بسم الله الرحمن الرحيم
يا شهر رمضان ترفق *** دموع المحبين تدفق
قلوبهم من ألم الفراق تشقق *** عسى من استوجب النار تعتق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
إذا أكمل الصائمون صيام رمضان وقيامه -بمن الله وكرمه- فقد وفوا ما عليهم من العمل وبقى ما لهم من الأجر وهو المغفرة.
ومن وفي ما عليه من العمل كاملا وفي له الأجر كاملا ومن سلم ما عليه موفرا تسلم ماله نقدا لا مؤخرا.
ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم *** ولا أسلمها إلا يدا بيد
فإن وفيتم بما قلتم وفيت أنا *** وإن أبيتم يكون الرهن تحت يدي
ومن نقص من العمل الذي عليه، نقص من الأجر بحسب نقصه فلا يلم إلا نفسه.
قال سلمان : الصلاة مكيال فمن وفي وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قيل في المطففين. فالصيام وسائر الأعمال على هذا المنوال، من وفاها فهو من خير عباد الله الموفين ومن طفف فيها فويل للمطففين، أما يستحي من يستوفى مكيال شهواته ويطفف في مكيال صيامه وصلاته.
غدا توفي النفوس ما كسبت *** ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم *** وإن أساؤا فبئس ما صنعوا
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء الذين {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] كانوا لقبول العمل أشد اهتماما منهم بالعمل، وقد سمعوا قول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
عن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل منى مثقال حبة من خردل أحب إلى من الدنيا وما فيها لأن الله يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
- وقال مالك بن دينار: الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل.
- وقال عبد العزيز بن أبي داود: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم العم أيقبل منهم أم لا؟
- وخرج عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في يوم عيد الفطر فقال في خطبته: "أيها الناس إنكم صمتم لله ثلاثين يوما وقمتم ثلاثين ليلة وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم".
كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر فيقال له: إنه يوم فرح وسرور فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملا فلا أدري أيقبله منى أم لا؟ ورأى وهيب بن الورد قوما يضحكون في يوم عيد فقال: إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين!!
- وعن الحسن قال: إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون.
لعلك غضبان وقلبي غافل *** سلام على الدارين إن كنت راضيا
فيا ليت شعري من هذا القول فنهينه، ومن هذا المحروم فنزيه ماذا فات من فاته خير رمضان وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان، كم بين من حظه فيه القبول والغفران، ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران.
متى يغفر لمن لا يغفر له في هذا الشهر؟ من يقبل من رد في ليلة القدر.
متى يصلح من لا يصلح في رمضان؟ متى يصلح من كان فيه داء الجهالة والغفلة مرضان؟!
إذا الروض أمسى مجدبا في ربيعه ففي أي حين يستنير يخصب
كل ما لا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يقطع، ثم يوقد في النار.
- من فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد يوم الحصاد غير الندم والخسران.
ترحل شهر الصبر وا لهفاه وانصرما *** واختص بالفوز في الجنات من خدما
وأصبح الغافل المسكين منكسرا *** مثلي فياويحه يا عظم ما حرما
من فاته الزرع في وقت البدار *** فما تراه يحصد إلا الهم والندما
- يا إخوتاه شهر رمضان يفاض على المتقين في أوله خلع الرحمة والرضوان، ويعامل أهل الإحسان بالفضل والإحسان، وأما أوسط اشهر فالأغلب عليه المغفرة، وأما آخر الشهر فيعتق فيه من النار من أو بقته الأوزار واستوجب النار بالذنوب الكبار، وإنما كان يوم الفطر من رمضان عيد لجميع الأمة لأنه تعتق فيه أهل الكبائر من الصائمين من النار، فليلتحق فيه المذنبون بالأبرار.
- يا أرباب الذنوب العظيمة: الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فما منها عوض ولا لها قيمة، فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة والمنحة الجسيمة.
- يا من أعتقه مولاه من النار: إياك أن تعود بعد أن صرت حرا إلى رق الأوزار، أيبعدك مولاك من النار وتتقرب منها وينقذك منها، وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها.
إن امرءًا ينجو من النار بعدما تزود من أعمالها لسعيد
إن كان الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها، وإن تكن المغفرة للمتقين فالظلم غير محجوب عنها.
إن كان لا يرجوك إلا محسن *** فمن الذي يرجو ويدعو المذنب
فيا أيها العاصي وكلنا ذلك لا تقنط من رحمة الله بسوء أعملك فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك فأحسن الظن بمولاك وتب إليه فإنه لا يهلك على الله هالك.
إذا أوجعتك الذنوب فداوها *** يرفع بالليل والليل مظلم
ولا تقنطن من رحمة الله *** إنما قنوطك منها من ذنوبك أعظم
فرحمته للمحسنين كرامة *** ورحمته للمذنبين تكرم
كان بعض السلف إذا صلى استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم أرحموا من حسناته كلها سيئات وطاعاته كلها غفلات.
أستغفر الله من صيامي طوال زماني ومن صلاتي
يوم يرى كله خروق وصلاته أيما صلاة
مستيقظ في الدجى ولكن أحسن من يقظتي سباتي
من استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود" (لطائف المعارف)
كان حسان بن أبي سنان يصوم الدهر ويفطر على قرص ويتسحر بآخر، فنحل وسقم جسمه حتى صار كهيئة الخيال، فلما مات وأخل مغتسلة ليغسل كشف الثوب عنه فإذا هو كالخيط الأسود قال: وأصحابه يبكون حوله.
قال حريث: فحدثني يحيى البكاء وإبراهيم بن محمد العرني قالا: لما نظرنا إلى حسان على مغتسله وما قد أبلاه الدءوب استدمع أهل البيت وعلت أصواتهم فسمعنا قائلا يقول من ناحية البيت:
تجوع للإله لكي يراه نحيل الجسم من طول الصيام فوالله ما رأينا في البيت إلا باكيا ونظرنا فلم نجد أحدا.
قال حريث بن طرفة: فكانوا يرون أن بعض الجن قد بكاه" (لطائف المعارف)
- أين من كان إذا صام صان الصيام، وإذا قام استقام في القيام، أحسنوا الإسلام ثم رحلوا بسلام، فما بقي إلا من إذا صام افتخر بصيامه وصال، وإذا قام عجب بقيامه وقال: كم بين خلى وشجي، وواجد وفاقد، وكاتم ومبدي.
"عباد الله إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومن فرط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقى من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملا صالحا يشهد لكم به عند الملك العلام، ودعوة عند فراقه بأزكى تحية وسلام.
سلام من الرحمن كل أوان *** على خير شهر قد مضى وزمان
سلام على شهر الصيام *** فإنه أمان من الرحمن كل أمان
لئن فنيت أيامك الغر بغتة *** فما الحزن من قلبي عليك بفان (التبصرة لابن الجوزي: 1/199)
شهر رمضان، وأين هو شهر رمضان؟ ألم يكن منذ لحظات بين أيدينا، ألم يكن ملء أسماعنا وملء أبصارنا؟
ألم يكن هو حديث منابرنا، زينة منائرنا، وبضاعة أسواقنا ومادة موائدنا، وسمر أنديتنا وحياة مساجدنا فأين هو الآن!!
- أي شهر رمضان، أي سلطان الشهور وجامع البشر والسرور جامع البستان للزهور، أي شهر رمضان بث الأنس والحبور بث البدور للنور.
- أي شهرنا الكريم وموسم خيرنا الوسيم، أي شهر المكرمات والكرامات، انجابت فيك الظلمات والظلامات، وتضاعفت فيك الحسنات، وفتحت أبواب السموات، لو لم يكن لك من الفضل إلا ليلة القدر وتردد الملائكة حتى مطلع الفجر لكان كفاية في تفضيلك ونهاية في تبجيلك.
- أي شهر الأرواح، تهتز فيك وترتاح، وتطير بغير جناح.
- أي شهر النعيم وددنا أن لو كان شهرك حجة ويا ليتك فينا ما تزال مقيما.
- أي شهر الذي هيم نفوسنا، أي شهرنا المعظم قدرة المشرف ذكره.
لقد ذهبت أيامه وما أطعتم، وكتبت عليكم فيه آثامه، وما أضعتم، وكأنكم بالمشمرين فيه وقد وصلوا وانقطعتم، أترى ما هذا التوبيخ لكم أو ما سمعتم.
ما ضاع من أيامنا هل يغرم هيهات والأزمان كيف تقوم
يوم بأرواح تباع وتشترى وأخوه ليس يسأم فيه درهم
قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن ومن ألم فراقه تئن.
دهاك الفراق فما تصنع أتصبر للبين أم تجزع
إذا كنت تبكر وهو جيرة فكيف تكون إذا ودعوا
- كيف لا تجرى للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل يبقى له في عمره إليه رجوع.
تذكرت أياما مضت و لياليا *** خلت فجرت من ذكرهن دموع
ألا هل لها يوما من الدهر عودة *** وهل إلى يوم الوصال رجوع
هل بعد إعراض الحبيب تواصل *** وهل لبدور قد أفلن طلوع
- أين حرق المجتهدين في نهاره، أين قلق المتهجدين في أسحاره، كيف حال من خسر في أيامه و لياليه، ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه، وقد عظمت فيه مصيبة وجل عزاؤه، كم نصح المسكين فما قبل النصح، كما دعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح، كم يشاهد الواصلين فيه وهو متباعد، كم مرت به زمر السائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاق به الوقت وخاف المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم وطلب الاستدراك في وقت العدم.
أتترك من تحب وأنت جار *** وتطلبهم وقد بعد المزار
وتبكي بعد نأيهم اشتياقا *** تسأل في المنازل أين ساروا
تركت سؤالهم وهم حضور *** وترجو أن تخبرك الديار
فنفسك لم ولا تلم المطايا *** ومت كمدا فليس لك اعتذار
- يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق. عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام ما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق عسى من أسير الأوزار يطلق عسى من استوجب النار يعتق
عسى وعسى من قبل وقت التفرق إلى كل ما يرجو من الخير تلتقي
فيجبر مكسور ويقبل تائب ويعتق خطاء ويسعد من شقى (لطائف المعارف لابن رجب)
يا شهر رمضان ترفق *** دموع المحبين تدفق
قلوبهم من ألم الفراق تشقق *** عسى من استوجب النار تعتق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
إذا أكمل الصائمون صيام رمضان وقيامه -بمن الله وكرمه- فقد وفوا ما عليهم من العمل وبقى ما لهم من الأجر وهو المغفرة.
ومن وفي ما عليه من العمل كاملا وفي له الأجر كاملا ومن سلم ما عليه موفرا تسلم ماله نقدا لا مؤخرا.
ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم *** ولا أسلمها إلا يدا بيد
فإن وفيتم بما قلتم وفيت أنا *** وإن أبيتم يكون الرهن تحت يدي
ومن نقص من العمل الذي عليه، نقص من الأجر بحسب نقصه فلا يلم إلا نفسه.
قال سلمان : الصلاة مكيال فمن وفي وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قيل في المطففين. فالصيام وسائر الأعمال على هذا المنوال، من وفاها فهو من خير عباد الله الموفين ومن طفف فيها فويل للمطففين، أما يستحي من يستوفى مكيال شهواته ويطفف في مكيال صيامه وصلاته.
غدا توفي النفوس ما كسبت *** ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم *** وإن أساؤا فبئس ما صنعوا
كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء الذين {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] كانوا لقبول العمل أشد اهتماما منهم بالعمل، وقد سمعوا قول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
عن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل منى مثقال حبة من خردل أحب إلى من الدنيا وما فيها لأن الله يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
- وقال مالك بن دينار: الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل.
- وقال عبد العزيز بن أبي داود: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم العم أيقبل منهم أم لا؟
- وخرج عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في يوم عيد الفطر فقال في خطبته: "أيها الناس إنكم صمتم لله ثلاثين يوما وقمتم ثلاثين ليلة وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم".
كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر فيقال له: إنه يوم فرح وسرور فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملا فلا أدري أيقبله منى أم لا؟ ورأى وهيب بن الورد قوما يضحكون في يوم عيد فقال: إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين!!
- وعن الحسن قال: إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون.
لعلك غضبان وقلبي غافل *** سلام على الدارين إن كنت راضيا
فيا ليت شعري من هذا القول فنهينه، ومن هذا المحروم فنزيه ماذا فات من فاته خير رمضان وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان، كم بين من حظه فيه القبول والغفران، ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران.
متى يغفر لمن لا يغفر له في هذا الشهر؟ من يقبل من رد في ليلة القدر.
متى يصلح من لا يصلح في رمضان؟ متى يصلح من كان فيه داء الجهالة والغفلة مرضان؟!
إذا الروض أمسى مجدبا في ربيعه ففي أي حين يستنير يخصب
كل ما لا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يقطع، ثم يوقد في النار.
- من فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد يوم الحصاد غير الندم والخسران.
ترحل شهر الصبر وا لهفاه وانصرما *** واختص بالفوز في الجنات من خدما
وأصبح الغافل المسكين منكسرا *** مثلي فياويحه يا عظم ما حرما
من فاته الزرع في وقت البدار *** فما تراه يحصد إلا الهم والندما
- يا إخوتاه شهر رمضان يفاض على المتقين في أوله خلع الرحمة والرضوان، ويعامل أهل الإحسان بالفضل والإحسان، وأما أوسط اشهر فالأغلب عليه المغفرة، وأما آخر الشهر فيعتق فيه من النار من أو بقته الأوزار واستوجب النار بالذنوب الكبار، وإنما كان يوم الفطر من رمضان عيد لجميع الأمة لأنه تعتق فيه أهل الكبائر من الصائمين من النار، فليلتحق فيه المذنبون بالأبرار.
- يا أرباب الذنوب العظيمة: الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فما منها عوض ولا لها قيمة، فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة والمنحة الجسيمة.
- يا من أعتقه مولاه من النار: إياك أن تعود بعد أن صرت حرا إلى رق الأوزار، أيبعدك مولاك من النار وتتقرب منها وينقذك منها، وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها.
إن امرءًا ينجو من النار بعدما تزود من أعمالها لسعيد
إن كان الرحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها، وإن تكن المغفرة للمتقين فالظلم غير محجوب عنها.
إن كان لا يرجوك إلا محسن *** فمن الذي يرجو ويدعو المذنب
فيا أيها العاصي وكلنا ذلك لا تقنط من رحمة الله بسوء أعملك فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك فأحسن الظن بمولاك وتب إليه فإنه لا يهلك على الله هالك.
إذا أوجعتك الذنوب فداوها *** يرفع بالليل والليل مظلم
ولا تقنطن من رحمة الله *** إنما قنوطك منها من ذنوبك أعظم
فرحمته للمحسنين كرامة *** ورحمته للمذنبين تكرم
كان بعض السلف إذا صلى استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم أرحموا من حسناته كلها سيئات وطاعاته كلها غفلات.
أستغفر الله من صيامي طوال زماني ومن صلاتي
يوم يرى كله خروق وصلاته أيما صلاة
مستيقظ في الدجى ولكن أحسن من يقظتي سباتي
من استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود" (لطائف المعارف)
كان حسان بن أبي سنان يصوم الدهر ويفطر على قرص ويتسحر بآخر، فنحل وسقم جسمه حتى صار كهيئة الخيال، فلما مات وأخل مغتسلة ليغسل كشف الثوب عنه فإذا هو كالخيط الأسود قال: وأصحابه يبكون حوله.
قال حريث: فحدثني يحيى البكاء وإبراهيم بن محمد العرني قالا: لما نظرنا إلى حسان على مغتسله وما قد أبلاه الدءوب استدمع أهل البيت وعلت أصواتهم فسمعنا قائلا يقول من ناحية البيت:
تجوع للإله لكي يراه نحيل الجسم من طول الصيام فوالله ما رأينا في البيت إلا باكيا ونظرنا فلم نجد أحدا.
قال حريث بن طرفة: فكانوا يرون أن بعض الجن قد بكاه" (لطائف المعارف)
- أين من كان إذا صام صان الصيام، وإذا قام استقام في القيام، أحسنوا الإسلام ثم رحلوا بسلام، فما بقي إلا من إذا صام افتخر بصيامه وصال، وإذا قام عجب بقيامه وقال: كم بين خلى وشجي، وواجد وفاقد، وكاتم ومبدي.
"عباد الله إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومن فرط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقى من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملا صالحا يشهد لكم به عند الملك العلام، ودعوة عند فراقه بأزكى تحية وسلام.
سلام من الرحمن كل أوان *** على خير شهر قد مضى وزمان
سلام على شهر الصيام *** فإنه أمان من الرحمن كل أمان
لئن فنيت أيامك الغر بغتة *** فما الحزن من قلبي عليك بفان (التبصرة لابن الجوزي: 1/199)
شهر رمضان، وأين هو شهر رمضان؟ ألم يكن منذ لحظات بين أيدينا، ألم يكن ملء أسماعنا وملء أبصارنا؟
ألم يكن هو حديث منابرنا، زينة منائرنا، وبضاعة أسواقنا ومادة موائدنا، وسمر أنديتنا وحياة مساجدنا فأين هو الآن!!
- أي شهر رمضان، أي سلطان الشهور وجامع البشر والسرور جامع البستان للزهور، أي شهر رمضان بث الأنس والحبور بث البدور للنور.
- أي شهرنا الكريم وموسم خيرنا الوسيم، أي شهر المكرمات والكرامات، انجابت فيك الظلمات والظلامات، وتضاعفت فيك الحسنات، وفتحت أبواب السموات، لو لم يكن لك من الفضل إلا ليلة القدر وتردد الملائكة حتى مطلع الفجر لكان كفاية في تفضيلك ونهاية في تبجيلك.
- أي شهر الأرواح، تهتز فيك وترتاح، وتطير بغير جناح.
- أي شهر النعيم وددنا أن لو كان شهرك حجة ويا ليتك فينا ما تزال مقيما.
- أي شهر الذي هيم نفوسنا، أي شهرنا المعظم قدرة المشرف ذكره.
لقد ذهبت أيامه وما أطعتم، وكتبت عليكم فيه آثامه، وما أضعتم، وكأنكم بالمشمرين فيه وقد وصلوا وانقطعتم، أترى ما هذا التوبيخ لكم أو ما سمعتم.
ما ضاع من أيامنا هل يغرم هيهات والأزمان كيف تقوم
يوم بأرواح تباع وتشترى وأخوه ليس يسأم فيه درهم
قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن ومن ألم فراقه تئن.
دهاك الفراق فما تصنع أتصبر للبين أم تجزع
إذا كنت تبكر وهو جيرة فكيف تكون إذا ودعوا
- كيف لا تجرى للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل يبقى له في عمره إليه رجوع.
تذكرت أياما مضت و لياليا *** خلت فجرت من ذكرهن دموع
ألا هل لها يوما من الدهر عودة *** وهل إلى يوم الوصال رجوع
هل بعد إعراض الحبيب تواصل *** وهل لبدور قد أفلن طلوع
- أين حرق المجتهدين في نهاره، أين قلق المتهجدين في أسحاره، كيف حال من خسر في أيامه و لياليه، ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه، وقد عظمت فيه مصيبة وجل عزاؤه، كم نصح المسكين فما قبل النصح، كما دعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح، كم يشاهد الواصلين فيه وهو متباعد، كم مرت به زمر السائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاق به الوقت وخاف المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم وطلب الاستدراك في وقت العدم.
أتترك من تحب وأنت جار *** وتطلبهم وقد بعد المزار
وتبكي بعد نأيهم اشتياقا *** تسأل في المنازل أين ساروا
تركت سؤالهم وهم حضور *** وترجو أن تخبرك الديار
فنفسك لم ولا تلم المطايا *** ومت كمدا فليس لك اعتذار
- يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق. عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام ما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق عسى من أسير الأوزار يطلق عسى من استوجب النار يعتق
عسى وعسى من قبل وقت التفرق إلى كل ما يرجو من الخير تلتقي
فيجبر مكسور ويقبل تائب ويعتق خطاء ويسعد من شقى (لطائف المعارف لابن رجب)