[FONT="]الصفحة الثامنة:
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر.
جاء في إنباء الرواة في ترجمة أبي نصر القرطبي قال: كنا نختلف إلى أبي علي القالي رحمه الله وقت إملائه النوادر في جامع الزهراء بـقرطبة ونحن في فصل الربيع، قال: فبينما أنا ذات يوم في بعض الطريق إذ أخذتني سحابة، فما وصلت إلى مجلس أبي علي إلا وقد ابتلت ثيابي كلها، وحوالي أبي علي أعلام أهل قرطبة ، فلما رآني مبتلاً بالماء أمرني بالدنو منه، وقال لي: مهلاً يا أبا نصر ! لا تأسف، ولا تأس، ولا تحزن على ما عرض لك؛ فهذا شيء يضمحل عنك بسرعة، بثياب تبدِّلها بغير ثيابك، لكن اسمع -يريد أن يعزيه وأن يسليه على ما أصابه- قد عرض لي -يقول أبو علي عن نفسه- ما أبقى في جسمي ندوباً وجروحاً تدخل معي القبر، لقد كنت أختلف في الطلب؛ يعني في طلب العلم إلى ابن مجاهد رحمة الله عليه فذهبت إليه آخر الليل قبل طلوع الفجر؛ لأقترب منه لأستفيد، فلما انتهيت إلى الطريق الذي كنت أخرج منه إلى مجلسه ألفيته مغلقاً، قال وعسر عليَّ فتحه، فقلت: سبحان الله! أبكِّر هذا البكور ثم أغلب على القرب منه، والله لا يكون ذلك، فنظرت إلى سَرَبٍ بجانب الدار ضيق فاقتحمته، فلما توسطته ضاق بي ذلك السرب وذلك النفق، فلم أقدر على الخروج منه، ولم أستطع النهوض، قال: فاقتحمته بشدة حتى خرجت بعد أن تخرقت ثيابي، وأثَّر السرب في لحمي حتى انكشف العظم، ومنَّ الله علي بالخروج فوافيت مجلس الشيخ على حالتي هذه، فأين أنت مما عرض لي؟ ثم أنشد يقول:
دببتُ للمجدِ والسَّاعينَ قدْ بَلَغُوا ...جُهدَ النُّفوسِ وألقَوا دُونَهُ الأزرَا
وكابدوا المجدَ حتَّى ملَّ أكثرُهُم ...وعانَقَ المجدَ مَنْ أوْفَى ومَنْ صبرَا
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
قال أبو نصر : فسلاني ما حكاه، وهان عندي ما عرض لي من بلل للثياب بجانب ما أصابه، فلازمته حتى مات، فرحمة الله على الجميع.
هم أسلافنا، وندعي الصلة بهم، فهل مجالسنا مجالسهم، وهممنا هممهم؟
لمَّا تَبَدَّلَتِ المَجالسُ أوجُهاً ...غيرَ الذينَ عَهِدتُ مِنْ عُلمائِهَا
ورأيتُها محفوفةً بِسِوَى الأُلَى...كَانُوا وُلاةَ صُدُورِهَا وفَنَائِها
أنشدتُ بيتاً ثائراً متقدماً ...والعينُ قدْ شرَقَت بجَارِي مائِها
أما الخيامُ فإنَّها كخيامهِم ...وأَرَى نِساءَ الحَيِّ غيرَ نِسَائِها
يا حسرةً من لي بصفقةِ رابح ...فِي مَتْجَرٍ والعِلْمُ رأسُ المالِ
يا ويح أهل العلمِ كيفَ تأخَّرُوا ... والسَّبْقُ كُلُّ السَّبْقِ للجُهَّالِ
فإِلَى إلهِي المُشْتَكَى وبفضلِهِ ... دونَ الأنامِ منوطة آمَالِي.
لله هذه المواقف ما أبلغها! وما أعلى على هام الثُّريَّا مواضعها! وهكذا فليكن الطلب وإلا فلا. إن هذه الصفحة - أعني الماضية- لتذكِّر بموقف آخر لـابن برهان ؛ كما جاء في طبقات الشافعية يوم تزاحم الطلاب على بابه حتى صار جميع نهاره، وقطعة من ليله مستوعباً في التدريس، يجلس من وقت السحر إلى وقت العشاء الآخرة، ويتأخر أحياناً بعدها إذا دعت الحاجة لذلك. ذكر أن مجموعة من طلبة العلم سألوه أن يدرس لهم كتاباً فقال: لا أجد لكم وقتاً، فذكروا أوقاتاً معينة فلم يجد إلا في نصف الليل فوافقوا. وانظر يا أخي كيف نظم أوقاته للعبادة والطاعة والمنام والمطالعة والحفظ والتدريس والقراءة وهذا شيء مهم جداً يتمكن به العالم وطالب العلم من بلوغ مرغوباته العلمية جميعاً، فلا يطغى مرغوب على مرغوب. ثم انظر أخي طالب العلم -رعاك الله- إلى هذا الصبر العجيب من هذا الشيخ الجليل على بث العلم ونشره، والاحتساب في أدائه ونقله، ثم انظر أخرى إلى هذا الشوق والحرص المحرق من أولئك الطلبة المحترقين بالعلم الذين لم يجدوا وقتاً ليقرءوا عليه إلا نصف الليل، فأتوا مسرورين وظنوا أنهم محظوظون مكرمون. ثم انظر لذلك الذي نسي بدنه واقتحم السرب وخرج اللحم عن العظم ليحظى بالقرب من العالم ليستفيد فلله در أولئك المشائخ! ولله در أولئك الآباء والطلبة الأبناء! ما أشد حب أولئك للطلب! وما أصبر أولئك على إشاعة العلم وإيصاله للمتعلمين! أداءً للأمانة ووفاءً بالعهد، وإنا لله من طلبة هذا العصر الذين يستعجلون دق الجرس ليخرجوا من الدرس المؤقت بخمس وأربعين دقيقة، في ألين الأوقات راحة، وأفضلها نشاطاً، وأجمعها ذهناً، من قاعات مبردة صيفاً مدفأة شتاءً، يخرجون يزحم بعضهم بعضاً كأنما يفرون من حريق، أو ينطلقون من سجن ظالم عنيد واهً لهم .
إذا مَا علا المرء رَامَ العُلى ... ويقنَعُ بالدُّونِ مَنْ كَانَ دُونَا
إذَا رأيْتَ شبابَ الحيِّ قَدْ نشئوا... لا ينقلونَ مِدَادَ الحِبْرِ والوَرَقَا
وَلا تَرَاهُم لَدَى الأشْيَاخِ في حِلَق... يَعُونَ مِنْ صَالحِ الأخبارِ مَا اتَّسَقَا
فذَرْهُم عنكَ واعْلَم أنَّهُم هَمَجٌ... قد بَدَّلُوا بِعُلُوِّ الهِمَّةِ الخَرَقَا
أنتم كأسلافكم ومنْ يشابِه أبَاهُ فمَا ظَلَمْ.
على المرءِ أنْ يَسعَى إلَى الخيرِ جاهداً وليسَ علَيْهِ أن تَتِمَّ المَقاصِدُ فانْفُضُوا النومَ وهُبُّوا للعُلى فالعلى وقْفٌ علَى منْ لَمْ يَنَم أفيقوا لا مجال لخامل ولا سبْقَ إلا للذي يتَقَحَمُ. [/FONT]
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر.
جاء في إنباء الرواة في ترجمة أبي نصر القرطبي قال: كنا نختلف إلى أبي علي القالي رحمه الله وقت إملائه النوادر في جامع الزهراء بـقرطبة ونحن في فصل الربيع، قال: فبينما أنا ذات يوم في بعض الطريق إذ أخذتني سحابة، فما وصلت إلى مجلس أبي علي إلا وقد ابتلت ثيابي كلها، وحوالي أبي علي أعلام أهل قرطبة ، فلما رآني مبتلاً بالماء أمرني بالدنو منه، وقال لي: مهلاً يا أبا نصر ! لا تأسف، ولا تأس، ولا تحزن على ما عرض لك؛ فهذا شيء يضمحل عنك بسرعة، بثياب تبدِّلها بغير ثيابك، لكن اسمع -يريد أن يعزيه وأن يسليه على ما أصابه- قد عرض لي -يقول أبو علي عن نفسه- ما أبقى في جسمي ندوباً وجروحاً تدخل معي القبر، لقد كنت أختلف في الطلب؛ يعني في طلب العلم إلى ابن مجاهد رحمة الله عليه فذهبت إليه آخر الليل قبل طلوع الفجر؛ لأقترب منه لأستفيد، فلما انتهيت إلى الطريق الذي كنت أخرج منه إلى مجلسه ألفيته مغلقاً، قال وعسر عليَّ فتحه، فقلت: سبحان الله! أبكِّر هذا البكور ثم أغلب على القرب منه، والله لا يكون ذلك، فنظرت إلى سَرَبٍ بجانب الدار ضيق فاقتحمته، فلما توسطته ضاق بي ذلك السرب وذلك النفق، فلم أقدر على الخروج منه، ولم أستطع النهوض، قال: فاقتحمته بشدة حتى خرجت بعد أن تخرقت ثيابي، وأثَّر السرب في لحمي حتى انكشف العظم، ومنَّ الله علي بالخروج فوافيت مجلس الشيخ على حالتي هذه، فأين أنت مما عرض لي؟ ثم أنشد يقول:
دببتُ للمجدِ والسَّاعينَ قدْ بَلَغُوا ...جُهدَ النُّفوسِ وألقَوا دُونَهُ الأزرَا
وكابدوا المجدَ حتَّى ملَّ أكثرُهُم ...وعانَقَ المجدَ مَنْ أوْفَى ومَنْ صبرَا
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
قال أبو نصر : فسلاني ما حكاه، وهان عندي ما عرض لي من بلل للثياب بجانب ما أصابه، فلازمته حتى مات، فرحمة الله على الجميع.
هم أسلافنا، وندعي الصلة بهم، فهل مجالسنا مجالسهم، وهممنا هممهم؟
لمَّا تَبَدَّلَتِ المَجالسُ أوجُهاً ...غيرَ الذينَ عَهِدتُ مِنْ عُلمائِهَا
ورأيتُها محفوفةً بِسِوَى الأُلَى...كَانُوا وُلاةَ صُدُورِهَا وفَنَائِها
أنشدتُ بيتاً ثائراً متقدماً ...والعينُ قدْ شرَقَت بجَارِي مائِها
أما الخيامُ فإنَّها كخيامهِم ...وأَرَى نِساءَ الحَيِّ غيرَ نِسَائِها
يا حسرةً من لي بصفقةِ رابح ...فِي مَتْجَرٍ والعِلْمُ رأسُ المالِ
يا ويح أهل العلمِ كيفَ تأخَّرُوا ... والسَّبْقُ كُلُّ السَّبْقِ للجُهَّالِ
فإِلَى إلهِي المُشْتَكَى وبفضلِهِ ... دونَ الأنامِ منوطة آمَالِي.
لله هذه المواقف ما أبلغها! وما أعلى على هام الثُّريَّا مواضعها! وهكذا فليكن الطلب وإلا فلا. إن هذه الصفحة - أعني الماضية- لتذكِّر بموقف آخر لـابن برهان ؛ كما جاء في طبقات الشافعية يوم تزاحم الطلاب على بابه حتى صار جميع نهاره، وقطعة من ليله مستوعباً في التدريس، يجلس من وقت السحر إلى وقت العشاء الآخرة، ويتأخر أحياناً بعدها إذا دعت الحاجة لذلك. ذكر أن مجموعة من طلبة العلم سألوه أن يدرس لهم كتاباً فقال: لا أجد لكم وقتاً، فذكروا أوقاتاً معينة فلم يجد إلا في نصف الليل فوافقوا. وانظر يا أخي كيف نظم أوقاته للعبادة والطاعة والمنام والمطالعة والحفظ والتدريس والقراءة وهذا شيء مهم جداً يتمكن به العالم وطالب العلم من بلوغ مرغوباته العلمية جميعاً، فلا يطغى مرغوب على مرغوب. ثم انظر أخي طالب العلم -رعاك الله- إلى هذا الصبر العجيب من هذا الشيخ الجليل على بث العلم ونشره، والاحتساب في أدائه ونقله، ثم انظر أخرى إلى هذا الشوق والحرص المحرق من أولئك الطلبة المحترقين بالعلم الذين لم يجدوا وقتاً ليقرءوا عليه إلا نصف الليل، فأتوا مسرورين وظنوا أنهم محظوظون مكرمون. ثم انظر لذلك الذي نسي بدنه واقتحم السرب وخرج اللحم عن العظم ليحظى بالقرب من العالم ليستفيد فلله در أولئك المشائخ! ولله در أولئك الآباء والطلبة الأبناء! ما أشد حب أولئك للطلب! وما أصبر أولئك على إشاعة العلم وإيصاله للمتعلمين! أداءً للأمانة ووفاءً بالعهد، وإنا لله من طلبة هذا العصر الذين يستعجلون دق الجرس ليخرجوا من الدرس المؤقت بخمس وأربعين دقيقة، في ألين الأوقات راحة، وأفضلها نشاطاً، وأجمعها ذهناً، من قاعات مبردة صيفاً مدفأة شتاءً، يخرجون يزحم بعضهم بعضاً كأنما يفرون من حريق، أو ينطلقون من سجن ظالم عنيد واهً لهم .
إذا مَا علا المرء رَامَ العُلى ... ويقنَعُ بالدُّونِ مَنْ كَانَ دُونَا
إذَا رأيْتَ شبابَ الحيِّ قَدْ نشئوا... لا ينقلونَ مِدَادَ الحِبْرِ والوَرَقَا
وَلا تَرَاهُم لَدَى الأشْيَاخِ في حِلَق... يَعُونَ مِنْ صَالحِ الأخبارِ مَا اتَّسَقَا
فذَرْهُم عنكَ واعْلَم أنَّهُم هَمَجٌ... قد بَدَّلُوا بِعُلُوِّ الهِمَّةِ الخَرَقَا
أنتم كأسلافكم ومنْ يشابِه أبَاهُ فمَا ظَلَمْ.
على المرءِ أنْ يَسعَى إلَى الخيرِ جاهداً وليسَ علَيْهِ أن تَتِمَّ المَقاصِدُ فانْفُضُوا النومَ وهُبُّوا للعُلى فالعلى وقْفٌ علَى منْ لَمْ يَنَم أفيقوا لا مجال لخامل ولا سبْقَ إلا للذي يتَقَحَمُ. [/FONT]