توجيه الإشكالات النحوية في القرآن الكريم

ابو ليث

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
8 جانفي 2010
المشاركات
10,466
نقاط التفاعل
10,286
النقاط
356
محل الإقامة
الجزائر
مــقـدمــة :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أنزل الله عز وجل القرآن الكريم وأخبر أنه { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت: 42], وحفظه بأن قيد له علماء ينفون عنه التحريف والتأويل الباطل، ويدفعون عنه الشبهات والإشكالات التي تشكك في نسبته إلى الله تعالى، قال عز وجل: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر:9] ومن الإشكالات التي أثيرت حول كتاب الله سبحانه وتعالى تلك الإشكالات النحوية، والتي أجاب عنها العلماء ووجهوها التوجيه الصحيح بالأدلة الواضحة والبراهين القاطعة.
في هذا المقال - الذي يحمل العنوان: توجيه الإشكالات النحوية في القرآن الكريم– وبتوفيق الله تعالى- سأُذكِّر بمعنى الإشكالات النحوية في القرآن الكريم، ثم أعرض الآيات التي أثيرت حولها الإشكالات النحوية, مبينا الإشكال الوارد في كل آية وتوجيهه بالأدلة وأقوال العلماء.
أولا: تعريف الإشكالات النحوية في القرآن الكريم.
وهي تلك الآيات أو الكلمات القرآنية التي قد تغمض معرفة إعرابها وإدراك توجيهها, أو تخالف في الظاهر قواعد النحاة, ولكن لدى التأمل والتحقيق يظهر لنا موافقتها(1).
ثانيًا: عرض الإشكالات النحوية في القرآن الكريم وتوجيهها.
هذه أهم الإشكالات النحوية في القرآن الكريم قسمتها عبر ثمانية مشاركات (إشكال واحد وتوجيهه في كل مشاركة)
- الإشكال الأول​
:

ورَدَ على قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة:214].
وهو في رفع الفعل بعد (حتى) في قراءة من قرأ بالرفع, والقياس النحوي المشهور هو النصب.
قال ابن هشام الأنصاري حالا هذا الإشكال:
(( لا ينتصب الفعل بعد "حتى" إلا إذا كان مستقبلا, ثم إذا كان استقباله بالنظر إلى زمن التكلم, فالنصب واجب نحو:{ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى } [طه:91], وإن كان بالنسبة إلى ما قبلها خاصة فالوجهان, نحو: { وَزُلْزِلوا حَتَّى يَقولَ الرَّسولُ } الآية ، فإن قولهم إنما هو مستقبل بالنظر إلى الزلزال, لا بالنظر إلى زمن قص ذلك علينا .
وكذلك لا يرتفع الفعل بعد حتى إلا إذا كان حالا , ثم إن كانت حاليته بالنسبة إلى التكلم فالرفع واجب, كقولك: "سرت حتى أدخلُها" إذا قلت ذلك وأنت في حالة الدخول, وإن كانت حاليته ليست حقيقية بل كانت محكية؛ رفع, وجاز نصبه إذا لم تقدر الحكاية، نحو: {وَزُلْزِلوا حَتَّى يَقولُ الرَّسولُ} قراءة نافع بالرفع( 2) بتقدير: حتى حالتهم حينئذ أن الرسول والذين آمنوا معه يقولون كذا وكذا. )) ( 3)
يؤيد قولَ ابن هشام قولُ سيبويه :(( اعلم أن حتى تنصب على وجهين: فأحدهما أن تجعل الدخول غايةً لمسيرك وذلك قولك:سرت حتى أدخلها,كأنك قلت سرت إلى أن أدخلها,فالناصب للفعل ههنا هو الجار للاسم إذا كان غايةً,فالفعل إذا كان غايةً نصبٌ,والاسم إذا كان غايةً جرٌ, وهذا قول الخليل.وأما الوجه الآخر فأن يكون السير قد كان والدخول لم يكن,وذلك إذا جاءت مثل كي التي فيها إضمار أن وفي معناها,وذلك قولك:كلمته حتى يأمر لي بشيء.واعلم أن حتى يرفع الفعل بعدها على وجهين:تقول سرت حتى أدخلها , تعني أنه كان دخولٌ متصلٌ بالسير كاتصاله به بالفاء إذا قلت:سرت فأدخلها,فأدخلها ههنا على قولك:هو يدخل,وهو يضرب إذا كنت تخبر أنه في عمله,وأن عمله لم ينقطع,فإذا قال:حتى أدخلها,فكأنه يقول:سرت فإذا أنا في حال دخول,فالدخول متصل بالسير كاتصاله بالفاء, فحتى صارت ههنا بمنزلة إذا وما أشبهها من حروف الابتداء؛ لأنها لم تجئ على معنى إلى أن,ولا معنى كي, فخرجت من حروف النصب كما خرجت إذن منها في قولك إذن أظنك.وأما الوجه الآخر فإنه يكون السير قد كان وما أشبهه ويكون الدخول وما أشبهه الآن,فمن ذلك:لقد سرت حتى أدخلها ما أمنع,أي حتى أني الآن أدخلها كيفما شئت, ومثل ذلك قول الرجل:لقد رأى مني عاماً أول شيئاً حتى لا أستطيع أن أكلمه العام بشيء. ولقد مرض حتى لا يرجونه. والرفع ههنا في الوجهين جميعاً كالرفع في الاسم,
قال الفرزدق:
( فيا عَجَباً حتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّني *** كأنَّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشِعُ)
فحتى ههنا بمنزلة إذاً, وإنما هي ههنا كحرف من حروف الابتداء, ومثل ذلك شربت حتى يجيءُ البعير يجر بطنه,أي حتى إن البعير ليجيء يجر بطنه.ويدلك على حتى أنها حرف من حروف الابتداء أنك تقول حتى إنه ليفعل ذاك كما تقول: فإذا إنه يفعل ذاك, ومثل ذلك قول حسان ابن ثابت:
( يُغْشَوْنَ حتَّى لا تَهِرُّ كِلابُهمْ *** لا يَسالون عن السَّواد المُقْبِلِ ).
ومثل ذلك مرض حتى يمرُّ به الطائر فيرحمه, وسرت حتى يعلمُ الله أني كالٌّ...)). ( 4).
ويرفع الفعل بعد (حتى) إذا كان ماضيا بالنسبة إلى الفعل قبلها، مثل ما روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: << اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ: مَا تَذَاكَرُونَ؟ قَالُوا نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قَالَ إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ، فَذَكَرَ الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ >>(5 )
الشاهد في: لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ، فالفعل مرفوع بثبوت النون, ورفع لأن زمنه ماض بالنسبة إلى زمن (تقوم)؛ لأن رؤية الآيات تسبق قيام الساعة.
والخلاصة:
أن حتى ينصب الفعل بعدها إذا كان زمنه مستقبلا بالنسب للفعل الذي قبلها. سواء كان التكلم في الحال، أو محكيا في زمن مضى، ويرفع إذا كان زمن الفعل الذي بعدها ماض بالنسبة إلى زمن الفعل الذي قبلها, أو ما قبلها وما بعدها وقعا في زمن واحد, سواء قيل في الحال أو محكيا.
وعليه فبالجمع بين القراءات في الآية – والله أعلم – أن الرسول والذين آمنوا معه قالوا: متى نصر الله، أثناء الزلزال وبعد الزلزال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
(1)-المجتبى من مشكل إعراب القرآن الكريم لأحمد بن محمد الطيار: (1/2).
( 2)-الحجة للقراء السبعة لأبي علي الفارسي: (2/305).
( 3)-مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ص: 129. وانظر:أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: (4/161).
(4 )-انظر:كتاب:سيبويه: (17-18-3/19).
( 5)-رواه مسلم برقم (2901).


- يتبع بإذن الله -
نقلا عن منتديات التصفية و التربية.
 
رد: توجيه الإشكالات النحوية في القرآن الكريم

الإشكال الثاني

ورد على قوله تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }.[البقرة:273]
وهو تعلق الجار والمجرور: (من التغفف) في الظاهر بـ (أغنياء) وهذا يؤدي إلى معنى فاسد غير مراد.
قال ابن هشام في توجيه هذا الإشكال:
(( في قوله تعالى: { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } [البقرة:273] فإن المتبادر تعلق (من) بـ (أغنياء) لمجاورته له, ويفسـده: أنهم متى ظنهم ظان قد استغنوا من تعففهم، علم أنهم فقراء من المال, فلا يكون جاهلا بحالهم، وإنما هي متعلقة بـ (يحسب), وهي للتعليل. ))(1)
أي من تعففهم يحسبهم الذي يجهل حالهم أغنياء.
يتبع بإذن الله
 
رد: توجيه الإشكالات النحوية في القرآن الكريم

الإشكال الثالث:

ورد على قوله تعالى: { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء:162]
وهو نصب (المقيمين) بالياء, ومقتضى قواعد النحو أن ترفع بالواو عطفا على (المؤمنون), والمعطوف على المرفوع مرفوع.
قال ابن هشام في حل هذا الإشكال:
(( فإن قلت فما تصنع في "المقيمين" من قوله تعالى في سورة النساء: { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ } فإنه جاء بالياء وقد كان مقتضى قياس ما ذكرت أن يكون بالواو؛ لأنه معطوف على المرفوع , والمعطوف على المرفوع مرفوع، وجمع المذكر السالم لم يرفع بالواو كما ذكرت؟
قلت: ... فيها أوجه، أرجحها وجهان:
أحدهما: أن المقيمين نصب على المدح(1)، وتقديره: وأمدَح المقيمين، وهو قول سيبويه(2) والمحققين، وإنما قطعت هذه الصفة عن بقية الصفات لبيان فضل الصلاة.
وثانيهما: أنه مخفوض لأنه معطوف على ما في قوله تعالى: { بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } أي: يؤمنون
بالكتب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء... )) (3)
وأنشد سيبويه(4) قول الخرنق:
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ *** سَمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النـــــــازِلِينَ بكلّ مُعْتَرَكٍ *** والطَّيِّبُــــونَ مَعاقِدَ الأُزْرِ
وأنشد قول ابن خياط العكلي:
وَكُلُّ قَوْمٍ أَطَاعُوا أَمْرَ مُرْشِدِهِمْ *** إِلاَّ نُمَيْرًا أَطَاعَتْ أَمْرَ غَاوِيْها
الظَّاعِنِينَ وَلَمَّا يُظعِنُــــوا أَحَـــــــدَاً *** وَالقَائِلـــــــُونَ لِمَنْ دَارٌ نُخَلِّيــــهَا
الخلاصة :
كلمة (المقيمين) ليست معطوفة على (المؤمنون) إذ لو كانت كذلك لرفعت بالواو مثلها لأن المعطوف يتبع المعطوف عليه، وليست كذلك معطوفة على (ما) فلا يكون إيمان بالمقيمين الصلاة لإمكان اتصاف غير النبيين بهذه الصفة، والراجح فيها أنها مفعول به لفعل محذوف تقديره أمدح، وأفردت هذه الصفة عن بقية الصفات لبيان فضل الصلاة. ومثلها كلمة (الصابرين) في قوله تعالى: { والْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا والصابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ...} والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
(1)-قال النحاس: (( وهذا أصحّ ما قيل في المقيمين.)) إعراب القرآن للنحاس: (1/250).
(2)-كتاب سيبويه: (2/63).
(3)-شرح شذور الذهب: ص: 83-84.
(4)-كتاب سيبويه: (2/64).
-
 
رد: توجيه الإشكالات النحوية في القرآن الكريم

الإشكال الرابع:

ورد على قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } [المائدة:06]
وهو في قراءة من قرأ (أرجلِكم) بالجر, فهي في الظاهر معطوفة على ممسوح وهو (رؤوسِكم), والرجل في الوضوء حكمها الغَسل.
قال ابن هشام في حل هذا الإشكال:
1- (( ... في قراءة من جر الأرجل(1) لمجاورته للمخفوض وهو الرؤوس, وإنما كان حقه النصب, كما هو في قراءة جماعة آخرين(2)، وهو منصوب بالعطف على الوجوه والأيدي, وهذا قول جماعة من المفسرين والفقهاء.
وخالفهم في ذلك المحققون, ورأوا أن الخفض على الجوار لا يحسن في المعطوف؛ لأن حرف العطف حاجز بين الاسمين ومبطل للمجاورة, نعم لا يمتنع في القياس الخفض على الجوار في عطف البيان؛ لأنه كالنعت والتوكيد في مجاورة المتبوع، وينبغي امتناعه في البدل؛ لأنه في التقدير من جملة أخرى؛ فهو محجوز تقديرا, ورأى هؤلاء أن الخفض في الآية إنما هو بالعطف على لفظ الرؤوس, فقيل: الأرجل مغسولة لا ممسوحة, فأجابوا على ذلك بوجهين:
أحدهما: أن المسح هنا الغسل, قال أبو علي: حكى لنا من لا يتهم أن أبا زيـد(3) قال: المسح خفيف الغسل, يقال: تمسحت للصلاة (4), وخصت الرجلان من بين سائر المغسولات باسم المسح ليقتصد في صب الماء عليهما؛ إذ كانتا مظِنة للإسراف.
والثاني: أن المراد هنا المسح على الخفين, وجعل ذلك مسحا للرِّجل مجازا, وإنما حقيقته أنه مسح للخف الذي على الرِّجل, والسنة بينت ذلك.
ويرجح ذلك القول ثلاثة أمور:
أحدها: أن الحمل على المجاورة حمل على شاذ, فينبغي صون القرآن عنه.
الثاني: أنه إذا حمل على ذلك كان العطف في الحقيقة على الوجوه والأيدي, فيلزم الفصل بين المتعاطفين بجملة أجنبية وهو { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ }. وإذا حمل على العطف على الرؤوس لم يلزم الفصل بالأجنبي, والأصل أن لا يفصل بين المتعاطفين بمفرد فضلا عن الجملة.
الثالث: أن العطف على هذا التقدير حمل على المجاورة، وعلى التقدير الأول حمل على غير المجاورة، والحمل على المجاورة أولى.
فإن قلت: يدل للتوجيه الأول قراءة النصب.
قلت: لا نسلم أنها عطف على الوجوه والأيدي, بل على الجار والمجرور, كما قال:
يسلكن في نجد وغورا غائرا(5). )) (6)
2 - (( وقيل "وأرجلِكم" بالخفض: إنه عطف على (أيديَكم) لا على (رؤوسِكم), إذ الأرجل مغسولة لا ممسوحة, ولكنه خفض لمجاورة (رؤوسِكم) والذي عليه المحققون إن خفض الجوار يكون في النعت قليلا كما مثلنا, وفي التوكيد نادرا كقوله:
يا صاح بلغ ذوي الزوجاتِ كلِّهم *** أن ليس وصلٌ إذا انحلت عرى الذنَب(7)
... وقال الزمخشري: لما كانت الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها كانت مظنة الإسراف المذموم شرعا , فعطفت على الممسوح لا للتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها, وقيل: (إلى الكعبين) فجيء بالغاية إماطة لظـن من يظـن أنها ممسوحة؛ لأن المسـح لم يضرب له غاية في الشريعة. انتهى(8).)) (9)
الخلاصة:
تحصل من الجمع بين قراءتي الفتح والنصب في كلمة (أرجلكم) ما يلي:
- قراءة النصب عطفا على (وجوهكم) و(أيديكم) وهما مغسولتان فحكم الرجل الغسل, وذكرت بعد الرؤوس لبيان الترتيب، وهذه القراءة لا إشكال فيها.
- وقراءة الجر عطفا على (رؤوسكم) وهو ممسوح، فحكم الرجل المسح، والمقصود به المسح على الخفين، وقد بينت السنة ذلك. وقيل عطفت على ممسوح وحكمها الغسل لكي يقتصد في صب الماء عليهما إذ كانتا مظِنة الإسراف. والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
(1)-وهم ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم.انظر:الحجة للقراء السبعة: (3/227).
(2)-وهم نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم.انظر: الحجة للقراء السبعة: (3/227).
(3)-هو سعيد بن أوس،أبو زيد،البصري اللغوي العلامة،كان يحفظ ثلثي اللغة،وكان صدوقا صالحا.توفي سنة (215هـ)، وله ثلاث وتسعون سنة. انظر ترجمته: شذرات الذهب: (3/70-71).
(4)-الحجة للقراء السبع: (3/215).
(5)-من كلام العجاج بن رؤبة الراجز وهو من شواهد سيبويه.انظر:الكتاب: (1/94).
(6)-شرح شذور الذهب.ص: 348-349.
(7)-لم أجد أحدا-في حدود ما بحثت-نسب هذا البيت إلى قائل معين.
(8)-في الكشاف:الزمخشري: (2/205).
(9)-مغني اللبيب.ص: 640-641.
 
رد: توجيه الإشكالات النحوية في القرآن الكريم

الإشكال الخامس:

ورد على قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [المائدة:69].
في رفع كلمة (الصابئون) بالواو، ومقتضى القياس أن تنصب بالياء لأنها معطوفة على الاسم الموصول, وهو في محل نصب اسم إن, والمعطوف على المنصوب منصوب.
لابن هشام في حل هذا الإشكال أقوال:
1- (( ... وما تصنع بـ (الصابئون) من قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} فإنه جاء بالواو، وقد كان مقتضى قياس ما ذكرت أن تكون (الصابئين) بالياء لأنه معطوف على المنصوب, والمعطوف على المنصوب منصوب، وجمع المذكر السالم ينصب بالياء كما ذكرت؟
قلت: ... فيها أوجه أرجحها وجهان:
أحدهما: أن يكون (الذين هادوا) مرتفعا بالابتداء، و(الصابئون والنصارى) عطفا عليه , والخبر محذوف والجملة في نية التأخير عما في حيز (إن) من اسمها وخبرها , كأنه قيل: إن الذين آمنوا بألسنتهم من آمن منهم – أي بقلبه - بالله إلى آخر الآية، ثم قيل: والذين هادوا والصابئون والنصارى كذلك .
والثاني: أن يكون الأمر على ما ذكرناه من ارتفاع (الذين هادوا) بالابتداء، وكون ما بعده عليه, ولكن يكون الخبر المذكور له , ويكون خبر (إن) محذوفا مدلولا عليه بخبر المبتدأ, كأنه قيل: إن الذين آمنوا من آمن منهم، ثم قيل: والذين هادوا... الخ .
والوجه الأول أجود؛ لأن الحذف من الثاني بدلالة الأول أولى من العكس.
وقرأ أبي بن كعب: (والصابئين) بالياء(1) وهي مروية عن ابن كثير ولا إشكال فيها. )) (2)
2- (( أجيب عن الآية بأمرين:
أحدهما: أن خبر إن محذوف, أي مأجورون أو آمنون أو فرحون, والصابئون مبتدأ, وما بعده الخبر, ويشهد له قوله:
خَلِيلَيَّ هَلْ طِبٌّ فَإِنِّي وأنتما وَإِنْ لَمْ تَبُوحَا بِالْهَوَى دَنِفَانِ(3)
ويضعفه أنه حذف من الأول لدلالة الثاني. وإنما الكثير العكس.
والثاني أن الخبر المذكور لـ "إن" وخبر "الصابئون" محذوف, أي كذلك, ويشهد له قوله:
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ فَإِنِّي وَقَيَّـارٌ بِهَا لَغَرِيبُ(4)
إذ لا تدخل اللام في خبر المبتدأ حتى يقدم, نحو: (لقائكم زيد) ويضعفه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها. )) (5)
3 - (( أجاب البصريون بجوابين :
أحدهما: أنها محمولة على التقديم والتأخير, والأصل: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله إلى آخره, والصابئون كذلك.
والثاني: أن خبر الحرف محذوف, وأن الخبر المذكور للمبتدأ, والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا آمنون, والصابئون من آمن إلى آخره.
وقد يستبعد كل من التأويلين:
أما الأول فمن وجهين:
أحدهما: إن فيه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها, وإنما يتقدم المعطوف على المعطوف عليه في الشعر, فلذا ينبغي أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه, ويجاب بأن الواو للاستئناف كسائر الواوات المقترنة بالجملة المعترضة، كقوله تعالى: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ } [البقرة:24]...
والثاني: أن الاعتراض إنما يكون لغرض, ولم يظهر هنا, وقد أجيب بأن الصابئين لما كانوا أشد غيا لخروجهم عن الأديان قدم الإخبار بأنهم يتاب عليهم إن آمنوا وأصلحوا، ليثبت ذلك لمن هو أقل غيا منهم من باب أولى.
وأما الثاني: فلأن فيه حذفا من الأول لدلالة الثاني, ويجاب بأنه واقع وإن عكسه أكثر. )) (6)
قال الشوكاني:
(( وقيل: إِنَّ هُنَا بِمَعْنَى نَعَمْ، فَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ، ومثله قول ابن قيس الرُّقَيَّاتِ:
بَكَرَ الْعَــوَاذِلُ فِي الصَّبَا ***حِ يَلُمْنَـــــنِي وَأَلُومُهُـــنَّـــــــــتهْ
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا *** كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ
قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهْ بِمَعْنَى نَعَمْ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ.)) (7)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
(1)-الكشاف: (2/274).
(2)-شرح شذور الذهب.ص: 83-84.
(3)-لم يسمَّ قائله.والأصل: فإني دنف وأنتما دنفان.
(4)-البيت لضابئ بن الحارث البرجمي (أدرك النبي،وسجنه عثمان بسبب الهجاء،وأطلق سراحه بعدما قال أبياتا منها هذا البيت، لكنه هم بقتله فأعاده إلى السجن ومات هناك).انظر:خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب:عبد القادر بن عمر البغدادي: (9/326).
(5)-مغني اللبيب.ص: 446.
(6)-تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد لابن هشام الأنصاري ص: 373-374.
(7)-فتح القدير للشوكاني:(2/72).
- يتبع بإذن الله -​
 
رد: توجيه الإشكالات النحوية في القرآن الكريم

الإشكال السادس:

ورد على قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151].
وهو أن الآية بدأت بـ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } ولما بدأ تعالى يذكر المحرمات قال: { أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ...} ومعلوم أن عدم الشرك بالله والإحسان بالوالدين وعدم قتل الأولاد ... ليست بمحرمات .
قال ابن هشام في حل هذا الإشكال:
1 - (( قول بعضهم إن الوقف قبل "عليكم" و إن "عليكم" إغراء فحسن ، وبه يتخلص من إشكال ظاهر في الآية محوج للتأويل . )) (1)
2 - (( ... قيل إن "لا" نافية، وقيل ناهية، وقيل زائدة، والجميع محتمل.
وحاصل القول في الآية: أن (ما) خبرية بمعني الذي منصوبة بـ (أتل) و (حرم ربكم) صلة و(عليكم) متعلقة بـ "حرم" هذا هو الظاهر ، وأجاز الزجاج كون (ما) استفهامية منصوبة بـ (حرم) والجملة محكية بـ (أتل) ؛ لأنه بمعنى أقول (2)، ويجوز أن يعلق (عليكم) بـ (أتل). ومن رجح إعمال أول المتنازعين -وهم الكوفيون- رجحه على تعلقه بـ (حرم) وفي (أن) وما بعدها أوجه.
أحدها: أن يكونا في موضع نصب بدلا من (ما) وذلك على أنها موصولة لا استفهامية ؛ إذ لم يقترن البدل بهمزة الاستفهام.
الثاني: أن يكونا في موضع رفع خبراً لـ "هو" محذوفا ، أجازهما بعض المعربين ، وعليهما فـ " لا" زائدة، قاله ابن الشجري(3) ، والصواب أنها نافية على الأول وزائدة على الثاني .
والثالث: أن يكون الأصل أبين لكم ذلك لئلاَّ تشركوا ، وذلك لأنهم إذا حرّم عليهم رؤساؤهم ما أحلَّه الله سبحانه وتعالى فأطاعوهم أشركوا ؛ لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته .
والرابع: أن الأصل أوصيكم بألا تشركوا ، بدليل أنَّ { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } معناها وأوصاكم بالوالدين ، وأن في آخر الآية {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } , وعلى هذين الوجهين فحذفت الجملة وحرف الجر .
والخامس: أن التقدير: أتل عليكم ألاّ تشركوا ، فحذف مدلولا عليه بما تقدم، وأجاز هذه الأوجه الثلاثة الزجاج(4) .
والسادس: أن الكلام تمَّ عند "حرَّم ربكم" ثم ابتدئ عليكم ألاّ تشركوا، وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، وألاَّ تقتلوا، ولا تقربوا، فـ "عليكم" على هذا : اسم فعل بمعنى: الزموا ، و(أن) في الأوجه الستة مصدرية، و"لا" في الأوجه الأربعة الأخيرة نافية.
والسابع: أن (أَنْ) مفسرة بمعنى أي و(لا) ناهية والفعل مجزوم لا منصوب، وكأنه قيل: أقول لكم: لا تشركوا به شيئا، وأحسنوا بالوالدين إحسانا. وهذان الوجهان الأخيران أجازهما ابن الشجري(5).))(6)
قال الشوكاني:
(( قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}
الْآيَةَ، الظاهر في قوله: ما حرم ربكم عليكم أنه مضمن معنى ما وصاكم به فعلا أو تركا; لأن كُلًّا من ترك الواجب وفعل الحرام حرام، فالمعنى وصاكم ألا تشركوا، وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا. وقد بين تعالى أن هذا هو المراد بقوله: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ. الْآيَةَ.)) (7)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
(1)-مغني اللبيب.ص: 512.
(2)-الحجة للقراء السبعة: (2/303).
(3)-أمالي ابن الشجري.تحق:محمود محمد الطناحي.ط:1،مكتبة الخانجي، القاهرة،1413هـ-1992م: (1/72).
(4)-معاني القرآن وإعرابه:أبو إسحاق الزجاج.تحق:عبد الجليل عبده شلبي.ط:1،عالم الكتب،بيروت، 1408هـ-1988م: (2/303-304).
(5)-أمالي ابن الشجري: (1/73-74).
(6)-مغني اللبيب.ص: 244-245.
(7)-فتح القدير (1/544).

- يتبع بإذن الله -
 
رد: توجيه الإشكالات النحوية في القرآن الكريم

الإشكال السابع:

ورد على قوله تعالى: { قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } [طه:63].
في كلمة ( هذان ) بالألف, وقد أتت بعد (إنّ) - عند من قرأ بتشديد النون - ، ومقتضى قياس اللغة أن تنصب بالياء.
قال ابن هشام في حل هذا الإشكال:
(( في هذا الموضع قراءات:
إحداها: هذه, وهي تشديد النون من (إنّ) و(هذين) بالياء, وهي قراءة أبي عمرو(1), وهي جارية على سنن العربية؛ فإن (إنَّ) تنصب الاسم وترفع الخبر, و(هذين) اسمها؛ فيجب نصبه بالياء لأنه مثنى, و(ساحران) خبرها فرفعه بالألف.
والثانية: (إنْ) بالتخفيف (هذان) بالألف(2), وتوجيهها أن الأصل (إن هذين), فخففت (إن) بحذف النون الثانية, وأهملت كما هو الأكثر فيها إذا خففت, وارتفع ما بعدها بالابتداء والخبر، فجيء بالألف, ونظيره أنك تقول: إن زيدا قائم؛ فإذا خففت فالأفصح أن تقول: إنْ زيدٌ لقائم على الابتداء والخبر، قال الله تعالى: { إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [الطارق:4].
والثالثة: (إنّ) بالتشديد (هذان) بالألف(3), وهي مشكلة؛ لأن (إنّ) المشددة يجب إعمالها؛ فكان الظاهر بالإتيان بالياء كما في القراءة الأولى .
وقد أجيب عليها بأوجه :
أحدها: أن لغة بلحارث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة وآخرين استعمال المثنى بالألف دائما, تقول: جاء الزيدان, ورأيت الزيدان , ومررت بالزيدان , قال: تـزود منا بين أذنـاه طعنـة(4)
وقال الآخر: إِنَّ أَبَـاهَا وَأَبَا أَبَـاهَا قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا(5)
فهذا مثال مجيء المنصوب بالألف, وذاك مثال مجيء المجرور بالألف.
والثاني: أن (إنّ) بمعنى نعم(6)، مثلها فيما حكي "أن رجلا سأل ابن الزبير شيئا فلم يعطه, فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك, فقال: إنَّ وراكبها "(7) , أي: نعم ولعن الله راكبها, و(إن) التي بمعنى نعم لا تعمل شيئا, كما أن (نعم) كذلك, فـ(هذان) مبتدأ مرفوع بالألف, و(ساحران) خبر لمبتدأ محذوف, أي: لهما ساحران, والجملة خبر (هذان) ولا يكون (لساحران) خبر (هذان) لأن لام الابتداء لا تدخل على خبر المبتدأ.
والثالث: أن الأصل: إنه هذان لهما ساحران؛ فالهاء ضمير الشأن, وما بعدها مبتدأ وخبر, والجملة في موضع رفع على أنها خبر (إن) ثم حذف المبتدأ وهو كثير, وحُذف ضمير الشأن كما حُذف من قوله صلى الله عليه وسلم: << إنَّ مِن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون >>(8) ومن قول بعض العرب: إن بك زيدٌ مأخوذ .
الرابع: أنه لما ثني (هذا) اجتمع ألفان: ألف هذا, وألف التثنية؛ فوجب حذف واحدة منها لالتقاء الساكنين؛ فمن قدر المحذوفة ألف (هذا) والباقية ألف التثنية، قلبها في الجر والنصب ياء, ومـن قدر العكس لم يغير الألف عن لفظها.
الخامس: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد –وهو (هذا)- جعل كذلك في التثنية ؛ ليكون المثنى كالمفرد؛ لأنه فرع عليه .
واختار هذا القول الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله , وزعم أن بناء المثنى إذا كان مفرده مبنيا أفصح من إعرابه , قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة (9).
ثم اعترض على نفسه بأمرين؛ أحدهما: أن السبعة أجمعوا على البناء في قوله تعالى:" إحدى ابنتي هاتين" مع أن (هاتين) تثنية "هاتا" وهو مبني.
والثاني: أن "الذي" مبني, وقد قالوا في تثنيته "الّلذين" في الجر والنصب, وهي لغة القرآن كقوله تعالى: { رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا } [فصلت: 29].
وأجاب عن الأول بأنه إنما جاء (هاتين) بالياء على لغة الإعراب لمناسبة (ابنتي) قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء؛ لأجل المناسبة, كما أن البناء في (إن هذان لساحران) أفصح من الإعراب ؛ لمناسبة الألف في (هذان) للألف في (ساحران).
وأجاب عن الثاني: بالفرق بين "اللذان" و"هذان" بأن "اللذين" تثنية اسم ثلاثي ؛ فهو شبيه بـ "الزيدان", و"هذان" تثنية اسم على حرفين؛ فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف(10).
وقال رحمه الله تعالى: وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ ( إن هذان ) لحن , وأن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها, وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه:
أحدها: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات, فكيف يقرون اللحن في القرآن, مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟
والثـاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام, فكيف لا يستقبحون بقـاءه في المصحف.
والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم؛ لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي.
الرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب (التابوت) بالهاء على لغة الأنصار فمنعوه من ذلك, ورفعوه إلى عثمان –رضي الله عنه – وأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش(11), ولما بلغ عمـر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ: "عتى حين" على لغة هذيل أنكر ذلك عليه, وقال: أقرئ الناس بلغة قريش؛ فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم, ولم ينزله بلغة هذيل, انتهى كلامه ملخصا(12) .
وقال المهدوي(13) في شرح الهداية: وما روي عن عائشة –رضي الله عنها – من قولها : (( إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها )) لم يصح (14), ولم يوجد في القرآن العظيم حرف واحد إلا وله وجه صحيح في العربية, وقد قال الله تعالى: { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] والقرآن محفوظ من اللحن والزيادة والنقصان. انتهى(15) .
وهذا الأثر إنما هو مشهور عن عثمان رضي الله عنه, كما تقدم من كلام ابن تيمية رحمه الله, لا عن عائشة رضي الله عنها كما ذكره المهدوي, وإنما المروي عن عائشة ما رواه الفراء عن أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه أنها -رضي الله عنها- سئلت عن قوله تعالى في سورة النسـاء: { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ } [النساء: 162] بعد قوله : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ } وعن قوله تعالى في سورة المائدة: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ } [المائدة: 69], وعن قوله تعالى في سورة طه: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } فقالت: يا ابن أخي, هذا خطأ من الكاتب ( روى هذه القصة الثعلبي(16) وغيره من المفسرين) ( 17), وهذا أيضا بعيد الثبوت عن عائشة رضي الله عنها؛ فإن هذه القراءات كلها موجهة كما مر في هذه الآية، و... الآيتين الأخيرتين ...، وهي قراءة جميع السبعة في (المقيمين) و(الصابئون), وقراءة الأكثر في (إن هـذان), فلا يتجه القول بأنها خطأ؛ لصحتها في العربية وثبوتها في النقـل. ))(18)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
(1)-الحجة للقراء السبعة: (5/229).
(2)-وهي قراءة ابن كثير وحفص،إلا أن ابن كثير يقرأ بتشديد نون "هذانّ".انظر:الحجة للقراء السبعة: (5/229).
(3)-وهي قراءة ابن عامر ونافع وحمزة والكسائي.انظر: الحجة للقراء السبعة: (5/229).
(4)-تمامه:(دعته إلى هابي التراب عقيم).نسبه ابن منظور إلى هوبر الحارثي.انظر:لسان العرب: (هبا) (6/4609).
(5)-هذا الرجز منسوب لرؤبة بن العجاج.انظر ملحق ديوانه.تحق:وليم بن الورد.(دط)،دار ابن قتيبة،(دت):ص: 168.وينسب أيضا لأبي النجم العجلي.انظر:ديوانه.تحق:محمد أديب.(دط)، مطبوعات مجمع اللغة العربية،دمشق، 1427هـ-2006م:ص: 450. شرح التصريح: (1/63).
(6)-ويؤيده قول ابن جني: وتكون إنّ بمعنى نعم فلا تقتضي اسما ولا خبرا قال الشاعر:
بَكَرَ الْعَــوَاذِلُ فِي الصَّبَا ***حِ يَلُمْنَـــــنِي وَأَلُومُهُـــنَّـــــــــتهْ
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا *** كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ
أي نعم هو كذاك, والهاء لبيان الحركة وليست اسما.انظر:اللمع في العربية لابن جني ص:43.
(7)-سير أعلام النبلاء: (3/383). المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: (4/50).
(8)-رواه بهذا اللفظ النسائي في سننه،كتاب الزينة،ذكر أشد الناس عذابا برقم (5364).تحق:الألباني ومشهور حسن سلمان ص: 806.
(9)-التفسير الكبير لابن تيمية.: (5/210). مجموع الفتاوى:ابن تيمية: (15/257)
(10)-مجموع الفتاوى: (15/261-263). التفسير الكبير: (5/210). دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية: (4/355).
(11)-رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن،باب جمع القرآن،برقم (4987).
(12)-التفسير الكبير: (5/207-210). مجموع الفتاوى: (15/250-256).
(13)-هو أحمد بن عمار،أبو العباس،المهدوي التميمي،المفسر المقرئ النحوي اللغوي،أصله من المهدية بالقيروان,ودخل الأندلس,صنف كتبا مفيدة منها التفسير واسمه:(التفصيل الجامع لعلوم التنزيل).توفي سنة (440هـ).انظر ترجمته:بغية الوعاة: (1/351). الأعلام: (1/184).
(14)-لأن في إسناده عكرمة مولى ابن عباس ويحيى بن يعمر،أما عكرمة فلم يثبت له ابن حجر سماعا من عثمان في تهذيب التهذيب: (7/263-264).وأما يحيى فقد أثبت أنه روى عن عثمان،كما في تهذيب التهذيب: (11/305). لكنه أثبت أنه كان يرسل كما في تقريب التهذيب ص: 1070. وفي الإسناد عبد الله بن فطيمة،قال البخاري في التاريخ الكبير: (5/170-171) عن إسناده:(منقطع).
(15)-شرح الهداية ص: 419.
(16)-الكشف والبيان (تفسير الثعلبي): (6/250).
(17)-معاني القرآن ليحيى الفراء: (2/183). معاني القرآن وإعرابه للزجاج: (3/362). تفسير الفخر الرازي (مفاتيح الغيب): (22/74).
(18)-شرح شذور الذهب. ص:75-80.
- يتبع بإذن الله -​
 
رد: توجيه الإشكالات النحوية في القرآن الكريم

الإشكال الثامن:

ورد على قوله تعالى: { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [القيامة:01].وقوله: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ }[البلد: 01] وما شابهها في (لا), إذ ظاهرها هنا نفي القسم. ومعنى الآية دال على القسم, كما في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [الواقعة: 75-76].
قال ابن هشام في حل هذا الإشكال:
(( اختلف في (لا) في ... قوله تعالى: { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } فقيل: هي نافية، واختلف هؤلاء في منفيها على قولين:
أحدهما: أنه شيء تقدم، وهو ما حكي عنهم كثيرا من إنكار البعث ، فقيل لهم: ليس الأمر كذلك ، ثم استؤنف القسم ، قالوا: وإنما صح ذلك لأن القرآن كله كالسورة الواحدة ، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، نحو : { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر: 6] وجوابه: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } [القلم: 2] .
والثاني: أن منفيها أقسم، وذلك على أن يكون إخبارا لا إنشاء، واختاره الزمخشري، قال: والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له؛ بدليل: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75-76] فكأنه قيل: إن إعظامه بالإقسام به كَلاَ إعظام، أي إنه يستحق إعظاما فوق ذلك .
وقيل: هي زائدة. واختلف هؤلاء في فائدتها على قولين:
أحدهما: أنها زيدت توطئة وتمهيدا لنفي الجواب، والتقدير لا، أقسم بيوم القيامة لا يتركون سدى، ومثله: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء: 65] وقوله:
فَلَا وَأَبِيكَ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ لَا يَدَّعِي الْقوْمُ أَنِّي أَفِـرْ(1)
ورد بقوله تعالى: { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } [البلد: 1] الآيات؛ فإن جوابه مثبت وهو: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [ البلد: 4 ] ومثله: { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } الآية .
والثاني: أنها زيدت لمجرد التوكيد وتقوية الكلام ، كما في: { لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد:29] ورد بأنها لا تزاد لذلك صدرا, بل حشوا, كما أن زيادة "ما" و"كان" كذلك , نحو: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّه } [ آل عمران:159], { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ } [ النساء: 78 ], ونحو: "زيد كان فاضل"؛ وذلك لأن زيادة الشيء تفيد اطراحه, وكونه أول الكلام يفيد الاعتناء به, قالوا: ولهذا نقول بزيادتها في نحو: { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ } [المعارج: 40], { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } لوقوعها بين الفاء ومعطوفها, بخلاف هذه, وأجاب أبو علي بما تقدم من أن القرآن كالسورة الواحدة . )) (2)
وقال الشنقيطي رحمه الله ما ملخصه:
(( قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}. هذه الآية الكريمة يتبادر من ظاهرها أنه تعالى أخبر بأنه لا يقسم بهذا البلد الذي هو مكة المكرمة مع أنه تعالى أقسم به في قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ}.[التين: 03]
والجواب عن هذا من أوجه:
الأول - وعليه الجمهور -: أَنَّ «لَا» هنا صلة على عادة العرب، فإنها ربما لفظت بلفظة «لا» من غير قصد معناها الأصلي، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي [طه: 92 - 93] . يعني أن تتبعني.
وقوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [الحديد: 29] .
وقوله: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [النساء: 65] .
وقول امرئ القيس:
فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةُ الْعَامِرِيِّ *** لَا يَدَّعِ الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرْ(3)
يعني وأبيك، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، قول الشاعر:
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ دِينَهُمُ *** وَالْأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ
يعني وعمر، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج:
فِي بِئْرٍ لَا حَوْرَ سَرَى وَمَا شَعَرَ *** بِإِفْكِهِ حَتَّى رَأَى الصُّبْحَ شَجَرَ
والحور: الهلكة: يعني في بئر هلكة، وأنشد غيره:
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ *** وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ
والوجه الثاني: أن «لا» نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: أقسم: إثبات مستأنف.
وقيل: إن هذا الوجه، وإن قال به كثير من العلماء، إلا أنه ليس بوجيه عندي ; لقوله تعالى في سورة القيامة: وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ; لأن قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} يدل على أنه لم يرد الإثبات المستأنف بعد النفي بقوله «أقسم» والله تعالى أعلم.
الوجه الثالث: أنها حرف نفي أيضا، ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به. فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية. والمراد أنه لا يعظم بالقسم، بل هو في نفسه عظيم أقسم به أو لا. وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني، ولا يخلو عندي من نظر.
الوجه الرابع: أن اللام لام الابتداء، أشبعت فتحتها. والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف، والكسرة بياء، والضمة بواو. ومثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن الحارث:
وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ *** كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيَّا
فالأصل: كأن لم تر، ولكن الفتحة أشبعت.
وقول الراجز:
إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ *** وَلَا تَرَضَّاهَا وَلَا تَمَلَّقِ
وقول عنترة في معلقته:
يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ *** زَيَّافَةٍ مِثْلِ الْعَتِيقِ الْمُكْدَمِ
فالأصل ينبع، يعني العرق، ينبع من الذفرى: من ناقته، فأشبعت الفتحة فصارت ينباع، وقال: ليس هذا الإشباع من ضرورة الشعر.
ثم ساق الشواهد على الإشباع بالضمة والكسرة، ثم قال: يشهد لهذا الوجه قراءة قنبل: «لَأُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ»(4) بلام الابتداء.)) (5)
ولعل أرجح الأقوال – والله تعالى أعلم – قول الجمهور من أن (لا) صلة وزيدت لتقوية الكلام وتوكيده كما تقدم في بعض آيات القرآن وكلام العرب.
هذا ما أمكن جمعه . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
(1)-البيت لامرئ القيس.وهو في ديوانه ص: 105.
(2)-مغني اللبيب.ص: 243-244.
(3)-البيت لامرئ القيس.وهو في ديوانه ص: 105.
(4)-الحجة للقراء السبعة: (6/343).
(5)-دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب ص: 86، تتمة أضواء البيان :(8/370).
 
رد: توجيه الإشكالات النحوية في القرآن الكريم

البحث مكتمل و هو كله منقول من منتديات التصفية و التربية للأستاذ اللغوي عبد تالقادر شكيمة، و لمن أراد تنزيله في ملف pdf فالينقر من هنا.
 
رد: توجيه الإشكالات النحوية في القرآن الكريم

بارك الله فيك.
.
.
.
.

 
آخر تعديل:
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top