجه وفي تهالك صحته واحتراق بيته وما إلى ذلك. ولقد جعلته هذه الثارات وتلك المصائب يتعامى عن فضائل الناس وحسناتهم، ويمعن بالتحديث في نقائصهم ومساوئهم يتأملها يعيدها ويستعيدها في كل جهة مشوها ماسخا ليشبع ما في نفسه من حقد وزراية"
ولذا فهجاءه - ابتداء - لم يكن يتخذه سلاح هجوم بل سلاح دفاع، دفاع عن النفس من كل المتربصين به والعابثين به فيعجب كيف أن الزمان يرفع أقواما ويضع أقواما أخرى دون إنصاف:

ظالما لي مع الزمان الذي ابتز*****حقوق الكرام للؤماء

يقول عبد المجيد الحر: "وتجدر الإشارة إلى أن شاعرنا تفرد بهذا الوعي الصارم الفاجع لأزمة الناس الأخلاقية، دون بقية شعراء عصره، فأنت لا ترى في قصائد سائر الشعراء هذا الموقف الجريء الناقد لخفايا البشر، والفاضح لخداعهم وممالأتهم في سبيل التكسب والوصول إلى إرضاء ما يرضي في شهواتهم وسد حاجاتها".

"إن ابن الرومي لم يكن إنسانا مريضا يكتنفه الشذوذ ويدفعه الحقد إلى الهجاء، ولكنه كان شاعرا حساسا ذا عين ناقدة يفحص ما أمامها،وتلتقط نواحي النقص فيما تراه،وأنه كان ساخطا، لأنه لم ينل حظه في مجتمعه الذي تؤهله له قدرته وذكاؤه"، فلما فقد ما كان ينشده لم يتردد في سلّ لسانه على كل الأفراد المجتمع، فلا يفرق بين سلطان ولا فقير ولا مغني ولا شاعر ولا فقيه ولا نحوي ولا قاض ولا عالم ولا شرطي ولا حمّال ولا وزير ولا كاتب، فقذف الجميع بوابل من السباب، وهتك الأعراض في نوع من المبالغة والتشويه.

فقد هجا المعتز بالله"بأبيات سلف سردها في البداية .

وقال يهجو عمر النصراني، وكان هذا كاتبا للقاسم بن عبيد الله وزير المعتضد:

شهدت بعض المخانيـ*****ث والطريف طريق
فقام من جنب عمرو *****وللشقي حـفيف

وقال يهجو الحسين بن إسماعيل الطاهري، وكان هذا صاحب شرطة بغداد في زمن آل طاهر:

وفارس أجبن من صغرد*****يحول أويثول من صفره
لو صاح في الليل به صائح*****لكانت الاأرض له طفره

وقال في الشاعر أبي العباس الناشئ:

يرجف القرد بأني*****زائل العقل موسوس
حاول القرد لعمري*****عكس أمر ليس يعكس

ولا ينتهي هجاء ابن الرومي للشعراء والكتاب فحسب بل يمتد إلى المغنيين أيضا، إذ يقف أمام هذا النوع من الهجاء مدافعا عن قيم الجمال في فن الغناء فيرفض كل من يؤذي ذوقه وسمعه في هذا الفن، ومن اللواتي هجاهن هجاء مرّا شنطف المغنية، قال فيها:

شنطف يا عوذة السموات و*****الأرض وشمس النهار والقمر
إن كان إبليس خالقا بشرا*****فأنت عندي من ذلك البشر

ويمتد لسانه أيضا إلى النجاة، ومن بينهم المبرد الذي قال فيه:

ود المبرد أن الله بدله*****من كل جارمة في جسمه دبرا


هذا التعميم في الهجاء راجع أصلا إلى ضعف في شخصية الشاعر واختلال فيها، ثم راجع كذلك إلى كونه كان دمث الخلق طيب السريرة لا يعرف إلى المراوغة سبيلا، فهو يريد أن يحيى حياة شريفة، بعيدا عما راج في عصره من النفاق والمجاملة والرشوة بين الناس من كتاب ووزراء، فكان يعتقد أن السبيل الأشرف إلى الارتقاء إلى هذه المناصب هو الشعر والثقافة.

ب. الهجاء الفردي:

يعتبر هذا الهجاء صورة مشوهة لما تنفر منه نفس الشاعر المتطيرة، وهو تهويل لمساوئ ومعايب المهجو، فيصف القبح وصفا مضحكا، ويصوره تصويرا ساخرا، ويلهو به كما شاء ليرضي حاسة النفور في نفسه، لأنه كان ينفعل من القبح ويتطير منه، فصار يستخرم المعايب ويجتثها في الناس، انتقاما للجمال من القبح، وانتقاما لنفسه من لؤم المجتمع.

- هجاء صاحب اللحية الطويلة: هذا الجانب الخلقي في المهجو، ليس موضوعا جديدا جاء به ابن الرومي في شعره، وإنما كان في الشعر الإسلامي والعباسي عند طائفة من الشعراء

أما عند ابن الرومي، فالجانب التجديدي في ذلك يتجلى في السخر الفني في تناول هذه الصورة، إذ يتناول اللحية تناولا كاريكاتوريا،

قال في صاحب اللحية الطويلة:

إن تطل لحية عليك وتعرض*****فالمخالي معروفة للحمير

شبه الشاعر اللحية هنا بمخلاة حمار خالية من الشعير، وقد طالت حتى أصبحت أضحوكة الغادي والرائح في بغداد، فأصبحوا يشيرون إليها بأكفهم وأصابعهم، متعجبين من هذه اللحية الغريبة، وكل من يراها يكبر تعجبا واستنكارا منها.

- هجاء صاحب الصلعة:

لابن الرومي في أبي حفص الورّاق، وكان مشهورا بصلعته في بغداد، هجاء يبعث على الشفقة والضحك، يصف فيه رنين الصلعة تحت الأكف الصافعة، حتى لتتجاوب أصداء هذا الرنين في أرجاء بغداد كلها، وفي ذلك يقول:

يا صلعة لأبي حفص ممردة*****كأن ساحتها مرآة فولاذ
ترن تحت الأكف الواقعات بها*****حتى ترن بها أكناف بغداد

- هجاء الأحدب :

كان هذا جارا لابن الرومي، يكثر من الجلوس بجوار باب داره، فإذا رآه وهو يهم بالخروج من الباب عاد فأغلقه عليه ولم يخرج من داره نظرا لتطيره منه، فجعل يسومه سوء الهجاء، ويجمع إلى جانب الهجاء الساخر وصفا دقيقا حسيا ونفسيا، فيقول:

قصرت أخادعه وغار قذاله*****فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صنعت قفاه مرة*****وأحس ثانية لها، فتجمعا

لم يكتف الشاعر برسم صورة الأحدب فقصا على نحوٍ كاريكاتوري، بل أثار في نفس الموصوف يقظة حسية، فجعله مصفوعا طوال الدهر يحاول أن يتقي صفعه بجمع قفاه على ظهره جمعا متواصلا متصلا.

3) - الكاريكاتورية في المنجز النصي :

تقوم أساسا على التقاط العيوب الصوتية والجسدية للمهجو، وتكبيرها وتضخيمها على نحو كاريكاتوري، يستغل فيه الشاعر دقائق العيوب الجسدية ويكبرها في شكل من التهويل مشوّها يضحك عليه الناس.من ذلك قول ابن الرومي في وصف عيسى البخيل:

يقتر عيسى على نفسه*****وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره*****تنفس من منخر واحد
عذرناه أيام إعدامه*****فما عذر ذي بخل واحد

يصور ابن الرومي تقتير عيسى على نفسه،فيبين أن فتحة أنف واحدة من منخر عيسى تسد حاجته من التنفس، ولو رآها حقا تغنيه عن أختها لاحتفظ عليها، وذلك لحرصه الشديد عليها، ولهذا عذره الشاعر نظرا لتقتيره وشحه المبالغ فيهما. وهذا التصوير الفني مظهر جديد في شعر ابن الرومي، إذ لو ولّينا وجوهنا شطر القصيدة الجاهلية أو الأموية أو العباسية وجدنا أن صفة البخل تناولها معظم الشعراء فقط من الجانب المتعلق بالفعل الناجم عن هذه الصفة(أي من الناحية الخُلقية)، ولم يتناولوها في علاقتها بالجانب الخِلقي وبالشكل الكاريكاتوري كما فعل ابن الرومي ، ذكر المرزباني في الموشح أن "الفرزدق والأخطل تذاكرا جريرا، فقال له الأخطل: والله إنك وإياي لأشعر منه، غير أنه أعطي من سيرورة الشعر شيئا ما أعطيه أحد، لقد قلت بيتا ما أعرف في الدنيا بيتا أهجى منه:

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم*****قالوا لأمهم بولي على النار
تمامه:
فتمسك البول بخلا لا تجود به*****ولا تبول لهم إلا بمقدار
والخبز كالعنبر الوردي عندهم*****والقمح سبعون إردبا بدينار

وجاء أيضا في طبقات ابن المعنز هجاء بشار بن برد لرجل بخيل يسمى ابن قزعة قال فيه:

فلا تبخل بخل ابن فزعة إنه*****مخافة أن يرجى نداه حزين
إذا جئته للعرف أغلق بابه*****فلم تلقه إلا وأنت كمين

ونفس الصورة نجدها عند الحسن بن هانئ (أبو نواس) في هجائه لأحد البرامكة:

أرى جعفرا يزداد بخلا ودته*****إذا زاده الرحمن في سعة الرزق

وكذلك حماد عجرد في هجائه بعض الأمويين:

زرت امرءا في بيته مرة*****لـه حياء ولـه خيَر
يكره أن يتخم أضياف*****إن أذى التخمة معذور
ويشتهي أن يؤجروا عنده*****بالصوم والصائمُ مأجور

فهذه الأمثلة كلها تتحدث عن البخل، وتحاول أن تبرز هذه الصفة بشكل يبعث على السخرية والازدراء من المهجو

قال ابن الرومي في صاحب ادعاء فارغ:

أطلق الجرذان باللي*****وصح: "هل من مبارز؟"

لقد رسم في هذا الهجاء صورة هزلية تعبر عن الطريقة التي يسلكها في رسم المشاهد، وعن براعته في دقة المراقبة وإثبات الحركة، وبعث الصور البعيدة الإيحاء، وقد أفضت به دقة التصوير إلى تمثيل الدمامة في أتم أشكالها، حتى كأنها تنطق بنفسها عن معايبها، والكاريكاتورية هنا تتجلى في الصورة التي تقع في ذهن السامع، إذ يتصور الجرذان وهي تركض على الأرض، وتتهافت فيما بينها، فيناديها صاحب هذا الادعاء لتبارزه، وذلك ما لا يحصل، وهذا معنى جديد أتى به ابن الرومي وهو شبيه بالصور المتحركة.

- الأسلوب التأليفي

يقصد به توليد الغلو من خلال جمع معان عديدة في معنى واحد، يتجلى مثلا في هجائه لأبي سليمان الطنبوري:

أبو سليمان لا تُرضى طريقته *** لا في غناء ولا تعليم صبيان
له إذا جاوب الطنبور محتفلا *** صوتٌ بمصر وصوتٌ في خراسان
عواء كلب على أوتار مِندفة *** في قبح قرد وفي استكبار هامان
وتحسب العين فكيه إذا اختلفا *** عند التنغم فكي بغْل طحّان

استمع الشاعر في هذه الأبيات إلى صوت سليمان وكان قبيح الصوت، فأراد أن يخرسه إلى الأبد، فمثل ضربه على الطنبور بعواء الكلب الممتزج بأصوات أوتار المندفة مجتمعين في قبح القرد واستكبار هامان، وكل هذه الأشياء تجتمع لتكون معنى واحدا هو معنى القبح الذي في وجهه، والمنبعث من صوت طنبوره. وقد وظف بعض الصور الكاريكاتورية من مثل قوله: "صوت بمصر وصوت في خراسان" ليبين أن قرعه على الطنبور غير مضبوط ومتنافر، وصور هذا المعنى في النهاية في صورة بغل لطحان ما يَنِي يحرك فكيه عند الأكل.

- الأسلوب المنطقي: يتمثل بالأساس في قصيدته في وجه عمور، قال فيها:

وجهك يا عمرو فيه طول*****وفي وجوه الكلاب طول
...إلى نهاية القصيدة

تتسم هذه القصيدة بإعمال الشاعر للمنطق الجدلي الكلامي، الذي ساد في العصر العباسي، يبرز في التسلسل المنطقي الذي اتخذه في القصيدة:
أولا: الموازنة والمقابلة بين عمرو والكلب في قوله: "وجهك يا عمرو..."، إذ جعل ابن الرومي المهجو كالكلب في وجهه، فوجه الكلب طويل ووجه عمرٍ طويل أيضا، إذن فهما متماثلان "هذه العملية تعرف بالسيللوجيسم المنطقي الذي اطلع عليه ، ابن الرومي في علم الفلسفة، وتظهر الموازنة أيضا في قوله:

ما إن سألناك ما سألن*****إلا كما تُسأل الطلول

فالمهجو هنا مثله مثل الطلول لا تسمع نداء ولا ترده.

ثانيا: الاستقصاء في الهجاء: مطلع القصيدة عبارة عن افتراض أو فكرة عامة بحاجة إلى برهان، فقوله: عمرو كالكلب والكلب أفضل منه، هذا افتراض عام ينبغي تفسيره، وتفسير ذلك أن للكلب فضائل جمة تسمو به كالوفاء والشجاعة في حماية المواشي والذوذ عنها، بينما عمرو لا يتحلى بأي فضيلة، ولذلك فالكلب يسمو بفضائله، بينما ينحط عمرو برذائله، ثم يستطرد ابن الرومي في الهجاء فيقول بأن عمرا ورث رذائله عن آبائه وأجداده، حتى أصبحت شيمة فيه، وهم يتوارثونها بينهم حتى صارت مثلا يجري على ألسنة الناس، فقد مسخهم الله بأن جعل وجوههم منكرة قبيحة تعكس خبث نفوسهم، وبعد ذلك يستغفر ابن الرومي ربه، معترفا بأنه قد ارتكب خطيئة لا يرتكبها إلا الأحمق الجاهل، حيث ظن في عمرٍ خيرا فاستعان به لقضاء بعض حاجاته، فخذله أيما خذلان، فاتضح له أن عمرو ليس إلا بقايا طلول دارسة لا تسمع ولا تعقل. وفي النهاية بلغ به الانفعال مبلغا عظيما حتى أحاله خاليا من كل معنى، زواله وعدمه خير من بقائه ووجوده، وذلك حينما قارنه بتفعيلات القصيدة التي لا معنى لها:

مستفعلن فاعلن فعول*****مستفعلن فاعل فعول
بيت كمعناك ليس فيه*****معنى سوى أنه فضول

فأبيات القصيدة إذن تتلاحق وتتلاحم، لتبرهن وتقرر أو تحقق الفكرة التي أطلقها الشاعر في مطلع القصيدة.

خاتمة :
ربما قد نُثِر على شعر ابن الرومي بعض الأتربة على طول تاريخ الأدب العربي، ربما لأن لسانه أطول من عقله، كما قيل، ولكن المتتبع لديوانه يجد أن الشعر عنده ينساب انسيابا خاصا، ويتخذ طبعا خاصا وذوقا رفيعا، وقد سجل في شعره ألوانا مختلفة من الأغراض الشعرية التي كانت تمثل الفن الأدبي الأصيل، وتعبر عن الحياة العباسية بكل تناقضاتها ومظاهرها،وقد مثلها الهجاء أحسن تمثيل، وهكذا بدت "صورة فنه بمحسناتها البديعية والبيانية وبخصائصها المميزة عالما خاصا، راق أنصار القديم لاهتمامه بالكلاسيكية وأساليبها، وأعجب محبي التجديد لخصائصه الفنية الواسعة الآفاق بثقافتها، وسعة اطلاعها الحافلة بكثير من البوح، عن حقيقة الوجود الممتزج بنعيم الإنسان وشقائه، فعبر بذلك عن واقع البشر كلهم عبر حقبة لا ينتهي أمدها بخلود شعره".


*****
المصدر:

نظرات في المنجز النّصي الساخر عند ابن الرومي - سعيد موزون



المؤثرات البيئية والشخصية في شعر ابن الرومي ـــ د.محمد عبد القادر أشقر
ناشر الموضوع : الرازي

المؤثرات البيئية والشخصية في شعر ابن الرومي ـــ د.محمد عبد القادر أشقر(*)


أولاً: مؤثرات عامة (البيئة والعصر):

عاش ابن الرومي في عصر مضطرب أشد الاضطراب، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعقائدياً، كما عاش في بيئة أسرية منكوبة، بل إن المصائب أحاطت بها من كل حدب وصوب. وكان لابد لهذا الاضطراب أن ينعكس في شعره،وأن يستجيب استجابات مختلفة للواقع الذي عاشه في مجتمعه. وقد تجلت هذه الاستجابات في الإكثار من أشعار المناسبات كالمديح والتهاني والمراثي ذات الطابع الرسمي، وفي الاستجابة للتطور العقلي الذي شهده العصر العباسي الثاني، وفي ظهور مفردات أعجمية في شعره، وفي التعبير عن قضايا خاصة به.

1 ـ كثرة أشعار المناسبات:

استجاب ابن الرومي لأحداث عصره المختلفة وشارك فيها من خلال رصده لها وتعبيره عن مشاعره تجاهها،
والشعر الذي قاله في هذه المناسبات شعر ضعيف القيمة والأهمية، لأن ابن الرومي هدف من ورائه إلى التكسب والمجاملة، ولم ينطلق فيه من ثوابت أخلاقية أو من مشاعر صادقة، كما يغلب عليه التكلف والتكرار والإطالة.

لكن ابن الرومي وقف موقفاً أخلاقياً صادقاً من محنة تعرضت لها ديار المسلمين، وتأذى منها الناس جميعاً، هي ثورة الزَّنج على الخلافة العباسية سنة خمس وخمسين ومئتين للهجرة، وما تبع تلك الثورة من سفك للدماء ونهب للثروات وتخريب للبلدان وقطع للطريق، إلى أن استطاع الموفق ـ أخو الخليفة المعتمد ـ القضاء على ثورة الزنج قضاء تاماً سنة سبعين ومئتين للهجرة، بعد أن استمرت خمس عشرة سنة، وذهب فيها خلقٌ كثير، عدا ما تهدم من بلدان، وما دُمر من زروع، وما هلك من مواشٍ، كما يقول المؤرخ الطبري.

وقد تأثر ابن الرومي كثيراً لما أصاب الناس ولما أصاب مدينة البصرة من خراب وقد صور في هذه القصيدة خراب المدينة وتشرد أهلها، وما لحقهم من شر، وتأسّى على تلك المدينة العظيمة وتذكر ماضيها الزاهر:

ذاد عن مُقْلَتي لذيذَ المنامِ*****شُغْلُها عنه بالدموعِ السِّجَامِ

...إلى آخر القصيدة.

ومن هنا يكون مديحه للموفق عرفاناً بالفضل وإحقافاً للحق، وليس مديح مجاملة أو تكسب.

2 ـ بروز ثقافة العصر في شعره:

تثقف ابن الرومي بثقافات عصره المختلفة، فلسفية وغير فلسفية، وبرع فيها، ولاسيما الاعتزال، وأغلب الظن أنه لم يكن معتزلياً، لكننا لا نستطيع إنكار معرفته بالاعتزال وتمكّنه من أدواته ومادته ومنهجه، لأنه لون من ألوان الفكر الخصب. والمعتزلةَ أصحاب فكر حر مستنير منفتح على كل الثقافات العربية والأجنبية ولاسيما اليونانية، لأنهم تسلحوا بتلك الثقافات للرد على أصحاب النحل والأديان الوضعية والمُلْحِدَةِ والزنادقة. وقد بلغ ابن الرومي من تلك الثقافات الغاية حتى قيل: إن الشعر كان أقل أدواته. وكان لابد لتلك الثقافة من أن تظهر في شعره، وتتجلى فيما يلي:

آ ـ الخصب في المعاني:

في شعر ابن الرومي معانٍ كثيرة جداً، غنية وعميقة، تدل على تمكنه من ناصية الفلسفة والمنطق في عصره. وهذه السمة لم ينفرد بها ابن الرومي عن الشعراء في تاريخ الأدب العربي، فقد سبقه أبو تمام (231هـ)، وجاء من بعده أبو العلاء المعري (449هـ)، لكن ابن الرومي زاد كثيراً على أبي تمام ـ وإن كان متمكناً مثله من شاعريته ـ ولم يسمح للفلسفة أن تطغى على شعره وتفسده، بل استطاع أن يقدم الفلسفة من خلال الفن،. لكن ابن الرومي لم يستطع أن يقدم الفلسفة والمنطق دائماً في إهاب الفن، بل إنه كان يقع أحياناً فريسة للمعنى الفلسفي من غير أن يقدر على تذليله لفنه، فيبدو المعنى نابياً وبعيداً عن روح الشعر. من ذلك قوله يمدح:

إذا صَبَتْ زُهْرَتُهُ صَبْوَةً*****قال لها هِرْمِسُهُ هَنْدِسِ
وإن عَدَا هِرْمِسُهُ حَدَّهُ*****قالت لـه زُهْرِتُهُ نَفِّس

((والزُّهْرَةُ هي رَبّةُ الجمال واللهو، وهِرْمِس هو اسم عُطارِد عند الفُرْس وهو رَبُّ الكتابة والحكمة... يعني أن ممدوحه يميل مع اللهو والجمال فتهيبُ به الحكمة والمعرفة، ويُرهق نفسه بهذه فتدعوه الزُّهرَةُ إلى التنفيس)).

وهذا المعنى صعب، ويبدو التكلف واضحاً فيه، لكن ابن الرومي آثر أن يقدم ذلك المعنى البسيط تقديماً فلسفياً إظهاراً للمقدرة وإثباتاً للشاعرية والمعرفة بالفلسفة، وإن جاء كل ذلك على حساب الفن.

وابن الرومي لا يقبل بعرض المعنى وتقديمه بلا تعليل، فقد تكلم الشعراء ـ قبل ابن الرومي وبعده ـ على الصداقة ورأوا أن الصديق قد يتحول إلى عدو، لذا يجب الحذر من الصديق أضعاف الحذر من العدو، لكن ابن الرومي لم يرضَ بتقديم هذا المعنى كما يقدمه غيره، بل لجأ إلى التعليل والقياس، فقاس الصديق على الطعام، والغدر على الداء، فوجد أن الداء يكون خطيراً عندما يكون داخل الطعام لا نراه، لأننا لو رأيناه ما أكلناه، وكذلك الصديق الذي يتحول إلى عدو فيأتي خطره من حيث لا نتوقع الخطر:

عَدُوَّكَ مِنْ صديقِكَ مُسْتَفادٌ*****فلا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحابِ
فإنَّ الداءَ أكثرُ ما تَراه*****يَحُولُ مِنَ الطعامِ أو الشَّراب

ثم يتكلم عن كثرة الأصدقاء، ويرى أن كثرتهم لا تغني شيئاً، وأن الخير في القليل منهم. بل يعلله بقوله: إن البحر على اتساعه وعظمه مالح لا ينفع العطشان، على عكس القطرة من الماء الصافي العذب:

ولو كان الكثيرُ يَطِيْبُ كانت*****مُصاحَبَةُ الكثيرِ مِنَ الصَّوابِ

..إلى آخر الأبيات.

وثقافته الواسعة المتنوعة، وقدرته على الجدل والاحتجاج جعلتاه يقف عند المعنى الواحد المألوف فيفصل القول فيه مادحاً، ثم يذمه مفصلاً في ذكر عيوبه، دون أن يخلَّ بالمعنى في كلتا الحالين. وهذا الصنيع من ابن الرومي لم يكن مقصوراً عليه وحده، فقد سبقه إليه المعتزلة والمتكلمون ولاسيما الجاحظ.

فالحقد داء يكرهه كل الناس ويذمونه كما ذمه ابن الرومي، لكن أحداً لم يمدح الحقد ويبين مزاياه، مثلما فعل ابن الرومي؛ فهو يرى أن الحقد توأم الشكر، ولكلٍّ موضعٌ، ثم يضيف إلى هذا المعنى معنى آخر أكثر عمقاً وجِدَّةً من سابقه، فيرى أن الحقد محمود لأنه يوصل صاحبه إلى ثأره، ولولا الحقد لنسي صاحب الثأر ثأره:

وما الحِقْدُ إلاَّ تَوْأَمُ الشُّكْرِ في الفتى*****وبعضُ السَّجايا يَنْتَسِبْنَ إلى بعضِ

..إلى آخر الأبيات.

ب ـ تقصي المعاني:

قادته ثقافته الواسعة وقدرته على الجدل والحجاج إلى تقصي المعاني واعتصارها اعتصاراً شديداً لا يبقى فيه زيادة لمستزيد، مع المحافظة على الوحدة العضوية فيها، فكل بيت يرتبط ـ غالباً ـ بأخيه من قبل ومن بعد، لأن المعنى لا يكتمل إلا إذا قرأنا ما قبله وما بعده، فالمعاني عنده متولد بعضها من بعض، ولا سبيل إلى الفصل بينها في كثير من الأحيان. وهذا سبب من أهم أسباب إطالة القصائد في شعره.
فالشيب مثلاً موضوع تكلم فيه الشعراء كثيراً منذ الجاهلية، لكن ابن الرومي لم يترك معنى يمكن أن يقال في الشباب والمشيب إلا أتى به:

يُذَكِّرُني الشَّبابَ صَدىً طويلٌ*****إلى بَرَدِ الثَّنايا والرُّضابِ
...
يذكرني الشبابَ هَوَانُ عَتَبْي*****وصَدُّ الغانياتِ لدى عِتابي

لكن ابن الرومي لم يكن موفقاً في تقصي المعاني وتفصيلها وتقليبها على وجوهها دائماً، بل إنه في كثير من الأحيان يقع في التكلف والرّكَّة وهو يفصّل في المعنى الواحد. من ذلك التقصي غير الموفق قوله في أحد ممدوحيه:

لكَ مَكْرٌ يَدِبُّ في القومِ أَخْفَى*****مِنْ دَبِيْبِ الغِذاءِ في الأعضاءِ

فهو يصف مكر ممدوحه بأنه خفي لا يشعر به أحد كدبيب الغذاء في أعضاء الجسد، لكنه لا يكتفي بهذا المعنى، بل يأتي بأربعة أبيات بعده يوضح فيها معنى المكر ويتفنن في تصويره، حتى إنه راح يلتمس التفصيل والتوضيح في حروف الجر أيضاً؛ فذكر الحروف (في واللام ومن وإلي) في شطر واحد، فماذا بقي من معنى المكر بعد أن اعتصره ابن الرومي هذا الاعتصار الشديد؟

وكذا الأمر في المديح، بل إنه يلجأ إلى الإطالة قاصداً ليستوفي المعاني:

كلُّ امرئٍ مَدَحَ امرَأً لِنَوَالِهِ*****فأطال فيه فقد أراد هجاءَهُ

..إلى آخر الأبيات.

3 ـ ظهور مفردات أعجمية في شعره:

في شعر ابن الرومي مفردات أعجمية ليست بالقليلة، معظمها فارسي، وأغلب الظن أن ابن الرومي كان يجريها على لسانه لكثرة ما يسمعها في اليوم من العامة، ومن المعلوم أن العصر العباسي هو عصر تمازج الأعراق والأمم والثقافات، أو أنه كان يقولها تظرفاً ومجاراة لذوق معاصريه العام الذي يميل إلى التملّح بالألفاظ الأعجمية. ولا أستطيع أن أُرجع هذا الأعجمي إلى أمه الفارسية الأصل .
ولأن في اللغة العربية كثيراً من الألفاظ الأعجمية منذ العصر الجاهلي فقد تأثر الشعراء من العرب وغيرهم بهذه الألفاظ، وأوردوها في أشعارهم، وإن اختلف التأثر من شاعر لآخر، ومن عصر لآخر.

ومن نماذج الأعجمي في شعر ابن الرومي قوله على سبيل المثال في قصيدة يمدح بها أبا القاسم الشِّطْرَنْجِيّ ويعاتبه على مَطْلِهِ في تنفيذ وعدٍ كان قد وعده إياه:

تَهْزِمُ الجَمْعَ أَوْحَدِيّاً وتُلْوي*****بالصَّناديدِ أَيَّما إلْواءِ
وتَحُطُّ (الرِّخاخَ) بعد (الفَرازِي*****ـنِ) فَتَزْدادُ شِدَّةَ اسْتِعْلاء
غَلِطَ الناسُ لستَ تَلعبُ (بالشّط*****ـرَنْجِ) لكنْ بِأَنْفُسِ اللُّعَباء
تَقْتُلُ (الشَّاهَ) حيثُ شِئْتَ مِنَ الرُّق*****ـعَةِ طَبّاً بالقِتْلَةِ النَّكْراءِ
غيرَ ما ناظِرٍ بعينِكَ في (الدَّ*****ـتِ) ولا مُقْبِلٍ على الرُّسلاءِ

فهو يمدحه من خلال مصطلحات الشطرنج، وهي مصطلحات أعجمية ابتداء من اسم اللعبة (الشطرنج) وانتهاء بأحجارها ورقعتها.

4 ـ التعبير عن قضايا خاصة به:

التفت ابن الرومي إلى أحواله كثيراً وتأملها وعبر عنها في شعره، مبيناً ما لحقه من ظلم وغَبْنٍ على أيدي أبناء مجتمعه، أو على أيدي الطبيعة التي زادت في مصائبه ونُوَبِهِ؛ وهذا الشعر يضيء جوانب كثيرة في حياة ابن الرومي، ويساعد في الكشف عن كثير من أخباره التي ضاعت عبر الزمن، فتغدو أشعاره عندئذ وثيقة تاريخية لا تقل أهمية عما جاء به المؤرخون من أخبار عن ذلك العصر المضطرب.

لكننا لا نستطيع أن نسلّم بكل ما كان يقوله في هذا المجال، لما عُرِفَ عنه من مبالغات وافتراءات، غير أن ما قاله يخفي خلفه كثيراً من الحقيقة، ولابد أن نعتمد على ما قاله بسبب ندرة أخباره، فليس أمامنا إلا ما قاله من أشعار في ممتلكاته أو في جسمه أو في نفسه، وإن كنا لا ننظر إلى كل ما يقوله في هذا المجال بعين التصديق.

فقد أتى الجراد على زرعه فقضى عليه، فلم يجد ابن الرومي إلا ممدوحه يستعطفه على ما أصابه من أضرار:

ليَ زرعٌ أتى عليه الجرادُ*****عادَني مُذْ رُزِْتُهُ العُوَّادُ
كنتُ أرجو حَصَادَهُ فأتاه*****قبل أنْ يَبْلُغَ الحصادَ حصادُ

ثم جاء الحريق فقضى على ما بقي من أملاكه:

وبعدُ فإن عُذري في قُصُوري*****عنِ البابِ المُحَجَّبِ ذي البَهاءِ
حُدوثُ حَوادثٍ منها حريقٌ*****تَحَيَّفَ ما جَمَعَتُ مِنَ الثَّراء

لكن معاناته الكبيرة كانت مع جباة الخراج، فقد كان المسؤول عنه رجلاً ظالماً متسلطاً اسمه (ابن بَسْطام)، فلم يجد ابن الرومي إلا أن يتوجه إلى ممدوحه الوزير عبيد الله بن عبد الله ليسقط عنه خراج تلك الضيعة الفقيرة، وليكفَّ يد ابن بسطام عنه، فاستجاب الوزير له وأسقط عن ضيعته الخراج، وكفَّ يد ابن بسطام عنه، فقال ابن الرومي يشكره:

حَطَّ مِنْ ثِقْلِ الخَراجِ عني وقد كا*****نَ كأركانِ يَذْبُل وشَمَامِ

وما قاله ابن الرومي عن تسلط جباة الخراج على الناس صحيح تؤيده الأخبار؛ وقد صور ابن المُعْتَزِّ (عبد الله بن محمد 296 هـ) في أرجوزته المشهورة ما كان يفعله هؤلاء الجباة في المزارعين.

ويبلغ هَوَانُ ابن الرومي عند الناس ـ لضعف سلطة العدل والقانون ـ حداً مخزياً عندما تتجرأ عليه امرأة فتسلبه بيته الذي يسكنه، فيستغيث بممدوحه من آل وهب ليرد له بيته من براثن هذه المرأة الضعيفة القوية:

أجِرْنْي وزيرَ الدِّينِ والملْكِ إنني*****إليكَ بحقّي هاربٌ كلَّ مَهْرَبِ

والعصر العباسي كما هو معلوم عصر امتزاج عرقي بين العرب والأعاجم ولاسيما الفرس والترك الذين استعان بهم الخلفاء العباسيون لتوطيد حكمهم، فبرزت مشكلة كبيرة تتعلق بهذا الامتزاج هي الاعتداد بتلك الأصول على حساب الأصول العربية، وقد عُرف هؤلاء بالشعوبيين. لكن العرب لم يسكتوا، . وقد غُمِزَ ابن الرومي في أصله غير العربي، فاهتاج ورَدَّ عن نفسه ضَعَةَ نسبه بأنْ وصل نسبه بملوك الفرس من جهة أمه، وبملوك اليونان من جهة أبيه، من غير أن يتعالى على العرب أو يسخر منهم ومن حضارتهم كما يفعل الشعوبيون.

من ذلك قول ابن الرومي يباهي بأصله الرومي أو اليوناني كما سماه من جهة أبيه، وبأصله الفارسي الساساني من جهة أمه، مشيراً إلى أنه سيصل إلى الأمجاد التي وصل إليها أجداده:

إنْ لم أَزُرْ مَلِكَاً أُشْجي الخُطوبَ به*****فلم يَلِدْنيْ أبو الأملاكِ يونانُ
بل إنْ تَعَدَّتْ فلم أُحْسِنُ سِياسَتَها*****فلم يَلِدْنيْ أبو السُّوَّاسِ ساسان

ثم يرى أن الروم أهل أمجاد وقوة وحكمة، وانه وقومه لا يرون وجوههم في المرايا كالنساء، وإنما يرونها في صفحات السيوف البيض القاطعة:

ونحن بنو اليونانِ قومٌ لنا حِجاً*****ومَجْدٌ وعِيْدانٌ صِلابُ المَعاجِمِ
وحِلْمٌ كأركانِ الجبالِ رَزانَةً*****وجَهْلٌ تَفادَى منه جِنُّ الصَّرائِم
وما تتراءى في المَرايا وجوهُنا*****بلى في صفاحِ المُرْهَفاتِ الصَّوارم

ثانياً: المؤثرات الشخصية (جسمه ونفسه):

وصف ابن الرومي جسمه ونفسه بكل ما فيهما من عيوب وأوجاع ومآخذ. وأسرف في ذلك الوصف حتى لم يستطع أحد من الشعراء غيره اللحاق به في هذا المجال، كقوله يمدح الوزير القاسم بن عبيد الله ويعاتبه، في قصيدة تتألف من مئتين وستة عشر بيتاً، ثلثاها في تصوير سوء حاله:

أنا مَولاكَ أنت أَعْتَقْتَ رِقّي*****بعدما خِفْتُ حالةً نَكْراءَ
فَعَلامَ انصرافُ وجهِكَ عني*****وتَنَاسيْكَ حاجتي إلْغاء
أنا عارٍ مِنْ كلِّ شيءٍ سوى فَضْـ*****لِكَ لا زلْتَ كِسْوَةً وغِطاء

...إلى آخر الأبيات .

إن هذه الأبيات تصور حقاً حال ابن الرومي تمام التصوير، وتعبر عما يحسه من هموم وعذاب في جسده وفي نفسه، وقد توجه بهذه الأبيات إلى ممدوحه الذي وصفه بأنه سيده ومالك أمره الذي سيقضي له حوائجه.


وسأَفْصِل بين جسده ونفسه فصلاً مؤقتاً لأبحث وإن كان هذا الفصل غير علمي، لأن كلاً من جسده ونفسه كان يستجيب للآخر، ويحركه، ويتحرك به.

1 ـ جسمه:
كان ابن الرومي ضعيف البنية، يُغَرْبِلُ في مشيته، ويستند على العصا في آخر أيامه، ضعيف البصر والسمع، يشكو من ضعف جنسي، ومن شيب غزا رأسه في سن الشباب، علاوة على نهمه الشديد إلى الطعام.

وقد عبر عن هذه الأحوال بالصدق حيناً من خلال أشعار كثيرة، وبالادعاءات الكاذبة حيناً آخر ليخفي ضعفه فمن بين ادعاءاته الكثيرة قوله يصف شجاعته وفروسيته وبطولاته، على الرغم مما عرف عن بنيته من ضعف واعتلال، وعن نفسه من جبن وخوف وتوهم :

وإني لَلَيْثٌ في الحروبِ مُظَفَّرٌ*****مُعَارٌ أَداةَ الهَصْرِ بالظَّفْرِ والعَضِّ




إذا ما هَزَزْتُ الرُّمْحَ يومَ كَريهةٍ*****لِجَمْعٍ فذاكَ الجَمْعُ أولُ مُنْفَضّ

فهو أسد في الحروب، وهذا الافتخار مبني على الادعاء الكاذب على شاكلة كثير من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلونولعل ابن الرومي أراد بهذه الأبيات أن يدفع عن نفسه تُهَمَ العجز والضعف والجبن التي كان يراها في نظرات معاصريه وغمزاتهم، ولعله أراد الخوض في موضوع الفخر بالشجاعة كما خاض فيه غيره من الشعراء.

وفي موضع آخر في شعره يتحول ابن الرومي الجبان الذي يخاف مما لا يخيف إلى واعظ يعظ الناس بألا يجبنوا أو يخافوا،وكل هذا ليظهر نفسه شجاعاً لا يخاف الموت، وأنه ليس جبانا ًكما يظن الناس:

لا تَجْبُنَنَّ لأنَّ النَّفْسَ واحدةٌ*****فإنما الموتُ أيضاً واحدٌ فَقَدِ
ما يَجْبُنُ المرءُ إلا وهْو مُعْتَقِدٌ*****أو مُشْفِقُ أنه إن مات لم يَعُد

وكان له شأن مهم مع أصحاب اللحى الطويلة، لأنه كان يكره إطالة اللحية، ويراها تعبيراً عن الحمق والنقص في صاحبها، وهذا أمر مألوف من شاعر ينفر من مظاهر القبح في كل شيء.
فما الداعي إلى تلك الإطالة؟

أو فَقَصِّرْ منها فَحَسْبُكَ منها*****نِصْفُ شِبْرٍ علامةَ التذكيرِ

فالقضية لم تعد نفوراً من منظر قبيح فحسب، بل صارت تعويضاً نفسياً، وتعالياً على تهمة قد تُوجَّه إليه بسبب قصر لحيته.

وكان ابن الرومي نهماً إلى الطعام نهماً شديداًفقد وصف شهوته الجامحة إلى الطعام ـ بمختلف صنوفه ـ من خلال كثير من القصائد والمقطعات، وتفنن في وصف أصنافه وأشكاله وطعومه وطرائق تحضيره... ويضيق بنا المجال لو رحنا نتبع الأصناف التي ذكرها منه في شعره، لكنه شهر بحبه للسمك.

واعلمْ وُقِيْتَ الجهلَ أنك في*****قَصْرٍ تَلِيْهِ مَطارِحُ السَّمَكِ
وبَناتُ دِجْلَةَ في فِنائِكُمُ*****مَأْسُوْرَةٌ في كلِّ مُعْتَرَكِ

فما يطلبه من ممدوحه هو أكلة سمك من نهر دجلة المجاور لقصره، ثم يصف ذلك السمك وهو في النهر.

وهذا المزج بين الطعام والمرأة نقله أيضاً إلى أركان الصورة نفسها، فاستعان به ركناً من أركان التشبيه؛ فالأطعمة والأشربة عناصر مهمة من عناصر الصورة الشعرية عنده، ويكفي للتدليل على ذلك أن نتذكر ما قاله في قصيدته المشهورة في المديح التي مطلعها:

أَجْنَتْ لك الوَجْدَ أغصانٌ وكُثْبانُ*****فيهنّ نوعانِ تفاحٌ ورمان
وفوقَ ذَيْنِكَ أعْنابٌ مُهَدَّلَةٌ*****سُوْدٌ لهنَ مِنَ الظَلْماءِ أَلْوان
وتحت هاتِيْكَ أعنابٌ تَلُوْحُ به*****أَطْرافُهُنَّ قُلوبُ القومِ قِنْوان

فهو يركّب صوراً جميلة من الطبيعة والثمار الطيبة؛ لذا كان لابد لامرأة بهذه الأوصاف أن تجني ثمار الوجد لعاشقيها، أو أن تتجنى عليهم وتمزق قلوبهم، لأن لكلمة (جَنَى) معنيين؛ أحدهما من الجَنْيِ يكون للثمار، والآخر من الجِنايَةِ بمعنى الذنب والجُرْم. والمعنيات جائزان في البيت السابق.

وقد دفعه ضعفه الجنسي إلى التعويض أيضاً بعدة طرق؛ منها وصف بعض المغامرات مع النساء، وأنه محبوب مرغوب فيه على طريقة عمر بن أبي ربيعة في الغزل المعكوس،وله قصيدة كتلك القصائد التي نظمها عمر بن أبي ربيعة , فحاول ابن الرومي أن يقلده، ونجح في ذلك إلى أبعد حدود النجاح، حتى ليخيل إلى القارئ أن القصيدة لعمر وليست لابن الرومي:

كتبتْ رَبَّةُ الثنايا العِذابِ*****تَتَشَكَّى إليَّ طُوْلَ اجْتِنابي

وإذا قرأنا القصيدة بتمامها والتي يزعم فيهاأن صاحبته أرسلت إليه خطاباً تدعوه إليها، وتشتكي له من طول غيابه عنها، وتصف حبها الذي أضنى فؤادها، فاستجاب لخطابها ورحل إليها مقتحماً المخاطر، فاستقبلته صاحبته مع أترابها وهنّ كاشفات عن وجوههن وقد أمضين الليل ساهرات ينتظرن قدومه، ,ثم جلس إلى صاحبته فراحت تعاتبه على هجره لها، فأعلمها أنه ما هجرها طائعاً ولا سالياً عنها بالخمر والطرب، بل لأنه كان مثلها يشكو من نار الهوى التي كَوَتْهُ فلم يستطع أن ينام ليله، وكأن فراشه حشي بالحجارة الحادة الناتئة. وبعد هذا العتاب تصالحا وتواعدا على اللقاء من جديد.

ونستطيع أن نعلل ـ بعد هذا الفهم لحقيقة علاقته بالنساء ـ أسباب سوء ظنه بالمرأة، لأن المرأة نفرت منه لقبحه ولشيبه، أو لعنانته، أو لأمراضه وعلله، أو لكل هذه الأسباب معاً، فكان رد ابن الرومي عليها أنْ سلب منها كل فضيلة، وصورها فاجرة، أو على أقل تقدير خائنة لا تعرف الوفاء بالعهود. وهذا الكلام ينطبق على كل النساء في زعمه كما يقول:

ولا يَدُمْنَ على عَهْدٍ لِمُعْتَقِدٍ*****أنّى وهُنّ كما شُبِّهْنَ بُسْتانُ

*****
 
رد: تقرير عن شخصية ابن الرومي

باستثناء امرؤ القيس و خاله المهلهل و عنترة بن شداد


كل الشعراء كان يمدحون حاكم القبيلة من اجل خمسين درهم


تجد لهم شعر في الحروب و في حياتهم اليومية لاكن وصفهم دائما يكون لصاحب السمو


و لم اجد شاعر واحد وقف الند لند مع الحاكم


و ان كان دالك فانه كان بعيد كل البعد عنه


ابن الرومي شاعر لا يشبه المتنبي الى حد كبير


هو حقا عاش مأسي كثيرة لاكن شعره لم يكن ابدا يعبر عن ضعفه


بل كان يحمل الاحساس الدي كان يحس به في حياته اليومية.


موضوع رائع و شخصية جد قيمة


فالف شكر لك


تقبلي مروري
 
رد: تقرير عن شخصية ابن الرومي

بارك الله فيك على المرور اخي نجيب​
 
رد: تقرير عن شخصية ابن الرومي

حالياً الأعضاء النشيطين الذين يشاهدون هذا الموضوع : 109 (2 عضو و 107 ضيف)
عـاشقة الجّنة, ‏نجيب
 
رد: تقرير عن شخصية ابن الرومي

بارك الله فيك اختي ان شاء الله يستفيد منه الاعضاء
 
رد: تقرير عن شخصية ابن الرومي

ان شاء الله ساندي​
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top