صفحة مطوية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية
فقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمةً وحدَه، صاحبَ دعوة إصلاحية تجديدية ما فتئ الناس ينهلون من معينها، ولا تزال آثارها باقية إلى يومنا هذا، كانت قضيته التي عاش من أجلها، ونذر حياته لها، وجاهد بلسانه وبنانه لتحقيقها ردَّ الناس إلى الأمر الأول الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
لا جرم أنَّ حياته كانت سلسلة من المحن، خاض فيها ابن تيمية معارك كبرى مع جيوش الضلالة، وصدع بالحق في وجه أهل البدع والغواية، مع رحمة دون تهاون، وقوة دون ضعف، وعزة دون غرور، وثبات دون تردد، وعزم دون عجز، ويقين دون شك، غير وجِلٍ ولا آبهٍ ولا خوَّارٍ ولا متلجلج.
تتابعت عليه غِيَرُ الدهر[1] بصنوف من المحن وأنواع من الفتن، فلم يُرَ فيها إلا رابطَ الجأش، منشرحَ الصدر، بصيرَ الرأي، قويَّ الحجة، صادقَ اللهجة، ليس ذلك غلوًّا ولا ادعاء، وإنما يدركه كل من له أدنى نظر في سيرته وحياته، وكل من طالع شيئًا من كتبه وتأملَ دقيق كلماته، مع تحلٍّ بالإنصاف وتخلٍّ عن الإجحاف.
يخطئ من يظن أن ابن تيمية استطاع - وهو فرد وحده - أن يفعل ذلك كلَّه بغزارة علمه وتبحره وسعة اطلاعه فحسب، بل ثمَّ أمرٌ آخرُ خبيءٌ في سيرته قلَّ من يدركه ويقف عليه، كان هو أساسَ قوةِ قلبه وثباتِ جنانه أمام الباطل وأعوانه، ذلكم هو تألهه وتعبده وتنسكه، وحسن أخلاقه وجميل صفاته، الذي جعل «لكلامه صولة على القلوب، وتأثيرًا في النفوس، وهيبة مقبولة، ونفعًا يظهر أثره، وتنفعل له النفوس التي سمعته أيامًا كثيرة بعقبه، حتى كان مقاله بلسان حاله، وحاله ظاهر له في مقاله، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم، والإنابة والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد مع الصدق والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله، وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له، وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله، وحسن الأخلاق، ونفع الخلق والإحسان إليهم، والصبر على من آذاه، والصفح عنه، والدعاء له، وسائر أنواع الخير، وكان - رحمه الله - سيفًا مسلولا على المخالفين، وشجًى في حلوق أهل الأهواء المبتدعين، وإمامًا قائمًا ببيان الحق ونصرة الدين، وكان بحرًا لا تكدره الدلاء، وحبرًا يقتدي به الأخيار الألباء، طنَّت بذكره الأمصار، وضنَّت بمثله الأعصار»[2].
يحدثنا تلميذه وخريجه ابن القيم - رحمه الله - قائلا: «وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ الغداء سقطت قوتي. أو كلامًا قريبًا من هذا»[3].
هذا هو الزاد الذي كان يتزود به ابن تيمية في مواجهة ما يلاقيه في طريق الدعوة من الضراء، والمدد الذي كان يمده بالقوة في الصبر على البلاء.
وهاك - أخي الحبيب - صورًا من حياته الروحية التي حققها - كما يقول متحدثًا بنعمة الله عليه - «علمًا وذوقًا وتجربة»[4]، نقلها عنه من صاحبه ولازمه، علَّها تكون معينة لنا على التشبه به فيها.
وقد قيل: عمل رجلٍ في ألف رجل خير من قول ألف رجلٍ لرجل.
1- خلوته بالله:
قال ابن القيم - رحمه الله -: «وحدثني بعض أقارب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قال: كان في بداية أمره يخرج أحيانًا إلى الصحراء يخلو عن الناس، لقوة ما يرد عليه، فتبعته يوما فلما أصحر تنفس الصعداء، ثم جعل يتمثل بقول الشاعر - وهو لمجنون ليلى من قصيدته الطويلة -:
وأخرج من بين البيوت لعلني
أحدث عنك النفس بالسر خاليا[5]»
قال ابن القيم: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا. وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله. وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد:13].
وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها»[6].
3- فرحه وسروره بالله:
قال ابن القيم: «ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في المنام، وكأني ذكرت له شيئًا من أعمال القلب، وأخذت في تعظيمه ومنفعته - لا أذكره الآن - فقال: أما أنا فطريقتي: الفرح بالله، والسرور به، أو نحو هذا من العبارة. وهكذا كانت حاله في الحياة، يبدو ذلك على ظاهره، وينادي به عليه حاله»[7].
4- سلامة صدره:
قال ابن القيم: «كان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددتُ أني لأصحابي مثلُه لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم، وجئت يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكَّر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسرُّوا به ودعَوا له، وعظموا هذه الحال منه»[8].
5- عفوه وصفحه عمن آذاه:
قال الحافظ ابن كثير: «وسمعت الشيخ تقيَّ الدين [يعني ابن تيمية] يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشباك الذي جلسا فيه، وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضًا، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم، وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعَوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحدًا منهم بسوء، وقال له: إذا قتلتَ هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له: إنهم قد آذَوك وأرادوا قتلك مرارًا، فقال الشيخ: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح. قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا، وحاجج عنا»[9].
6- صدقة السر:
قال ابن القيم: «وشاهدت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبز أو غيره فيتصدق به في طريقه سرًّا، وسمعته يقول: إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالصدقة بين يدي مناجاته تعالى أفضل وأولى بالفضيلة»[10].
7- مداومته على الذكر:
قال ابن القيم: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟... وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر. أو كلامًا هذا معناه»[11].
وقال ابن القيم أيضًا: « وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة[12]، وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها - من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة - قال: فلما اشتد عليَّ الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرأوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبَةٌ[13].
وقد جربت أنا أيضًا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه، فرأيت لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه وطمأنينته»[14].
وقال أيضًا: «وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه شديد اللهج بها جدًّا، وقال لي يومًا: لهذين الاسمين وهما (الحي القيوم) تأثير عظيم في حياة القلب، وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم، وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر: يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه»[15].
ويقول ابن القيم عن أثر الذكر في قوَّة قلبه وبدنه: «وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سَننه وكلامه وإقدامه وكتابه أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا»[16].
وكان ابن تيمية يرى أن الاشتغال بالذكر والعلم معين على دفع ألم المرض، قال ابن القيم: «وسمعت شيخنا أبا العباس ابن تيمية - رحمه الله - يقول - وقد عرض له بعض الألم - فقال له الطبيب: أضر ما عليك الكلام في العلم والفكر فيه والتوجه والذكر، فقال ألستم تزعمون أن النفس إذا قويت وفرحت أوجب فرحها لها قوة تعين بها الطبيعة على دفع العارض؛ فإنه عدوها، فإذا قويت عليه قهرته. فقال له الطبيب: بلى. فقال: إذا اشتغلت نفسي بالتوجه والذكر والكلام في العلم وظفرت بما يشكل عليها منه فرحت به وقويت، فأوجب ذلك دفع العارض هذا أو نحوه من الكلام»[17].
8- دعاؤه وتضرعه:
قال الحافظ ابن كثير: «وأخبرني العلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله - أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور [يعني ابن تيمية] يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود أدعو لله بما تضمناه من الذل والخضوع.
يا من ألوذ به فيما أؤمله
ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره
ولا يهيضون عظمًا أنت جابره»[18]
9- فراسته:
قال ابن القيم: «ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أمورًا عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم، ووقائع فراسته تستدعي سِفرًا ضخمًا.
أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة، وأن جيوش المسلمين تكسر، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبيٌ عام، وأن كلَب الجيش وحدته في الأموال. وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة، ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينًا، فيقال له: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وسمعته يقول ذلك. قال: فلما أكثروا عليَّ، قلت: لا تكثروا، كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرة، وأن النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطمعت[20] بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو، وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر.
ولما طلب إلى الديار المصرية، وأريد قتله - بعدما أنضجت له القدور، وقلبت له الأمور - اجتمع أصحابه لوداعه. وقالوا: قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك. فقال: والله لا يصلون إلى ذلك أبدًا، قالوا: أفتحبس؟ قال: نعم، ويطول حبسي، ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رءوس الناس. سمعته يقول ذلك.
ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك. وقالوا: الآن بلغ مراده منك، فسجد لله شكرًا وأطال، فقيل له: ما سبب هذه السجدة؟ فقال: هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن، وقرب زوال أمره، فقيل: متى هذا؟ فقال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته، فوقع الأمر مثل ما أخبر به. سمعت ذلك منه.
وقال مرة: يدخل عليَّ أصحابي وغيرهم، فأرى في وجوههم وأعينهم أمورًا لا أذكرها لهم. فقلت له - أو غيري -: لو أخبرتهم؟ فقال: أتريدون أن أكون معرِّفًا كمعرف الولاة؟ وقلت له يومًا: لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح، فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعة، أو قال: شهرًا. وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه، ولم ينطق به لساني. وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل، ولم يعين أوقاتها، وقد رأيت بعضها، وأنا أنتظر بقيتها. وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته»[21].
10- فقره إلى الله:
قال ابن القيم: «لا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل، وأنه لا شيء، وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه. ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء، وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:
أنا المكدِّي[22] وابن المكدِّي
وهكذا كان أبي وجدي
وكان إذا أثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعدُ إسلامًا جيدًا.
وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقير إلى رب البريات
أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهْي ظالمتي
والخير إن يأتنا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة
ولا عن النفس لي دفع المضرات
وليس لي دونه مولى يدبرني
ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقنا
إلى الشفيع كما قد جا في الايات
ولست أملك شيئًا دونه أبدا
ولا شريك أنا في بعض ذرات
ولا ظهير له كي يستعين به
كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا
كما الغنى أبدا وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم
وكلهم عنده عبدله آتي
فمن بغى مطلبًا من غير خالقه
فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكون أجمعه
ما كان منه وما من بعد قد ياتي»[23]
11- حسن خاتمته:
قال الحافظ ابن كثير: «وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبدالرحمن أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة[24] وشرَعا في الحادية والثمانين، فانتهينا فيها إلى آخر اقتربت الساعة ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر:54-55] فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيِّران عبدالله بن المحب وعبد الله الزرعي الضرير - وكان الشيخ رحمه الله يحب قراءتهما - فابتدآ من أول سورة الرحمن حتى ختموا القرآن، وأنا حاضر أسمع وأرى»[25].
وختامًا:
على العلماء والدعاة وطلاب العلم والمربين أن يتزوَّدوا من هذا الزاد الروحي العملي مع التحصيل العلمي في مواجهة ما يكتنف حياتهم من مشقات، وما يعترض طريقهم من عقبات، فذلك خير معين على بلوغ المقصود، وحصل المطلوب، وهو أيضًا أنفع دواء لما يشكوه القلب من قسوة نتيجة الخلافات المذهبية والصراعات السياسية والمشاحنات الحزبية.
وإليك وصيةَ الإمامِ ابنِ الجوزي - رحمه الله - التي يقول فيها: «فعليك بالعزلة، والذكر، والنظر في العلم، فإن العزلة حمية، والفكر والعلم أدوية، والدواء مع التخليط لا ينفع، وقد تمكنت منك أخلاط المخالطة للخلق، والتخليط في الأفعال، فليس لك دواء إلا ما وصفتُ لك، فأما إذا خالطتَ الخلق، وتعرضتَ للشهوات، ثم رُمتَ صلاح القلب، رُمْتَ الممتنع»[26].
ويقارن ابن الجوزي بين المشتغلين بالعلم وبين المشتغلين بالعمل، ثم يقرر أن «الصواب العكوف على العلم، مع تلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعًا لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم»[27].
فاللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] أي: أحواله وأحداثه المتغيرة.
[2] «العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية» لابن عبدالهادي (ص22-23).
[3] «الوابل الصيب» (ص42).
[4] «مجموع الفتاوى» (28/40).
[5] «مدارج السالكين» (3/61)، وانظر: «روضة المحبين» (ص281، 437).
[6] «الوابل الصيب» (ص48).
[7] «مدارج السالكين» (2/174).
[8] «مدارج السالكين» (2/239).
[9] «البداية والنهاية» (14/61).
[10] «زاد المعاد» (1/395)، وانظر: «***** دار السعادة» (2/33).
[11] «الوابل الصيب» (ص42).
[12] وقد ذكرها ابن القيم قبل هذا النقل (مدارج السالكين 2/470).
[13] يقال للرجل إذا بَرَأ من مَرَضِهِ: ما به قَلَبةٌ أي: علة. انظر: «إصلاح المنطق» لابن السكيت (ص271)، «مقاييس اللغة» (3/463)، «لسان العرب» (1/687).
[14] «مدارج السالكين» (2/471).
[15] «مدارج السالكين» (1/446)، وانظر: (3/248).
[16] «الوابل الصيب» (ص77).
[17] «***** دار السعادة» (1/250).
[18] «البداية والنهاية» (11/292).
[19] «العقود الدرية» (21-22).
[20] كذا في الأصل، ولعل الأقرب: وأطعمت.
[21] «مدارج السالكين» (2/458-459).
[22] أي: قليل الحيلة والمال انظر: «لسان العرب» (15/216).
[23] «مدارج السالكين» (1/520-521).
[24] انظر: «العقود الدرية» (ص472).
[25] «البداية والنهاية» (14/159).
[26] «صيد الخاطر» (ص54).
[27] «صيد الخاطر» (ص160).
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:فقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمةً وحدَه، صاحبَ دعوة إصلاحية تجديدية ما فتئ الناس ينهلون من معينها، ولا تزال آثارها باقية إلى يومنا هذا، كانت قضيته التي عاش من أجلها، ونذر حياته لها، وجاهد بلسانه وبنانه لتحقيقها ردَّ الناس إلى الأمر الأول الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
لا جرم أنَّ حياته كانت سلسلة من المحن، خاض فيها ابن تيمية معارك كبرى مع جيوش الضلالة، وصدع بالحق في وجه أهل البدع والغواية، مع رحمة دون تهاون، وقوة دون ضعف، وعزة دون غرور، وثبات دون تردد، وعزم دون عجز، ويقين دون شك، غير وجِلٍ ولا آبهٍ ولا خوَّارٍ ولا متلجلج.
تتابعت عليه غِيَرُ الدهر[1] بصنوف من المحن وأنواع من الفتن، فلم يُرَ فيها إلا رابطَ الجأش، منشرحَ الصدر، بصيرَ الرأي، قويَّ الحجة، صادقَ اللهجة، ليس ذلك غلوًّا ولا ادعاء، وإنما يدركه كل من له أدنى نظر في سيرته وحياته، وكل من طالع شيئًا من كتبه وتأملَ دقيق كلماته، مع تحلٍّ بالإنصاف وتخلٍّ عن الإجحاف.
يخطئ من يظن أن ابن تيمية استطاع - وهو فرد وحده - أن يفعل ذلك كلَّه بغزارة علمه وتبحره وسعة اطلاعه فحسب، بل ثمَّ أمرٌ آخرُ خبيءٌ في سيرته قلَّ من يدركه ويقف عليه، كان هو أساسَ قوةِ قلبه وثباتِ جنانه أمام الباطل وأعوانه، ذلكم هو تألهه وتعبده وتنسكه، وحسن أخلاقه وجميل صفاته، الذي جعل «لكلامه صولة على القلوب، وتأثيرًا في النفوس، وهيبة مقبولة، ونفعًا يظهر أثره، وتنفعل له النفوس التي سمعته أيامًا كثيرة بعقبه، حتى كان مقاله بلسان حاله، وحاله ظاهر له في مقاله، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم، والإنابة والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد مع الصدق والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله، وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له، وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله، وحسن الأخلاق، ونفع الخلق والإحسان إليهم، والصبر على من آذاه، والصفح عنه، والدعاء له، وسائر أنواع الخير، وكان - رحمه الله - سيفًا مسلولا على المخالفين، وشجًى في حلوق أهل الأهواء المبتدعين، وإمامًا قائمًا ببيان الحق ونصرة الدين، وكان بحرًا لا تكدره الدلاء، وحبرًا يقتدي به الأخيار الألباء، طنَّت بذكره الأمصار، وضنَّت بمثله الأعصار»[2].
يحدثنا تلميذه وخريجه ابن القيم - رحمه الله - قائلا: «وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ الغداء سقطت قوتي. أو كلامًا قريبًا من هذا»[3].
هذا هو الزاد الذي كان يتزود به ابن تيمية في مواجهة ما يلاقيه في طريق الدعوة من الضراء، والمدد الذي كان يمده بالقوة في الصبر على البلاء.
وهاك - أخي الحبيب - صورًا من حياته الروحية التي حققها - كما يقول متحدثًا بنعمة الله عليه - «علمًا وذوقًا وتجربة»[4]، نقلها عنه من صاحبه ولازمه، علَّها تكون معينة لنا على التشبه به فيها.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاحُ
إن التشبه بالكرام فلاحُ
وقد قيل: عمل رجلٍ في ألف رجل خير من قول ألف رجلٍ لرجل.
1- خلوته بالله:
قال ابن القيم - رحمه الله -: «وحدثني بعض أقارب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قال: كان في بداية أمره يخرج أحيانًا إلى الصحراء يخلو عن الناس، لقوة ما يرد عليه، فتبعته يوما فلما أصحر تنفس الصعداء، ثم جعل يتمثل بقول الشاعر - وهو لمجنون ليلى من قصيدته الطويلة -:
وأخرج من بين البيوت لعلني
أحدث عنك النفس بالسر خاليا[5]»
2- أنسه بالله وطيب عيشه:قال ابن القيم: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا. وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله. وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد:13].
وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها»[6].
3- فرحه وسروره بالله:
قال ابن القيم: «ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في المنام، وكأني ذكرت له شيئًا من أعمال القلب، وأخذت في تعظيمه ومنفعته - لا أذكره الآن - فقال: أما أنا فطريقتي: الفرح بالله، والسرور به، أو نحو هذا من العبارة. وهكذا كانت حاله في الحياة، يبدو ذلك على ظاهره، وينادي به عليه حاله»[7].
4- سلامة صدره:
قال ابن القيم: «كان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددتُ أني لأصحابي مثلُه لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم، وجئت يومًا مبشرًا له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكَّر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسرُّوا به ودعَوا له، وعظموا هذه الحال منه»[8].
5- عفوه وصفحه عمن آذاه:
قال الحافظ ابن كثير: «وسمعت الشيخ تقيَّ الدين [يعني ابن تيمية] يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشباك الذي جلسا فيه، وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضًا، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم، وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعَوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحدًا منهم بسوء، وقال له: إذا قتلتَ هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له: إنهم قد آذَوك وأرادوا قتلك مرارًا، فقال الشيخ: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح. قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا، وحاجج عنا»[9].
6- صدقة السر:
قال ابن القيم: «وشاهدت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبز أو غيره فيتصدق به في طريقه سرًّا، وسمعته يقول: إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالصدقة بين يدي مناجاته تعالى أفضل وأولى بالفضيلة»[10].
7- مداومته على الذكر:
قال ابن القيم: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟... وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر. أو كلامًا هذا معناه»[11].
وقال ابن القيم أيضًا: « وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة[12]، وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها - من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة - قال: فلما اشتد عليَّ الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرأوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبَةٌ[13].
وقد جربت أنا أيضًا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه، فرأيت لها تأثيرًا عظيمًا في سكونه وطمأنينته»[14].
وقال أيضًا: «وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه شديد اللهج بها جدًّا، وقال لي يومًا: لهذين الاسمين وهما (الحي القيوم) تأثير عظيم في حياة القلب، وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم، وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر: يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه»[15].
ويقول ابن القيم عن أثر الذكر في قوَّة قلبه وبدنه: «وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سَننه وكلامه وإقدامه وكتابه أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا»[16].
وكان ابن تيمية يرى أن الاشتغال بالذكر والعلم معين على دفع ألم المرض، قال ابن القيم: «وسمعت شيخنا أبا العباس ابن تيمية - رحمه الله - يقول - وقد عرض له بعض الألم - فقال له الطبيب: أضر ما عليك الكلام في العلم والفكر فيه والتوجه والذكر، فقال ألستم تزعمون أن النفس إذا قويت وفرحت أوجب فرحها لها قوة تعين بها الطبيعة على دفع العارض؛ فإنه عدوها، فإذا قويت عليه قهرته. فقال له الطبيب: بلى. فقال: إذا اشتغلت نفسي بالتوجه والذكر والكلام في العلم وظفرت بما يشكل عليها منه فرحت به وقويت، فأوجب ذلك دفع العارض هذا أو نحوه من الكلام»[17].
8- دعاؤه وتضرعه:
قال الحافظ ابن كثير: «وأخبرني العلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله - أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور [يعني ابن تيمية] يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود أدعو لله بما تضمناه من الذل والخضوع.
يا من ألوذ به فيما أؤمله
ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره
ولا يهيضون عظمًا أنت جابره»[18]
ونقل الحافظ ابن عبدالهادي عن بعض قدماء أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية قال: «ولقد سمعته في مبادئ أمره يقول: إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة التي تشكل عليَّ، فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر وينحل إشكال ما أشكل. قال: وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدرب أو المدرسة، لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي»[19].9- فراسته:
قال ابن القيم: «ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أمورًا عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم، ووقائع فراسته تستدعي سِفرًا ضخمًا.
أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة، وأن جيوش المسلمين تكسر، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبيٌ عام، وأن كلَب الجيش وحدته في الأموال. وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة، ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينًا، فيقال له: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وسمعته يقول ذلك. قال: فلما أكثروا عليَّ، قلت: لا تكثروا، كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرة، وأن النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطمعت[20] بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو، وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر.
ولما طلب إلى الديار المصرية، وأريد قتله - بعدما أنضجت له القدور، وقلبت له الأمور - اجتمع أصحابه لوداعه. وقالوا: قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك. فقال: والله لا يصلون إلى ذلك أبدًا، قالوا: أفتحبس؟ قال: نعم، ويطول حبسي، ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رءوس الناس. سمعته يقول ذلك.
ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك. وقالوا: الآن بلغ مراده منك، فسجد لله شكرًا وأطال، فقيل له: ما سبب هذه السجدة؟ فقال: هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن، وقرب زوال أمره، فقيل: متى هذا؟ فقال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته، فوقع الأمر مثل ما أخبر به. سمعت ذلك منه.
وقال مرة: يدخل عليَّ أصحابي وغيرهم، فأرى في وجوههم وأعينهم أمورًا لا أذكرها لهم. فقلت له - أو غيري -: لو أخبرتهم؟ فقال: أتريدون أن أكون معرِّفًا كمعرف الولاة؟ وقلت له يومًا: لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح، فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعة، أو قال: شهرًا. وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه، ولم ينطق به لساني. وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل، ولم يعين أوقاتها، وقد رأيت بعضها، وأنا أنتظر بقيتها. وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته»[21].
10- فقره إلى الله:
قال ابن القيم: «لا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل، وأنه لا شيء، وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه. ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء، وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:
أنا المكدِّي[22] وابن المكدِّي
وهكذا كان أبي وجدي
وكان إذا أثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعدُ إسلامًا جيدًا.
وبعث إليَّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقير إلى رب البريات
أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهْي ظالمتي
والخير إن يأتنا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة
ولا عن النفس لي دفع المضرات
وليس لي دونه مولى يدبرني
ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقنا
إلى الشفيع كما قد جا في الايات
ولست أملك شيئًا دونه أبدا
ولا شريك أنا في بعض ذرات
ولا ظهير له كي يستعين به
كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا
كما الغنى أبدا وصف له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم
وكلهم عنده عبدله آتي
فمن بغى مطلبًا من غير خالقه
فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكون أجمعه
ما كان منه وما من بعد قد ياتي»[23]
11- حسن خاتمته:
قال الحافظ ابن كثير: «وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبدالرحمن أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة[24] وشرَعا في الحادية والثمانين، فانتهينا فيها إلى آخر اقتربت الساعة ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر:54-55] فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيِّران عبدالله بن المحب وعبد الله الزرعي الضرير - وكان الشيخ رحمه الله يحب قراءتهما - فابتدآ من أول سورة الرحمن حتى ختموا القرآن، وأنا حاضر أسمع وأرى»[25].
وختامًا:
على العلماء والدعاة وطلاب العلم والمربين أن يتزوَّدوا من هذا الزاد الروحي العملي مع التحصيل العلمي في مواجهة ما يكتنف حياتهم من مشقات، وما يعترض طريقهم من عقبات، فذلك خير معين على بلوغ المقصود، وحصل المطلوب، وهو أيضًا أنفع دواء لما يشكوه القلب من قسوة نتيجة الخلافات المذهبية والصراعات السياسية والمشاحنات الحزبية.
وإليك وصيةَ الإمامِ ابنِ الجوزي - رحمه الله - التي يقول فيها: «فعليك بالعزلة، والذكر، والنظر في العلم، فإن العزلة حمية، والفكر والعلم أدوية، والدواء مع التخليط لا ينفع، وقد تمكنت منك أخلاط المخالطة للخلق، والتخليط في الأفعال، فليس لك دواء إلا ما وصفتُ لك، فأما إذا خالطتَ الخلق، وتعرضتَ للشهوات، ثم رُمتَ صلاح القلب، رُمْتَ الممتنع»[26].
ويقارن ابن الجوزي بين المشتغلين بالعلم وبين المشتغلين بالعمل، ثم يقرر أن «الصواب العكوف على العلم، مع تلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعًا لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم»[27].
فاللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] أي: أحواله وأحداثه المتغيرة.
[2] «العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية» لابن عبدالهادي (ص22-23).
[3] «الوابل الصيب» (ص42).
[4] «مجموع الفتاوى» (28/40).
[5] «مدارج السالكين» (3/61)، وانظر: «روضة المحبين» (ص281، 437).
[6] «الوابل الصيب» (ص48).
[7] «مدارج السالكين» (2/174).
[8] «مدارج السالكين» (2/239).
[9] «البداية والنهاية» (14/61).
[10] «زاد المعاد» (1/395)، وانظر: «***** دار السعادة» (2/33).
[11] «الوابل الصيب» (ص42).
[12] وقد ذكرها ابن القيم قبل هذا النقل (مدارج السالكين 2/470).
[13] يقال للرجل إذا بَرَأ من مَرَضِهِ: ما به قَلَبةٌ أي: علة. انظر: «إصلاح المنطق» لابن السكيت (ص271)، «مقاييس اللغة» (3/463)، «لسان العرب» (1/687).
[14] «مدارج السالكين» (2/471).
[15] «مدارج السالكين» (1/446)، وانظر: (3/248).
[16] «الوابل الصيب» (ص77).
[17] «***** دار السعادة» (1/250).
[18] «البداية والنهاية» (11/292).
[19] «العقود الدرية» (21-22).
[20] كذا في الأصل، ولعل الأقرب: وأطعمت.
[21] «مدارج السالكين» (2/458-459).
[22] أي: قليل الحيلة والمال انظر: «لسان العرب» (15/216).
[23] «مدارج السالكين» (1/520-521).
[24] انظر: «العقود الدرية» (ص472).
[25] «البداية والنهاية» (14/159).
[26] «صيد الخاطر» (ص54).
[27] «صيد الخاطر» (ص160).
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/65098/#ixzz3V9iITApR