المفلحون و الخاسرون.(من روائع الخطب)

ابو ليث

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
8 جانفي 2010
المشاركات
10,466
نقاط التفاعل
10,287
النقاط
356
محل الإقامة
الجزائر
المفلحون

الحمد لله العليم الحكيم، الرؤوف الرحيم؛ اصطفى من الناس رسلاً، وجعل في البشر مؤمناً وكافراً، وجعل في المؤمنين عصاة وأبراراً، حكمة منه واختياراً.. ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: 68] نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرد بالخلق والأمر؛ فالخلق خلقه، والملك ملكه، والأمر أمره، وجمع الخلق تحت قهره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله؛ دلنا على طرق الفوز والفلاح، وحذرنا من طرق الهلاك والخسران، فمن اتبعه فهو من المفلحين، ومن عصاه كان من الخاسرين ﴿ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، والزموا الإيمان والعمل الصالح؛ فإن عاقبتهما أمن في الدارين، وفلاح في الحياتين، واحذروا الكفر والنفاق والمعاصي؛ فإن عاقبتها شقاء في الدنيا وفي الآخرة ﴿ وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 8-9].

أيها الناس:
تسترعي انتباه قارئ القرآن كلمة الفلاح وأوصاف المفلحين؛ إذ هي مبثوثة في سوره وآياته، داعية إليه، محرضة عليه، مبينة طريقه، محذرة من ضده.

والفَلَاحُ هو: الظَّفَرُ وإدراك البُغية، وهو دنيويّ وأخرويّ، فالدّنيويّ: الظّفر بجاه الدنيا ومالها وعافيتها، وفَلَاحٌ أخرويّ، وهو الفوز برضا الرحمن سبحانه وجنته.

والفلاح إنما يحصل بالإيمان والعمل الصالح، ولا فلاح بلا إيمان، كما أنه لا فلاح بلا عمل صالح. وفي أوائل البقرة أثنى الله تعالى على المؤمنين بإيمانهم وعملهم الصالح ثم وصفهم بالفلاح فقال سبحانه ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 5]. وفي آية أخرى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77] والخير كلمة جامعة لكل عمل صالح. وقال سبحانه ﴿ قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: 1] ثم ذكر سبحانه جملة من صفاتهم التي بسببها أفلحوا، وكل صفة من هذه الصفات سبب للفلاح، وهي: الخشوع في الصلاة والمحافظة عليها، والإعراض عن اللغو، وأداء الزكاة، وحفظ الفروج، وأداء الأمانات، والوفاء بالعهود. ومن دلائل فلاحهم قول الله تعالى بعد ذكر أوصافهم وأعمالهم ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 10- 11].

فالصلاة باب عظيم للفلاح كما دلت عليه هذه الآيات، وهي بوابة البشرى بالفلاح في الآخرة كما دل عليه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، رواه الترمذي. فلا عجب أن ينادى للصلاة بالفلاح فيقول المؤذن في النداء والإقامة: حي على الفلاح.

والتوبة طريق الفلاح؛ فعلى المؤمن أن يلزمها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يتوب إلى الله تعالى في اليوم مئة مرة ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].

والشهادتان هما كلمة الفلاح؛ لأنه يُدخل بهما في الإسلام، وقد أسر المسلمون رجلا من بني عقيل، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إِنِّي مُسْلِمٌ، فقَالَ عليه الصلاة والسلام: «لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ» رواه مسلم. فجعل الفلاح كله في الإسلام. وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدور فِي أسواق المشركين وَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا».

وفي آية قرآنية جمع الله تعالى الإيمان والعمل الصالح لحصول الفلاح ﴿ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ ﴾ [القصص: 67] وعسى ولعل من الله تعالى إيجاب وتحقيق، أي: أن الفلاح واقع متحقق لمن آمن وعمل صالحا.

والتقوى تجمع الإيمان والعمل ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189] وجاء الأمر بالتقوى لنيل الفلاح في القرآن أربع مرات.

وصلاح القلب، وتزكية النفس لا تكون إلا بالأعمال الصالحة، وذلك سبب للفلاح ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [الأعلى: 14] وفي الآية الأخرى ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ﴾ [الشمس: 9].

فالإيمان هو الطريق الأساس للفلاح، وكل عمل صالح فهو طريق إلى الفلاح، ولا يقبل عمل بلا إيمان، وجميع ما ذكر في القرآن والسنة من أنواع العمل الموصل للفلاح فهو للحث على ذلك العمل، والعناية به، واجتناب الغفلة عنه:
فالتزام الحسبة على الناس طريق إلى الفلاح ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].

والجهاد في سبيل الله تعالى بالنفس أو المال يوصل إلى الفلاح ﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [التوبة: 88].

وذِكْرُ الله تعالى سبب للفلاح ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45] وذكره نعمه لشكرها أيضا سبب للفلاح كما قال هود عليه السلام لقومه ﴿ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 69].

والتحاكم إلى شريعة الله تعالى، وطاعته سبحانه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم سبب للفلاح ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 51].

وأداء الحقوق إلى أهلها، مَنْ بَعُدَ منهم ومن قَرُبَ يحقق الفلاح ﴿ فَآَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [الرُّوم: 38].

وموالاة أولياء الله تعالى، ومعاداة أعدائه، وبناء الولاء والبراء على منهاج النبوة ينظم صاحبه في جماعة المؤمنين، وهم حزب الله تعالى، وهم المفلحون ﴿ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22]

وإيثار الغير على النفس، والتخلص من شح النفس سبب للفلاح ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9] وفي الآية الأخرى ﴿ وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16].

والتزام فرائض الله تعالى، وعدم بخس شيء منها سبب للفلاح، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّم أعرابياً شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ، فقَالَ الأعرابي: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، لاَ أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلاَ أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» متفق عليه. والنقص من طبيعة البشر، فجعلت النوافل تكملة للفرائض؛ رحمة من الله تعالى بعباده ليحققوا الفلاح.

وكف اليد في الفتن سبب للفلاح؛ لأن أمر الدماء عظيم عند الله تعالى؛ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ» رواه أبو داود. ولما ثارت الفتنة في العهد الأموي، واشرأبت لها أعناق الناس كان ممن بقي من الصحابة: الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدٍ الْكِلَابِيُّ رضي الله عنه وكان شيخا كبيرا، فشاوروه للخروج فقَالَ: إِنْ تَقْعُدُوا تُفْلِحُوا وَتَرْشُدُوا، إِنْ تَقْعُدُوا تُفْلِحُوا وَتَرْشُدُوا، إِنْ تَقْعُدُوا تُفْلِحُوا وَتَرْشُدُوا، ثم ساق قول النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم الدماء والأعراض والأموال.

والقناعة سبب للفلاح؛ لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الظلم، والتطاول على الأموال المحرمة، والهلاكُ بسبب ذلك كثير في الناس. قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ» رواه مسلم.

واجتناب المحرمات ولو هَوِيَتْهَا النفوس طريق إلى الفلاح ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90].

نسأل الله تعالى أن يفتح لنا طرق الفلاح، وأن يهدينا لسلوكها، وأن يجعلنا من المفلحين، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
◘ ◘ ◘ ◘ ◘

الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 35].

أيها المسلمون:
ثمة أعمال خبيثة تنفي الفلاح عن فاعليها، وصفات تمنع أصحابها من الفلاح، ورأس ذلك الظلم، وأعظم الظلم الشرك ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنعام: 21] وفي آية أخرى ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس: 17].

وكذلك ظلم البشر بالاعتداء على دمائهم أو أعراضهم أو أموالهم سبب لنفي الفلاح كما قال يوسف عليه السلام لما راودته امرأة العزيز ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23]

والكذب على الله تعالى بتحليل المحرمات، أو تحريم المباحات، أو إسقاط الواجبات، أو تبديل الشريعة؛ لهوى النفس أو لإرضاء الغير سبب كبير لنفي الفلاح ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116].

وجاء في القرآن نفي الفلاح عن السحرة ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: 69] وجاء في السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» رواه البخاري.

فعلى المؤمن أن يعرف أسباب الفلاح فيأتيها، وأسباب عدم الفلاح فيجتنبها؛ فإنه فلاح أبدي في نعيم مقيم لا يحول ولا يزول.

وكلما ثقلت الموازين بالعمل الصالح، وخفت من العمل السيئ تأكد حصول الفلاح، وكان فلاحا كثيرا بأعظم مما في الموازين من صالح العمل ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 102]

والنفس البشرية يصيبها الملل من العمل، وقد تزين لصاحبها سوء العمل، فمن أراد الفلاح سايسها، فإن رأى فيها إقبالا تزود من الأعمال الصالحة، وإن رأى فيها إدبارا قصرها على الفرائض وشيء من النوافل حتى لا تسأم وتترك كل العمل، وهذا ما وجهنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "إن لكل عمَلٍ شِرةً، ولكل شِرَّةٍ فترةً، فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفْلح، ومن كانتْ فترته إلى غير ذلك فقد هَلكَ" رواه أحمد.

ويعلم المرء بفلاحه حال نزع روحه حين تبشره الملائكة بالفلاح، وحين يوسد قبره فيرى شيئا من فلاحه فيه، وحين يبعث ويرد الحوض كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَ أَفْلَحَ.

وقد يعلم المرء طريق الفلاح لكن يرده عنه شهوات حاضرة، فيترك فلاحه الأبدي لأجل هذه الشهوات الفانية، ولنعتبر في ذلك بحال هرقل عظيم الروم؛ فإنه قد علم صدق النبي عليه الصلاة والسلام من أجوبة أبي سفيان له، وكاد الإيمان أن يدخل قلبه، فجمع وزراءه وكبراءه وقال لهم: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الفَلاَحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ. رواه البخاري.

فاستبدل هرقل ملكه الزائل بفلاحه الأبدي، وقد زال ملكه، ثم مات.. ألا تظنون أنه خسر الفلاح الأبدي وقد علم طريقه، وأنه نادم على ذلك أشد الندم، وما ينفعه الندم الآن أو بعد الآن.

إنها عبرة فيمن عرف طريق الفلاح الأبدي فقدم عليه لعاعة من الدنيا قد فارقها وبقي له خسرانه الأبدي.

ومثله قارون ﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص: 82].

وصلوا وسلموا على نبيكم...






 
رد: المفلحون الخاسرون.

الخاسرون


الحمد لله الخلاق العليم، الرزاق الكريم، الوهاب الحليم؛ خلق عباده فرزقهم وكفاهم، ووهب المؤمنين منهم إيمانهم، وأجزل لهم ثوابهم، وحلم على كفرهم وعصيانهم، فلم يعجل عقابهم، وهو سبحانه أعلم بمن يستحق الفوز والخسران منهم؛ نحمده على حسن أسمائه وجميل صفاته، ونشكره على جليل نعمه وجزيل عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلق عباده فجعل منهم مؤمنين وكافرين، وطائعين وعاصين، وفائزين وخاسرين، وكل عبد يجد يوم القيامة ما عمل ﴿ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى ﴾ [ النَّازعات:35] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ حجة الله تعالى على خلقه، وأمينه على وحيه، ومصطفاه من عباده، وإمام أنبيائه ورسله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعملوا من الصالحات ما ينجيكم من غضبه وعذابه، ويقربكم من رحمته ورضوانه؛ فليس ثمة إلا فرصة واحدة فإما فاز فيها العبد أبداً، وإما خسر أبداً، ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1-3].

أيها الناس: لا خسارة تعدل خسارة من خسر نفسه في الحياة الأبدية، وهي الخسارة التي توجب لصاحبها الخلود الأبدي في العذاب السرمدي، ومن هذه الخسارة ضج المؤمنون، وخاف الوجلون، وحاذر المشفقون، وفزع المتقون، ورعب الموقنون.

وبسببها تجافت الجنوب عن مضاجعها، وهانت الأرواح على أصحابها، ورخصت الأموال عند ملاكها.

وبسببها لم يفرح أهل اليقين بما فتح لهم من دنياهم، ولم يغتر المعتبرون بأموالهم وقوتهم وجمعهم، ولم يهنأ أهل الخشية بطيب عيشهم في الدنيا وهم يرون أرتال الجنائز تحمل كل ساعة إلى القبور؛ فإما كانت فائزة وإما كانت خاسرة.

وكل خسارة مذكور في القرآن فهي خسارة الدين، والخاسرون في القرآن هم من خسروا آخرتهم.

ومعرفة أسباب الخسارة، وأعمال الخاسرين سبب لاجتنابها، والنجاة منها؛ والله تعالى قد بين لنا في كتابه العزيز كل طريق يؤدي إلى الخسارة، ويجعل صاحبه من الخاسرين.

وكل كفر فهو طريق إلى الخسارة، وكل كافر فهو خاسر، وكل معصية فهي سبب للخسارة، وكل عاص يخسر بقدر عصيانه، بيد أن وصف بعض الذنوب في القرآن بالخسارة، وذكر أعمال الخاسرين وأوصافهم إنما كان لشناعة ما عملوا فكانت الخسارة فيه كبيرة؛ وذلك لتنبيه العباد وزجرهم، وتعظيم أسباب الخسارة في قلوبهم. وإما لكون العمل الموجب للخسران يكثر وقوعه من الناس فاقتضى تخصيصه بالتنبيه رحمة من الله تعالى بعباده. وإما لكونه ذنبا لا يظن من يقارفه أنه يوصله للخسارة، فاختص بذكره للعلم به. ومفردة الخسر وما اشتق منها كررت في القرآن في أكثر من ستين موضعا، مما يدل على أهمية الموضوع في القرآن.

والكفر بالله تعالى أعظم الخسارة؛ لأنه يوجب خسارة أبدية، ويجعل صاحبه من الخاسرين ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 52] ﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15] ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65] وكلما أوغلوا في الكفر بالله تعالى ازدادوا خسارا؛ فكما أن الكفر دركات فكذلك الخسران دركات، يزداد الكافر خسرانا كلما ازداد كفرا ﴿ وَلَا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [ فاطر:39]. ﴿ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ﴾ [ نوح:24].

والمال والولد نعمة ومع ذلك فقد تجني على صاحبها بظنه أن الله تعالى ما أعطاه إلا لرضاه عنه، فيكفر بالله تعالى، ويكون فتنة لغيره بأن يتبعوه كما قال نوح عليه السلام واصفا عامة الكفار من قومه ﴿ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [ نوح:21].

ومن الكفر المستوجب للخسارة الكفر بآيات الله تعالى الكونية أو الشرعية ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الزمر: 63] ﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [يونس: 95]. وقال تعالى عن القرآن ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 121] ومنه التكذيب بالبعث والجزاء ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [ يونس:45].

ولا يظنن ظان أن الكفار لا يدينون بدين، ولا يعملون أعمالا يظنونها صالحة؛ فإن أكثرهم يدينون بدين، ويعملون أعمالا، ولكنها تعب في الدنيا، وخسارة في الآخرة ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [ الكهف:103-104] لأن الله تعالى أمر عباده بدين الإسلام، وبما شرع فيه من عبادات وأحكام، فمن دان بغيره، أو عمل بعمل ليس من الإسلام فهو خسارة على صاحبه ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [ آل عمران:85] وهذا يكشف عظيم نعمة الله تعالى علينا بالهداية للدين الحق وهو الإسلام، كما يبرز حجم الضلال في البشر ولو اكتشفوا الذرة، وصنعوا الحضارة، وبلغوا الآفاق، وغاصوا في الأعماق.

ومن الناس من يكون إيمانه لأجل الدنيا، فإذا نال بإيمانه مالا وجاها ونعمة التزمه، وإن ابتلي بسبب إيمانه ترك إيمانه، وهذا من أشد الخاسرين؛ لأنه جعل إيمانه وسيلة لدنياه، ولم يجعل دنياه وسيلة لإيمانه ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ ﴾ [ الحج:11] وفي زمن العدوان الصليبي على الأندلس تنصر عدد من الوزراء والقضاة والتجار والأعيان حفاظا على أموالهم وضياعهم، ولو أنهم ضحوا بها فداء لإيمانهم لكان خيرا لهم، ولو أنهم قتلوا على إيمانهم لكان شهادة لهم، ولو أنهم فروا بدينهم لكان أسلم لهم ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5].

والكفر بالقرآن باب إلى الخسران، سواء كفر به كله أو كفر ببعضه، وكثير من الناس قد يرد حكما مما جاء في القرآن ولا يدري أنه برده إياه صار من الخاسرين ولو كان من المصلين، وما أكثر الواقعين في ذلك في هذا الزمن الذي اجترأ فيه المنافقون والفساق على الشريعة فانتهكوها ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة: 121].

ومن عجيب أمر القرآن أنه مصدر هداية للناس، ومع ذلك فلا ينتفع به أهل الخسران، بل يزدادون خسرانا بتكذيبهم آياته وأحكامه وعدم انتفاعهم بقصصه ومواعظه ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [ الإسراء:82].

وثمة أعمال وُصف مرتكبوها بالخسران لشناعتها وكثرة وقوعها؛ ليحذر الناس منها، كسفك الدم الحرام ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [ المائدة:30]، وقتل الأولاد خشية الفقر أو العار ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [ الأنعام:140] ونقض العهد، وقطيعة الرحم، والإفساد في الأرض ﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [ البقرة:27] والأمن من مكر الله تعالى ﴿ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [ الأعراف:99]، واللهو بالمال والولد عن ذكر الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [ المنافقون:9] وسوء الظن بالله تعالى ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [ فصِّلت:23] وطاعة الكفار وهي جالبة للخسارة في الدنيا وفي الآخرة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 149] وكذلك التفريط في الصلاة سبب للخسارة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أن أَوَّلَ ما يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يوم الْقِيَامَةِ من عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ» رواه الترمذي.

ومنع حق الله تعالى من المال باب إلى الخسران؛ كما في حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ، فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا – مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ – وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» رواه الشيخان.

والخاسرون قد تكون خسارتهم كليه وهم من فقدوا أصل الإيمان، واستوجبوا الخلود في النار، وهم من حقت عليهم كلمة العذاب ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 18] ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ [ المؤمنون:103] ومنهم من خسارته جزئية كمن قارف سيئات قد يعذب بها في الآخرة، وأقل خسارة منهم من خسروا حسنات في الدنيا فسُبقوا إلى أعالي الدرجات في الجنة. وقد فضل النبي صلى الله عليه وسلم قبائل ضعيفة مغمورة سبقت إلى الإيمان على قبائل قوية مشهورة، حتى قال قائل في المسبوقة: خابوا وخسروا.

نسأل الله تعالى أن يجنبنا أسباب الخسارة، وأن يهدينا لطرق الفلاح والفوز، وأن يجعلنا من عباده الصالحين.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وكونوا من أنصار الله تعالى، ومن حزبه وأوليائه؛ فإن ﴿ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [ يونس:62] وإن ﴿ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ ﴾ [ المائدة:56] وإن ﴿ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [ المجادلة:22] وإن ﴿ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [ المجادلة:19].

أيها المسلمون: اجتناب الخسران في الدنيا والآخرة لا يكون إلا باجتناب أسبابه؛ وذلك باجتناب الكفر والمعاصي، والتترس بالإيمان والعمل الصالح، ولكن الخطأ من سمات البشر، ولن ينجو صاحب المعصية من الخسران إلا بعفو الله تعالى ومغفرته ورحمته؛ ولذا كان حقا على العاصي أن يهرع إلى التوبة والاستغفار؛ لأنه وقع فيما يوجب الخسران، وهكذا فعل الرسل عليهم السلام حين وقعت منهم أخطاء؛ فإنهم هرعوا إلى التوبة والاستغفار اتقاء للخسران.

فآدم وحواء عليهما السلام لما أخطئا بأكلهما من الشجرة خافا الخسران ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].

ونوح عليه السلام لما سأل الله تعالى نجاة ابنه وقد مات على الكفر عاتبه الله تعالى على مسألته تلك فبادر نوح إلى التوبة والاستغفار ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47].

وصالح عليه السلام رفض طاعة قومه في المعصية خشية الخسران وقال لهم ﴿ فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾ [ هود:63]

وقوم موسى لما وقعوا في الخطيئة الكبرى بعبادتهم العجل ندموا على ما كان منهم خشية الخسران وقالوا ﴿ لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 149].

ويوم القيامة تظهر الخسارة الحقيقة للخاسرين، ويعرفون أنهم قد خسروا، وحينها لا ينفعهم ندم ولا استعتاب ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ ﴾ [ الجاثية:27] ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ﴾ [ الشُّورى:45].
وصلوا وسلموا على نبيكم...





 
رد: المفلحون و الخاسرون.(من روائع الخطب)

ﭼﺰﺁﮒ ﺁﻟﻠﻪ ﺁﻟﻒ ﺧﻴﺮ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺁ
ﺁﻟﻄﺮﺡ ﺁﻟﻘﻴﻢ
ﻭﭼﻌﻠﻪ ﺁﻟﻠﻪ ﻓﻰ ﻣﻴﺰﺁﻥ ﺁﻋﻤﻠﮓ
....
ﺩﻣﺖ ﭘﺤﻔﻆ ﺁﻟﺮﺣﻤﻦ ....
 
رد: المفلحون و الخاسرون.(من روائع الخطب)

سلام عليكم

بارك الله فيك على الموضوع

وربي يجعلنا من المفلحين يارب

شكراا لك

تحياتي استاذ
 
رد: المفلحون و الخاسرون.(من روائع الخطب)

و فيك بارك الله.
 
رد: المفلحون و الخاسرون.(من روائع الخطب)

بارك الله فيك اخي
جزاك الله خيرااا
 
رد: المفلحون و الخاسرون.(من روائع الخطب)

و فيك بارك الله.
 
بارك الله فيك
 
جزاك الله خيرا بارك الله فيك
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top