مال ميزان النهار وانحدرت الشمس الى مغربها مدغدغة السماء فاحمرت الاخرى خجلا ، وغدا
الكل الى مؤواه وتعالت الأصوات كصوت العصافير المزدحمة على ابواب أعشاشها
يسلبني الصياح ويجر مسامعي الى مكان ليس بالبعيد عن المدينة...
الى القرية...قرية حقيرة تعجّ بالفقراء و البؤساء....
حالهم لا يختلف كثيرا عن عائلة العم حفيظ، عائلة لطالما استظلت بظلال
الفقر والعوز و الحرمان ....
العم حفيظ كهل ، وان بدا للناظر شيخا في أرذل العمر ،
هزيل الجسد يكسوه الشيب فان نظر اليك بعينيه الذابلتين وتقاسيم وجهه
بتجاعيده البارزة ، قد يروي لك بهما حياة عاشهاولم تنصفه ، رغم ذلك تقاصمها
مع زوجته الخالة رابحة ، امرأة في الاربعينيات ، بيضاء ممتلئة القدّ
قوية البنية حسناء في سكوتها
ولكن طوال اليوم لا تسمع لها الاّ صياحها ونحيبها ، تندب حضها ،وتفرغ جام
غضبها على العم حفيظ واولادهم الاربعة
لكن لوشُقَ صدرها لوجدت بداخله قلبا يلفح الوجوه لشدة بياضه وطيبته.
تعالت الضحكات وصرخات اطفالهم ..و الخالة رابحة معصبة الرأس بخيمارها
الاسود تمسك على تنورتها بقوة وتلطم بين الفينة و الاخرى وركيها
تسير بحيرة في أرجاء المنزل وتنظر من الباب بين كل ثانية
وأخرى وكأنها تبحث عن شيئ...وفجأة تصيح ..امجد ...
اين امجد ..يا حياة الشؤم هذه..أُلطف بنا يا الله..
تعالت اصواتها ككمل مرة وفي كل مرة يمتزج بصوت جيرانها.
عسَُر الحال على العم حفيظ السقيم ،الذي بالكاد يستطيع الكلام
مرمي في وسط بيت مهشم السقف، يتوسط فراشا رثًا ، لاحول ولا قوة له سوى
الانتضار برأقفة الرحمان لحاله، يرمق الخالة رابحة بنظرات البؤس
وهي في أوج غضبها ..وكأنه يريد ان يستفيق من هذا المنظر ، ومرّ على ذلك
الوضع دقائق لا تُسْمع فيها لطم الامواج
ولا تهب فيها اية نسمة ..ففزعت الخالة رابحة
الى وشاحها اعتمرته وضربت باب الكوخ برجلها وخرجت تنظر
الى آخر ملمحها علها ترى ابنها،
وفي هذه اللحظات يقترب ابنها البكر أمجد ،كان لم يبلغ الرابعة عشر من عمره
أسمرا رفيعا ، يسير بخطوات متثاقلة وكأنما شيئا اهلكه....
يترنح بين اليمين والشمال يجر رجليه وكأنما هو يحاول أن يبقي حذائه الممزق تحته
ليطئ به الارض ، لمح امه من بعيد أمام البيت فكشر على وجهه
وتريث في مشيته وهو لاه يُردد النظر اليها، وفي كلّ مرة يقترب فيها
كأنما هو يريد العودة ادراجه لما ينتظره من توبيخ
فرحت الخالة رابحة لرؤية ابنها
وسرعان ما امتزج بغضبها فأمسكته من اسماله البالية
وجرته بقوة الى الداخل ...ادخل يا حظي العفن ادخل
اين كنت طوال اليوم ....؟
في هذه اللّحظات أمجد لا ينطق ببنت شفة بل لم يعد يشعر بشيئ من حوله
وكأنه يريد ان يخفي يديه...
طأطأ راسه وقد تلامست خصلات من شعره جفنيه ، ووالدته لاتزال تؤنبه وتصيح
..واقترنت صيحاتها باستغاثة يا رب ...يا رب..
قام أمجد من مكانه وأخذ يعبث بجيوبه كأنه يبحث عن شيئ..
نعم...كانت بعض الدراهم وضعها امام أمه وقال ...
اليك هذه وسأجني بعضا منها لنشتري الدواء لوالدي ...
في هذه اللحظات تتوقف الدقائق و الساعات
...خفقت القلوب ..جفت الصدور...
لتخرّ من العين الدمعات
...سكون رهيب.. وَضْعٌ على غير العادة ..
اسرعت الخالة رابحة الى ابنها وهي تقلب كفيه فوجدت بهما ضيرا ...
ردودا وخدوشا لا تسُرّ الناظر..وكأنما كان ينقب الحجارة بكلتا يديه الناعميتين..
فعلمت سبب غيابه..
جلست وكأن نيران غضبها قد همدت ،
نعم فقد اطفئتها دفقات اشجانها ، هي الآن تبكي حال
زوجها وأطفالها المحرومين من ابسط الحقوق و الاشياء،
سعت كل يوم جاهدة في البحث عن عمل لكنها لاتجني سوى المذلة والاهانة ..
يئست لحالها وقنطت..
العم حفيظ في هذه اللّحظة رأى ماقد جرى ..
يرشق زوجته بوابل من نظرات الحصرة وهو الاجدر بالشفقة،
فلا أكل و لا دواء لجسده الهزيل ذاك ،الاّ مايقدمه لهم بعض من المحسنين.
أما الاطفال لا زالو يلهون لعلهم ناسين الجوع..ومتألمين لحالهم ، سائلين..لمذا ؟
دون علمهم بأنهم يسألون..
أدلى الليل ستاره الأسود العاتم ، خيّم السكون على البيت،
وقت العشاء قد حان ، أمي اريد الاكل يصيح ......
أحد الأولاد ذو الخمسة أعوام
وكلمات مقرونة ببحة من الحزن ، امي اريد الأكل أنا جائع ........
قالها الطفل ذو سبع اعوام..
تليها صرخات وصيحات لطفلة لم تبلغ الثلاث اعوام بعد، لا يُسمع لها سوى بكاء
متشنج وكحكحات متقاطعة..
أما أمجد فقرر السكوت دون أن يتلفظ ببنت شفة ..يحدق بعينين ملؤهما الدموع
الى حال والده المشفقة وحالة امه المزيرة التي لا تدري ماتصنع
عدا بالذهاب و الاياب ،تحمل ذاك وتربت على كتف ذاك وتسكت الآخر
أما الأب فهو في هدوء تام وسادته غرقى بالأشجان لا يرأف بحال جسده
الهزيل وقلبه الضعيف...
لم يبرح الحال عن حاله الا واندمس سكون غريب، نام الاطفال من شدة البكاء
والجوع حينئذ غدت الخالة رابحة الى حاشية من البيت تعتبر
كمطبخ تزدريها أوان اغلبها قديمة مهشمة
فتحت علبة تحتوي بعض لقمات من الطعام وياله من طعام يفتح الشهية للصيام
أخذته الى رب الاسرة السقيم بعد نوم اولادها لانه الاولى بأكله
وحين رؤية الاب للطعام حدق بأولاده و الجوع يغازلهم ، ثم عاد وغطى
رأسه وأبى أن يأكل شيئا ،فكان كأنه يتمتم بعبارات ليست بواضحة..
..جمدت الأم مكانها رفع أمجد رأسه وقد جف دمعه وان ضلّت عينيه محمرتين من
أثر البكاء، تعتريه اسئلة جما ..الى متى يظل هذا الحال؟
فزع الاطفال من شبح الجوع لأكل ذاك الطعام
أما أمجد أبى الأكل فخاطبه والده وان نطقت كل حركته وأسارير وجه بما يعتلج صدره من ألم
وهو شاحب اللّون وقد غزا الهزال جل عضلاته...
قائلا وقلبه يعتصر رحمة وحنانا....لا تقنط من رحمة ربّك يا ولدي فان الله يرى..
أخذت هذه الكلمات مستقرا في فؤاده
فتناول رأس والده الدافئ ولثّمه وعاد ليغُط في نوم عميق..
مضى الليل الاّ أقله ، ولم يتبقى الاّّ وتنفجر لمّة الظلام عن وجنتي الفجر
ولا تزال الخالة رابحة ساهرة قلقة المضجع تطلب الراحة فلا تجدها
وتهتف بالعون ولا تجد السبيل اليه..
أحاسيس غريبة ..
قلب مقبوض
حيرة لا مفرّ منها تطوّق المكان
قامت لتتحسس العم حفيظ ...وعلى حين غرّة اخترق صوت الخالة رابحة هذا السكون الشامل
وأخذت تجري على غير هدى فانزلّت رجلها واتت هاوية
حام حولها أولادها فأخت تلثم كلا منهم ....
طرقات بالباب.. الجيران في ذهول يستشعرون سبب الصياح...
أما أمجد....
فكان يرثي ويعتصر دما على جثة ابيه الهامدة..محدقا به متذكرا حياة عاشها
برفقته..كلماته التي لن ينساها وصورته التي لن تبرح ذاكرته..
نعم فقد مات العم حفيظ واكتفى بأخذ اللاّ شيئ معه فقط رداءًا ابيض تحت التراب
مُخلفا ورائه فوق ذاك التراب
زوجته وأولاده في حرب دامية داخل قاطرة درب المجهول.
الكل الى مؤواه وتعالت الأصوات كصوت العصافير المزدحمة على ابواب أعشاشها
يسلبني الصياح ويجر مسامعي الى مكان ليس بالبعيد عن المدينة...
الى القرية...قرية حقيرة تعجّ بالفقراء و البؤساء....
حالهم لا يختلف كثيرا عن عائلة العم حفيظ، عائلة لطالما استظلت بظلال
الفقر والعوز و الحرمان ....
العم حفيظ كهل ، وان بدا للناظر شيخا في أرذل العمر ،
هزيل الجسد يكسوه الشيب فان نظر اليك بعينيه الذابلتين وتقاسيم وجهه
بتجاعيده البارزة ، قد يروي لك بهما حياة عاشهاولم تنصفه ، رغم ذلك تقاصمها
مع زوجته الخالة رابحة ، امرأة في الاربعينيات ، بيضاء ممتلئة القدّ
قوية البنية حسناء في سكوتها
ولكن طوال اليوم لا تسمع لها الاّ صياحها ونحيبها ، تندب حضها ،وتفرغ جام
غضبها على العم حفيظ واولادهم الاربعة
لكن لوشُقَ صدرها لوجدت بداخله قلبا يلفح الوجوه لشدة بياضه وطيبته.
تعالت الضحكات وصرخات اطفالهم ..و الخالة رابحة معصبة الرأس بخيمارها
الاسود تمسك على تنورتها بقوة وتلطم بين الفينة و الاخرى وركيها
تسير بحيرة في أرجاء المنزل وتنظر من الباب بين كل ثانية
وأخرى وكأنها تبحث عن شيئ...وفجأة تصيح ..امجد ...
اين امجد ..يا حياة الشؤم هذه..أُلطف بنا يا الله..
تعالت اصواتها ككمل مرة وفي كل مرة يمتزج بصوت جيرانها.
عسَُر الحال على العم حفيظ السقيم ،الذي بالكاد يستطيع الكلام
مرمي في وسط بيت مهشم السقف، يتوسط فراشا رثًا ، لاحول ولا قوة له سوى
الانتضار برأقفة الرحمان لحاله، يرمق الخالة رابحة بنظرات البؤس
وهي في أوج غضبها ..وكأنه يريد ان يستفيق من هذا المنظر ، ومرّ على ذلك
الوضع دقائق لا تُسْمع فيها لطم الامواج
ولا تهب فيها اية نسمة ..ففزعت الخالة رابحة
الى وشاحها اعتمرته وضربت باب الكوخ برجلها وخرجت تنظر
الى آخر ملمحها علها ترى ابنها،
وفي هذه اللحظات يقترب ابنها البكر أمجد ،كان لم يبلغ الرابعة عشر من عمره
أسمرا رفيعا ، يسير بخطوات متثاقلة وكأنما شيئا اهلكه....
يترنح بين اليمين والشمال يجر رجليه وكأنما هو يحاول أن يبقي حذائه الممزق تحته
ليطئ به الارض ، لمح امه من بعيد أمام البيت فكشر على وجهه
وتريث في مشيته وهو لاه يُردد النظر اليها، وفي كلّ مرة يقترب فيها
كأنما هو يريد العودة ادراجه لما ينتظره من توبيخ
فرحت الخالة رابحة لرؤية ابنها
وسرعان ما امتزج بغضبها فأمسكته من اسماله البالية
وجرته بقوة الى الداخل ...ادخل يا حظي العفن ادخل
اين كنت طوال اليوم ....؟
في هذه اللّحظات أمجد لا ينطق ببنت شفة بل لم يعد يشعر بشيئ من حوله
وكأنه يريد ان يخفي يديه...
طأطأ راسه وقد تلامست خصلات من شعره جفنيه ، ووالدته لاتزال تؤنبه وتصيح
..واقترنت صيحاتها باستغاثة يا رب ...يا رب..
قام أمجد من مكانه وأخذ يعبث بجيوبه كأنه يبحث عن شيئ..
نعم...كانت بعض الدراهم وضعها امام أمه وقال ...
اليك هذه وسأجني بعضا منها لنشتري الدواء لوالدي ...
في هذه اللحظات تتوقف الدقائق و الساعات
...خفقت القلوب ..جفت الصدور...
لتخرّ من العين الدمعات
...سكون رهيب.. وَضْعٌ على غير العادة ..
اسرعت الخالة رابحة الى ابنها وهي تقلب كفيه فوجدت بهما ضيرا ...
ردودا وخدوشا لا تسُرّ الناظر..وكأنما كان ينقب الحجارة بكلتا يديه الناعميتين..
فعلمت سبب غيابه..
جلست وكأن نيران غضبها قد همدت ،
نعم فقد اطفئتها دفقات اشجانها ، هي الآن تبكي حال
زوجها وأطفالها المحرومين من ابسط الحقوق و الاشياء،
سعت كل يوم جاهدة في البحث عن عمل لكنها لاتجني سوى المذلة والاهانة ..
يئست لحالها وقنطت..
العم حفيظ في هذه اللّحظة رأى ماقد جرى ..
يرشق زوجته بوابل من نظرات الحصرة وهو الاجدر بالشفقة،
فلا أكل و لا دواء لجسده الهزيل ذاك ،الاّ مايقدمه لهم بعض من المحسنين.
أما الاطفال لا زالو يلهون لعلهم ناسين الجوع..ومتألمين لحالهم ، سائلين..لمذا ؟
دون علمهم بأنهم يسألون..
أدلى الليل ستاره الأسود العاتم ، خيّم السكون على البيت،
وقت العشاء قد حان ، أمي اريد الاكل يصيح ......
أحد الأولاد ذو الخمسة أعوام
وكلمات مقرونة ببحة من الحزن ، امي اريد الأكل أنا جائع ........
قالها الطفل ذو سبع اعوام..
تليها صرخات وصيحات لطفلة لم تبلغ الثلاث اعوام بعد، لا يُسمع لها سوى بكاء
متشنج وكحكحات متقاطعة..
أما أمجد فقرر السكوت دون أن يتلفظ ببنت شفة ..يحدق بعينين ملؤهما الدموع
الى حال والده المشفقة وحالة امه المزيرة التي لا تدري ماتصنع
عدا بالذهاب و الاياب ،تحمل ذاك وتربت على كتف ذاك وتسكت الآخر
أما الأب فهو في هدوء تام وسادته غرقى بالأشجان لا يرأف بحال جسده
الهزيل وقلبه الضعيف...
لم يبرح الحال عن حاله الا واندمس سكون غريب، نام الاطفال من شدة البكاء
والجوع حينئذ غدت الخالة رابحة الى حاشية من البيت تعتبر
كمطبخ تزدريها أوان اغلبها قديمة مهشمة
فتحت علبة تحتوي بعض لقمات من الطعام وياله من طعام يفتح الشهية للصيام
أخذته الى رب الاسرة السقيم بعد نوم اولادها لانه الاولى بأكله
وحين رؤية الاب للطعام حدق بأولاده و الجوع يغازلهم ، ثم عاد وغطى
رأسه وأبى أن يأكل شيئا ،فكان كأنه يتمتم بعبارات ليست بواضحة..
..جمدت الأم مكانها رفع أمجد رأسه وقد جف دمعه وان ضلّت عينيه محمرتين من
أثر البكاء، تعتريه اسئلة جما ..الى متى يظل هذا الحال؟
فزع الاطفال من شبح الجوع لأكل ذاك الطعام
أما أمجد أبى الأكل فخاطبه والده وان نطقت كل حركته وأسارير وجه بما يعتلج صدره من ألم
وهو شاحب اللّون وقد غزا الهزال جل عضلاته...
قائلا وقلبه يعتصر رحمة وحنانا....لا تقنط من رحمة ربّك يا ولدي فان الله يرى..
أخذت هذه الكلمات مستقرا في فؤاده
فتناول رأس والده الدافئ ولثّمه وعاد ليغُط في نوم عميق..
مضى الليل الاّ أقله ، ولم يتبقى الاّّ وتنفجر لمّة الظلام عن وجنتي الفجر
ولا تزال الخالة رابحة ساهرة قلقة المضجع تطلب الراحة فلا تجدها
وتهتف بالعون ولا تجد السبيل اليه..
أحاسيس غريبة ..
قلب مقبوض
حيرة لا مفرّ منها تطوّق المكان
قامت لتتحسس العم حفيظ ...وعلى حين غرّة اخترق صوت الخالة رابحة هذا السكون الشامل
وأخذت تجري على غير هدى فانزلّت رجلها واتت هاوية
حام حولها أولادها فأخت تلثم كلا منهم ....
طرقات بالباب.. الجيران في ذهول يستشعرون سبب الصياح...
أما أمجد....
فكان يرثي ويعتصر دما على جثة ابيه الهامدة..محدقا به متذكرا حياة عاشها
برفقته..كلماته التي لن ينساها وصورته التي لن تبرح ذاكرته..
نعم فقد مات العم حفيظ واكتفى بأخذ اللاّ شيئ معه فقط رداءًا ابيض تحت التراب
مُخلفا ورائه فوق ذاك التراب
زوجته وأولاده في حرب دامية داخل قاطرة درب المجهول.