رد: شرح وصية يحيى بن زكريا عليهما السلام
فصل في فضل الذكر
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وآمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى إلى حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله»: فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة، لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، وأن لا يزال لهجًا بذكره، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده، فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله تعالى انخنس عدو الله تعالى وتصاغر، وانقمع، حتى يكون كالوصع وكالذباب، ولهذا سمي (الوسواس الخناس)، أي: يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله تعالى خنس، أي: كف وانقبض.
وقال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس ([1]).
وفي (مسند الإمام أحمد)، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، أنه بلغه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل».
وقال معاذ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقكم، ويضربوا أعناقكم»، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «ذكر الله عز وجل»([2]).
وفي (صحيح مسلم)، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له: جُمدان، فقال: «سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون». قيل: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات»([3]).
وفي (السنن) عن أبي هريرة رضي الله عنه[FONT="] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة»([4]).[/FONT]
وفي رواية الترمذي: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم»([5]).
وفي (صحيح مسلم)، عن الأغر أبي مسلم قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد، أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقعد قوم في مجلس يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده».
وفي الترمذي عن عبد الله بن يسر أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أبواب الخير كثيرة، ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بشيء أتشبث به، ولا تكثر علي فأنسى. وفي رواية: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، وأنا كبرت، فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: «لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله تعالى».
وفي الترمذي أيضًا عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا» قيل: يا رسول الله! ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: «لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دمًا كان الذاكر لله تعالى أفضل منه درجة»([6]).
وفي (صحيح البخاري)، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه. مثل الحي والميت».
وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا، تقربت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي، أتيته هرولة»([7]).
وفي الترمذي عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قالوا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: «حلق الذكر»([8]).
وفي الترمذي أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن الله عز وجل أنه يقول: «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاقٍ قرنه».
وهذا الحديث هو فصل الخطاب في التفضيل بين الذاكر والمجاهد، فإن الذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا جهاد والمجاهد الغافل والذاكر بلا جهاد أفضل من المجاهد الغافل عن الله تعالى.
فأفضل الذاكرين المجاهدون، وأفضل المجاهدين الذاكرون.
قال الله تعالى: [FONT="]}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[FONT="]{[/FONT] [الأنفال: 45] فأمرهم بالذكر الكثير والجهاد معًا، ليكونوا على رجاء من الفلاح، وقد قال تعالى: [FONT="]}[/FONT]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا[FONT="]{[/FONT] [الأحزاب: 41]، وقال تعالى: [FONT="]}[/FONT]وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ[FONT="]{[/FONT] [الأحزاب: 35] أي: كثيرًا. وقال تعالى: [FONT="]}[/FONT]فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا[FONT="]{[/FONT] [البقرة: 200].[/FONT]
ففيه الأمر بالذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله عز وجل كانت عليه، لا له، وكان خسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله.
وقال بعض العارفين: لو أقبل عبد على الله تعالى كذا وكذا سنةً، ثم أعرض عنه لحظة، لكان ما فاته أعظم مما حصله.
وذكر البيهقي عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ساعة تمر بابن آدم لا يذكر الله تعالى فيها إلا تحسر عليها يوم القيامة».
وذكر عن معاذ بن جبل يرفعه أيضًا: «ليس تحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها»([9]).
وعن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، أو ذكرًا لله عز وجل»([10]).
وعن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل»([11]).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه[FONT="]: لكل شيء جلاء وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل.[/FONT]
وذكر البيهقي مرفوعًا من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «لكل شيء صقالة، وإن صقالة القلوب ذكر الله عز وجل، وما من شيء أنجى من عذاب الله عز وجل من ذكر الله عز وجل» قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: «ولو أن يضرب بسيفه حتى ينقطع»([12]).
ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء. فإذا ترك الذكر صدأ، فإذا ذكره جلاه.
وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر، فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته، كان الصدأ متراكبًا على قلبه، وصدؤه بحسب غفلته، وإذا صدأ القلب، لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، لأنه لمَا تراكم عليه الصدأ أظلم، فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه.
فإذا تراكم عليه الصدأ واسود، ركبه الران، فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقًا، ولا ينكر باطلاً. وهذا أعظم عقوبات القلب. وأصل ذلك من الغفلة، واتباع الهوى، فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره.
قال تعالى: [FONT="]}وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[FONT="]{[/FONT] [الكهف: 28].[/FONT]
فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر: هل هو من أهل الذكر، أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة، وأمره فرط، لم يقتد به، ولم يتبعه فإنه يقوده إلى الهلاك.
ومعنى الفرط قد فسر بالتضييع، أي: أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به وبه رشده وفلاحه ضائع قد فرط فيه، وفسر بالإسراف، أي: قد أفرط، وفسر بالهلاك، وفسر بالخلاف للحق. وكلها أقوال متقاربة.
والمقصود أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات، فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه، فإن وجده كذلك فليبعد عنه، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى واتباع السنة، وأمره غير مفروط عليه، بل هو حازم في أمره، فليتمسك بعروته، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالذكر، فمثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه، كمثل الحي الميت.
وفي (المسند) مرفوعًا: «اكثروا من ذكر الله تعالى حتى يقال مجنون»([13]).
* * *
[FONT="]
[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref1[FONT="]([FONT="][1][/FONT])[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]رواه البخاري مرفوعًا.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref2[FONT="]([FONT="][2][/FONT])[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]رواه أحمد وصححه الألباني.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref3[FONT="]([FONT="][3][/FONT])[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]رواه مسلم.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref4[FONT="]([FONT="][4][/FONT])[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]رواه أبو داود وأحمد وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref5[FONT="]([FONT="][5][/FONT])[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]رواه الترمذي وصححه الألباني (رحمه الله).[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref6[FONT="]([FONT="][6][/FONT])[/FONT][FONT="] رواه الترمذي وفي إسناده ضعف.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref7[FONT="]([FONT="][7][/FONT])[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]رواه البخاري ومسلم.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref8[FONT="]([FONT="][8][/FONT])[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]رواه الترمذي وأحمد وضعفه الألباني.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref9[FONT="]([FONT="][9][/FONT])[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]رواه البيهقي بأسانيد أحدهما جيد.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref10[FONT="]([FONT="][10][/FONT])[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]رواه الترمذي وقال حسن غريب.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref11[FONT="]([FONT="][11][/FONT])[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]رواه ابن حبان والطبراني وابن أبي الدنيا وهو حسن.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref12[FONT="]([FONT="][12][/FONT])[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]ذكره المنذري في الترغيب وزاد نسبته لابن أبي الدنيا وإسناده ضعيف.[/FONT]
http://www.djelfa.info/vb/newreply.php?do=postreply&t=1853351#_ftnref13[FONT="]([FONT="][13][/FONT])[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]رواه أحمد في المسند وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة.[/FONT]