- محمد بوسلامة
حدَّث محمَّد بن عليّ قال:
دخلت سوق الحيِّ، فألفيت به عبد الحيِّ، وهو بين الميِّت والحيِّ، وهو في ذلك الممشى، يخبط خبط الأعْشَى، وقد زعفر وجهَه الصِّيامُ، وجفَّف ريقَه الأوامُ، فقلت: لأقفونَّ أثرَه، ولأخبرنَّ خبره، وقد واريتُ عنه عِيَاني، فكنتُ أرَاه من حيث لا يراني، فانطلق حتَّى انغمس في أمواج الأخلاط، وهم في زحام وزَيَاط، فماجت به تلك الأمواج، وأمدَّهم بعد ذلك أفواج، فاشتدَّ في ذلك العراك بأسه، ولم يَبْدُ لي من جسده إلَّا رأسُه، فكلَّفني في اللّحاق به المشقَّة، فاختلت للعَرَمْرَم كي أَشُقَّه، فانسلَّ عبد الحيِّ بعد عناء إلى الجزَّار، وكأنَّه مكبَّل الرِّجلين، فليس الأمر لو ترى بِهَيْن، وهو في ذلك شاتم ومشتوم، وطورًا يُلام وطورًا يَلوم، فلمَّا بلغ إلى اللَّحَّام، وعاين تلك اللِّحام، جعل ينظر إليها نظر ذات وِحام، فابتاع منه رطلًا أو رطلين، ثمَّ تولَّى قرير العين، وغطس إلى ناحية الخضر، متقلِّبًا بين ضِرار وضَرَر، فلمَّا وقف عليها لفحته لوافح الأسعار، فضجَّ من ذلك السُّعار، ولجَّ في خصام الخَضَّار، ثمَّ صال وجال، واشترى ما يعجز عن حمله رِجال، ثمَّ غيَّبته عني لُـمَّة، أحاط به جمعُها فواراه، وصار بمكان حيث لا أراه، فإذا هو عند بائع الزَّيتون، وقَلْبُه بكلِّ نوع مفتون، وطال حديثه إلى البائع، والكلام عن البضائع، حتَّى أنساه السَّوْمُ حرمةَ الصَّوم، فألقى زيتونة في فمه، وسها عن صومه، فصاح به القوم: يا رجل أفسدتَ الصَّومَ! فلفظ منها ما تبقَّى، واستغفر الله وذكره، وسبَّ مِنَ القوم مَنْ ذكرَّه، فرأيته وقد تجهَّم وجهه، وشعث رأسه، وتصبَّب عرقه، وقد نهكته تلك الأثقال، وأَنْصبَه التّطواف بين جزَّار وبقَّال، وهو ينظر إلى ساعته في تلك الكروب، يحسب كم بقي للغروب، ولسان حاله يقول:
يا شمس قد طال النَّهار فاغربي فبالغروب ينجلـي ما حـلَّ بـي إنـِّي إذا مـا أخذتـني الـدُّوخـة أستذكر الـبُـرَاكَ والشَّخْشُوخَة وشُـْربةً تصنع من حبِّ الفرِيك وزلبيَّـةً تـجي مـن بُـوفَـرِيــك وعـنـبًـا وطـبـقًــا مــن مــوز وقـهـوة مـعـهــا قلـب اللّــوز تـهـيـج لـي في نـهـمة أشواقي وأغـتدي مــن ذاك للأســواق خــلُّوا سبيلـي معشر الـجموع يكفـي الَّذي أصابـني من جوع قد كسرت من بـينـكم ضلوعي لو كنت أدري جئت فـي دروع ثمَّ أقبل نحوي بكلِّ ما يحوي، فبادرت إليه، ثمَّ سلَّمت عليه، فشكا إليَّ الحال، وما لقي في تلك الأوحال، ثمَّ قال لي: كيف حالك ورمضان؟ فقلت: شهر يستوجب الشُّكران، ولكن سلْ رمضان كيف حاله معي، إن كنت ممَّن يعي، فإنَّنا في زمن فسدت فيه الموازين، وصار ما يشين عند النَّاس يزين، ثمَّ حدَّثته بحديث لبَّد العجاج، وأنساه خبر اللَّحم والدَّجاج، حتَّى إذا استأنس بكلامي، قلت له: ما فعلت الزَّيتونة؟ فقال: سحقًا إنَّها ملعونة! ثمَّ سألني عن حكم ذلك؛ فقلت: القضاء على قول مالك؛ فقال: وهل في قول غيره ما يدفع؟ فقلت: يدفعه أن تتشفَّع، وما أراه ينفع، فاقض يومًا تبرأ به الذِّمَّة، وتحمد في مذاهب كلِّ الأئمَّة، ثمَّ طاف عليه من أحواله طائف، فأخبرني أنَّه نسي البقلاوة والقطايف، وقال: ذلك من أحكام السَّمَر، ولذَّة السَّهر، فانصرفَ وانصرفتُ، وقد هاجت عليَّ رياحُ الرَّجز، فانطلق اللِّسان وما عجز، فأنشأت أقول:
دخلت سوق الحيِّ، فألفيت به عبد الحيِّ، وهو بين الميِّت والحيِّ، وهو في ذلك الممشى، يخبط خبط الأعْشَى، وقد زعفر وجهَه الصِّيامُ، وجفَّف ريقَه الأوامُ، فقلت: لأقفونَّ أثرَه، ولأخبرنَّ خبره، وقد واريتُ عنه عِيَاني، فكنتُ أرَاه من حيث لا يراني، فانطلق حتَّى انغمس في أمواج الأخلاط، وهم في زحام وزَيَاط، فماجت به تلك الأمواج، وأمدَّهم بعد ذلك أفواج، فاشتدَّ في ذلك العراك بأسه، ولم يَبْدُ لي من جسده إلَّا رأسُه، فكلَّفني في اللّحاق به المشقَّة، فاختلت للعَرَمْرَم كي أَشُقَّه، فانسلَّ عبد الحيِّ بعد عناء إلى الجزَّار، وكأنَّه مكبَّل الرِّجلين، فليس الأمر لو ترى بِهَيْن، وهو في ذلك شاتم ومشتوم، وطورًا يُلام وطورًا يَلوم، فلمَّا بلغ إلى اللَّحَّام، وعاين تلك اللِّحام، جعل ينظر إليها نظر ذات وِحام، فابتاع منه رطلًا أو رطلين، ثمَّ تولَّى قرير العين، وغطس إلى ناحية الخضر، متقلِّبًا بين ضِرار وضَرَر، فلمَّا وقف عليها لفحته لوافح الأسعار، فضجَّ من ذلك السُّعار، ولجَّ في خصام الخَضَّار، ثمَّ صال وجال، واشترى ما يعجز عن حمله رِجال، ثمَّ غيَّبته عني لُـمَّة، أحاط به جمعُها فواراه، وصار بمكان حيث لا أراه، فإذا هو عند بائع الزَّيتون، وقَلْبُه بكلِّ نوع مفتون، وطال حديثه إلى البائع، والكلام عن البضائع، حتَّى أنساه السَّوْمُ حرمةَ الصَّوم، فألقى زيتونة في فمه، وسها عن صومه، فصاح به القوم: يا رجل أفسدتَ الصَّومَ! فلفظ منها ما تبقَّى، واستغفر الله وذكره، وسبَّ مِنَ القوم مَنْ ذكرَّه، فرأيته وقد تجهَّم وجهه، وشعث رأسه، وتصبَّب عرقه، وقد نهكته تلك الأثقال، وأَنْصبَه التّطواف بين جزَّار وبقَّال، وهو ينظر إلى ساعته في تلك الكروب، يحسب كم بقي للغروب، ولسان حاله يقول:
يا شمس قد طال النَّهار فاغربي فبالغروب ينجلـي ما حـلَّ بـي إنـِّي إذا مـا أخذتـني الـدُّوخـة أستذكر الـبُـرَاكَ والشَّخْشُوخَة وشُـْربةً تصنع من حبِّ الفرِيك وزلبيَّـةً تـجي مـن بُـوفَـرِيــك وعـنـبًـا وطـبـقًــا مــن مــوز وقـهـوة مـعـهــا قلـب اللّــوز تـهـيـج لـي في نـهـمة أشواقي وأغـتدي مــن ذاك للأســواق خــلُّوا سبيلـي معشر الـجموع يكفـي الَّذي أصابـني من جوع قد كسرت من بـينـكم ضلوعي لو كنت أدري جئت فـي دروع ثمَّ أقبل نحوي بكلِّ ما يحوي، فبادرت إليه، ثمَّ سلَّمت عليه، فشكا إليَّ الحال، وما لقي في تلك الأوحال، ثمَّ قال لي: كيف حالك ورمضان؟ فقلت: شهر يستوجب الشُّكران، ولكن سلْ رمضان كيف حاله معي، إن كنت ممَّن يعي، فإنَّنا في زمن فسدت فيه الموازين، وصار ما يشين عند النَّاس يزين، ثمَّ حدَّثته بحديث لبَّد العجاج، وأنساه خبر اللَّحم والدَّجاج، حتَّى إذا استأنس بكلامي، قلت له: ما فعلت الزَّيتونة؟ فقال: سحقًا إنَّها ملعونة! ثمَّ سألني عن حكم ذلك؛ فقلت: القضاء على قول مالك؛ فقال: وهل في قول غيره ما يدفع؟ فقلت: يدفعه أن تتشفَّع، وما أراه ينفع، فاقض يومًا تبرأ به الذِّمَّة، وتحمد في مذاهب كلِّ الأئمَّة، ثمَّ طاف عليه من أحواله طائف، فأخبرني أنَّه نسي البقلاوة والقطايف، وقال: ذلك من أحكام السَّمَر، ولذَّة السَّهر، فانصرفَ وانصرفتُ، وقد هاجت عليَّ رياحُ الرَّجز، فانطلق اللِّسان وما عجز، فأنشأت أقول:
واعـجبًـا من صوم عبـد الـحيِّ إذ قــد غـدا فـي سَـفَـهٍ وغــيٍّ فإنْ شـهـر رمـضـــان طـــاعه ولــم يـكـن شـرع للمـجــاعه بـل هـو مـن ربِّ الورى تهذيب لـيـس لـنـهـش لـحم يا ذيــب فــإن ذا مــقــصـــد شــرع الله فـي كـلِّ مـا شـرعـه يـا لاهــي مـن ضـلَّ عـن مقاصد الشَّريعه حـرم مـن مـنـافـع بـديـــعــه فـصم وصن في صومك اللِّسانا وابذل لكـلِّ مـن ترى الإحسانا واصـغ إلى خيـر الورى الأوَّاب فـيـمن يصوم الشَّهر باحتسـاب من صــام لله بــه مـحـتـسـبًــا يـغفر لــه الإلــه مــا قـد أذنبـا ومـثـلـه لـكـلِّ مــن قـد قــامَا فـي لـيلـه فلْتَـطْـلُـبِ الـمـقامَا فـإنَّ أكـثـر الـورى قـد غـفــلا حـتَّـى إذا مـا رمضـــان أفـــلا لـم يـغـنـمـوا مـا غـنـم السّباق مـن نـالـهـم مـن ربِّـنـا إعـتاق
قال الرَّاوي لهذا الخبر: فرجعت أَجْتَلِي من ذلك العِبَر، وأجيلُ فيه الفِكَر، فجاءتني بفضائل الاستقامة، وقد أودعتها هذه المقامة.
* منقول من مجلة الإصلاح «العدد الرابع»
المصدر موقع راية الاصلاح
* منقول من مجلة الإصلاح «العدد الرابع»
المصدر موقع راية الاصلاح