شيئا ليس كمثله في التاريخ - رواية قصيرة
أردت أن أكتب شيئا لـم يسبقني إليه أحد .. هذا ما كنت أفكــر به .. كتابٌ يجعل من يمسكون الأقلام يرون أنفسهم دونً عني .. كتابً يخلدُ على رفوف المكتبات والجامعات .. كتابٌ يُترجم إلى كل اللغــات .. كتابٌ يصيب الــقارئ بالقشعريــرة .. كتابٌ يجعل الجميع يتساءل من أنــا ؟ وكيف عشت وأعيش ؟ وكيف أفكــر وما هي نظرتي للحياة ؟
كتــابٌ تتسابق فيه مؤسسات النشر لطباعة بقية ما يختزله قلمي وتجود به مخيلتي .. كتابٌ يكسرُ حاجز الأرقام القياسية التي سجلت من قبل .. كتابٌ أثار الجدل والبلابل لدى شعوب الأرض .. كتابٌ جعل الأدباء يشعرون بالخطر .. شيئــا لـم يقرأ مثله أحدا من قبل .. شيئا لـم يُرى كمثله في التاريخ .. شيئا لأول مــرة .. كتابٌ ينتشلني من القاع ويرفعـــني إلى القمــة .. كتابٌ يجعلني أكــون ما أريد .. وأفعل ما أريد .. وأكتب ما أريد ولا يجادلــني أحد لأنني صاحب ذلك الكــتاب الذي أثــار الأدب على أصحابه .. لأنني ببساطة من كتبته .. كتبتُ ذلك العمــل الذي غير وجه التاريخ إلى الأبد .
ولكن ما هذا الكتاب الذي أردتُ أن أكتبــه وعشتُ الحلــم فيه ؟
وهل كتبتهُ أم لا ؟
وهل نــشر أم لا ؟
هل قرأهُ أحد أم لا ؟
وإلى أي أقسام الأدب ينتمــي ؟
هل هو رواية ؟
أم مجموعة قـــصص ؟
أم شعــر أم نــثر ؟
أم كتابُ ســيرة ؟
أم كتاب تحــقيق وجرائم ؟
أم كتاب تاريخ ؟
أم كتاب دراسة وبحث وعلــم وطب وحيوان ؟
أم كتاب رعب وغموض ؟
أم مجــرد شيئا على ورق ؟
- فمــا هذا الكتــاب ..؟
هكذا كان يفكــر زهير طوال الليل وهو أمام الــورقة يجلسُ تائها متحــيرا لا يدري ماذا يكتبُ ؟ وعن ماذا ؟ كل تفكيره كان منصبــا على كتاب سينتهــي منه هذه الليلة وسيغير وجه التاريخ , كان يتعاطى الحشيــش ويستنشق قليلا من الــهيرويــن ويحك أطراف أنفــه منغمســا في خيالاتـه وجنون الــعظمة التي أصابته .. ولكن كيف يكتب ! وكيف يقلِبُ موازين التاريخ للأبد ! فلــم يسبق لــه أن كتب شيء ! ولـم يسبق له أن نجح في شيء ! ولـم يسبق له أن فعــل شيء !
ولكن عقلــه ذهب بعيدا هذه الليلة وظنهــا تختلفُ عن كل ليلة .. ظن ذلك السيناريو حقيقة ستحدث لا جدال .. ظــن أفكاره لا تخدعه كما كل مرة .. ظن الجميع سيصفقون له نهــاية الأمر صاغرين .. ظن كل من في المجتمــع الذي يعيشه سينادونه بالكاتب لا المدمــن .. بالفيلسوف لا الجاهل .. بالأستاذ لا الفــاشل .. بمــن غير التــاريخ لا من رُمي في مزابلهـــا .
كان يشاهد هذا السيناريو أمامه رؤى الــعين .. يعيش كل التــفاصيل بداخله .. يشعــر بالنجاح في وجدانه ويسمعُ تصفيق الجماهـــير لـه وتصفيق أسرته لأنه رفع رأســـهم عاليا , كان يشاهد الطوابير مصطفة قبالته في المعــرض ينتظــرون منه مجرد توقيع , كان يتخـيل بأنـــهم ينادونه فائزا في حفل توزيع جوائز الأدب بـــفرق شاسع عمن يليه , كان شيئا لا يُقـــارن .. شيئا عظيما يجعل البقية سفهاء .. طويلا يجعل من البقية أقزام .
يعيش تلك النشوة منجرفــا معهــا حد الأنغمــاس , نشوة لــم يمر بمراحل مثلهــا في كل لياليه , نشوة الــواقع لا المخدر .. نشوة المستقبل السعيد لا الماضي التعيس .. نشوة يعيشها حقيقة لا حلــم , ينهــضُ من كرسيه تارة ويرفع يده يلوح بهــا لمــن أمامه من جمهور في المسرح أتوا خصيصا لــه .. وتـــارة يجلس يتخيل نفسه في مقابلة تلفزيونية يخبرهــم قصــصا جرت عليه .. يسرد لــهم حكاياته مع القلـــم .. وتــارة ثالثة يتلفتُ يمينــا شمالا يتبسم في وجه أسرتــه التي راحت تتودد إليه وتتقرب منه بعدمــا باعوه بسعــر التراب ولــم يبكوا عليه بسبب أدمانــه وضياعه .
مسك القلـم أراد أن يكتب .. فكـــر وفكر ولم يستطع فلــم يعرف كيف يبدأ ومــن أين ؟يحاول بشتى الطــرق ويعصر كل أفكارً بداخله ليكتب ! فلا شيء ,لــم يقدر على ذلك , يقوم من مكانه ويداور في غرفته المستأجرة ويحــك رأسه يشعر بأن هناك فكـرة عظيمة ستأتــي .. فكــرة لـم يسبقهُ إليهــا أحد , ولكن الدقائق تمــر والــورقة بيضاء على حالــــها لــم يمسهــا حبر .. يريد أن يكتب ولكــن لا شيء , فهو ليس كاتب ولكن المخــدر أقنعه بعكس ذلك فصدق الفكــرة وظل متمسكا بـــها ممسكا بالقلــم لا ينوي تــركه حتى يملء الــورقة التي ستغير مجرى التــاريخ في ظنه .
أستـعان بالموسيقى لتساعده في تلك الأجواء أكثر .. راح يستمع إلى ذلك اللحـــن القاتل الذي يجعـــل الدم يفور في الجسد .. لحنــا يُجبِرُك أن تسير وراء نغمــاته .. لحنا يبحــر بك في العمـــق .. لحنا يجعلك تُشاهد عالـــمً خياليً يغطيه الـــضباب من كل جانب .. لحنا لا يرحـــم الآذان ولا يشفق على الــوتر .. لحنا يُدقدِقُ المشاعـــر حد الجنـــون .
بعد أنقضــاء نصف ساعة في غرفته منعـــزلٌ بداخلــها عن كل أحد في الخارج لا يريد أن يختلــط بــهم لكي لا يرونــه معتوهــا في حالة أدمانه ويشمتون به أو يسلمونه إلى رجال الشرطة أو يفتعلون مشاكل معــه وتنتهي بمأســاة يكــون هو الــضحية حتى لو كان المجنــي عليه , وبعد كل هذا الــوقت وهو ممسكٌ بالقلــم يطارد الحلــم وتأليــف ما سيهــزُ العالــم أحس بأن هناك فكــرة قد طرأت على بالــــه لــربمــا تكون مناسبةً جدا لكتابــة قصة .
جلس على الكرسي والطاولة يطقطق أصابعه ,أمسك القلــم وقبل أن يكتب شيئا راح يشابك خيوط الأحداث في القصة , يخاطب نفسه :
- الحكاية هي عن فتاة غنية جميلة تبحث عن مغامرة لتشبع بهـــا فضولـــها وتسد وقت فراغهـــا.. تجد شخصــا مجــرمً قاتــلً مأجور ترى فيه خلاصهــا .. ترى فيه حلمهــا .. ترى فيه شيئا لــم تره بقية النساء .. حتى وصل بها الأمـــر في النهاية أن يقوم بقتلهــا بعدما تأمره بذلك لتشعر بما يشعر به الضحايــــا , هكذا تكون القصة جيدة .. وأيضا سأضيف بعض الأحداث في الــوسط لتكون الحبكة مؤلـــــمة!
فكـــر قليلا :
- ولكن أي عنـــوان أطلقه على الحكاية! حسنــا دعنا نرى ... العنوان يكون "القاتل والجميلة" ... لا لا يبدو الأسم تكـــرر كثيرا , أريد شيئا يهــز الوجدان! لماذا لا أكتبهــا وفيما بعد سنرى الــعنوان ماذا يكون؟
وقبل أن يبدأ .. جاءت في باله فكــرة عنوانً أستوقفه :
- بئسا! ماذا لو أسميتهــا "الضحية أمـــرتني بذلك"؟ يبدو جيدا ومؤثـــر للغاية وعميق .
بعد أن أنهـــى عنوان الحكاية التي لــم يبدأها بعد .... كتب الــقصة :
(الضحية أمرتني بذلك) -
كان القاتل المأجور جالسا في شقته ينظف سلاحه .. وفجأة طـــرق الباب .. قـــام وفتحه بعدما نظر من الثقب ورأى فتاة أجمل من أجمل ما رأى , شعرهــا أحمر اللون وقصير وتلون شفاهـــها بـــالأزرق , سألــــها مباشرة :
- ماذا تريدين ؟
الفتاة :
- أبحث عن قاتـــــل مأجور , وأنشدوني إليك !
حديثها جعله يشعر بالخوف بأن تكون من ضمن رجال الشرطة المتخفين , قال :
- لكنني لست بقاتل , لست من تبحثين عنه ؟
الفتاة كانت مصرة على تحقيق حلمهــــا :
- بلى , بلى أنت الرجل المنشود الذي أريد , هيا دعني أدخل , لا تخف لست من الشرطة !
القاتل :
- أسمعيني جيدا يا فتاة , لسنا نمثل فيلماً هنــــا, هيا أذهبـــي ولا أريد رؤيتك عند عتبة الباب ثانية وألا تصرفت معك بتصرف لا يليـــــق .
الفتاة لــم تتمالك دموعها , أجابته باكية :
- أتوسل إليك بأن تدعني أدخل وأعيش حياتك , ولك ما تريد منــــي !
ألا أن الــــقاتل شعر بأن هناك أمـــر مريب في هذه الفتاة فقـــام بطردها بالقوة رغم أصرارها على الدخول , ولكنه قام بجُـــرها في ممر الشــقق حتى أخرجها من البناية باكية محطمـــة لضياع حلمهـــا !
توقف زهير من كتابته قليلا والدموع في عينيه يعيش الأحداث بنفسه ويشعر بمرارة الفتاة بعد طردهـــا , قــام من محله وراح يدخن حشيشً وينظـر إلى الــورقة التي كتب فيــها بعضا مما يظنه أدب سيغير التاريخ للأبد , يقـــرأ مقدمة القصة مرة ومرتين .. يخاطب ذاته :
- هذه قصة قصيرة! ولكنهــا لــم تكتمل بعد , فلا تكفـي لصفحتين في كتاب ؟ ثم أنهــا باردة وسطحية , يجب أن تكون عميقة ومؤلـــمة ؟
- ممممم .. حسنا , ماذا لو كتبتُ بأنهـــا أخذت السلاح من يده وأطلقت النار عليه وأردته قتيلا وهي تبتســم .. هكذا يبدو أنها أفضل من البداية الأولى .
رجع إلى الطاولة .. أمسك بالقلــم لتغيير الأحداث لتصبح أكثر ألــم ووجع .. ولكن قبل أن يكتب حـرف واحد فجـــأة طُــرق باب شقته! أنتابه فــزع .. بدا مرتعبا .. حائرا .. أصابته رهبة لــم يحس بمثلها من قبل , اطفأ ما بيده وخبـــأ مواده المخدرة والباب لا زال يدق وهو لا يجيب , يتساءل بداخله :
- ويحي!
- مـــن هذا ؟
- هل هي الشرطة ؟
- لـــربما هو أحد الــرفاق ؟
- من الذي سيأتي في مثل هذا الوقت ؟
في لحظات تفكيره وصمته فلم يرد على الطــارق لعله يــغادر .. ألا أن ذاك لــم يحدث , بل أن الباب أزداد طــرقا أكثر من ذي قبل وكأن من خلفه يريد دخول شقة زهير عنوة , وبعد دقائق من سكونه صاح لــمن في الخارج :
- من الطــارق ؟
فلــم يجبه أحد ,والباب لــم يتوقف ضجيجه الذي هـــز جدران المكان بأسره وهـــز قلب زهير وقلب عالمـــه المقلوب أصلا على عقبيه , فصاح فيه ثانية :
- من أنت يا هذا ؟
- وماذا تريد ؟
- إذ لــم تجبني فلــن أفتح ؟
لــم يأتيه أي جواب .. رهبة أجتاحته جعلت ركبتاه تصطكان ببعضهما , لا يدري أين الطـريق المؤدي إلى الخارج لشدة خوفه , والباب لــم يكن به ثقبا لينظر منه ويعــرف من أرعبه في الخارج , وبين هذا وذاك إذ بــه يسمع صوت فتاة تقول لــه :
- أفتح الباب أرجوك .
- أفتح الباب أنني أبحث عنك ؟
دخل دوامة ما أنفك يخرج منها وهو تحت تأثير المخدر , قــرر أخيرا وبعد كثيرا من الــفزع والتردد وقليلا من الفضول أن يفتح الباب , لملم شتات نفسه التي تبعثرت في كل الأرجاء والنهــاية فــــتح لــها ولكنه لـم يدعها تدخل !
لــم تنفك الــغرابة من أمام عينيه تغادر حتى رأى الفتـــاة وأحتار في أمرها أكثر من كل ما يحصل له .. يسأل في نفسه اسئلة وهو يبتلع أنفاسه التي سُدت :
- تبــا !
- الفتاة , أنها الفتاة في القصة ؟
- هذه هي , أقسم بمن أحل القسم هي لا غيرها .
- شعرهــا أحمر اللون وقصير ولـــون شفاهـــها أزرق .
- ويحي !
- ما الذي يجــري ؟
- هل هي أنسٌ أم جـــــان ؟
- حقيقة أم شخصية في قصة ؟
- اللعنة , ما العمــل وما الحل لهذه المعضلة ؟
- كيف حدث هذا ؟
سألـــها :
- من أنتي ؟
أجابته :
- أنني أبحث عن قاتل مأجور , فأخبروني بأنك كذلك !
وكأن قنبلة هيروشيما سقطت فوق رأسه بعدما سمع ورأى ما هو أمامه , يمعن النظر بها جيدا .. يمينا شمالا .. مصدقا مكذبا .. مرتين وثلاث .. لوهلة فكـر مسترجعا أحداث قصته التي أنهاها لـــتو .. راح يهمس في نفسه :
- سحقــا!
- ما هذا ؟
- هل هي خدعة لعينة أم صدفة ؟
- خيال أم واقع ؟
- هل هــي من أظنهــا حقــا ؟
- أهي الفتاة في القصة بالفعل ؟
- لكن كيف ؟
- لا , لا , قد يكون مجـــرد ألتبــاس لا غير ؟
قاطعت حواره ووساوسه التي تكاد تطـــــيرُ بعقله , سألته :
- هل لي بشربة من المـــــاء ؟
زهير :
- نعـــم , نعم .
ومع هذه الــهواجس التي لــم يرها زهير حتى كابوسا من قبل ولــم يتخيلها في أغرب عوالم حالته التخديرية وأقوى ما يتعاطاه , بل هي قصة كتبهــا بنفسه لــم يفهمهــا , ذهب إلى مطبخه بخطواته الثقيلة وأحضر لــها كأسً من المـــاء وعندما وصل الباب لـــم يجدهـــا !
بيده ضرب جبهته وعض شفتيه حيرة , يهمـــس بأسئلة عدة عله يكتشف أجابة شافية :
- أين أختفت ؟
- أين ذهبت ؟
- هل يتهيء لي ما جـــرى ؟
- ولكنني حادثتها ورأيتهـــا ؟
- يـــــاه , أكاد أفقد عقلي !
خــرج من الشقة يبحث عنهــا .. في ممرات البناية وفي الشارع يبحث .. ينظــر هنا ويلتفت هناك .. يسأل هذا ويستفسر من ذاك , لحظــــات حتى جاءت الشرطة وألقت القبض عليه بعدما أنتشر خــبرا عن أحدهم بأنه يثير الشكوك والريبة بتصرفاته .
وبعدما أدخلوه قسم الشرطة بدأ الضابط يحــقق معه .. يسأله وينتزع معلومات منه بعدما تبيــن له بأن زهير تحت تأثير الـــهيرويين ومواد أخرى , ألا أنه لــم يخرج بأية نتيجة .. لــم يفهم منه شيئا .. لــم يعرف بما يتمتم به .. فقط كان يتكلم ويتعتع عن فتاة زرقاء وأخرى حمـــراء وغيرها قد زارته في شقته بعدما كتبها قصة على ورق , علــم الضابط بأنه لم يعد يملك عقلا ولا فائدة منه .. فأستعدى طبيب نفسيا ليطلِع على وضعه الــعقلي وجعله يجلس معه , وبعدما أنتهـــى من جلست الأستماع إلى زهـــير خرج الطبيب من الغرفة , فسألــه المحــقق :
- أخبرني , ما هي حالته العقلية والذهنية ؟
- هل تصرفاته من تأثير المخدر , أم هناك سبب آخر يجعله يهـــذي ويتمتم ؟
الطبيب الذي راح يحك رأسه يفكــر قليلا ويفكــــــر , قال على أثـــــرها :
- في الحقيقة لا أدري ما تشخيص حالته , شيئا لأول مرة أراه .. شيئـــا ليس كمثله في التاريخ , لا أعرف تحت أي علــوم النفس يـُـدرج .. ولكن هل تصدقني حينما أخبرك بأن هذا الشاب سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه وسيغيره إلى الأبد !
المحقق :
- اللعنة , ولــما ؟
الطبيب :
- لأنه أول شخصـــا يُصاب بهذه الحالة .
قلم مضطرب
أردت أن أكتب شيئا لـم يسبقني إليه أحد .. هذا ما كنت أفكــر به .. كتابٌ يجعل من يمسكون الأقلام يرون أنفسهم دونً عني .. كتابً يخلدُ على رفوف المكتبات والجامعات .. كتابٌ يُترجم إلى كل اللغــات .. كتابٌ يصيب الــقارئ بالقشعريــرة .. كتابٌ يجعل الجميع يتساءل من أنــا ؟ وكيف عشت وأعيش ؟ وكيف أفكــر وما هي نظرتي للحياة ؟
كتــابٌ تتسابق فيه مؤسسات النشر لطباعة بقية ما يختزله قلمي وتجود به مخيلتي .. كتابٌ يكسرُ حاجز الأرقام القياسية التي سجلت من قبل .. كتابٌ أثار الجدل والبلابل لدى شعوب الأرض .. كتابٌ جعل الأدباء يشعرون بالخطر .. شيئــا لـم يقرأ مثله أحدا من قبل .. شيئا لـم يُرى كمثله في التاريخ .. شيئا لأول مــرة .. كتابٌ ينتشلني من القاع ويرفعـــني إلى القمــة .. كتابٌ يجعلني أكــون ما أريد .. وأفعل ما أريد .. وأكتب ما أريد ولا يجادلــني أحد لأنني صاحب ذلك الكــتاب الذي أثــار الأدب على أصحابه .. لأنني ببساطة من كتبته .. كتبتُ ذلك العمــل الذي غير وجه التاريخ إلى الأبد .
ولكن ما هذا الكتاب الذي أردتُ أن أكتبــه وعشتُ الحلــم فيه ؟
وهل كتبتهُ أم لا ؟
وهل نــشر أم لا ؟
هل قرأهُ أحد أم لا ؟
وإلى أي أقسام الأدب ينتمــي ؟
هل هو رواية ؟
أم مجموعة قـــصص ؟
أم شعــر أم نــثر ؟
أم كتابُ ســيرة ؟
أم كتاب تحــقيق وجرائم ؟
أم كتاب تاريخ ؟
أم كتاب دراسة وبحث وعلــم وطب وحيوان ؟
أم كتاب رعب وغموض ؟
أم مجــرد شيئا على ورق ؟
- فمــا هذا الكتــاب ..؟
هكذا كان يفكــر زهير طوال الليل وهو أمام الــورقة يجلسُ تائها متحــيرا لا يدري ماذا يكتبُ ؟ وعن ماذا ؟ كل تفكيره كان منصبــا على كتاب سينتهــي منه هذه الليلة وسيغير وجه التاريخ , كان يتعاطى الحشيــش ويستنشق قليلا من الــهيرويــن ويحك أطراف أنفــه منغمســا في خيالاتـه وجنون الــعظمة التي أصابته .. ولكن كيف يكتب ! وكيف يقلِبُ موازين التاريخ للأبد ! فلــم يسبق لــه أن كتب شيء ! ولـم يسبق له أن نجح في شيء ! ولـم يسبق له أن فعــل شيء !
ولكن عقلــه ذهب بعيدا هذه الليلة وظنهــا تختلفُ عن كل ليلة .. ظن ذلك السيناريو حقيقة ستحدث لا جدال .. ظــن أفكاره لا تخدعه كما كل مرة .. ظن الجميع سيصفقون له نهــاية الأمر صاغرين .. ظن كل من في المجتمــع الذي يعيشه سينادونه بالكاتب لا المدمــن .. بالفيلسوف لا الجاهل .. بالأستاذ لا الفــاشل .. بمــن غير التــاريخ لا من رُمي في مزابلهـــا .
كان يشاهد هذا السيناريو أمامه رؤى الــعين .. يعيش كل التــفاصيل بداخله .. يشعــر بالنجاح في وجدانه ويسمعُ تصفيق الجماهـــير لـه وتصفيق أسرته لأنه رفع رأســـهم عاليا , كان يشاهد الطوابير مصطفة قبالته في المعــرض ينتظــرون منه مجرد توقيع , كان يتخـيل بأنـــهم ينادونه فائزا في حفل توزيع جوائز الأدب بـــفرق شاسع عمن يليه , كان شيئا لا يُقـــارن .. شيئا عظيما يجعل البقية سفهاء .. طويلا يجعل من البقية أقزام .
يعيش تلك النشوة منجرفــا معهــا حد الأنغمــاس , نشوة لــم يمر بمراحل مثلهــا في كل لياليه , نشوة الــواقع لا المخدر .. نشوة المستقبل السعيد لا الماضي التعيس .. نشوة يعيشها حقيقة لا حلــم , ينهــضُ من كرسيه تارة ويرفع يده يلوح بهــا لمــن أمامه من جمهور في المسرح أتوا خصيصا لــه .. وتـــارة يجلس يتخيل نفسه في مقابلة تلفزيونية يخبرهــم قصــصا جرت عليه .. يسرد لــهم حكاياته مع القلـــم .. وتــارة ثالثة يتلفتُ يمينــا شمالا يتبسم في وجه أسرتــه التي راحت تتودد إليه وتتقرب منه بعدمــا باعوه بسعــر التراب ولــم يبكوا عليه بسبب أدمانــه وضياعه .
مسك القلـم أراد أن يكتب .. فكـــر وفكر ولم يستطع فلــم يعرف كيف يبدأ ومــن أين ؟يحاول بشتى الطــرق ويعصر كل أفكارً بداخله ليكتب ! فلا شيء ,لــم يقدر على ذلك , يقوم من مكانه ويداور في غرفته المستأجرة ويحــك رأسه يشعر بأن هناك فكـرة عظيمة ستأتــي .. فكــرة لـم يسبقهُ إليهــا أحد , ولكن الدقائق تمــر والــورقة بيضاء على حالــــها لــم يمسهــا حبر .. يريد أن يكتب ولكــن لا شيء , فهو ليس كاتب ولكن المخــدر أقنعه بعكس ذلك فصدق الفكــرة وظل متمسكا بـــها ممسكا بالقلــم لا ينوي تــركه حتى يملء الــورقة التي ستغير مجرى التــاريخ في ظنه .
أستـعان بالموسيقى لتساعده في تلك الأجواء أكثر .. راح يستمع إلى ذلك اللحـــن القاتل الذي يجعـــل الدم يفور في الجسد .. لحنــا يُجبِرُك أن تسير وراء نغمــاته .. لحنا يبحــر بك في العمـــق .. لحنا يجعلك تُشاهد عالـــمً خياليً يغطيه الـــضباب من كل جانب .. لحنا لا يرحـــم الآذان ولا يشفق على الــوتر .. لحنا يُدقدِقُ المشاعـــر حد الجنـــون .
بعد أنقضــاء نصف ساعة في غرفته منعـــزلٌ بداخلــها عن كل أحد في الخارج لا يريد أن يختلــط بــهم لكي لا يرونــه معتوهــا في حالة أدمانه ويشمتون به أو يسلمونه إلى رجال الشرطة أو يفتعلون مشاكل معــه وتنتهي بمأســاة يكــون هو الــضحية حتى لو كان المجنــي عليه , وبعد كل هذا الــوقت وهو ممسكٌ بالقلــم يطارد الحلــم وتأليــف ما سيهــزُ العالــم أحس بأن هناك فكــرة قد طرأت على بالــــه لــربمــا تكون مناسبةً جدا لكتابــة قصة .
جلس على الكرسي والطاولة يطقطق أصابعه ,أمسك القلــم وقبل أن يكتب شيئا راح يشابك خيوط الأحداث في القصة , يخاطب نفسه :
- الحكاية هي عن فتاة غنية جميلة تبحث عن مغامرة لتشبع بهـــا فضولـــها وتسد وقت فراغهـــا.. تجد شخصــا مجــرمً قاتــلً مأجور ترى فيه خلاصهــا .. ترى فيه حلمهــا .. ترى فيه شيئا لــم تره بقية النساء .. حتى وصل بها الأمـــر في النهاية أن يقوم بقتلهــا بعدما تأمره بذلك لتشعر بما يشعر به الضحايــــا , هكذا تكون القصة جيدة .. وأيضا سأضيف بعض الأحداث في الــوسط لتكون الحبكة مؤلـــــمة!
فكـــر قليلا :
- ولكن أي عنـــوان أطلقه على الحكاية! حسنــا دعنا نرى ... العنوان يكون "القاتل والجميلة" ... لا لا يبدو الأسم تكـــرر كثيرا , أريد شيئا يهــز الوجدان! لماذا لا أكتبهــا وفيما بعد سنرى الــعنوان ماذا يكون؟
وقبل أن يبدأ .. جاءت في باله فكــرة عنوانً أستوقفه :
- بئسا! ماذا لو أسميتهــا "الضحية أمـــرتني بذلك"؟ يبدو جيدا ومؤثـــر للغاية وعميق .
بعد أن أنهـــى عنوان الحكاية التي لــم يبدأها بعد .... كتب الــقصة :
(الضحية أمرتني بذلك) -
كان القاتل المأجور جالسا في شقته ينظف سلاحه .. وفجأة طـــرق الباب .. قـــام وفتحه بعدما نظر من الثقب ورأى فتاة أجمل من أجمل ما رأى , شعرهــا أحمر اللون وقصير وتلون شفاهـــها بـــالأزرق , سألــــها مباشرة :
- ماذا تريدين ؟
الفتاة :
- أبحث عن قاتـــــل مأجور , وأنشدوني إليك !
حديثها جعله يشعر بالخوف بأن تكون من ضمن رجال الشرطة المتخفين , قال :
- لكنني لست بقاتل , لست من تبحثين عنه ؟
الفتاة كانت مصرة على تحقيق حلمهــــا :
- بلى , بلى أنت الرجل المنشود الذي أريد , هيا دعني أدخل , لا تخف لست من الشرطة !
القاتل :
- أسمعيني جيدا يا فتاة , لسنا نمثل فيلماً هنــــا, هيا أذهبـــي ولا أريد رؤيتك عند عتبة الباب ثانية وألا تصرفت معك بتصرف لا يليـــــق .
الفتاة لــم تتمالك دموعها , أجابته باكية :
- أتوسل إليك بأن تدعني أدخل وأعيش حياتك , ولك ما تريد منــــي !
ألا أن الــــقاتل شعر بأن هناك أمـــر مريب في هذه الفتاة فقـــام بطردها بالقوة رغم أصرارها على الدخول , ولكنه قام بجُـــرها في ممر الشــقق حتى أخرجها من البناية باكية محطمـــة لضياع حلمهـــا !
توقف زهير من كتابته قليلا والدموع في عينيه يعيش الأحداث بنفسه ويشعر بمرارة الفتاة بعد طردهـــا , قــام من محله وراح يدخن حشيشً وينظـر إلى الــورقة التي كتب فيــها بعضا مما يظنه أدب سيغير التاريخ للأبد , يقـــرأ مقدمة القصة مرة ومرتين .. يخاطب ذاته :
- هذه قصة قصيرة! ولكنهــا لــم تكتمل بعد , فلا تكفـي لصفحتين في كتاب ؟ ثم أنهــا باردة وسطحية , يجب أن تكون عميقة ومؤلـــمة ؟
- ممممم .. حسنا , ماذا لو كتبتُ بأنهـــا أخذت السلاح من يده وأطلقت النار عليه وأردته قتيلا وهي تبتســم .. هكذا يبدو أنها أفضل من البداية الأولى .
رجع إلى الطاولة .. أمسك بالقلــم لتغيير الأحداث لتصبح أكثر ألــم ووجع .. ولكن قبل أن يكتب حـرف واحد فجـــأة طُــرق باب شقته! أنتابه فــزع .. بدا مرتعبا .. حائرا .. أصابته رهبة لــم يحس بمثلها من قبل , اطفأ ما بيده وخبـــأ مواده المخدرة والباب لا زال يدق وهو لا يجيب , يتساءل بداخله :
- ويحي!
- مـــن هذا ؟
- هل هي الشرطة ؟
- لـــربما هو أحد الــرفاق ؟
- من الذي سيأتي في مثل هذا الوقت ؟
في لحظات تفكيره وصمته فلم يرد على الطــارق لعله يــغادر .. ألا أن ذاك لــم يحدث , بل أن الباب أزداد طــرقا أكثر من ذي قبل وكأن من خلفه يريد دخول شقة زهير عنوة , وبعد دقائق من سكونه صاح لــمن في الخارج :
- من الطــارق ؟
فلــم يجبه أحد ,والباب لــم يتوقف ضجيجه الذي هـــز جدران المكان بأسره وهـــز قلب زهير وقلب عالمـــه المقلوب أصلا على عقبيه , فصاح فيه ثانية :
- من أنت يا هذا ؟
- وماذا تريد ؟
- إذ لــم تجبني فلــن أفتح ؟
لــم يأتيه أي جواب .. رهبة أجتاحته جعلت ركبتاه تصطكان ببعضهما , لا يدري أين الطـريق المؤدي إلى الخارج لشدة خوفه , والباب لــم يكن به ثقبا لينظر منه ويعــرف من أرعبه في الخارج , وبين هذا وذاك إذ بــه يسمع صوت فتاة تقول لــه :
- أفتح الباب أرجوك .
- أفتح الباب أنني أبحث عنك ؟
دخل دوامة ما أنفك يخرج منها وهو تحت تأثير المخدر , قــرر أخيرا وبعد كثيرا من الــفزع والتردد وقليلا من الفضول أن يفتح الباب , لملم شتات نفسه التي تبعثرت في كل الأرجاء والنهــاية فــــتح لــها ولكنه لـم يدعها تدخل !
لــم تنفك الــغرابة من أمام عينيه تغادر حتى رأى الفتـــاة وأحتار في أمرها أكثر من كل ما يحصل له .. يسأل في نفسه اسئلة وهو يبتلع أنفاسه التي سُدت :
- تبــا !
- الفتاة , أنها الفتاة في القصة ؟
- هذه هي , أقسم بمن أحل القسم هي لا غيرها .
- شعرهــا أحمر اللون وقصير ولـــون شفاهـــها أزرق .
- ويحي !
- ما الذي يجــري ؟
- هل هي أنسٌ أم جـــــان ؟
- حقيقة أم شخصية في قصة ؟
- اللعنة , ما العمــل وما الحل لهذه المعضلة ؟
- كيف حدث هذا ؟
سألـــها :
- من أنتي ؟
أجابته :
- أنني أبحث عن قاتل مأجور , فأخبروني بأنك كذلك !
وكأن قنبلة هيروشيما سقطت فوق رأسه بعدما سمع ورأى ما هو أمامه , يمعن النظر بها جيدا .. يمينا شمالا .. مصدقا مكذبا .. مرتين وثلاث .. لوهلة فكـر مسترجعا أحداث قصته التي أنهاها لـــتو .. راح يهمس في نفسه :
- سحقــا!
- ما هذا ؟
- هل هي خدعة لعينة أم صدفة ؟
- خيال أم واقع ؟
- هل هــي من أظنهــا حقــا ؟
- أهي الفتاة في القصة بالفعل ؟
- لكن كيف ؟
- لا , لا , قد يكون مجـــرد ألتبــاس لا غير ؟
قاطعت حواره ووساوسه التي تكاد تطـــــيرُ بعقله , سألته :
- هل لي بشربة من المـــــاء ؟
زهير :
- نعـــم , نعم .
ومع هذه الــهواجس التي لــم يرها زهير حتى كابوسا من قبل ولــم يتخيلها في أغرب عوالم حالته التخديرية وأقوى ما يتعاطاه , بل هي قصة كتبهــا بنفسه لــم يفهمهــا , ذهب إلى مطبخه بخطواته الثقيلة وأحضر لــها كأسً من المـــاء وعندما وصل الباب لـــم يجدهـــا !
بيده ضرب جبهته وعض شفتيه حيرة , يهمـــس بأسئلة عدة عله يكتشف أجابة شافية :
- أين أختفت ؟
- أين ذهبت ؟
- هل يتهيء لي ما جـــرى ؟
- ولكنني حادثتها ورأيتهـــا ؟
- يـــــاه , أكاد أفقد عقلي !
خــرج من الشقة يبحث عنهــا .. في ممرات البناية وفي الشارع يبحث .. ينظــر هنا ويلتفت هناك .. يسأل هذا ويستفسر من ذاك , لحظــــات حتى جاءت الشرطة وألقت القبض عليه بعدما أنتشر خــبرا عن أحدهم بأنه يثير الشكوك والريبة بتصرفاته .
وبعدما أدخلوه قسم الشرطة بدأ الضابط يحــقق معه .. يسأله وينتزع معلومات منه بعدما تبيــن له بأن زهير تحت تأثير الـــهيرويين ومواد أخرى , ألا أنه لــم يخرج بأية نتيجة .. لــم يفهم منه شيئا .. لــم يعرف بما يتمتم به .. فقط كان يتكلم ويتعتع عن فتاة زرقاء وأخرى حمـــراء وغيرها قد زارته في شقته بعدما كتبها قصة على ورق , علــم الضابط بأنه لم يعد يملك عقلا ولا فائدة منه .. فأستعدى طبيب نفسيا ليطلِع على وضعه الــعقلي وجعله يجلس معه , وبعدما أنتهـــى من جلست الأستماع إلى زهـــير خرج الطبيب من الغرفة , فسألــه المحــقق :
- أخبرني , ما هي حالته العقلية والذهنية ؟
- هل تصرفاته من تأثير المخدر , أم هناك سبب آخر يجعله يهـــذي ويتمتم ؟
الطبيب الذي راح يحك رأسه يفكــر قليلا ويفكــــــر , قال على أثـــــرها :
- في الحقيقة لا أدري ما تشخيص حالته , شيئا لأول مرة أراه .. شيئـــا ليس كمثله في التاريخ , لا أعرف تحت أي علــوم النفس يـُـدرج .. ولكن هل تصدقني حينما أخبرك بأن هذا الشاب سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه وسيغيره إلى الأبد !
المحقق :
- اللعنة , ولــما ؟
الطبيب :
- لأنه أول شخصـــا يُصاب بهذه الحالة .
قلم مضطرب