خطبة جمعة بتاريخ / 9-9-1436 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهدهِ الله فلا مُضلَّ له ، ومن يُضلِل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، بلَّغ الرسالة ، وأدَّى الأمانة ، ونصح الأمَّة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه ، ولا شرًا إلا حذَّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله ؛ فإنَّ من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه . وتقوى الله عز وجل : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله .
أيها المؤمنون عباد الله : أيامنا هذه أيامٌ مباركات ؛ إنها يا معاشر المؤمنين أيام شهر رمضان المبارك ؛ شهر القرآن ، قال الله عز وجل: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة:١٨٥] ، وقال الله عز وجل : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان:٣] ، وقال جل وعلا : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر:١] .
أيها المؤمنون : إن هذا النزول للقرآن الكريم في هذا الشهر العظيم -شهر رمضان- فيه حكمةٌ عظيمة ومنَّةٌ سابغة وعطيَّةٌ جسيمة ، وفيه -عباد الله- تعظيمٌ لهذا القرآن ، وتعظيمٌ للنبي الكريم الذي نُزِّل عليه القرآن ، وتعظيمٌ للشهر بل ولِلّيلة التي نزل فيها القرآن قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر:2-3] ؛ ففخَّم الله أمرها وأعلى شأنها لأنها الليلة الكريمة المباركة التي أنزل الله عز وجل فيها وحيه الحكيم وذكره العظيم ؛ القرآن الكريم .
يا أمة القرآن : يجب علينا أن نعظِّم هذا الكتاب ، وأن نعرف له مكانته وقدره ، وأن تُعمر قلوبنا بتعظيم القرآن . وهذه وقفة -يا معاشر المؤمنين- في بيان بعض الجوانب العظيمة من تعظيم القرآن :
- عباد الله : إنَّ من تعظيم القرآن أن نستشعر عظمة من تكلم به جلَّ في علاه ، وأنَّ هذا القرآن هو كلام رب العالمين وخالق الخلق أجمعين ، قال الله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[السجدة:2] ، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }[الشعراء:192-193] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ، فيجب علينا عباد الله أن نستشعر هذه العظمة للقرآن الكريم بعظمة وجلال وكمال من أنزله جل في علاه .
- أيها المؤمنون عباد الله : وإن من التعظيم للقرآن أن نعتقد أنه أعظم الكلام وأفضله وأجلُّه على الإطلاق ، لا كان ولا يكون في الكلام مثله ولا قريبًا منه ، والفرق بين كلام الله وكلام خلقه كالفرق بينه وبين خلقه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:11] ، وكذلك ليس كمثل كلامه كلام ، قال أبو عبد الرحمن السُّلَمي رحمه الله تعالى : «فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه» .
- أيها المؤمنون عباد الله : وإنَّ من تعظيم القرآن أن نعمُر قلوبنا بمحبة القرآن ؛ فإن محبته من محبة من تكلم به جل شأنه ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «من أراد أن يعلم أنه يحِب الله فليعرِض نفسه على القرآن؛ فإن أحب القرآن فإنه يحب الله ، فإنما القرآن كلامه عز وجل» .
- أيها المؤمنون عباد الله : وإن من التعظيم للقرآن أن نعتقد كمال القرآن، وأنه لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، وأنه سالمٌ من الاضطراب أو التعارض أو التناقض ، قال الله عز وجل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}[البقرة:2] ، وقال عز وجل: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }[النساء:82] ، وقال سبحانه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:42] .
- أيها المؤمنون : وإن من التعظيم للقرآن أن نتلقاه كلَّه بالقبول ، وأن لا يُرد شيء من القرآن ، فإن من ردَّ شيئا من القرآن فإنما يرد على من تكلم به جلَّ في علاه ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «القرآن كلام الله؛ فمن ردَّ شيئًا من القرآن فإنما يرد على الله عز وجل» .
- أيها المؤمنون عباد الله : وإن من التعظيم للقرآن أن يُحذر أشد الحذر من الاستهزاء بشيء من آياته أو الانتقاص لشيء من مضامينه ، فإن هذا كفرٌ بالله جل في علاه ، قال الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }[التوبة:65-66] .
- أيها المؤمنون : وإن من التعظيم للقرآن أن نعتقد شموله ووفاءه بجميع المطالب ، وأنه اشتمل على بيان كل ما يحتاج إليه العباد من مصالحهم الدينية والأخروية ، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل:89] فهو كتاب قد استوفى جميع حاجات العباد ومطالبهم ، ففيه أكمل العقائد وأعظم الآداب وأكمل العبادات ، وقد استوفى جميع الحاجات والمطالب .
- أيها المؤمنون عباد الله : وإن من التعظيم للقرآن أن ننتصر للقرآن ، وأن نكون أنصارًا للقرآن ؛ ذابِّين عنه مدافعين عن حماه ، كلٌّ بحسب ما آتاه الله عز وجل من قدرةٍ وبيان .
- أيها المؤمنون : وإن من التعظيم للقرآن أن نحذر أشد الحذر من الهجر للقرآن ، قال الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}[الفرقان:30] ، وقد بيَّن العلماء أن الهجر للقرآن يكون بالهجر للتلاوة ، ويكون بالهجر للتدبر والتأمل ، ويكون بالهجر للعمل بالقرآن ، فإن القرآن إنما أُنزل ليُعمل به .
- وإن من التعظيم للقرآن يا معاشر المؤمنين : أن نجاهد أنفسنا على تلاوة هذا الكتاب جَهدنا حق التلاوة ، قال الله عز وجل : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ }[البقرة:121] ، ومعنى {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ}كما بيَّن العلماء أي بالجمع بين القراءة ، وحُسن الفهم للمعاني ، والعمل بدلالات القرآن وهداياته العظيمة .
- [ومن التعظيم للقران: الرضى بحكمه والخضوع لما جاء به وعدم معارضته بكلام البشر لا في قليل ولا كثير؛ قال الله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا}[الأحزاب:36].
- ومن التعظيم للقرآن: أن يقصد تاليه وحافظُه بذلك وجه الله لا الرياء والسمعة والشهرة , فإنَّ أول من تسعر بهم النار يوم القيامة رجل قرأ القران((لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ)), ولا ليتأكل به كمن يقرأ القرآن في الطرقات وفي الأسواق لأجل ذلك فلا يصغي اليه أحد ويبتذل القرآن , ففي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَلْيَسْأَلِ اللَّهَ بِهِ ، فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ القُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ)).
- ومن التعظيم للقران: أن لا يعرَّضَ لعدوٍّ يمتهنه أو زنديقٍ ينال منه, ففي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ)).]
- أيها المؤمنون عباد الله : وإن من التعظيم للقرآن أن لا يقرأه المرء وهو جُنُب ، وأن لا يمس القرآن إلا طاهر، لعوم قول الله تعالى : { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ }[الواقعة:79] ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزم ((لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ)) .
- وإن من التعظيم للقرآن : أن لا يعرَّض القرآن لشيء من الامتهان ؛ فلا تُمد الأرجل إليه ، ولا يُتكئ عليه ، ولا يُتوسَّد ، ولا يُلقى في الأرض ويُطرح ونحو ذلك ، فإن من التعظيم للقرآن أن يتجنَّب المرء ذلك كله وأن يحذر من ذلك أشد الحذر .
- أيها المؤمنون : وإن من التعظيم للقرآن أن يحرص تاليه على نقاء فمه وطهارته وهو يقرأ كلام الله ، روى ابن ماجة عن علي رضي الله عنه قال : «إِنَّ أَفْوَاهَكُمْ طُرُقٌ لِلْقُرْآنِ ؛ فَطَيِّبُوهَا بِالسِّوَاكِ» .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يمنَّ علينا أجمعين بتعظيم القرآن ، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد عباد الله : اتقوا الله تعالى وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه .
أيها المؤمنون عباد الله : ولما كان هذا الشهر -شهر رمضان- قد تميز بأنه شهر القرآن ؛ فينبغي على كل عبدٍ مؤمن أكرمه الله عز وجل بإدراك هذا الشهر وهو بصحة وعافية وأمْنٍ وإيمان أن يُريَ ربه من نفسه خيرًا مع القرآن ، وأن يُعنى في هذا الشهر الكريم عناية مزيدة بالقرآن ؛ تلاوةً لآياته ، وتدبرًا لمعانيه ، ومجاهدةً للنفس على القيام بهداياته العظيمة . ولقد كان السلف رحمهم الله تعالى لهم مع رمضان شأنٌ آخر قراءةً وتدبرًا وترتيلا ، وكان قائلهم إذا دخل رمضان يقول : «إنما هو القرآن وإطعام الطعام» . رزقنا الله جل في علاه التشبُّه بهم ، ووفقنا للعناية بالقرآن وتلاوته على الوجه الذي يرضيه عنا .
وصلُّوا وسلِّموا - رعاكم الله - على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصرًا ومُعِينا وحافظًا ومؤيدا ، اللهم احفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك اللهم من شرورهم .
اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال ، اللهم وولِّ على المسلمين أينما كانوا خيارهم واصرف عنهم شرارهم يا رب العالمين .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها . اللهم إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
آخر تعديل: