الشَّيخُ الطَّيِّبُ العُقْبِيُّ «خطيبُ السَّلفيِّين وشاعرهم»

الطيب الجزائري84

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
14 جوان 2011
المشاركات
4,119
نقاط التفاعل
4,692
النقاط
191
العمر
39
الجنس
ذكر
  • سمير سمراد



ـــــ المولد والنشأة ـــــ
يقول في ترجمته لنفسِه(1): «وُلِدْتُ ببلدة سيدي عقبة (الجزائر) ليلةَ النِّصفِ من شهر شوَّال سنة (1307ﻫ)؛ حسبما اسْتَفَدْتُه من مجموع القرائن الدَّالَّة على تعيين العام، ويُحتمل أنْ تكون وِلادتي بعد ذلك التَّاريخ بنحو العَامِ لأنِّي لم أجد قيدًا صحيحًا لسَنَةِ وِلادتي.
ووالدي هو محمَّد بن إبراهيم بن الحاج صالح»، وقد انتقل جدُّه الأوَّل إلى بلدة «سِيدِي عُقْبَة»، فكان هُوَ وأولادُه مِنْ بَعْدِه «عُقْبِيِّينَ» بالسُّكْنَى.
ـــــ الانتقال إلى الحجاز ـــــ
يقول: «انتَقَلَت عائلتُنا مهاجرةً من بلدة «سيدي عُقْبَة» إلى الحجاز بِقَضِّهَا وقَضِيضِهَا؛ أُنْثَاهَا وذكرِها، صغيرِها وكبيرِها، سَنَة (1313ﻫ)، قاصدةً مكَّة المكرَّمة لحجِّ الكعبة المشرَّفَة في تلك السَّنةِ، فكنت في أفرادها الصِّغار، لم أبلغْ منَ التَّمْيِيز الصَّحيح، ولولا رجوعي إلى هذه البلاد ما كنت لأعرف شيئًا فيها».
ـــــ اسْتِقْرَارُ عائلتِه بالمدينة ـــــ
يقول: «سَكَنَتْ عائلتُنا أوَّل سَنَة (1314 هـ) ـ بعد الحجِّ ـ المدينةَ المنوَّرةَ، حيث كان استقرارُها بها، وبها قبرُ أَبَوَيَّ وعمِّي وعمِّ والدي وأختي، وَجُلِّ من هاجر من أفراد عائلتِنا، كلُّهم دُفِنُوا هُنَالِكُمْ بـ «بقيع الغرقد»، رحمةُ الله عليهم».
ـــــ كَفَالَتُه وتَرْبِيَتُه ـــــ
ويقول: «وبعد وفاةِ والدِي (سنَة 1320ﻫ) بَقِيتُ مع شقِيقِي وأختِي للأبِ تحت كَفَالة والدتي... وتربَّيْتُ في حجر أمِّي يتيمًا غريبًا لا يَحُوطُنِي ولا يَكْفُلُنِي غَير امرأةٍ ليست بعالمة... ولولا فضل الله عليَّ وعنايتُه بي صغيرًا يتيمًا لما كنت هُدِيتُ سواء السَّبيل».
ـــــ تعلُّمه وقراءَتُه القرآنَ ـــــ
يقول: «قَرَأْتُ القرآنَ على أساتذة مِصْرِيِّين برواية «حفص»، ثُمَّ شَرَعْتُ على عهدِ والدتي بقراءةِ العلم بالحَرَمِ النَّبويِّ، لا يشغلني عنه شاغلٌ ولا يصدُّني عنه شيء، حيث كان أخي الأصغر منِّي سِنًّا هو الَّذي تكلِّفه والدتي بقضاء ما يَلْزَمُ من الضَّروريَّات المنزليَّة، وقد أدركتُ سِرَّ الانقطاع لطلب العلم وفَهِمْتُ جيِّدًا قولَ الإمام الشَّافعيِّ: «لو كُلِّفْتُ بشراء بَصْلَةٍ، ما تَعَلَّمْتُ مَسْأَلَةً»، بعد أن أصْبَحْتُ أنا قائمًا بشؤوني والمتولِّي أمرَ عائلتي ونفسي، وأخذت إذْ ذاك من العلم بقِسْطٍ شَعَرْتُ معه بواجباتي الدِّينية والدُّنيويَّة، وما كِدْتُ أُدْرِك معنى الحياة وأتناولُ الكتابةَ في الصُّحف السيَّارة وأنظم الشِّعر وأتمكَّن من فهم فنِّ الأدب الَّذي كان سَمِيرَ طَبْعِي، وضميرَ جمعي ـ حتَّى فاجَأَتْنَا حوادثُ الدَّهر، ونَوائبُ الحدثان، وجلُّها كان على إثْرِ وبسبب الحرب العالمية التي شتَّتَتِ الشَّمل وفرَّقت الجمع».
ـــــ كَيْفَ أُبْعِدَ منَ المدينة ـــــ
يقول: «تَنَاوَلْتُ الكتابةَ في الصُّحفِ الشَّرقيَّة قبل الحرب العموميَّة أمدًا غير طويلٍ، فَعَدَّنِي بعضُ رجالِ تركيا الفتاة من جملة السِّياسيِّين، وأخرجوني في جملة أنصار النَّهضة العربية من المدينة المنوَّرة ـ على إثر قيام الشَّريف حسين بن علي في وجوههم بعد الحرب ـ إلى المنْفَى».
وكان مستقرُّ المنْفَى أخيرًا في أرض «الأنَاضُولِ».
ثمَّ يقول: «وهناك بَقِيتُ أكثرَ من سنَتَيْن مُبْعَدًا في جملة الرِّفاق عن أرض الحجاز وكلِّ بلاد العرب، ثمَّ انتهت الحربُ الكبرى بعد الهدْنَةِ يوم (11 نوفمبر 1918م) ونحن إذْ ذاك مع عائلتنا الَّتي التحقت بنا بعد خراب المدينة «أزمير»، ومنها كان رجوعنا معشر أهالي المدينة المنوَّرة إلى الحجاز.
وما وصلت أنا إلى مكَّةَ المكرَّمةِ حتَّى لَقِينَا من لَدُنِ جَلَالَةِ الملك حُسَيْن كلَّ ما هو أهله من الإكرام والإجلال، وهناك عيِّنْتُ مديرًا لجريدة «القِبْلَة» و«المطبعة الأمِيريَّة»...».
ـــــ رجوعُه إلى الجزائر ـــــ
وقد وقف الدُّكتور صالح خرفي(2) على نقلٍ مهمٍّ يؤرِّخ لهذه المرحلة في جريدة «القبلة» [السَّنة الرَّابعة، العدد 34/5 يناير 1919م]، وها هو بنصِّه:
«(سفر فاضل) في مساء هذا اليوم برح العاصمة رصيفُنا الفاضلُ الهُمَامُ، أَرَبُ الغَيْرَةِ والشَّهامةِ، الكاتبُ القدير، والشَّاعر الكبير، الأستاذ «الطيِّب العقبي» قاصدًا «جُدَّة» بعائلته، ومنها إلى وطنه الأصلي «الجزائر»، الَّتي وضع بعضُ المعتدين المتمرِّدين يَدَهُ عليها اغتصابًا، وامتصَّ في سِنِيِّ الحربِ العموميَّة، التي نال رصيفُنا الفاضل منها ما ناله من أنواع العسف والجور والنَّفي والتَّبعيد من الحكومة التركيَّة ظلمًا وعدوانًا شأن الأفاضل الأحرار... نكتب هذه السُّطور ونحن في أشدِّ الأسف والأسى على فراق رصيفِنا الماجد النَّبيل ونتمنَّى له النَّجاح في قضيَّته، رافقتُه السَّلامة في الظّعن والإقامة».
وقد ذكر العقبي سببًا آخر لرجوعه إلى وطنه، قال: «... ولما كُنْتُ أتوقَّعُه من عدم اسْتِتْبَابِ الأمْنِ واستقرارِ الأمرِ في الحجاز للشَّريف حسين، غَادَرْتُ تلك البلاد المقدَّسة إلى هذه البلاد الجزائرية بنيَّة قضاء مآربي هنا وعمل ما يجب عملُه في قضيَّة أملاكِنا مع المعْتَدِي عليها، ثمَّ الرُّجوع إلى الحجاز إذا رَجَعَتِ المياهُ إلى مجاريها».
لكن شاء الله أن يبقَى العقبي، ولا يغادر الجزائر، ويستوطن بلدة «بَسَّكْرَة».
وعلى إثْرِ عودته، قامت حكومةُ فرنسا بتفتيش منازله ببلدة «سيدي عُقبة» و«بسكرة»، بسبب وِشَايَات الظَّلمةِ المعتَدِين، وأخذت جميعَ أوراقِه الَّتي كانت بحوزته؛ من مخطوطات وغيرها، يوم (4 سبتمبر 1921م)، وأطلقت سبيلَه بعد توقِيفِه أربعة أيَّام، ولم يزلِ الشَّيخ يطلبها منهم (مرَارًا لما بها من القضايا) التي تخصُّه (أو المسائل العلمية)(3).
ثمَّ أسَّس الشَّيخ ابن باديس صحيفة «المنتقد»، واجتمع عليها الكتَّاب المصلحون، فسلُّوا سيف الانتقاد، بعد أن عَلِمُوا أنَّه «لا يكون إصلاحٌ إلَّا بالانتقاد»، وقد كانت وجهتهم الأولى في النَّقد هي الاعتقادات.
يقول ابن باديس: «هنا اصطدمنا بزعماء الطُّرق وشيوخ الزَّوايا الاصطدامَ المعروف؛ لأنَّه إذا خلص التَّوحيدُ توجَّه النَّاس إلى ربِّهم الَّذي خلقهم وتَرَكُوهُم، واعتقدوا فيهم أنَّهم مخلوقون مثلهم لا يضرُّون ولا ينفعون، إلى غير هذا ممَّا يُنْتِجُه التَّوحيد الصَّحيح من تحرير العقول والأرواح والقلوب والأبدان»(4)، فَزَعْزَعُوا «عقائدَ كانت تُحْسَبُ من صميم الإيمانِ»، ونَسَفُوا «صُرُوحًا مشيَّدة من الخرافات والأوهام»، وزَرَعُوا «البَذْرَةَ الأولى لتطهِير العقائد وتحرير الأفكار».
وكانت أوَّلُ صحيفة دعت إلى تحرير الأمَّة من ضغط وتسلُّط زعماء الطرقيَّة، أو «حكومة القطب والغوث»، هي صحيفة «المنتقد»، التي انْبَرَت للكتابة فيها: «أقلام كانت تُرسل شُوَاظًا من نارٍ على الباطل والمبْطِلين»(5).
ثمَّ جاءت قصيدةُ العقبي، كالسَّيلِ الجارف، أو كالزِّلزال؛ بما أحدثته من هزَّة عنيفة، وتحطيمٍ لأوضاع مقدَّسة، يحدِّثنا عنها الشَّيخ مبارك؛ يقول: «ابْتِدَاءُ الحربِ على حكومة القُطْبِ:... قصيدة العقبي وتأثيرها في الأمَّة؛ ولكن «أتى الوادي فطم على القرى» إذ حمل العدد الثامن [من «المنتقد»] في نحره المُشْرِقِ قصيد «إلى الدِّين الخالص» للأخ في الله، داعية الإصلاح وخطيب المصلحين، الشَّيخ الطيِّب العقبي... فكانت تلك القصيدة أوَّل مِعْوَل مؤثِّر في هيكل المقدسات الطرقيَّة، ولا يعلم مبلغ ما تحمله هذه القصيدة من الجراءة ومبلغ ما حدث عنها من انفعال الطرقيَّة، إلَّا من عرف العصر الَّذي نشرت فيه وحالته من الجمود والتَّقديس لكلِّ خرافة في الوجود»(6) ممَّا جاء فيها:
ماتت السُّنَّة في هـذي البـلاد
قُبِر العلم وسـاد الجهـل ساد
وفـشــا داء اعتقــاد بـاطـل
في سهول القُطر طُرًّا والنَّجاد
عـبـد الكلُّ هـواء شـيــخـه
جـده، ضـلّوا وضلّ الاعتقاد
ثمَّ عُطِّلت «المنتقد» فَخَلَفَتْهَا «الشِّهاب» «مرآة الإصلاح والمصلحين»، لتمضِيَ على نفسِ الخطَّة، وتواصل الجهاد، وكان «العقبي» من محرِّري المقالات العظيمة بها، كما كان عميدَ الكتَّابِ فيها، ولك أن تَلْتَمِسَ ذلك لمس اليدِ، إذَا وقفت على هذه الكلمات والتَّصديرات التي كان يُحَرِّرُهَا ويُثْبِتُها صاحب «الشِّهاب»، وإليك بعضها:
ـــــ مباهلة العقبي للطرقيين ـــــ
وبينما الحرب على أشدِّها بين الموحِّدين وبين الطُّرقيِّين الخرافيِّين، والصِّراع في أَوْجِه، إذا بخُرَافِيٍّ كبير من المغرب الأقصى يَنْضَمُّ إلى أصحابه «العلِيوِيِّين»، ويسخِّرُ نَثْرَه وشعرَه في هَجْوِ مُنْتَقِدِي البِدَعِ ومحاربي التَّخريف، وهو: «أحمد سُكَيْرِج» القاضي التِّيجَانِي، وكان من شأنه أنَّه دعا المصلحين للمباهلة، بل كَذَبَ عليهم وادَّعى أنَّهم لا يجيبون إذا دُعُوا إليها، فتصدَّى له «العقبي»؛ وكتب: «بل نجيب... ولعنة الله على الكاذبين»(7).
وقال العقبي في «مباهلته»: «اللَّهمَّ إنْ كنت تعلم أنَّ سُكَيْرِج وجماعة الطُّرقيِّين فيما هم عليه اليوم وما يدعون النَّاس إليه ويقرُّونهم على فعله في طرقهم مُحِقُّون وأنَّ ذلك هو دينك الَّذي ارتضيته وشرعته لعبادك بواسطة محمَّد صلى الله عليه وسلم، فالْعَنِّي ومن معي لَعْنًا كثيرا! وإن كنت ـ يا اللهُ، يا ربَّنَا وربَّ كلِّ شيء!! ـ تعلم أنَّ ما عليه الطُّرقيُّون اليوم فيما هم فيه من أمرهم ودعايتهم النَّاس إلى طُرُقِهم هو من الحَدَثِ في دينك والباطل الذي لا يرضيك ولا يرضي نبيَّك، فالْعَنْ (سكيرج) قاضي الجديدة ومن معه لَعْنًا كبيرا! واجعل مَقْتَكَ الأَبَدِيَّ وخِزْيَك ولَعْنَتَك الدَّائمة على الكاذبين! (آمين، آمين، آمين).
هكذا أُبَاهِلُك وأُلَاعِنُك يا سكيرج! فلاعِنِّي بمثلِها! وإيَّاك أن تتأخَّر أو تنهزم يوم اللِّقاء...»، «سكت سكيرج ولم يجب عن مقال العقبي «ببنت شفة»، وكان من واجبه أن يجيب بصراحة ويقول أنِّي قَبِلْتُ تعيين الزَّمان والمكان»، وهكذا: «انهزم سكيرج»؛ ولكن أصحابه عمدوا إلى التَّمويه والمغالطة والكذب فأعرض العقبي عنهم، وقطع الكلام معهم؛ لأنَّهم كما قال: «هم قَوْمٌ بُهْتٌ» [ع112/ص8 ـ 14].
ـــــ تأييد ابنِ باديس والمِيلِي ـــــ
«سَيُهْزَمُ الجمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ»: تحت هذا العنوان كتب ابن باديس تأييدًا للعقبي، قال: «حيَّاك الله وأيَّدك يا سيف السنَّة وعَلَمَ الموحِّدين، وجزاك الله أحسن الجزاء عن نفسك وعن دينك وعن إخوانك السَّلفيِّين المصلحين، ها نحن كلُّنا معك في موقفك صفًّا واحدًا ندعو دعوتك ونباهل مباهلتك، ونؤازرك لله، وبالله.
فليتقدَّم إلينا الحُلُولِيُّونَ(8) وشيخُهم ومن لَفَّ لَفَّهُم وكَثَّرَ سَوَادَهُم في اليوم الموعود والمكانِ المعيَّن لهم، ولِيُبَادِرُوا بإعلان ذلك في جريدتهم إن كانوا صادقين، فإن لم يفعلوا ـ وأحْسَبُ أن لن يفعلوا ـ فقد حقَّت عليهم كلمةُ العذاب وكانوا من الظَّالمين، والحمد لله ربِّ العالمين»(9).
كما كتب الشَّيخ مبارك الميلي في العدد الموالي للشَّيْخَيْنِ [في العدد: 98/ص10 ـ 13]، جاء فيه وصف الشَّيخ العقبي بـ: «خطيب السلفيِّين وكاتبهم وشاعرهم».
ـــــ العُقْبِي وجريدةُ «الإصلاح» ـــــ
ثمَّ أسَّس العقبي جريدة «الإصلاح» ببسكرة، التي يقول عنها الإبراهيمي: «فكان اسمُها أخفَّ وقعًا، وإن كانت مقالاتُها أسدَّ مَرْمَى وأشدَّ لَذْعًا»(10)، وكتب عنها الشَّيخ ابن باديس، وبشَّر بِقُرْبِ صدورِها؛ فقال: «سَتَصْدُرُ تحت الاسم أعلاه جريدةٌ لخطيب السَّلفيِّين وشاعرِهم الزَّعيم الكبير الشَّيخ الطيِّب العقبي، بحسبي في التَّنويه بما ستجمِّل به «الإصلاح» الصَّحافة الجزائرية من آيات البيان، وغُرَرِ البلاغة، وفنون الكلام، وبديعِ الأساليب، وما تخدم به حزب الإصلاح الدِّيني من آيات الحكمة وقواطع الحجَّة في أبواب الدَّعوة ومطارح الجدل، بحسبي في ذلك أن أقول إنَّها للأستاذ العقبيِّ، فقد عرفه النَّاس في مجالسه وما نشرته الصُّحف من كلامه، الخطيب المُفَوَّه، والكاتب الضَّلِيع...»(11).
وقال فيه أيضًا: «الأستاذ العقبي أشهر مِنْ أنْ نُعَرِّفَ به، ونتحدَّث عن ثباته وإخلاصه وصراحته وجراءَتِه، ولقد كان منذ أيَّام الحجاز وحلَّ ببلدة «سيدي عقبة» مُعْلِنًا بكلمة الحقِّ، داعيًا إلى الكتاب والسُّنَّة، مُنْكِرًا لشرك القبوريِّين، وبدع الطرقيِّين، وكان له من جرَّاء ذلك أعداء، وكان له بسببه خصومٌ، وكانت له معهم مواقفُ وكانت له عليهم ردود... »(12).
ولقد عانى العقبي كثيرًا لاسْتِصْدَارِ جريدته، واعْتَرَضَتْهُ فيها عراقيلُ؛ ولا أدلُّ على ذلك من أنَّ العدد الأوَّل صدر في (12 ربيع الأوَّل 1346هـ)، ولم يصدر العدد الثَّاني إلَّا في أوَّل سَنَتِهِ الثَّالثة (2 ربيع الثاني 1348هـ)، موافق: (5 سبتمبر 1929م).
لم يمضِ على العقبي إلَّا زمن قصير في بسكرة حتَّى طار صِيتُه، حيث كان في هذه المرحلة: «العالم الأوَّل، والمصلح الدَّاعية الأوَّل»، الَّذي قوَّض صرح الطُّرقيَّة، وزعزع بنيانها، وأعمل فيها فؤوس الهدم، ليثبِّت مكانها عقائد التَّوحيد الصَّحيحة.
ـــــ جهادُ العُقْبِي ـــــ
كان هذا جهاد العقبي في «الكتابة» التي كان إمامًا مُبَرَّزًا فيها، وهنا وقفة مع جهاده في الميدان، ومع دعوته الَّتي أعلن بها في وسط النَّاس:
* هذه مكاتبة نُشِرَتْ لأديب في جرائد تونس [جريدة «لسان الشَّعب» (1927)]، قام برحلة إلى «بسكرة»؛ فسجَّل ما يلي: «...في بسكرة جماعة إصلاحية قويَّة على رأسها الأستاذ الطيِّب العقبي... وأهمُّ ما ترمي إليه هَاتِهِ الجمعية القضاءُ على الخرافات القديمة، والتَّنقيصُ ممَّا يعلمه النَّاس عن الطُّرق والزَّوايا للقضاء عليها بعد ذلك بتاتًا، وهو أمر تعهَّد به العقبي الَّذي لا يترك فرصةً تمرُّ بدون أن يكون فيها خطيبًا لا فرق عنده أكان ذلك في طريق، أو مقهى، أو حانوت عطار... وقد اشتهر الأستاذ بفكرتِه، وهو فخور بها يسمع النَّاس يسبُّونه ولا يتحرَّك، ويأتيه البريد بالمكاتيب [أي: الرَّسائل] المملوءة بشَتْمِه فيضحك منها ويعطيها لمن كان بجانبه ويقول: «انظر في أيِّ شيء يضيِّعون أوقاتهم»، وله في طريق داره ضريحٌ صغير في مقبرة قديمة رأى النَّاس يعبدونه، فهدمه ثلاث مرَّات، ولكنَّهم في كلِّ مرَّة يجدِّدون بناءه بعد أن يزوِّدوا الأستاذ بجانبٍ من الدُّعاء، وأخيرًا تركوه وصمَّموا على عدم تجديده إلَّا إذا انْتَقَمَ لنفسه من عدوِّه!... وهم منتظرون!
ولقد التفَّ حول هذا الرَّجلِ المصلح نخبةٌ مهمَّةٌ من أبناء البلاد، كوَّنوا نهضةً لا يُسْتَهَانُ بها، وهي تعمل بكلِّ مجهودها في إنارة الطريق إلى الأفكار القديمة الَّتي اسْتَوْلَتْ عليها وأفسدَتْها من حيث لا تَشْعُرُ»(13).
وكتب «الزَّاهري» عن إحدى جَوَلات العقبي رُفْقَةَ إخوانه من العلماء والأدباء في منطقة «بسكرة»؛ فقال: «وَفْدُ الشُّعراء يزور: طُولْقَة، فرفار، البُرْج» [«جريدة البرق» (ماي 1927م)]: «وبعد الفراغ من مَأْدُبةِ الغَدَاءِ، شرع الأستاذ الطيِّب العقبي يدعو النَّاس إلى النَّجاة، ويهديهم إلى سبيل الرَّشاد ويجاهد الَّذين يجعلون لله أندادًا، ويدعون مع الله آلهةً كثيرةً ـ بالقرآن جهادًا كبيرًا، ومضى العقبي في هذا الموضوع وتغلغل فيه بشدَّة كأنَّه التيَّار الجارف الذي جرف طرق «القومِ» وخرافاتهم؛ أو كأنَّه إعصار فيه نارٌ تأكل ضلالات المشركين أَكْلًا لَـمًّا؛ فلم يَبْقَ في مجلسه ذلك أحدٌ إلَّا وخضع لكتاب الله، وسلَّم لله ورسوله تسليمًا ولم يخرجوا من هناك حتَّى عادوا لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضى اللهُ ورسولُه...».
وقال عن مجلس آخر، جمعهم بالشَّيخ السّعدوني الَّذي قال قولًا عظيمًا شنيعًا؛ «ولم يتكلَّم الشَّيخ السّعدوني... وجعلنا نتباحث معه في حركة الإصلاح وفي المصلحين، وفي أعداء الإصلاح المفسدين فاعترف بأنَّه قال: «الرُّجوع إلى كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ضلالٌ مبينٌ؛ وشقاوة وخسارة سَرْمَدِيَّة، اليوم وقبل اليوم»، وقال: إنَّه لا يزال مصرًّا على هذا القول،... وقد بيَّن لنا مراده بتأويلٍ لم نستطع أن نفهمه، وقد هجم عليه العقبي هجوم المحقِّ على الباطل فتركه حائرًا مبهتًا، وكان هذا الموقف الذي وقفه الأستاذ العقبي موقفَ جدٍّ، موقفَ صراحة، موقفَ من لا يخافُ في الله لَوْمَةَ لائِمٍ، موقفَ من يجاهد الخرافيِّين بالقرآن جهادًا كبيرًا، بتلك الفصاحة العربيَّة الَّتي لم تكن لغير العقبي، فإنَّه أحاط بالسَّعْدُونِي من كلِّ جانب يحتجُّ بالقرآن، ولم يكن للسَّعدوني من حجَّة... وأخيرًا عَجَزَ عن كلِّ شيء واعترف بأنَّه لا يستطيع أن ينتصر علينا بلسانه؛ ولكنَّه سيكتب في الجرائد... وقد قرَّعه العقبي على طعنه في ابن تيمية... تقريعًا حُلْوًا وَمُرًّا...».
ـــــ فَصَاحَةُ العُقْبِي ـــــ
ولا يفوتني هنا أنْ أقف وَقْفَتَيْنِ مع «فصاحة» العقبي، الَّتي أجمع على التَّنويه بها الموافق والمخالف:
* قال أحد كتَّاب جريدة «النَّجاح»(14) [ع: 280/ص2] (عام 1344هـ/1925م):
«أمَّا الشَّيخ الطَّيِّب العقبي فله فصاحةٌ تامَّةٌ يتخلَّص بها من موضوع إلى موضوع بسهولة ولم يَتَلَعْثَمْ في خطابه، وذاك دليل على براعته في المنطق».
* وقال أحد مكاتبي «الشِّهاب» [ع:161/ ص6 ـ 9] يصف إحدى مجالس وجولات العقبي [1928م]؛ «ثُمَّ قام أميرُ البيان والخطيبُ المصقع الأستاذ العقبي، وألقى خطبةً ارتجالًا دامت أكثر من نصف ساعة... ولقد رأيته خطيبًا بلسانه، خطيبًا بلهجته، خطيبًا بهيئته، خطيبًا بحركاته وسكناته، وأسهب في ذلك [الموضوع] إسهابًا استحلاه النَّاس واستعذبوه، حتَّى مَلَكَ عليهم عواطفَهم وأخذ عليهم مشاعرَهم وترك بعض النَّاس يبكون من شدَّة ما أَثَّر عليهم بفصاحته وبيانه...».
ـــــ الانتقال إلى عاصمة الجزائر ـــــ
استدعى الأعيان المصلحون في مدينة الجزائر وإدارة «نادي التَّرَقِّي» الشَّيخ العقبي ليواصل جهاده في الجزائر الَّتي هي في حاجة أكثر إليه، ورَغِبَتْ في ذلك إدارةُ جمعية العلماء، فانتقل إليها.
وعن عظيم أثره فيها، يقول الشَّاعر الأديب حمزة بوكوشة(15): «...ظهرت العاصمة بمظهر ديني لم يُعهد فيها من قبل، [حدث بها انقلاب لم يكن في الحسبان] وذلك منذ حلَّ بها الدَّاعية الإسلامي العظيم الأستاذ الطيِّب العقبي، فأثَّر في الأمَّة بدروسه... ومحاضراته... فانتفع به خلقٌ كثيرٌ في العاصمة وضواحيها، واتَّبعوا الصَّلاة، وتركوا الشَّهوات»(16).
وقد كان العقبي عميد «جمعية العلماء» في العاصمة، ولسانُها الَّذي يَنْشُر دعوتَها، وحين تأسَّست جريدة «البصائر» عَهِدَتْ إليه بإدارتها.
ـــــ مِحْنَةُ العُقْبِي ـــــ
ثمَّ حدثت حوادثُ مؤلمةٌ، ابتدأت بمكيدةِ اتِّهام العقبي بقتل المفتي «كَحُّول»، ومثولِه للمحاكمة، ثمَّ بعد براءتِه، بقي تحت نَظَرِ الحكومة واختبارها، في محنة شديدة مرَّت عليه، ثمَّ استعفاؤُه من إدارة «البصائر»، ثمَّ مأساة استقالته من مجلس إدارة جمعية العلماء، وهكذا انفصل العقبي عن بقيَّة إخوانه، وجاءت الحرب العالميَّة...
وقيل الكثيرُ عن العقبي، ممَّا يطول ذكره، إلَّا أنَّه لابدَّ من الإشارة إلى أنَّ تلك الأقوال التي غُمِزَ بها، يَرْجِعُ أكثرُها إلى مواقفِه السِّياسيَّة، وإلى الخطّة الَّتي اختارها في المعاملة مع الإدارة الفرنسيَّة؛ يريد بذلك خدمة هذه الأمَّة، وتجنيبها ما يضرُّ بها، أمَّا دينه وعقيدته فلا أحد استطاع أن يشهد عليه بأنَّه بدَّل أو غيَّر، بل هم مجمعون على أنَّه ظلَّ ثابتًا صلبًا فيهما، ومن آخر ما كتب عام (1953م) قوله: «إنَّني بلوت هذه الأمَّة في خدمتي لها أكثر من ثلاثين سنة، وقاسيت في سبيل الإصلاح ما قاسيت وكانت التَّجْرِبَة قاسية كادت تؤدِّي إلى اليأس من نجاة هذه الأمَّة المَغْبُونَة؛ ولكن اعتقادي في إصلاح حالها لا يزال اليوم على ما كان عليه أمس، وهو أنَّ نجاة هذه الأمَّة لا يحصل إلَّا في التَّمسُّك بالكتاب والسُّنَّة والسَّير على ضوء تعاليمها قولًا وعملًا...»(17).
رحم الله الشَّيخ العقبي، وجازاه أحسن ما يجازي المجاهدين العاملين.

(1) نشرت في كتاب «شعراء الجزائر في العصر الحاضر» للأديب الهادي السّنوسي (ص124)، ونقلها الأستاذ فضلاء في كتابه: «الطيِّب العقبي رائدًا لحركة الإصلاح...» (ص15 ـ 23)، وعن هذا الأخير نَقَلْتُ.
(2) «الجزائر والأصالة الثَّوريَّة» (ص82).
(3) انظر: «الشِّهاب» [العدد 5، والعدد 7].
(4) «الشِّهاب» [العدد 32/11 ذي الحجة 1344هـ].
(5) الإبراهيمي: «سجل مؤتمر جمعية العلماء» (ص51).
(6) «رسالة الشِّرك» (ص284).
(7) «الشِّهاب» [عدد 97 السنة الثانية: 17/11/1345هـ].
(8) «الحلوليون» نسبةً إلى عقيدة الحُلُولِ التي حَوَتْهَا كتبُ ابن علِيوَة؛ رئيس «العلِيوِيِّين»، فقد زعم أنَّه هو «الله»! تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
(9) «الشِّهاب»: [السَّنة الثَّانية: 17/12/1345هـ/ص7].
(10) «السِّجل» (ص15).
(11) «الشِّهاب»: [العدد 106/جوليت 1927م/ص15].
(12) «الشِّهاب»: [العدد 115 /ص17].
(13) «رحلات جزائريَّة» (ص84 ـ 85) لمحمَّد الجابري.
(14) انتهجت هذه الجريدة نهجًا مضادًّا للمصلحين، وآوت كتَّاب الطُّرقيِّين.
(15) كان عضوًا إداريًّا في جمعية العلماء، وكانت له صلة بالشَّيخ العقبي، وقد حدَّثني ولده أنَّ في مخطوطات والده كتابًا ألَّفه عن سيرة العقبي، فعسى أن يُنشر قريبًا.
(16) عن جريدة «الوزير» التُّونسيَّة (1932م)، ضمن «رحلات جزائريَّة» (ص143).
(17) جريدة «المنار» (العدد 17/ص1).

* منقول من مجلة الإصلاح «العدد -3-»


المصدر ..موقع راية الاصلاح
 
رد: الشَّيخُ الطَّيِّبُ العُقْبِيُّ «خطيبُ السَّلفيِّين وشاعرهم»

جزاك الله خيرا
 
رد: الشَّيخُ الطَّيِّبُ العُقْبِيُّ «خطيبُ السَّلفيِّين وشاعرهم»

بارك الله فيكم
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top