- د. محمد علي فركوس
في حكم رمي الجمار
قبل الزوال في أيام التشريق
* السؤال:قبل الزوال في أيام التشريق
ما حكم رمي الجمرات في أيام التَّشريق قبل الزَّوال استنادًا إلى أنّه لم يثبت دليلٌ منَ الكتاب أو السُّنَّة أو الإجماع أو القياس في النَّهي عنِ الرَّمي قبل الزَّوال، واستنادًا إلى ما نُقل عن بعض الصَّحابة والتَّابعين كابن عبَّاس وطاوس في جواز الرَّمي قبل الزَّوال؟ أفتونا مأجورين.
* الجواب:
السُّنَّة الثَّابتة أنَّ رميَ الجمار في غير يومِ الأضحى إنَّما يكون بعد الزَّوال وبه قال الجمهور؛ ذلك لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حجَّ في السَّنة العاشرة، وألزم من معه بمتابعة هديه والأخذ عنه مناسكهم، ولم يَرْمِ الجمرات الثَّلاث في أيَّام التَّشريق إلَّا بعد زوال الشَّمس، فقد أخرج مسلم من حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال: «رَمَى رَسُولُ اللّهِصلى الله عليه وسلم الجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ»(1).
وحكم أفعاله صلى الله عليه وسلم في الحجِّ الوجوب لتبعيَّة فعله ـ من حيث البيان ـ لمجمل قوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»(2)، فإنَّ النَّصَّ التَّشريعي يأخذ حكم النَّصِّ المبيّن؛ لأنَّ البيان لا يتعدَّى رتبة المبيِّن فهو كالتَّفسير مع المفسِّر، ويؤيِّده ما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه سُئِلَ عن الجمار متَى تُرمى؟ فقال: «كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا»(3)، وروى مالك في «الموطَّأ» عنه رضي الله عنهما أنَّه كان يقول: «لاَ تُرْمَى الجِمَارُ فِي الأَيَّامِ الثَّلاَثَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ»(4).
هذا، وقد خالف في المسألة عطاء وطاوس فقالَا بجواز الرَّمي قبل الزَّوال مطلقًا، ورخَّص أبو حنيفة في الرَّمي يوم النَّفر قبل الزَّوال، وخالفه صاحباه: أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن، وذهب عكرمة وإسحاق وأحمد في رواية مثل مذهب أبي حنيفة، ووجه تقرير جواز الرَّمي قبل الزَّوال أيَّام التَّشريق مطلقًا يظهر في استنادهم إلى المعقول من جهة أنَّ قبل الزَّوال وقت الرَّمي يوم النَّحر فكذا في اليوم الثَّاني والثَّالث؛ لأنَّ الكلَّ أيَّام النَّحر.
أمَّا وجه رواية أبي حنيفة في جواز الرَّمي يوم النَّفر قبل الزَّوال فبما رُوي عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّه قال: «إذَا انْتَفَخَ النَّهارُ من يومِ النَّفْرِ الآخِرِ، فقد حَلَّ الرَّمْيُ والصَّدَرُ»(5)، وأيَّد ذلك بدليل المعقول من أنَّ للحاجِّ أن ينفر قبل الرَّمي ويتركه رأسًا، فإذا جاز له ترك الرَّمي أصْلًا؛ فلأن يجوز له الرَّمي قبل الزَّوال أولى(6).
والأصحُّ ما ذهب إليه الجمهور، وأمَّا احتجاج الحنفية بما رواه البيهقيُّ عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما فلا يَقْوَى على النُّهوض، قال الزَّيلعي: «رواه البيهقي عنه: «إذا انتفخ النَّهار من يوم النفر فقد حلَّ الرَّمي والصَّدر»، انتهى، في مسند طلحة بن عمرو، وضعَّفه البيهقيّ»(7)، وفساد اعتبار دليل المعقول ظاهرٌ، إذْ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يترقَّب الزَّوال ولم ينقل عنه أنَّه رمى قبله أو أوَّل النَّهار مع أنَّه أيسر له ولأمَّته، كما لم ينقل عنه أنَّه رخَّص لأحد في وقته كما رخَّص للضَّعَفَة في رمي جمرة العقبة، فدلَّ ذلك أنَّ وقت ما بعد الزَّوال جزء من الواجب يلتزم به المكلَّف حتمًا في وقته المعيَّن شرعًا وهو المعروف عند الأصوليِّين بالواجب المؤقَّت، قال ابن الهمام: «ولا شكَّ أنَّ المعتمد في تعيين الوقت للرَّمي في الأوَّل من أوَّل النَّهار وفيما بعده من بعد الزَّوال ليس إلَّا فعله كذلك، مع أنَّه غير معقول، ولا يدخل وقته قبل الوقت الَّذي فعله فيه صلى الله عليه وسلم، كما لا يفعل في غير ذلك المكان الَّذي رمى فيه عليه الصَّلاة والسَّلام، وإنَّما رمى عليه الصَّلاة والسَّلام في الرَّابع بعد الزَّوال فلا يرمي قبله»(8).
هذا وإذا تقرَّر رجحان مذهب الجمهور، فإنَّ من رمى الجمرات في أيَّام التَّشريق قبل الزَّوال فقد رمى في غير وقته المحدَّد له شرعًا، وما كان كذلك فهو مردود بقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(9)، ولذلك وجب أن يعيد رمي الجمرات بعد الزَّوال ولو من اللَّيل على أرجح القولين، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشَّافعي، فإن تعذَّر عليه فله أن يرمي في اليوم الَّذي يليه، على أنَّه يبدأ برمي اليوم السَّابق المتخلّف فيه الجمرات الثَّلاث كلّها، ثمَّ يبدأ من الأوَّل عن يومه الحالي، أمَّا إن فاته وقت الرَّمي بغروب ثالث أيَّام التَّشريق: وهو اليوم الثَّالث عشر من ذي الحجَّة رابع أيَّام النَّحر فإنَّ الرَّمي قبل الزَّوال معدود في حكم ترك واجب الرَّمي، ويلزم من ترك واجبًا من واجبات الحجِّ فدية شاة يذبحها في مكَّة يوزِّعها على الفقراء ولا يأخذ منها شيئًا؛ لأنَّها بمنزلة الكفَّارة، وبذلك يتمُّ حجُّه صحيحًا إن شاء الله تعالى.
في حكم الاقتراض لأجل الحج
* السُّؤال:شخص رزقه الله مالًا، أراد أن يحجَّ به؛ لكنَّه لا يكفيه لنفقة الحجِّ وكلفته، فهمَّ ليقترض من غيره فحصل عنده تردُّد.
فهل يجوز أن يقترض ما يتمِّم به نفقة الحجِّ، وهو لا يعلم هل يقدر على الوفاء وتسديد الدَّين أم لا يقدر؟
* الجواب:
الاستطاعة شرطُ وجوبٍ في الحجِّ، لا شرطٌ في صحَّته لقوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾[آل عمران:97]، وما كان شرطًا للوجوب لا يلزم المكلَّفَ تحصيلُه لكونه من خطاب الوضع، والوجوبُ منتفٍ عند عدمه، إذ «ما لا يتم الوجوب إلَّا به فليس بواجب»، ومن جهة أخرى فإنَّ المتقرَّر في القواعد العامَّة أنَّ «كلَّ عبادةٍ اعتبر فيها المال، فإنَّ المعتبرَ ملكُه لا القدرة على ملكِه»، وإذا كان الحجُّ في حقِّ غير المستطيع ليس واجبًا فإنَّ الشَّارع لا يُلزِمُهُ بالاستدانة له، وقد ورد من حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه أنَّه لما سُئل عن رجل يستقرض ويحجّ؟ قال: «يسترزق الله، ولا يستقرض، قال: وكنَّا نقول: لا يستقرض إلَّا أن يكون له وفاء»(10).
وعليه؛ فإنْ كان المكلَّفُ غيرَ واثق من قدرته على الوفاء بما استقرضه من الدَّين فلا يجوز له أن يتكلَّف أمرًا يسَّره الله رأفةً بالنَّاس ولم يوجبْه، ولم يترتَّب عليه إثمٌ إن مات ولم يحجَّ وهو غير ملوم بخلاف ما إذا كانت ذمَّتُهُ مشغولةً بالدَّين الَّذي اقترضه واخترمه الموت فيبقى مطالبًا به؛ لأنَّه حقّ العبيد، ولا يخفى أنَّ حقَّ الله تعالى مبنيٌّ على المسامحة والمساهلة، وحقُّ العبد مبنيٌّ على المشاحَّة والمضايقة؛ لأنَّه يَنْتَفِعُ بِحصوله، ويَتَضَرَّرُ بِفواته دون البَارِي تعالى فلا يَتَضَرَّرُ بفوات حقوقه ولا يَنْتَفِعُ بِحصولها، غَير أنَّه إن استقرضَ وَحَجَّ ـ وهو على هذه الحال ـ فحجُّه صحيح وتبرأ ذمَّته منه، وتبقى مشغولةً بقضاء دَيْنه.
أمَّا إذا كان قادرًا على الوفاء به ـ في الحال ـ فيلزمُه الحجُّ مع توثيق القرض برهن أو كفيل، أو وصيَّة بتسديد المبلغ المقترَضِ في حالة ما إذا حصل له مكروه يمنعه من الوفاء به.
في حكم الفوز في المسابقات
بأداء حج أو عمرة
* السؤال:بأداء حج أو عمرة
تقوم بعض المؤسَّسات الإعلامية بإجراء مسابقات موسميَّة يحصل فيها الفائز على نفقة كاملة لحجٍّ أو عمرة، فما حكم المشاركة فيها مع العلم أنَّ الأسئلة المطروحة قد تكون متعلِّقة بالأفلام أو الألعاب الرِّياضية أو الموسيقى ونحوها؟
وما حكم حجِّ أو اعتمار الفائز في تلك المسابقات بمثل هذه الجائزة؟
وهل ينطبق الحكم على جميع المسابقات الَّتي تكون في أنواع العلوم: كالعلوم الشَّرعية والعلوم الكونيَّة ونحو ذلك؟ نريد تفصيلا جزاكم الله خيرًا.
* الجواب:
ينبغي التَّفريق بين المسابقات الدِّينية ذات الجوائز المالية من ولاة الأمور أو جمعيات خيريَّة أو من المحسنين وبين المسابقات الَّتي تنشرها المؤسَّسات الإعلامية، فإنَّ الصُّورة الأولى للمسابقات منتظمة وَفق مقصود الشَّارع من إعداد العدَّة الإيمانية: من حفظ القرآن والسُّنَّة وتحصيل المسائل العلميَّة الشَّرعية، وهي ملحقة بالمسابقات الَّتي حدَّدَها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «لاَ سَبَقَ إلَّا في خُفٍّ أوْ حَافِرٍ أوْ نَصْلٍ»(11) أي ركوب الخيل والإبل والرِّماية وكلُّ ما فيه من إعداد للعدَّة الماديَّة من وسائل الجهاد في سبيل الله في تقوية شوكة المسلمين فيصح السَّبَقُ في هذه المسابقات، إذ كلا العُدَّتين من مطالب الشَّرع ومقاصده؛ لأنَّها وسائلُ لغاية شرعيَّة، و«الوسائل لها حكم المقاصد».
لذلك فالجوائز المباحة الممنوحة من المتبرِّعين لمصلحة الفائزين تحقيقًا لهذا المبتغى يجوز الانتفاع بها مطلقًا سواء في حجٍّ أو عمرة أو غيرهما من غير حَرَجٍ.
أمَّا المسابقات الَّتي تنشرها المؤسَّسات الإعلامية: من جرائد وصحف ومجلَّات ونحوها، فلا تجوز المشاركة فيها؛ لأنَّها تتضمَّن المقامرة والميسر، إذ المشارك يدفع مالًا ولو زهيدًا لشراء الوسيلة الإعلامية، في حين أنَّ المؤسَّسة الإعلاميَّة تحصل بترويج المسابقات على زيادة كسبٍ، وفضلِ دخلٍ متولّدٍ عنها.
ومن جهة أخرى لا يتحقَّق بها مقصود الشَّارع، بل بالعكس تضادُّه، حيث تتمخَّض من خلال جريان المسابقات آثار الخلاعة والعري والتبرُّج، ومظاهرُ الفتنة بترويج الأفلام، ونشر المعازف والموسيقى وغيرها من الأخلاق المنافية لديننا الحنيف، وإن وجد السَّليم منها فمغمور في وسطٍ فاسدٍ، وكأنَّ إرادةً مفروضة تعمل بواسطة هذه الوسيلة الإعلامية لتحطيم القيم الإسلاميَّة، واستبدالها بدناءة قيم الحضارة الغربية لفصل الدِّين عن حياة المجتمع تحت تأثير العلمانية الَّتي يشهدها العالم الإسلامي اليوم، وبغفلة المغرورين من بني جلدتنا.
هذا، ولمَّا كانت الوسائل لها حكم المقاصد فإنَّ الجوائز المعطاة بهذه الكيفية لا يجوز الانتفاع بها للجهتين السَّابقتين، فمن حصل على الجوائز بعد العلم بالتَّحريم فالواجب أن يتصدَّق بها أو ينفق ثمنها في وجوه البرِّ، ذلك لأنَّ من شرط التَّوبة التَّخلُّصَ من المال الحرام، غيرَ أنَّ من حَجَّ بِهذا المال فإنَّ حَجَّهُ صحيحٌ على أرجح قَوْلَي العلماء، وتسقط به الفريضةُ، ولا تشغل به ذِمَّتُه، وهو آثمٌ بفعل الحرام، لانفكاك جهة الأمر عن جهة النَّهي، ولا أجرَ له على حجِّه لقوله تعالى:﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾[البقرة:197]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّـبًا»(12)؛ أمَّا قبل العلم بتحريمها فلا يلحقه إثم لكونه معذورًا بالجهل مصداقًا لقوله تعالى: ﴿فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله﴾[البقرة:275].
في حكم
شراء جواز سفر خاص بالحج
* السؤال:شراء جواز سفر خاص بالحج
لا يخفى على فضيلتكم أنَّ الدَّولة عندنا ـ في الجزائر ـ تمنح جوازات سفر خاصَّة بالحجِّ بالمجَّان، وأكثرها يحصل عليه المسجِّلون في بلديَّاتهم وفق عملية القرعة، كما تمنح عددًا من هذه الجوازات إلى أشخاص أو جهات إدارية معيَّنة من إطارات وموظِّفي الدَّولة بالمجَّان أيضًا، فيحصل بعض الأفراد على عددٍ منها بحكم القرابة أو الصَّداقة فيقومون ببيعها إلى من يريد الحجَّ.
فهل يجوز بيع هذه الجوازات بحجَّة أنَّه صارت ملكًا لصاحبها؟ وهل يجوز شراؤها لمن لم يتيسَّر له الحصول عليها من الطُّرق المعلومة؟ وإذا جاز شراؤها فهل هو في الحجِّ الواجب فقط أم يشمل حجَّ التَّطوُّع أيضًا؟ أفتونا مأجورين.
* الجواب:
فإنَّه ممَّا ينبغي أن يُعلم أنَّ جواز السَّفر الأصلي المستجمع للبيانات الشَّخصيَّة للفرد لا يصلح ـ أصلًا ـ أن يكون محلًّا للتَّعامل فيه بالتَّنازل والإبراء أو الهبة أو البيع والشِّراء ونحو ذلك ممَّا يدخله التَّراضي بين الطَّرفين من قسم: «حق العبد»، وعلَّة المنع انتظامه ضمن معيار المصلحة العامَّة المتعلّقة بنظام المجتمع، وهو ما اصطلح عليه في الشَّريعة بـ: «حقِّ الله» أو «حقِّ الشَّرع»، وأضيف الحق لله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه، لذلك لا يجوز فيه العفو أو الإبراء منه أو الصُّلح عليه أو الاتِّفاق على ما يخالفه، وبعبارة مقتضبة: أنَّه لا يقبل التَّراضي.
ونظيره في الاصطلاح السَّائد: النِّظام العام، حيث لا يستطيع شخص ـ مثلا ـ أن يتنازل عن اسمه ولقبه العائلي لغيره، أو يعدل فيه بحسبه، إذ قواعد الأهلية من حقِّ الله تعالى، وتندرج ضمن النِّظام العام، فلا يستطيع شخص أن يتنازل عن أهليَّته أو يزيد فيها أو ينقص منها باتِّفاق خاص، مهما كانت صورة الاتِّفاق، وكذلك لا يجوز النُّزول عن البنوَّة أو الصُّلح على النَّسب، وعليه يبطل كلُّ تصرُّف يقع مخالفًا لحقِّ الله تعالى، وكلّ كسب على عمل غير مشروع يحرم ويأثم صاحبه ويستحقُّ العقاب.
أمَّا الجواز المخصَّص للحجِّ الخالي من البيانات الشَّخصية فلا يصلح فيه ـ أيضا ـ التَّعامل المالي بالبيع والشِّراء دون الهبة والتَّنازل باعتبار أنَّ الجواز الخاص بالحجِّ لا يمثِّل في ذاته قيمة ماليَّة متقومة شرعًا، أي أنَّ الشَّرع لم يقرَّ بماليَّته حتَّى يُملَّك ويصبح محلاًّ للكسب بالبيع والشِّراء، ذلك لأنَّ جواز السَّفر وسيلةٌ إداريةٌ لا تخرج طبيعتُه عن النِّظام العامِّ حيث تتصرَّف فيه الدَّولة إداريًّا على وفق المصلحة العامَّة، ولا يصير ـ بحال ـ ملكًا لحائزه، إذ لا قيمة لأوراقه بدون الجهة الحكوميَّة المستوجبة للإجراءات البيانيَّة والإداريَّة لتحصيل التَّرخيص بالحجِّ بالختم والإمضاء من الدَّوائر التَّابعة لها.
ومن جهة أخرى فإنَّ الغرض الَّذي خصّص من أجله الجواز إنَّما هو الاستعانة به كوسيلة لأداء مناسك الحجِّ القائمة على عهدة الجهة المانحة للجواز، فالتَّعامل المالي ببيع الجواز وشرائه يتنافى مع طبيعة المسلك الإداري المنظِّم لهذه العبادة، وعليه فإذا انتفت الملكيَّة الفرديَّة للجواز لكونه معدودًا من النِّظام العام، وتعارض التَّعاقد المالي مع الغرض الذي خُصِّصَ من أجله الجوازُ فلا يختلف الحكم عن سابقه بوقوع التَّعامل به باطلًا لمخالفته لحقِّ الله تعالى والتَّعدِّي على المنفعة العامَّة والمصلحة الشَّرعية الَّتي خصّص من أجلها الجواز، وَ«مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(13).
هذا، وإذا تقرَّر الحكم بالمنع في الأصل فلا يمنع من الخروج عنه استثناءً لمن تعيَّنت عليه حجَّة الإسلام، وتعذَّر عليه الحجُّ إلَّا بهذا السَّبيل فإنَّه يحلُّ لمعطي المال لأداء واجب الحجِّ في حقِّه عند تحقُّق شرطه ما لا يحلّ للآخذ، إذ الفعل الواحد يجوز أن يكون مأمورًا به من وجه، منهيًّا عنه من وجه آخر؛ لأنَّ الفعل قد تجتمع فيه مصلحة ومفسدة من جهات مختلفة.
وتبرير الاستثناء من الأصل السَّابق يكمن في أنَّ العبادة حقٌّ خالص لله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: «حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا»(14)، والمعلوم أنَّ كلَّ حقٍّ يقابله واجب، وترك عبادة الحجِّ لمن وجب عليه تضييع لحقِّ الله تعالى، وترك المأمور به أعظم ذنبًا من إتيان المنهيِّ عنه، فمفسدة بذل المال لأجل تحصيل الجواز مغمورة في مصلحة العبادة العليا وهي مقدَّمة عليها كما تقرَّر في علم المقاصد، ولأنَّ «جنس فعل المأمور أعظم من جنس ترك المنهي عنه»، ولأنّه إذا جاز ـ في حقوق العباد ـ دفعُ مالٍ لإحقاقِ حقٍّ أو إبطالِ باطلٍ أي جازَ للمعطي دون الآخذ، فكذلك في حقِّ الله في العبادة، فظهر جليًّا أنَّ من تعلَّق الوجوب في ذمَّته يجوز له الانتفاع بجواز السَّفر مع بذل العوض المالي عليه دون غيره.
(1) أخرجه مسلم (3141).
(2) أخرجه مسلم (3137) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(3) أخرجه البخاري (1659).
(4) أخرجه مالك في «الموطإ» (918)، والأثر صحَّحه زكريا بن غلام قادر الباكستاني في «ما صحَّ من آثار الصَّحابة في الفقه» (2/836) .
(5) أخرجه البيهقي في «السُّنن الكبرى» (9785).
(6) «بدائع الصَّنائع» للكاساني (2/324).
(7) «نصب الرَّاية» للزَّيلعي (3/85).
(8) «مرقاة المفاتيح» للقاري (5/513).
(9) أخرجه مسلم (4493) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(10) أخرجه البيهقي (8737)، وابن أبي شيبة في «المصنَّف» (15014)، وصحَّحه الألباني في «السِّلسلة الضَّعيفة» (13/1/329).
(11) أخرجه أبو داود (2574)، والتِّرمذي (1700)، والنَّسائي (3585)، وابن ماجه (2878)، وابن حبَّان (1638)، وأحمد (9788)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث حسَّنه الألباني في «الإرواء» (1506).
(12) أخرجه مسلم (2346) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(13) سبق تخريجه.
(14) أخرجه البخاري (9638)، ومسلم (143)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
المصدر.. موقع راية الاصلاح