بقلم: رغداء زيدان
"شهدته يخطب بالفرنسية في مؤتمر المستشرقين في أكسفورد وهو في لباسه الوطني: عمامة صفراء وزنار عريض وسراويل مسترسلة ومعطف من صنع بلاده, فأُخذت بسحر بيانه, واتساعه في بحثه, وظننتني أستمع عالماً من أكبر علماء فرنسا وأدبائها, في روح عربي, وثقافة إسلاميّة, أو عالماً من علماء السلف, جمع الله له بلاغة القلم, وبلاغة اللسان, ووفّر له قسطه من العلم والبصيرة, وقد فُطر على ذكاء وفضل غرام بالتحصيل, وقيّض له أن يجمع بين ثقافتين ينبغ ويفصح بكلّ لغة يعاينها"(1).
محمّد بن أبي شنب عالم من العلماء الأفذاذ, وُلد بفحص قرب المدية, عام 1286/ 1869, وفيها تعلّم. ثمّ تابع تحصيله العلمي, فأتقن الفرنسية كأهلها, ولكنه لم يهمل تثقيف نفسه بتراث العرب ولغتهم, حتّى كان واحداً من علماء اللغة والأدب, وحتى صار أستاذاً للآداب العربية في الجامعة الفرنسية بالجزائر. وقد خدم الجامعة خدمات جلّى, وهو الذي أعطى للكتب والبحث العلمي قيمة واهتماماً, فكان خير من يمثّل بلاده في المهمّات العالمية, مثل مؤتمر المستشرقين في الرباط الذي أُقيم فيها سنة 1928م, ومؤتمر المستشرقين في مدينة أكسفورد.
كان متقناً للغات كثيرة, منها العبرية والفارسية والإيطالية والتركية والإسبانية, واعترف الجميع بفضله وعلمه, فانتخب عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق سنة 1920, وعضواً في المجمع العلمي الاستعماري في باريس(2).
يصف لنا الشاعر محمّد السعيد الزّاهري(3) حادثة تعرّفه على الشيخ ابن أبي شنب بقوله:" كانت أول معرفتي بالشيخ أني كنت سنة 1922م, وأنا يومئذ لا أزال أطلب العلم في الكليّة الزيتونيّة, وجاءتها لجنة في تلك السنة, لجنة من العلماء الفرنسيين لامتحان طلبة البكالوريا في تونس.
وكانت هذه اللجنة تحت إشراف المرحوم الدكتور أبي شنب, فاستغرب الناس في تونس أن يكون عالم جزائري, غير متجنّس بالجنسية الفرنسية رئيساً مشرفاً على لجنة علمية فرنسية, يرأس جلساتها بملابسه الجزائرية, وبزيه الجزائري, وتعالم الناس الخبر, وسمعته أنا, وفرحت به وداخلني يومئذ شئ من النخوة والكبرياء, وجمعت نفراً من إخواني الطلبة الجزائريين, وذهبنا نزوره......سألته:" كيف تصنع إذا أدركتك الصلاة وأنت في جلسة رسميّة؟" فقال:" أوقف الجلسة للاستراحة, فيستريح زملاؤه بخطوات يمشونها ودخائن يشعلونها, وأستريح بأداء المكتوبة""(4).
لست وحدك يا زاهري من داخله الشعور بالكبرياء والنخوة, فمثل هؤلاء نفتقد بيننا اليوم, فلا نكاد نرى العالم إلا متنكّراً لدينه وعروبته التماساً لاحترامٍ لا يُنال إلّا عندما يحترم المرء نفسه أولاً, ويعتّز بدينه وقوميّته ثانياً.
ولا أعرف ما الرابط بين العلم والتقدم, وتغيير الزي والتنكر للدين والعروبة, إلّا ما بيّنه صاحبا كتاب "حول الحب والإستلاب", بما أسمياه (إستلاباً تغلبياً), تنظّمه ثنائية غالب ومغلوب, حيث يفرض الطرف الغالب نماذجه المختلفة على المظهر والسلوك, ويتطبّع بها المغلوب تلقائياً على اعتبار أنّها القيمة العليا للحقّ والخير والجمال(5).
وهذا ما نلمسه اليوم, حيث صار التقدم متمثّلاً بمظهر مبتذل, أو بترديد مقولات مفروضة, صارت عند كثيرين بحكم المسلّمات طالما أنّها صدرت عن علماء غربيين.
محمّد بن أبي شنب نال احترام كل من عرفه, بعلمه وتواضعه وبساطته وتمسكه بدينه وعروبته, فلم يعتبر العلم ترفّعاً عن الناس, ولا تنكّراً للدين والعروبة, ويكفي أن نسمع أحد أصدقائه الفرنسيين يقول عنه: " من الواجب أن نشير إلى جميع أعماله في الجملة, حتّى يتجلّى لنا نشاطه العلمي, فقد كنّا نرجع إليه, ونستضيئ بضيائه, وكنا نناديه بـ(يا شيخنا).....كان يجمع إلى صفات العلم والعالم الحقيقي صفات الصلاح والطيب"(6).
ترك ابن أبي شنب مؤلّفات وتحقيقات وعلم غزير, فمن كتبه:
1 ـ تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب, 1906 و 1928م.
2 ـ شرح لمثلثات قطرب 1906م.
3 ـ أبو دلامة وشعره, وهو أطروحته للدكتوراة التي حصل عليها سنة 1924م, حيث قدمها مع أطروحة أخرى هي الألفاظ التركية والفارسية الباقية في اللهجة الجزائرية(7).
4 ـ الأمثال العامية الدارجة في الجزائر وتونس والمغرب, ثلاثة أجزاء 1907م.
5 ـ الألفاظ الطليانية الدخيلة في لغة عامة الجزائر, (مخطوط).
6 ـ فهرست الكتب المخطوطة في خزانة الجامع الأعظم بالجزائر 1909م.
7 ـ معجم بأسماء ما نشر في المغرب الأقصى فاس من الكتب ونقدها 1922م.
8 ـ خرائد العقود في فرائد القيود 1909م
وغيرها من الكتب والمؤلفات. وقد حقّق وصحّح كثيراً من كتب التراث العربي نذكر منها:
1 ـ البستان 1908م.
2 ـ عنوان الدراية 1910م.
3 ـ الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية 1920م.
4 ـ الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية.
5 ـ طرس الأخبار بما جرى آخر الأربعين من القرن الثالث عشر للمسلمين مع الكفار, وهو من تأليف الشيخ محمّد العربي المشرقي الغريسي.
6 ـ وصايا الملوك وأبناء الملوك من أولاد الملك قحطان ابن هود النبي مع تعليقات عليه.
7 ـ شرح ديوان عروة بن الورد لابن السكيت 1926م
وغير هذه الكتب كثير جداً(8).
وله كتاب مميز وضعه بالفرنسية بيّن فيه ما أخذه دانتي(9) الشاعر الإيطالي من الأصول الإسلامية في كتابه ديفينا كوميديا, أو الكوميديا الإلهية.
ومما يلفت النظر بالنسبة لهذا العالم الكبير أنه فرض نفسه كعالم فذ, بعلمه وتواضعه, وتفانيه في خدمة التراث العربي وتدريسه والتعريف فيه, حتى اعترف بعلمه العدو قبل الصديق, ولا يمكن لنا أن نقول إن أمثال هذا العالم المتواضع له أعداء, بل إنّ كل من عرفه صار له صديقاً. وقد منحته حكومة فرنسا وسام جوقة الشرف, وذلك سنة 1922م, اعترافاً بفضله وعلمه(10).
وعندما توفّي ـ رحمه الله _ سنة 1347/ 1929م, خرج في جنازته المسلمون والنصارى, العرب والأجانب, جمعهم الحزن على فقدان عالم قلّما يجود الزمان بمثله. وقد أبّنه مدير كليه الآداب في جامعة الجزائر قائلاً:" إنّ المنهج الّذي نهجه ابن أبي شنب يدلّ دلالة واضحة على مقدار ما يستطيع أن يعمله العقل والإرادة والعمل, في الارتفاع من أصغر المناصب إلى أعظمها, وإني أود أن يوقر هذا المنهج شباب هذه البلاد وشباب فرنسا نفسها"(11).
إننا إذ نتذاكر سيرة هذا العالم العامل, نرجو أن يكون لنا كمسلمين وعرباً, مثلاً يُحتذى, في طلب العلم وخدمته, وفي الاعتزاز بديننا وعروبتنا, ونرجو من الله أن يرحمه, ويجمعنا به في جنات النعيم.
المصدر =http://www.chihab.net/modules.php?name=News&file=article&sid=1088
"شهدته يخطب بالفرنسية في مؤتمر المستشرقين في أكسفورد وهو في لباسه الوطني: عمامة صفراء وزنار عريض وسراويل مسترسلة ومعطف من صنع بلاده, فأُخذت بسحر بيانه, واتساعه في بحثه, وظننتني أستمع عالماً من أكبر علماء فرنسا وأدبائها, في روح عربي, وثقافة إسلاميّة, أو عالماً من علماء السلف, جمع الله له بلاغة القلم, وبلاغة اللسان, ووفّر له قسطه من العلم والبصيرة, وقد فُطر على ذكاء وفضل غرام بالتحصيل, وقيّض له أن يجمع بين ثقافتين ينبغ ويفصح بكلّ لغة يعاينها"(1).
محمّد بن أبي شنب عالم من العلماء الأفذاذ, وُلد بفحص قرب المدية, عام 1286/ 1869, وفيها تعلّم. ثمّ تابع تحصيله العلمي, فأتقن الفرنسية كأهلها, ولكنه لم يهمل تثقيف نفسه بتراث العرب ولغتهم, حتّى كان واحداً من علماء اللغة والأدب, وحتى صار أستاذاً للآداب العربية في الجامعة الفرنسية بالجزائر. وقد خدم الجامعة خدمات جلّى, وهو الذي أعطى للكتب والبحث العلمي قيمة واهتماماً, فكان خير من يمثّل بلاده في المهمّات العالمية, مثل مؤتمر المستشرقين في الرباط الذي أُقيم فيها سنة 1928م, ومؤتمر المستشرقين في مدينة أكسفورد.
كان متقناً للغات كثيرة, منها العبرية والفارسية والإيطالية والتركية والإسبانية, واعترف الجميع بفضله وعلمه, فانتخب عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق سنة 1920, وعضواً في المجمع العلمي الاستعماري في باريس(2).
يصف لنا الشاعر محمّد السعيد الزّاهري(3) حادثة تعرّفه على الشيخ ابن أبي شنب بقوله:" كانت أول معرفتي بالشيخ أني كنت سنة 1922م, وأنا يومئذ لا أزال أطلب العلم في الكليّة الزيتونيّة, وجاءتها لجنة في تلك السنة, لجنة من العلماء الفرنسيين لامتحان طلبة البكالوريا في تونس.
وكانت هذه اللجنة تحت إشراف المرحوم الدكتور أبي شنب, فاستغرب الناس في تونس أن يكون عالم جزائري, غير متجنّس بالجنسية الفرنسية رئيساً مشرفاً على لجنة علمية فرنسية, يرأس جلساتها بملابسه الجزائرية, وبزيه الجزائري, وتعالم الناس الخبر, وسمعته أنا, وفرحت به وداخلني يومئذ شئ من النخوة والكبرياء, وجمعت نفراً من إخواني الطلبة الجزائريين, وذهبنا نزوره......سألته:" كيف تصنع إذا أدركتك الصلاة وأنت في جلسة رسميّة؟" فقال:" أوقف الجلسة للاستراحة, فيستريح زملاؤه بخطوات يمشونها ودخائن يشعلونها, وأستريح بأداء المكتوبة""(4).
لست وحدك يا زاهري من داخله الشعور بالكبرياء والنخوة, فمثل هؤلاء نفتقد بيننا اليوم, فلا نكاد نرى العالم إلا متنكّراً لدينه وعروبته التماساً لاحترامٍ لا يُنال إلّا عندما يحترم المرء نفسه أولاً, ويعتّز بدينه وقوميّته ثانياً.
ولا أعرف ما الرابط بين العلم والتقدم, وتغيير الزي والتنكر للدين والعروبة, إلّا ما بيّنه صاحبا كتاب "حول الحب والإستلاب", بما أسمياه (إستلاباً تغلبياً), تنظّمه ثنائية غالب ومغلوب, حيث يفرض الطرف الغالب نماذجه المختلفة على المظهر والسلوك, ويتطبّع بها المغلوب تلقائياً على اعتبار أنّها القيمة العليا للحقّ والخير والجمال(5).
وهذا ما نلمسه اليوم, حيث صار التقدم متمثّلاً بمظهر مبتذل, أو بترديد مقولات مفروضة, صارت عند كثيرين بحكم المسلّمات طالما أنّها صدرت عن علماء غربيين.
محمّد بن أبي شنب نال احترام كل من عرفه, بعلمه وتواضعه وبساطته وتمسكه بدينه وعروبته, فلم يعتبر العلم ترفّعاً عن الناس, ولا تنكّراً للدين والعروبة, ويكفي أن نسمع أحد أصدقائه الفرنسيين يقول عنه: " من الواجب أن نشير إلى جميع أعماله في الجملة, حتّى يتجلّى لنا نشاطه العلمي, فقد كنّا نرجع إليه, ونستضيئ بضيائه, وكنا نناديه بـ(يا شيخنا).....كان يجمع إلى صفات العلم والعالم الحقيقي صفات الصلاح والطيب"(6).
ترك ابن أبي شنب مؤلّفات وتحقيقات وعلم غزير, فمن كتبه:
1 ـ تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب, 1906 و 1928م.
2 ـ شرح لمثلثات قطرب 1906م.
3 ـ أبو دلامة وشعره, وهو أطروحته للدكتوراة التي حصل عليها سنة 1924م, حيث قدمها مع أطروحة أخرى هي الألفاظ التركية والفارسية الباقية في اللهجة الجزائرية(7).
4 ـ الأمثال العامية الدارجة في الجزائر وتونس والمغرب, ثلاثة أجزاء 1907م.
5 ـ الألفاظ الطليانية الدخيلة في لغة عامة الجزائر, (مخطوط).
6 ـ فهرست الكتب المخطوطة في خزانة الجامع الأعظم بالجزائر 1909م.
7 ـ معجم بأسماء ما نشر في المغرب الأقصى فاس من الكتب ونقدها 1922م.
8 ـ خرائد العقود في فرائد القيود 1909م
وغيرها من الكتب والمؤلفات. وقد حقّق وصحّح كثيراً من كتب التراث العربي نذكر منها:
1 ـ البستان 1908م.
2 ـ عنوان الدراية 1910م.
3 ـ الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية 1920م.
4 ـ الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية.
5 ـ طرس الأخبار بما جرى آخر الأربعين من القرن الثالث عشر للمسلمين مع الكفار, وهو من تأليف الشيخ محمّد العربي المشرقي الغريسي.
6 ـ وصايا الملوك وأبناء الملوك من أولاد الملك قحطان ابن هود النبي مع تعليقات عليه.
7 ـ شرح ديوان عروة بن الورد لابن السكيت 1926م
وغير هذه الكتب كثير جداً(8).
وله كتاب مميز وضعه بالفرنسية بيّن فيه ما أخذه دانتي(9) الشاعر الإيطالي من الأصول الإسلامية في كتابه ديفينا كوميديا, أو الكوميديا الإلهية.
ومما يلفت النظر بالنسبة لهذا العالم الكبير أنه فرض نفسه كعالم فذ, بعلمه وتواضعه, وتفانيه في خدمة التراث العربي وتدريسه والتعريف فيه, حتى اعترف بعلمه العدو قبل الصديق, ولا يمكن لنا أن نقول إن أمثال هذا العالم المتواضع له أعداء, بل إنّ كل من عرفه صار له صديقاً. وقد منحته حكومة فرنسا وسام جوقة الشرف, وذلك سنة 1922م, اعترافاً بفضله وعلمه(10).
وعندما توفّي ـ رحمه الله _ سنة 1347/ 1929م, خرج في جنازته المسلمون والنصارى, العرب والأجانب, جمعهم الحزن على فقدان عالم قلّما يجود الزمان بمثله. وقد أبّنه مدير كليه الآداب في جامعة الجزائر قائلاً:" إنّ المنهج الّذي نهجه ابن أبي شنب يدلّ دلالة واضحة على مقدار ما يستطيع أن يعمله العقل والإرادة والعمل, في الارتفاع من أصغر المناصب إلى أعظمها, وإني أود أن يوقر هذا المنهج شباب هذه البلاد وشباب فرنسا نفسها"(11).
إننا إذ نتذاكر سيرة هذا العالم العامل, نرجو أن يكون لنا كمسلمين وعرباً, مثلاً يُحتذى, في طلب العلم وخدمته, وفي الاعتزاز بديننا وعروبتنا, ونرجو من الله أن يرحمه, ويجمعنا به في جنات النعيم.
المصدر =http://www.chihab.net/modules.php?name=News&file=article&sid=1088