عمر الحاج مسعود
دامت الحروب الصليبية قرنين إلا ثماني سنوات، يوقد نارها ويشعل فتيلها ويدعو إليها الباباوات ويحرضون ملوك أوربا وشعوبها على قتال المسلمين، وتخليص الأرض المقدسة من أيديهم ويباركون المجازر التي يقوم بها الإفرنج، ويحتفلون ـ بكل قوة ونشاط ـ بسقوط أرض الإسلام في أيديهم.
جاء في تاريخ الباباوات موقف البابا كاليستيوس الثالث الذي ارتقى كرسي البابوية وهو في سن الثمانين، ومع ذلك لم يكن له همٌّ إلا إثارة النصارى على المسلمين، وفي سنة 1456م بنى أسطولا بحريا خمسا وعشرين سفينة حربية ودعا ملوك النصارى للالتحاق به وشن الغارات على بلاد الإسلام(1).
لا يهدأ لهؤلاء بال، ولا يحلو لهم حال إلا إذا حاربوا الإسلام وفتكوا بأهله كلما أطفئت لهم نار أوقدوا أختها، وكلما فشلت لهم خطة هيئوا مثليها.
ومن نافلة القول: إن العدوان على الجزائر كان حلقة من حلقات تلك الحروب، فهدف فرنسا كان ـ أولا وقبل كل شيء ـ محاربة الإسلام وأهله وإدخالهم في النصرانية لتضمن أمنها واستقرارها، وتثبت بقاءها وسيطرتها؛ لأن المسلمين ظلوا يطاردونها، ويحاصرونها ويضايقون تجارها.
لقد جاء الاستعمار بحده وحديده وأقبل بخيله ورجله، حاملا العقائد النصرانية والتقاليد الأوربية، محاولا زعزعة عقيدة الجزائريين وأخلاقهم، جاهدا في طمس عروبتهم وأصالتهم، ساعيا في تقويض شخصيتهم ووحدتهم ولم يزل هذا دأبه وسعيه منذ وطئت قدمه هذا البلد الطيب وصدق الله إذ يقول: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾[البقرة:120]، ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ﴾[البقرة:217].
يقول محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله: «جاء الاستعمار الدنس الجزائر يحمل السيف والصليب، ذاك للتمكن وهذا للتمكين»(2)، وقال: «احتلال فرنسا للجزائر كان حلقة من الصليبية الأولى ولا غرابة في ذلك...»(3).
والدليل على ما ذكرنا:
1 ـ بناء الكنائس، وتخريب المساجد وهدمها وتحويل بعضها كنائس، لقد شيَّدت فرنسا كنيسة كبيرة تطل على البحر المعروفة باسم «السيدة الإفريقية» وحولت مسجد كتشاوة كنيسة وبارك البابا هذا العمل، قال الإبراهيمي: «حولت بعض المساجد الكبرى كنائس وعمرتها برجال الكنيسة المسيحيين... وناهيك بمسجد كتشاوة العظيم الذي صيرته كاتدرائية عظمى في العاصمة»(4).
2 ـ تشجيع نابليون الثالث النشاط النصراني وتعيينُه الكردينال لافيجري رئيسا للنصارى في الجزائر، فنشط وسط الفقراء والأطفال والنساء، وبلغت جهوده أصقاع الصحراء.
وفي برنامجه التنصيري: «علينا أن نجعل من الأرض الجزائرية مهدا لدولة عظيمة مسيحية أعني بذلك فرنسا أخرى يسودها الإنجيل دينا وعقيدة»(5).
3 ـ تكوين لافيجري فرقة الآباء والأخوات البيض (Péres blancs) لتنصير الجزائريين، وكان نشاطها يرتكز على التعليم والتطبيب والخدمات الاجتماعية.
4 ـ تخريب المدارس العربية الإسلامية.
5 ـ استقدام عدد كبير من الرهبان والمعلمين والأطباء، فالراهب ينشر النصرانية ويشكك المسلمين في عقيدتهم، والمعلم يفسد العقول ويبعد الأمة عن لغتها ويشوه التاريخ ويزهِّد في الدين، والطبيب يداوي علة بعلل، ويقتل جرثومة بجراثيم(6).
6 ـ محاربة اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن ولسان الأمة، يقول مصطفى صادق الرافعي: «ولغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين، فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلا من لغته...»(7).
وقال الحاكم الفرنسي للجزائر في الاحتفال بمرور مائة سنة على الاحتلال: «إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون بالعربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم» (8).
يقولون هذا؛ لأن اللغة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون»(9).
7 ـ محاربة الوحدة الإسلامية التي تجمع بين العرب والبربر، فزرع الاستعمار الخلاف والشقاق بينهم وشحن أدمغة البربر بأنهم هم الأصليون في هذه الأرض، وأنَّ العرب ظلموهم وغصبوهم أرضهم(10).
هذه بعض الأدلّة التي تجعلنا موقنين بأن احتلال الجزائر ـ كما يقول الإبراهيمي ـ: «إنما هو قرن من الصليبية نجم، لا جيش من الفرنسيين هجم»(11).
ولا أدل على هذا من تصريح قادته واعترافهم ـ والاعتراف سيد الأدلة ـ، قال خطيب في الاحتفال بمرور مائة سنة من احتلال الجزائر: «ليس الداعي الأكبر لهذه المهرجانات هو الاحتفال بمرور مائة سنة على احتلالنا للجزائر... ولكن الباعث الأعظم على هذا هو أننا دعوناكم لتمشوا معنا في جنازة الإسلام بالجزائر»(12).
ثم إن الله جل وعلا سخَّر رجالا من أبناء هذه الأمة ردُّوا عدوانه، وكشفوا ضلاله، وزيفوا بهرجه وعلى رأسهم «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين»، فكانوا يواجهون مخططاته كل حين، ويجاهدونه صادقين، فخرج من الجزائر ذليلا حقيرا، وطرد منها خاسئا حسيرا؛ لكنه خلَّف وراءه ركاما من العقائد الباطلة والأخلاق القبيحة والعادات الفاسدة المخالفة للدين والخرافات المضحكة التي لا يؤمن بها إلا الأغبياء والمجانين، قال الإبراهيمي في أول صلاة جمعة بعد الاستقلال بمسجد كتشاوة التي أقيمت في اليوم الخامس من شهر جمادى الثانية سنة 1382 الموافق لـ 2/11/1962م، وهي خطبة مشهودة حضرها أركان الدولة وغيرهم: «يا معشر الجزائريين! إنَّ الاستعمار كالشَّيطان الذي قال فيه نبينا ﷺ: «إنَّ الشَّيطان قد يئس أن يُعبدَ في أرضِكُم هَذِه، ولكنَّه رضيَ أن يُطاعَ فيما دُون ذلكَ»، فهو قد خرج من أرضكم هذه، ولكنَّه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلُوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضَّرورة يقدَّرُ بقدرها»(13).
وفي هذه المقالة بيان وتوضيح لبعض ما خلَّفه الغزو الصَّليبي، أذكره نصحا للمسلمين وتنبيها للغافلين وحجة على المعاندين، وبيانا للأصل العظيم من أصول هذا الدين، وهو ترك التشبه بالكفار والمشركين، قال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون﴾[الجاثية:18]، وأهواؤهم ما هم عليه من الهوى والابتداع والباطل، وقال النبيُّ ﷺ: «مَنْ تَشَبَّه بقَوْمٍ فهُوَ مِنْهُم»(14)، واتفق أهل العلم ـ في الجملة ـ على أنه لا يجوز للمسلم أن يتشبه بالكافرين في لباسهم وهيئتهم وعبادتهم وأخلاقهم، مع وقوع الخلاف في بعض المسائل(15).
جاء في الشروط التي وضعها عمر رضي الله عنه لأهل الذمة واتفق عليها الصحابة والأئمة بعدهم ـ في الجملة ـ: «وأن نُوقِّر المسلمين...، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم...، ولا نتكلم بكلامهم...، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية...»(16).
وهذا التمييز يقتضي ترك التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين.
* أمثلة لما خلَّفه الغزو الصَّليبي:
1ـ اللُّغة:
حارب الاستعمار اللغة العربية وحاصر تعليمها وشجع اللهجة العامية ونشر اللغة الأجنبية، فغابت لغة القرآن، إلا قليلا.
عمل الغزو الصليبي عمله، وفرض شعاره، وجرت على الألسنة لغته وتعلق الناس بها وبأهلها، وصارت بعض الأشياء لا تعرف إلا بها، مثل: «سربيتة» منشفة، «لاري» محطة، «فرملي» ممرض، «شورت» تبان، «طابلة» طاولة، «ليكول» مدرسة.
فصارت اللغة الفرنسية ـ ولا تزال ـ هي الغالبة في المستشفيات والمصانع والمحلات، واللوحات والشعارات والإعلانات، وإنك لتمر بشارع ـ وهذا بعد مرور أكثر من أربعة عقود على الاستقلال ـ فترى أغلب ـ وربما كل ـ لوحات محلاته مرقومة بالفرنسية، وربّما كتبت تحتها العربية.
وهكذا تعظم الأشياء ـ عند الكثير من المنهزمين ـ إذا سميت باللغة الأجنبية.
2 ـ التَّأريخ:
لكل أمة تاريخ ترتبط وتعتز به، ويعتبر شعارا لها، وجزء من مقوماتها وقد اتفق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع الصحابة رضي الله عنهم على أن يكون التاريخ الإسلامي من عام الهجرة النبوية دون أن يحدثوا احتفالا أو عيدا، فقال لهم بعد المشاورة: «الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرِّخوا بها»، وذلك سنة سبع عشرة(17).
وهذا توفيقٌ من الله العزيز الوهَّاب للمُحَدَّث المُلْهَم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالشهر الهجري مرتبط بالهلال الذي تعرف به كثير من الأحكام الشرعيَّة مثل الصِّيام والحجِّ والعيد وعدَّة الطَّلاق وغير ذلك، قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾[البقرة:189].
إنَّ معرفة هذا التاريخ والاعتماد عليه اقتداء بعمل السلف الصالح، واعتزاز بثوابت الأمة، وقد حارب الاحتلال الصليبي هذا وفرض تأريخه الميلادي الدال على عقائد ومعان، فصار أكثر الجزائريين إلى اليوم لا يحسبون بالتاريخ الهجري، ولا يعتمدونه، وهذا انهزام وهوان، قال الشيخ أبو يعلى الزواوي رحمه الله: «...ومن الجهل والغفلة، بل من العار والشنار أن يؤرخ عربي مسلم بتاريخ جوان وجويليت وحزيران وأغسطس وبشنس وهلم جرا، وبالميلاد المنسوخ بالهجرة، فيترك الناسخ ويجعل الهجرة مهجورة والعياذ بالله...»(18).
3 ـ الاحتفال بعيد ميلاد المسيح عليه السلام:
هذا العيد ابتدعه النصارى وأحدثوا فيه أنواعا من الشرك والبدع، وشربوا فيه الخمر وأكلوا الخنزير، وجعلوه جزءًا من عقيدتهم وشعيرة من شعائرهم، وهذا من أهوائهم وضلالاتهم التي نهينا عن اتباعها، قال عز وجل: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون﴾[الجاثية:18].
لكن، وبكلِّ أسَف تشبَّه المسلمون بهؤلاء النصارى فاحتفلوا بعيدهم وفرحوا به وجعلوه مناسبة للراحة وباعوا واشتروا وأهدوا فيه الدجاج والديك الرومي والزهور والحلويات وكعكة الميلاد، وكتبوا على الرسائل والبطاقات: «عيد سعيد».
كما صاروا يحتفلون بأيام ميلادهم وميلاد أبنائهم، ومنهم من لم يكتف بذلك، بل أضافوا إليه الاختلاط والفجور، وشرب الخمور، تقليدا لأعداء الله، والله المستعان.
4 ـ اللِّباس والزِّينة:
إن العدو المتسلط على بلاد المسلمين يستعمل جميع الوسائل ويسلك كل الطرق لتغيير الأسماء وتبديل الأزياء، ولهذا لما استولى النَّصارى على الأندلس أجبروا المسلمين على تغيير أسمائهم ولباسهم، ومنعوهم حتى من دخول الحمامات؛ وكذلك فعل مصطفى كمال أتاتورك بمسلمي تركيا وأجبرهم على لبس البُرْنِيطة.
* من الأمور التي خلَّفها الغزو الصليبي في هذا الباب:
ـ حلق اللحية:
اللحية خصلة رجولة، وعلامة فحولة، وقد جاءت النصوص النبوية آمرة بإعفائها وتوفيرها حفاظا على الفطرة، واتباعا لهدي سيد المرسلين ومخالفة لعمل المشركين، قال ﷺ: «خَالِفُوا المُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ»(19)، وقال: «أَعْفُوا اللِّحَى، وَخُذُوا الشَّوَارِبَ، وَغَيِّرُوا شَيْبَكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَالنَّصَارَى»(20).
إن الكفار يحرصون على حلقها ابتغاء الحسن والبهاء، ويعتنون باستئصالها طلبا للجمال والنقاء، وقلدهم في هذا الكثير من المسلمين جهلا واغترارا حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الاستهزاء بها، ومحاربة أهلها ومعاداتهم، تقليدا للكفار وإرضاء للفجار.
ـ لبس البنطلون:
كان المسلمون يلبسون السراويلات(21) العريضة الفضفاضة، أما البنطلون ـ وهو اسم للسراويل الإفرنجية ـ فقد اشتهر به الكفار من النصارى وغيرهم، وعنهم أخذه المسلمون حتى صار مألوفا مع ما فيه ـ وبخاصة إذا كان ضيقا ـ من المنافاة للحياء والحشمة حيث يحدد العورة ويشخص السوأة.
قال الألباني رحمه الله: «البنطلون فيه مصيبتان: المصيبة الأولى: هي أن لابسه يتشبه بالكفار، والمسلمون يلبسون السراويل الواسعة الفضفاضة...، فما عرف المسلمون البنطلون إلا حينما استعمروا...؛ المصيبة الثانية: هي أن البنطلون يحجم العورة»(22).
ـ لبس البرنيطة:
غطاء الرأس عند المسلمين هو العمامة أو الطاقية أو القلنسوة ونحو ذلك، أما البرنيطة «البريطة» فهي غطاء الرأس عند الإفرنج، جمعها برانيط(23).
وهي من لباس الكفار وزيهم الخاص، وقد ألزم أتاتورك المسلمين الأتراك بلبسها حتى صارت مألوفة(24).
وقلد بعض المسلمين ـ ولا يزالون ـ الكفار في هذا اللباس وافتخروا به، وهجروا ما شرع لهم من الطاقية ونحوها.
قال أحمد شاكر : منكرا هذا اللباس: «وأظهر مظهر يريدون أن يضربوه على المسلمين هو غطاء الرأس الذي يسمونه «القبعة» «البرنيطة» وتعللوا لها بالأعاليل والأباطيل...»(25).
ـ لبس الدّبلة (L'alliance):
وهي خاتم من ذهب أو فضّة من غير فص يلبس علامة على الخطوبة والزواج، وهي بدعة محدثة للرجال والنساء؛ لأنها من عادات النَّصارى وشعاراتهم في الزواج.
ويرجع ذلك إلى عادة قديمة لهم عندما كان يضع العروس الخاتم على رأس إبهام العروس اليسرى، ويقول: باسم الأب، فعلى رأس السبابة ويقول: باسم الابن، فعلى رأس الوسطى يقول: باسم روح القدس، وأخيرا يضعه في البنصر حيث يستقر، ويقول: آمين(26).
وقد يعتقد أن لبسها سبب لدوام المحبة والمودة بين الزوجين، وهذا من التولة وهي نوع من الشرك، قال النبي ﷺ: «إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ»(27).
والتِّولة ما يحبِّبُ المرأةَ إلى زوجِها من السحر وغيره(28).
فيكون في الدبلة محظوران:
الأول: تشبه بأعداء الله النصارى، الثاني: اعتقادُ سبَبٍ للمحبَّة والمودة لم يجعله الله سببًا لا قدرا ولا شرعا(29).
وقد تسربت هذه العادة السيئة إلى بيوت المسلمين ولم ينج منها إلا من رحم الله رب العالمين.
وآثار الغزو الصليبي لبلاد المسلمين ـ ومنها الجزائر ـ كثيرة جدا، وقد اكتفيت في هذا البحث بالتمثيل؛ والله الهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) انظر: «التعصب الأوربي» لشكيب أرسلان (3 /217).
(2) «الآثار» (3 /80).
(3) «الآثار» (3 /163).
(4) «الآثار» (3 /163).
(5) انظر: كتاب «فرنسا والأطروحة البربرية في الجزائر» أحمد بن نعمان (ص92).
(6) انظر: «آثار الإبراهيمي» (3 /96 ـ 99).
(7) «وحي القلم» (3 /33).
(8) انظر: «قوى الشر المتحالفة» لمحمد الدهان (ص23).
(9) «اقتضاء الصراط المستقيم» (203).
(10) انظر: «الجزائر وقبائل البربر» لشكيب أرسلان، مع كتاب «حاضر العالم الإسلامي» (2 /180).
(11) «الآثار» (3 /164).
(12) «آثار الإبراهيمي» (5 /146).
(13) «الآثار» (5 /307).
(14) أخرجه أحمد (5115)، وصححه الألباني في «الإرواء» (1269).
(15) «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية (ص121، 133، 141)، «التعليق على المسند» لأحمد شاكر (10 /19).
(16) أخرجه البيهقي (9 /202)، وانظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية (ص121)، و«أحكام أهل الذمة» لابن القيم (2 /657).
(17) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (7 /268).
(18) «الثمرة الأولى لجمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين» (41 ـ 42)، وانظر: «فتاوى مهمة» للشيخ الفوزان، «المنتقى» (1 /257).
(19) أخرجه البخاري (5892) ومسلم (259).
(20) أخرجه أحمد (8657) وإسناده حسن، انظر: «جلباب المرأة المسلمة» للألباني (ص189).
(21) السراويلات: جمع مفرده سراويل يذكر ويؤنث. «الصحاح» للجوهري (5 /1729).
(22) انظر: «القول المبين» لمشهور حسن سلمان (ص20).
(23) «المعجم الوسيط» (1 /53).
(24) «فتاوى محمد بن إبراهيم» (4 /76)، وانظر: «لباس الرجل» لناصر الغامدي (1 /282).
(25) «التعليق على المسند» (10 /19).
(26) «آداب الزفاف» للألباني (ص213).
(27) أخرجه أحمد (3615) وأبو داود (3383)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (331).
(28) «النهاية في غريب الحديث» لابن الأثير (1 /200).
(29) «فتاوى محمد بن إبراهيم» (4 /89 ـ 91)، «فتاوى اللجنة الدائمة» (19 /147)، «القول المفيد» للشيخ ابن عثيمين (1 /181).
* منقول من مجلة الإصلاح «العدد 6»
المصدر.. موقع راية الاصلاح
دامت الحروب الصليبية قرنين إلا ثماني سنوات، يوقد نارها ويشعل فتيلها ويدعو إليها الباباوات ويحرضون ملوك أوربا وشعوبها على قتال المسلمين، وتخليص الأرض المقدسة من أيديهم ويباركون المجازر التي يقوم بها الإفرنج، ويحتفلون ـ بكل قوة ونشاط ـ بسقوط أرض الإسلام في أيديهم.
جاء في تاريخ الباباوات موقف البابا كاليستيوس الثالث الذي ارتقى كرسي البابوية وهو في سن الثمانين، ومع ذلك لم يكن له همٌّ إلا إثارة النصارى على المسلمين، وفي سنة 1456م بنى أسطولا بحريا خمسا وعشرين سفينة حربية ودعا ملوك النصارى للالتحاق به وشن الغارات على بلاد الإسلام(1).
لا يهدأ لهؤلاء بال، ولا يحلو لهم حال إلا إذا حاربوا الإسلام وفتكوا بأهله كلما أطفئت لهم نار أوقدوا أختها، وكلما فشلت لهم خطة هيئوا مثليها.
ومن نافلة القول: إن العدوان على الجزائر كان حلقة من حلقات تلك الحروب، فهدف فرنسا كان ـ أولا وقبل كل شيء ـ محاربة الإسلام وأهله وإدخالهم في النصرانية لتضمن أمنها واستقرارها، وتثبت بقاءها وسيطرتها؛ لأن المسلمين ظلوا يطاردونها، ويحاصرونها ويضايقون تجارها.
لقد جاء الاستعمار بحده وحديده وأقبل بخيله ورجله، حاملا العقائد النصرانية والتقاليد الأوربية، محاولا زعزعة عقيدة الجزائريين وأخلاقهم، جاهدا في طمس عروبتهم وأصالتهم، ساعيا في تقويض شخصيتهم ووحدتهم ولم يزل هذا دأبه وسعيه منذ وطئت قدمه هذا البلد الطيب وصدق الله إذ يقول: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾[البقرة:120]، ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ﴾[البقرة:217].
يقول محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله: «جاء الاستعمار الدنس الجزائر يحمل السيف والصليب، ذاك للتمكن وهذا للتمكين»(2)، وقال: «احتلال فرنسا للجزائر كان حلقة من الصليبية الأولى ولا غرابة في ذلك...»(3).
والدليل على ما ذكرنا:
1 ـ بناء الكنائس، وتخريب المساجد وهدمها وتحويل بعضها كنائس، لقد شيَّدت فرنسا كنيسة كبيرة تطل على البحر المعروفة باسم «السيدة الإفريقية» وحولت مسجد كتشاوة كنيسة وبارك البابا هذا العمل، قال الإبراهيمي: «حولت بعض المساجد الكبرى كنائس وعمرتها برجال الكنيسة المسيحيين... وناهيك بمسجد كتشاوة العظيم الذي صيرته كاتدرائية عظمى في العاصمة»(4).
2 ـ تشجيع نابليون الثالث النشاط النصراني وتعيينُه الكردينال لافيجري رئيسا للنصارى في الجزائر، فنشط وسط الفقراء والأطفال والنساء، وبلغت جهوده أصقاع الصحراء.
وفي برنامجه التنصيري: «علينا أن نجعل من الأرض الجزائرية مهدا لدولة عظيمة مسيحية أعني بذلك فرنسا أخرى يسودها الإنجيل دينا وعقيدة»(5).
3 ـ تكوين لافيجري فرقة الآباء والأخوات البيض (Péres blancs) لتنصير الجزائريين، وكان نشاطها يرتكز على التعليم والتطبيب والخدمات الاجتماعية.
4 ـ تخريب المدارس العربية الإسلامية.
5 ـ استقدام عدد كبير من الرهبان والمعلمين والأطباء، فالراهب ينشر النصرانية ويشكك المسلمين في عقيدتهم، والمعلم يفسد العقول ويبعد الأمة عن لغتها ويشوه التاريخ ويزهِّد في الدين، والطبيب يداوي علة بعلل، ويقتل جرثومة بجراثيم(6).
6 ـ محاربة اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن ولسان الأمة، يقول مصطفى صادق الرافعي: «ولغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين، فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلا من لغته...»(7).
وقال الحاكم الفرنسي للجزائر في الاحتفال بمرور مائة سنة على الاحتلال: «إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون بالعربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم» (8).
يقولون هذا؛ لأن اللغة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون»(9).
7 ـ محاربة الوحدة الإسلامية التي تجمع بين العرب والبربر، فزرع الاستعمار الخلاف والشقاق بينهم وشحن أدمغة البربر بأنهم هم الأصليون في هذه الأرض، وأنَّ العرب ظلموهم وغصبوهم أرضهم(10).
هذه بعض الأدلّة التي تجعلنا موقنين بأن احتلال الجزائر ـ كما يقول الإبراهيمي ـ: «إنما هو قرن من الصليبية نجم، لا جيش من الفرنسيين هجم»(11).
ولا أدل على هذا من تصريح قادته واعترافهم ـ والاعتراف سيد الأدلة ـ، قال خطيب في الاحتفال بمرور مائة سنة من احتلال الجزائر: «ليس الداعي الأكبر لهذه المهرجانات هو الاحتفال بمرور مائة سنة على احتلالنا للجزائر... ولكن الباعث الأعظم على هذا هو أننا دعوناكم لتمشوا معنا في جنازة الإسلام بالجزائر»(12).
ثم إن الله جل وعلا سخَّر رجالا من أبناء هذه الأمة ردُّوا عدوانه، وكشفوا ضلاله، وزيفوا بهرجه وعلى رأسهم «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين»، فكانوا يواجهون مخططاته كل حين، ويجاهدونه صادقين، فخرج من الجزائر ذليلا حقيرا، وطرد منها خاسئا حسيرا؛ لكنه خلَّف وراءه ركاما من العقائد الباطلة والأخلاق القبيحة والعادات الفاسدة المخالفة للدين والخرافات المضحكة التي لا يؤمن بها إلا الأغبياء والمجانين، قال الإبراهيمي في أول صلاة جمعة بعد الاستقلال بمسجد كتشاوة التي أقيمت في اليوم الخامس من شهر جمادى الثانية سنة 1382 الموافق لـ 2/11/1962م، وهي خطبة مشهودة حضرها أركان الدولة وغيرهم: «يا معشر الجزائريين! إنَّ الاستعمار كالشَّيطان الذي قال فيه نبينا ﷺ: «إنَّ الشَّيطان قد يئس أن يُعبدَ في أرضِكُم هَذِه، ولكنَّه رضيَ أن يُطاعَ فيما دُون ذلكَ»، فهو قد خرج من أرضكم هذه، ولكنَّه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلُوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضَّرورة يقدَّرُ بقدرها»(13).
وفي هذه المقالة بيان وتوضيح لبعض ما خلَّفه الغزو الصَّليبي، أذكره نصحا للمسلمين وتنبيها للغافلين وحجة على المعاندين، وبيانا للأصل العظيم من أصول هذا الدين، وهو ترك التشبه بالكفار والمشركين، قال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون﴾[الجاثية:18]، وأهواؤهم ما هم عليه من الهوى والابتداع والباطل، وقال النبيُّ ﷺ: «مَنْ تَشَبَّه بقَوْمٍ فهُوَ مِنْهُم»(14)، واتفق أهل العلم ـ في الجملة ـ على أنه لا يجوز للمسلم أن يتشبه بالكافرين في لباسهم وهيئتهم وعبادتهم وأخلاقهم، مع وقوع الخلاف في بعض المسائل(15).
جاء في الشروط التي وضعها عمر رضي الله عنه لأهل الذمة واتفق عليها الصحابة والأئمة بعدهم ـ في الجملة ـ: «وأن نُوقِّر المسلمين...، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم...، ولا نتكلم بكلامهم...، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية...»(16).
وهذا التمييز يقتضي ترك التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين.
* أمثلة لما خلَّفه الغزو الصَّليبي:
1ـ اللُّغة:
حارب الاستعمار اللغة العربية وحاصر تعليمها وشجع اللهجة العامية ونشر اللغة الأجنبية، فغابت لغة القرآن، إلا قليلا.
عمل الغزو الصليبي عمله، وفرض شعاره، وجرت على الألسنة لغته وتعلق الناس بها وبأهلها، وصارت بعض الأشياء لا تعرف إلا بها، مثل: «سربيتة» منشفة، «لاري» محطة، «فرملي» ممرض، «شورت» تبان، «طابلة» طاولة، «ليكول» مدرسة.
فصارت اللغة الفرنسية ـ ولا تزال ـ هي الغالبة في المستشفيات والمصانع والمحلات، واللوحات والشعارات والإعلانات، وإنك لتمر بشارع ـ وهذا بعد مرور أكثر من أربعة عقود على الاستقلال ـ فترى أغلب ـ وربما كل ـ لوحات محلاته مرقومة بالفرنسية، وربّما كتبت تحتها العربية.
وهكذا تعظم الأشياء ـ عند الكثير من المنهزمين ـ إذا سميت باللغة الأجنبية.
2 ـ التَّأريخ:
لكل أمة تاريخ ترتبط وتعتز به، ويعتبر شعارا لها، وجزء من مقوماتها وقد اتفق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع الصحابة رضي الله عنهم على أن يكون التاريخ الإسلامي من عام الهجرة النبوية دون أن يحدثوا احتفالا أو عيدا، فقال لهم بعد المشاورة: «الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرِّخوا بها»، وذلك سنة سبع عشرة(17).
وهذا توفيقٌ من الله العزيز الوهَّاب للمُحَدَّث المُلْهَم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالشهر الهجري مرتبط بالهلال الذي تعرف به كثير من الأحكام الشرعيَّة مثل الصِّيام والحجِّ والعيد وعدَّة الطَّلاق وغير ذلك، قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾[البقرة:189].
إنَّ معرفة هذا التاريخ والاعتماد عليه اقتداء بعمل السلف الصالح، واعتزاز بثوابت الأمة، وقد حارب الاحتلال الصليبي هذا وفرض تأريخه الميلادي الدال على عقائد ومعان، فصار أكثر الجزائريين إلى اليوم لا يحسبون بالتاريخ الهجري، ولا يعتمدونه، وهذا انهزام وهوان، قال الشيخ أبو يعلى الزواوي رحمه الله: «...ومن الجهل والغفلة، بل من العار والشنار أن يؤرخ عربي مسلم بتاريخ جوان وجويليت وحزيران وأغسطس وبشنس وهلم جرا، وبالميلاد المنسوخ بالهجرة، فيترك الناسخ ويجعل الهجرة مهجورة والعياذ بالله...»(18).
3 ـ الاحتفال بعيد ميلاد المسيح عليه السلام:
هذا العيد ابتدعه النصارى وأحدثوا فيه أنواعا من الشرك والبدع، وشربوا فيه الخمر وأكلوا الخنزير، وجعلوه جزءًا من عقيدتهم وشعيرة من شعائرهم، وهذا من أهوائهم وضلالاتهم التي نهينا عن اتباعها، قال عز وجل: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون﴾[الجاثية:18].
لكن، وبكلِّ أسَف تشبَّه المسلمون بهؤلاء النصارى فاحتفلوا بعيدهم وفرحوا به وجعلوه مناسبة للراحة وباعوا واشتروا وأهدوا فيه الدجاج والديك الرومي والزهور والحلويات وكعكة الميلاد، وكتبوا على الرسائل والبطاقات: «عيد سعيد».
كما صاروا يحتفلون بأيام ميلادهم وميلاد أبنائهم، ومنهم من لم يكتف بذلك، بل أضافوا إليه الاختلاط والفجور، وشرب الخمور، تقليدا لأعداء الله، والله المستعان.
4 ـ اللِّباس والزِّينة:
إن العدو المتسلط على بلاد المسلمين يستعمل جميع الوسائل ويسلك كل الطرق لتغيير الأسماء وتبديل الأزياء، ولهذا لما استولى النَّصارى على الأندلس أجبروا المسلمين على تغيير أسمائهم ولباسهم، ومنعوهم حتى من دخول الحمامات؛ وكذلك فعل مصطفى كمال أتاتورك بمسلمي تركيا وأجبرهم على لبس البُرْنِيطة.
* من الأمور التي خلَّفها الغزو الصليبي في هذا الباب:
ـ حلق اللحية:
اللحية خصلة رجولة، وعلامة فحولة، وقد جاءت النصوص النبوية آمرة بإعفائها وتوفيرها حفاظا على الفطرة، واتباعا لهدي سيد المرسلين ومخالفة لعمل المشركين، قال ﷺ: «خَالِفُوا المُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ»(19)، وقال: «أَعْفُوا اللِّحَى، وَخُذُوا الشَّوَارِبَ، وَغَيِّرُوا شَيْبَكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَالنَّصَارَى»(20).
إن الكفار يحرصون على حلقها ابتغاء الحسن والبهاء، ويعتنون باستئصالها طلبا للجمال والنقاء، وقلدهم في هذا الكثير من المسلمين جهلا واغترارا حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الاستهزاء بها، ومحاربة أهلها ومعاداتهم، تقليدا للكفار وإرضاء للفجار.
ـ لبس البنطلون:
كان المسلمون يلبسون السراويلات(21) العريضة الفضفاضة، أما البنطلون ـ وهو اسم للسراويل الإفرنجية ـ فقد اشتهر به الكفار من النصارى وغيرهم، وعنهم أخذه المسلمون حتى صار مألوفا مع ما فيه ـ وبخاصة إذا كان ضيقا ـ من المنافاة للحياء والحشمة حيث يحدد العورة ويشخص السوأة.
قال الألباني رحمه الله: «البنطلون فيه مصيبتان: المصيبة الأولى: هي أن لابسه يتشبه بالكفار، والمسلمون يلبسون السراويل الواسعة الفضفاضة...، فما عرف المسلمون البنطلون إلا حينما استعمروا...؛ المصيبة الثانية: هي أن البنطلون يحجم العورة»(22).
ـ لبس البرنيطة:
غطاء الرأس عند المسلمين هو العمامة أو الطاقية أو القلنسوة ونحو ذلك، أما البرنيطة «البريطة» فهي غطاء الرأس عند الإفرنج، جمعها برانيط(23).
وهي من لباس الكفار وزيهم الخاص، وقد ألزم أتاتورك المسلمين الأتراك بلبسها حتى صارت مألوفة(24).
وقلد بعض المسلمين ـ ولا يزالون ـ الكفار في هذا اللباس وافتخروا به، وهجروا ما شرع لهم من الطاقية ونحوها.
قال أحمد شاكر : منكرا هذا اللباس: «وأظهر مظهر يريدون أن يضربوه على المسلمين هو غطاء الرأس الذي يسمونه «القبعة» «البرنيطة» وتعللوا لها بالأعاليل والأباطيل...»(25).
ـ لبس الدّبلة (L'alliance):
وهي خاتم من ذهب أو فضّة من غير فص يلبس علامة على الخطوبة والزواج، وهي بدعة محدثة للرجال والنساء؛ لأنها من عادات النَّصارى وشعاراتهم في الزواج.
ويرجع ذلك إلى عادة قديمة لهم عندما كان يضع العروس الخاتم على رأس إبهام العروس اليسرى، ويقول: باسم الأب، فعلى رأس السبابة ويقول: باسم الابن، فعلى رأس الوسطى يقول: باسم روح القدس، وأخيرا يضعه في البنصر حيث يستقر، ويقول: آمين(26).
وقد يعتقد أن لبسها سبب لدوام المحبة والمودة بين الزوجين، وهذا من التولة وهي نوع من الشرك، قال النبي ﷺ: «إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ»(27).
والتِّولة ما يحبِّبُ المرأةَ إلى زوجِها من السحر وغيره(28).
فيكون في الدبلة محظوران:
الأول: تشبه بأعداء الله النصارى، الثاني: اعتقادُ سبَبٍ للمحبَّة والمودة لم يجعله الله سببًا لا قدرا ولا شرعا(29).
وقد تسربت هذه العادة السيئة إلى بيوت المسلمين ولم ينج منها إلا من رحم الله رب العالمين.
وآثار الغزو الصليبي لبلاد المسلمين ـ ومنها الجزائر ـ كثيرة جدا، وقد اكتفيت في هذا البحث بالتمثيل؛ والله الهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) انظر: «التعصب الأوربي» لشكيب أرسلان (3 /217).
(2) «الآثار» (3 /80).
(3) «الآثار» (3 /163).
(4) «الآثار» (3 /163).
(5) انظر: كتاب «فرنسا والأطروحة البربرية في الجزائر» أحمد بن نعمان (ص92).
(6) انظر: «آثار الإبراهيمي» (3 /96 ـ 99).
(7) «وحي القلم» (3 /33).
(8) انظر: «قوى الشر المتحالفة» لمحمد الدهان (ص23).
(9) «اقتضاء الصراط المستقيم» (203).
(10) انظر: «الجزائر وقبائل البربر» لشكيب أرسلان، مع كتاب «حاضر العالم الإسلامي» (2 /180).
(11) «الآثار» (3 /164).
(12) «آثار الإبراهيمي» (5 /146).
(13) «الآثار» (5 /307).
(14) أخرجه أحمد (5115)، وصححه الألباني في «الإرواء» (1269).
(15) «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية (ص121، 133، 141)، «التعليق على المسند» لأحمد شاكر (10 /19).
(16) أخرجه البيهقي (9 /202)، وانظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية (ص121)، و«أحكام أهل الذمة» لابن القيم (2 /657).
(17) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (7 /268).
(18) «الثمرة الأولى لجمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين» (41 ـ 42)، وانظر: «فتاوى مهمة» للشيخ الفوزان، «المنتقى» (1 /257).
(19) أخرجه البخاري (5892) ومسلم (259).
(20) أخرجه أحمد (8657) وإسناده حسن، انظر: «جلباب المرأة المسلمة» للألباني (ص189).
(21) السراويلات: جمع مفرده سراويل يذكر ويؤنث. «الصحاح» للجوهري (5 /1729).
(22) انظر: «القول المبين» لمشهور حسن سلمان (ص20).
(23) «المعجم الوسيط» (1 /53).
(24) «فتاوى محمد بن إبراهيم» (4 /76)، وانظر: «لباس الرجل» لناصر الغامدي (1 /282).
(25) «التعليق على المسند» (10 /19).
(26) «آداب الزفاف» للألباني (ص213).
(27) أخرجه أحمد (3615) وأبو داود (3383)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (331).
(28) «النهاية في غريب الحديث» لابن الأثير (1 /200).
(29) «فتاوى محمد بن إبراهيم» (4 /89 ـ 91)، «فتاوى اللجنة الدائمة» (19 /147)، «القول المفيد» للشيخ ابن عثيمين (1 /181).
* منقول من مجلة الإصلاح «العدد 6»
المصدر.. موقع راية الاصلاح