وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا
وقفةٌ مع قول ربِّنا جلَّ شأنه في وصف اليوم الآخر ﴿ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴾[الفرقان:26]
عُسْر ذلك اليوم أمرٌ جديرٌ بالتَّأمل ؛ ليأخذ العبد بأسباب السَّلامة وطرائق النَّجاة من عُسْر ذلك اليوم ، لأنّه يومٌ سيلاقيه العبد ولابد ، ويومٌ يَقِفُهُ ولابد ، وهو يومٌ هٰذا وصفه في حقِّ الكافرين ﴿ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴾، وعُسْر ذلك اليوم عليهم راجعٌ لخُبْث أعمالهم وفساد أحوالهم في هٰذه الحياة الدُّنيا ، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾[الليل:8-10] فهٰذا العُسر سببه ما كان عليه هؤلاء من إعراضٍ وصدودٍ ولُؤمٍ وانحرافٍ وانحلالٍ وبُعْدٍ عن دين الله تبارك وتعالى.
ثم إنَّ عُسْر ذلك اليوم اجتمع معه طوله ، وطوله عجب ! فهو يومٌ واحد مقداره خمسون ألف سنة ، كما دلّ على ذلكم القرآن وحديث الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، يومٌ واحد مقدراه خمسون ألف سنة !! فيقف الخلائق ذلك اليوم الطَّويل الذي تدنو فيه الشَّمس من الخلائق ويكون ذلك اليوم يومًا عسيرًا على الكافرين . ويُكرم الله جلَّ شأنه عبده المؤمن في ذلك اليوم فيهوِّنه عليه ؛ يهوِّنه عليه من حيث طول المدّة ، ومن حيث أيضاً السَّلامة من الشدَّة :
- أمّا من حيث طول المدّة فقد ثبت في مستدرك الحاكم عن النَّبيّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من حديث أبي هريرة أنّه قال: « يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَقَدْرِ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ » هٰذا اليوم الذي هذا طوله يُهوَّن وييسَّر على عبد الله المؤمن فتكون مدته كما بين صلاتي الظُّهر والعصر .
- ويسْلَمون من شدَّته بحسب قوَّة الإيمان وأنواع الطَّاعات التي تقرَّبوا بها إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا جاء في الحديث « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ » وهٰذا من التيسير الذي يكون لأهل الإيمان وأهل التَّقرب إلى الله جلَّ شأنه بالطَّاعة والعبادة.
وهنا -أيُّها الإخوة الكرام- أمرٌ جدير بالاهتمام : وهو أنَّ الصَّلاة التي هي عماد الدِّين وأعظم أركانه بعد الشَّهادتين لها صلةٌ وثيقة وارتباطٌ وثيقٌ في يُسْرِ الموقف يوم القيامة أو عسره ، قال العلَّامة ابن القيِّم رحمه الله « للعبد بين يدي الله موقفان : موقف بين يديه في الصلاة ، وموقف بين يديه يوم لقائه ؛ فمن قام بحق الموقف الأول هوّن عليه الموقف الآخر ، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفّه حقّه شدّد عليه ذلك الموقف ».
فالصَّلاة التي هي عماد الدِّين وهٰذا الوقوف المبارك العظيم بين يدي ربِّ العالمين له صلة بالتَّيسير في ذلك اليوم العسير. ولعلَّنا لاحظنا - أيُّها الإخوة- في الحديث المتقدِّم حديث أبي هريرة قال: « يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَقَدْرِ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ » ؛ ذكر الصَّلاة لم يحدِّد بوقت آخر !! وإنما حدد بالصلاة التي هي عمل هؤلاء والتي لها دورٌ عظيمٌ في التَّيسير على هؤلاء ، فحُدِّد التيسير في ذلك اليوم العسير بالصَّلاة ، كما بين صلاة كذا وصلاة كذا التي هُمْ من أهلها ومن المحافظين عليها.
وقد روى الإمام التّرمذي رحمه الله تعالى في كتابه الجامع عن حُريث بن قبيصة رحمه الله قال : «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا ، قَالَ فَجَلَسْتُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي جَلِيسًا صَالِحًا فَحَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ ، فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ » .
فتأمَّل الارتباط الواضح بين الصَّلاة والفلاح والنَّجاح لأهلها ، والخيبة والخسران للمضيِّعين لها ؛ ولهذا من يأتي يوم القيامة مضيِّعا لهٰذه الصَّلاة مفرِّطاً فيها متهاوناً بها حكَمَ على نفسه بالخُسران وأبى عليها إلّا موقف الهوان ، فقد ثبت في المسند من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قال : ذكر النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاة يوماً فقال: « مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ » أي أنه ضيَّع الصلاة يحشر يوم القيامة مع صناديد الكفر وأعمدة الباطل ، ومن ضيَّع الصّلاة حَكَمَ على نفسه شاء أم أبى أن يُحشر مع هؤلاء ، ولو قيل لإنسان هل تحب يوم القيامة أن تحشر جنباً إلى جنب مع فرعون ومع قارون ومع هامان ومع أبي بن خلف ومع غيرهم من صناديد الكفر؟ لقال: لا ؛ لا أرضى ذلك ولا أقبله ، فإذا ضيَّع الصلاة حكم على نفسه بذلك شاء أم أبى، ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾[النساء:123] ، لا يكفي أن تقول أنا أحبُّ ذلك ؛ بل اعمل بالعمل الذي ينجِّيك من ذلك ، ولهذا قال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : « كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى » قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى ؟ قَالَ : « مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» وأعظم العصيان التَّهاون بهذه الفريضة العظيمة التي كتبها الله سبحانه وتعالى على عباده في اليوم والليلة خمس مرَّات.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن ييسِّر أمورنا أجمعين ، وأن يصلح لنا شأننا كلَّه ، وأن يجعلنا من المقيمين الصَّلاة ، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيما ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . والله أعلم وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.