الرسام الغريب

قلم مضطرب

:: عضو مُشارك ::
إنضم
16 جوان 2014
المشاركات
126
نقاط التفاعل
256
النقاط
13
الرسام الغريب


في أحد المقاهي الذي يجتمع فيه المثقفون والرسامون والكتاب والأدباء من كل أنحاء المدينة يتبادلون الأفكار فيما بينهم ويناقشون أعمالهم وينتقدون أعمال آخرين , دخل رجلٌ غريبا عليهم إلى المقهى يرونه أول مرة مما جعل الجميع يلتفت إليه , إذ بدى من مدينة أخرى غير مدينتهم .. فلم يعهد أن شاهده أحدٌ من قبل .

جلس وحيدا منفردا على الطاولة دون أن يلتفت إلى المتواجدين من حوله وطلب بعض من الشاي , كان هادئ المشاعر ينصت إلى نقاشات المثقفون الذين ملئوا طاولات المقهـــى كلها , ورغم غرابته عن المكان ألا أن المتواجدين أخذوا يدعونه للجلوس معهم ومشاركتهم أحاديثهم , لكنه رفض ذلك معلِلً بأنه لا يحب التطفل على الآخرين , ألا أنه استأذنهم بأن يسمحوا له بالأستماع لنقاشاتهم فلم يعترضوا على ذلك بل تركــوا له حرية العرض الذي قدموه إليه في حال قبل به ووافق على الجلوس معهم على طاولاتهم .

وبينما هم منغمسون يتكلمون عن الأدب بكل مجالاته .. والفنون برسوماته .. والموسيقى بنغماتها .. كان أحد المثقفين يتحدث عن علوم المغيبات وما وراء الطبيعة والأشياء الخارقة التي تحدث في الكون ولم يجد أحدا تفسيرا لهــا , ألا أن بقية الكُتاب أعترضوا عليه وراحوا يجادلونه بشدة فهم لا يؤمنون بما يقوله لأنها مجرد خرافات لا غير , كان الرجل الغريب يتلصص ويستمع جيدا لعلم المغيبات ويفتح أذانه لكل شيئا يتعلق بما وراء الطبيعة , ألا أن أنغماسه ذاك قاطعه أصوات الأعتراض من كل المثقفين في المقهى حتى أخرسوا صاحبهم من تلك البدع والأساطير التي كان يقولهـــــا .

ولكن الرجل الغريب لم يعجبه الأمـــــر , فقال لهم :
- لما قاطعتموه ؟
- دعوه يكمل حديثه !

أثارت أسئلة الرجــل الأدباء جميعا , فقال له أحدهم :
- هل حقــا تريد أن تستمع إلى هذه الأكاذيب !
- هل تصدق بهذه الأشياء ؟

الرجل الغــريب كان كمن يخبئ قصة بداخله , حكاية أحداثها تدور في فلك غموض الطبيعة , فقال لهم بعد برهة من الصمت والتردد :
- نعم , نعم , أنني أصدق بهــذه الأشياء !
- ولما لا أصدق بها ؟
- أنها حدثت للبعض , وعايشوها واقعً !

رد عليه أحدهم معتـــرضً :
- لا ..لا , ما تقوله عار عن الصحة !
- من يخبرك بهذه القــصص هو شخصٌ جاهل يبحث عن الشهرة والأثـــارة ..!
- المتعلـــم والذي يحمل الشهادات , يعرف حقيقة هذه الأساطير والخرافات التي يتداولها الناس منذ القرون الأولى !
- لا وجود للغيبيات أو ما يسمى ما وراء الطبيعة , فهذه الأشياء تنافي العقل ويفندها العلـــــم ..!
- أرجوك ..أن أردت التحدث فلا تجادلنا في هذا الموضوع ثانية .

أثــــار كلامه حفيظة الرجل .. لم يعجبه ما سمع من عنادا وتكذيب منهــم , بعد لحظــات قليلة في صمتـــه , نهض من كرسيه ونظـــر إلى الحاضرين كلهم وقال لهــم :
- حسنا ..أريدكم أن تلتفتون إلي , لدي قصة أريد أن أخبركم بها , حكاية جرت أحداثها معــي قبل فترة .. فأنصتوا جيدا لما أقول ولا تقاطعوني حتى أنتهـــي !

وبعد أن نظــــروا إليه والفضول قد أعتارهم يريدون أن يعرفوا ما سيقوله , وما تلك الحكاية التي سيسرد لهم تفاصيلهــا , أنقضت لحظاتٌ بدأ الرجـــل بعدها يخبرهم قصته ...
... لقد كنت رسامً من قبل .. أعشق كل شيئا يمت لهذا الفن بصلة .. أرسم وأرسم كل ما يجول في خلدي كنت مهووس بالريشة واللوحة ولم يكن يهمني إذا كان سيراها أحدٌ أم لا لأ نني أرسم لأن في ذلك متعتي , لكن لا أخفيكم بعض المقربين مني يأتون إلي بإستمرار ليشاهدون لوحاتي وما أرسم , كانت تعجبهم بشدة .. كنت أرسم كل شيء خصوصا الأشياء التي تتعلق بالحروب والسياسة وما إلى هنالك من مبان محترقة وأنفجـــــــارات .. وقتلى وجرحى .. ومعارك ودبابات وأسلحة .

ألا أنه ومع مرور الوقت إذ بي اتفاجأ ذات يوم بأن الشرطة تطرق بابي , ودون أن يقولون لي شيئا ألقوا القبض علي ولا أعرف ما السبب ؟ وأقتادوني بعدهــا إلى مخفر الشرطة ليحققون معي , أدخلوني على الضابط المناوب حينها والذي سألني بدوره وبدون أي مقدمات :
- ما هذه اللوحات التي رسمتها ؟ ولمــن رسمتها ؟

لا أخفيكم لقد أثار سؤاله غرابتي جدا , فأجبته :
- بأنها مجرد لوحات رسمتها منذ زمن , ولكن ما بها ؟

نظر الي المحقق بطريقة غريبة .. أخرج بعدها لوحات عدة تخصني قد رسمتها من قبل عبارة عن حرائق وحوادث وخطف وأنقلابات , وقال لي :
- ما حكاية هذه اللوحات ؟

أزدادت حيرتي أكثر , فأجبته :
- هذه لوحاتي بالفعل .. لكن حتى الآن لا أعلم ما بهــــــــا ؟ فأرجو أن توضح لي المسألة أكثر ؟

ظل صامت قليلا ينظر إلي بطريقة أخافتني , فقال لي بعدهـــا ما أصابني بالصدمة .. شيئا لم أتوقعه من قبل .. شيئا أسمعه لأول مرة , أخبرني :
- بأن المباني المحترقة وأيضا مكان الأنفجارات ولوحات الخطف وغيرها من كل شيء رسمته حدث في الواقع بالفعل ؟ فهل تصدقون ذلك ؟

كانوا المثقفون في المقهى يستمعون له بأنصات كبير على الرغم من أن هذا النوع من القصص لا يستهويهم فهم لا يصدقونها , ألا أنهم ظلوا على عهدهم بألا يقاطعونه حتى ينتهي ومن ثم سيحكمون عليه .

أكمـــل الرجل حكايته بعدهــا ,
وبعد أن أخبرني بأن لوحاتــي حصلت في الواقع حقــا , قال لي :
- هيا أعترف مع من تعمــــل ؟ وأي المنظمات الأرهابيـــــة تدعمك ؟ ومتى أنضممت إليهم ؟ وما هي مخططاتكم القادمة ؟

قلت له :
- يا رجل , يا رجـــل .. صدقني لا أعرف عمـــا تتكلم ؟ رسمت أشياء من مخيلتـــي فقط , ولا صلة لي بما تقول ؟

قال :
- وكيف ذلك ! وهي حدثت في ذات المباني وفي أماكن بعيدة جدا عن شقتك ؟
- هل تريد أن تخدع الشرطة يا صديقي وتظن نفسك ذكيــــــــا.

بعدها أتهموني بالأرهاب والتخطيط لعمليات تخريبية وزجوا بي في السجــــــن , أنقضت أيام وأشهر قابعا في زنزاتي لا أعرف ماذا أفعل , وماذا أصنع , وحيدا في غرفة أنعزالية متململا بين الحيطان الضيقة , رحت أتفنن على جدران تلك الزنــزانة وأرسم كل ما يطري في ذهني .. وذات يوم رسمت على الجدار "سيارة منقلبة تحترق .. ورجلٌ ميت ملقى على الأرض .. ورجل آخر متوقف بعيدا عنه .. ينظر بدهشة" , هل فهمت الصورة الآن ؟

وبعد فترة من مكوثي في السجن .. جاء أمــرٌ بنقلي وتحويلي إلى سجن آخر , فأقتادوني الحراس إلى السيارة المخصصة لنقــل السجناء ورافقني أحدهم وذهبنا , وبينما كنا نسير في الطريق فجأة أصطدمنا بشيئا ما.. مما سبب خلل في السيارة وأنقلبت بنا , لحظات بعد ذلك خرجت من السيارة أشعر ببعض الدوار , رحت بعدهـــا أنظر هنا وهناك .. يمينا ويسارا .. أُمعِنُ النظــر جيدا في مكان الحادث والسيارة والأصطدام الذي سبب حريق في المركبة .. شد أنتباهي أمرٌ غريبٌ حقــا , أغرب شيء .. وكأنها نبؤة .. أدهشني ذلك المنظـــر الذي شاهدته بحق ؟ حيث رأيت "السيارة منقلبة تحترق.. والحراس مستلقً بجانبها وميت ..بينما أنا توقفت بعيدا أنظــــر إليهم ولم يصبني أي شيء" , تحينتُ الفرصـــة وهربت من المكان بسرعة .. ولا أدري ما الذي جرى بعدها .

وبعد لحظات سكوتٌ أنتبات الرسام وقطعت قصته , أكمــل ما تبقى من ســرد للحكاية :
- اللعنة .. هل تصدقــون ذلك !
- تذكرت حينها اللوحة التي رسمتها على جدار الزنزانة , تذكرت كلام المحقق وما قالــــه , رحت أسترجع الأحداث كلها والمشاكل والحرائق وغيرها التي جرت في أرض الواقع وأقارنها وأحللها مع لوحاتي وما رسمت , فتبين لي بأن معظم ما أرسمه يحدث في الواقع حقا ! هل تصدقون ما أقـــول ..؟

وقبل أن ينهي الرســام حديثه نظــر إلى وجه الحاضرين التي أعتلت بعضهم علامات الدهشة والبعض الآخــر لم يصدق ما سمع لأنه خلاف الواقع والعلم بحسب رأيهــم , وقال لهــم :
- سأختم حكايتي وأرحــل ولكــم حرية ما تقولون بعدها .. فلا أريد أن أسمع وجهات نظــركم لأنني أعرفها مسبقا فلقد كنت مثلكم من قبل , ولكن بعد هذه الحادثة .. حادثة هروبي من السجن وحصل ما رسمته تمامــا , بدأت أصدق علم المغيبات وما وراء الطبيعة وكل الأمور الغامضة التي تحدث في هذه الحياة ولم يجد لها أحد أي تفسير لأنها في علـــمُ خلِقُها .. أنني أصدق هذه الأشياء وأؤمن بها بشدة , أكان كذب أكان حقيقة فلا يهمني ؟ ولا يهمني العلم والعقل والمنطــق وما يقوله ؟ ولا تهمني كل الأدلة والبراهين التي تفند هذه الأشياء ؟ ولا يهمني من يقول بأنها بدع وخرافات ؟ لأنها حدثت لي .. حدثت لي بالفعل .. حدثت معي .. صدقتم ذلك أم لم تصدقوا .. فلقد حدثت بين رسوماتي وفي واقعي الذي أعيشه .. لذا يا رفاق لا تقولون لي بأن ما رأته عيناي كان خدعة أو كذبة , لأنكم لو رأيتموه بأعينيكم كما جرى لي ستصدقون ذلك حتى لو كذبكم الآخرون , أعرف بأن هذه الأشياء من الصعب أن يصدق بها أحد .. لن يصدقها عدا أولئك الأشخاص الذين حصل لهم ذلك وعايشوا ما وراء طبيعتهم في أرض الواقع .. أما البقية الذين لم يشاهدون شيئا سيظلون ينكرون وينكرون ولا أحد يلومهم على ذلك .. ولكن لماذا ؟ لإنه وببساطة ينطبق عليهم المثل القائـــــل "ما لا يصدقه العقل يرفضه".

غادر الرســام بعدها في لحظــات صمت الجميع وسكونهم ودهشتهم من حكايته وما قاله وجرى عليه , بعضهم صدق بحكايته والبعض الآخر مصرا على تكذيبها , وبعد أن خرج من بوابة المقهى قام رجل من الموجوديــن ينظر في الرسام وهو يغــادر حتى أبتعد وأختفى عن مرأى الــعين , لحظات بعدها ألتفت الرجل إلى الموجودين في المطعم وقال بهدوء وهو يحك ذقنه :
- أما أن هذا الرسام لديه نبؤة في لوحاتــــه ..!
- أو أنـــه كذاب أفـــاك ..!



قلم \ مضطرب
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top