حلمي ضاع يا أماه

قلم مضطرب

:: عضو مُشارك ::
إنضم
16 جوان 2014
المشاركات
126
نقاط التفاعل
256
النقاط
13
حلمي ضاع يا أمـــاه

كانت لجنة التحكيم في مسابقة الشعر التي تنظمُ على مستوى العالــم العربي واعضاءها يجلسون على الطاولة يستقبلون الشعراء ويستمعون إلى قصائدهم لِأختيار المرشحين الأفضل والأمثل من الشباب الذي يمتلكون مواهب في بحور الشعر , كانوا يقرؤن نصوصهم وقوافيهم الموزونة الجميلة لِيُقرِرون من الأحق بالتأهـــل وخوض المنافسات الأخيرة في التصفيات لتحديد الفائـــز بينهم .

بينما هم كذلك وإذ بــهم يسمعون صراخ وضجيج خارج القاعة , راحوا يسألـــون ما الخبر ؟ فقال لــهم حارس البوابة :
- بأن هنــاك رجلٌ عجــوز تخطى الخمسين من العمــر يريد الدخول عنوة وبشتى الطرق ..!

مما حذى باللجنة وأصحابــها أن يصابوا بالحيرة والدهشة والقلق , يتساءلون : هل يدخلونه أم لا ! فشروط المسابقة تنــص على ألا يتعدى عمر الشاعر الــ 35 سنة , ولكن هذا العجوز كان يرفض المغادرة وكأنــه حلف يميـــنً بعدم الرحيل حتى يدخــــــل .

وبعد مشاورات بين الجميع ولجنة التحكيم والمشرفين على القاعة .. قال أحد أساتذة الشعر والحكم في اللجنة :
- دعوه يدخــل , ولنسمع ما يريد ثم أجعلوه يغادر !

وبالفعل دخل عليهم العجوز محدودب الظهر .. ملابسه رثى .. والتجاعيد قد أكلت من جلده .. وملامحه كأنه يحمــل همومً لو حُطت على جبل لــهدته ؟!

باغته أحد رجال لجنة التحكيم يسألــه :
- ماذا تريد يا هذا ؟

العجوز الذي بدت عينيه تخبئ خلفهــا اشياء واشياء , أجاب بهدوءً :
- أريد المشاركة في المسابقة !

الحكم :
- لكنك تعرف بأن الشروط لا تنطبق عليك !

قال العجوز متوسلً :
- لكنكم المسؤولون عنها وتستطيعون كسر تلك القواعد .. وتغيير القوانين , أليس كذلك ؟

الحكم :
- في الحقيقة لا .. لا نستطيع , ولو كنــا نقدر على ذلك لأشركنا الكثيريـــن غيرك .. فلست أستثناء هنــا !

ظل العجوز صامت لدقائــق يفكر بعمق وحزن , قال بعدها يحك ذقنه :
- أرجوكم , لأجلــي أفعلوا ذلك .. أو لأجل شيبتي ..!

ألا أن الحُكام رفضوا ذلك رفضً قاطع فالقوانين تطبق عليه وعلى غيره , أمروه بالخروج بكل لطف بعدما أمروا الحراس بمرافقته وأن يحترمون شيبته التي ملأت كل شعرة في جسده , وبالفعل هم مغادرا وما أن وصل إلى الباب حتى توقف للحظــات .. أستدار عليهم بعدها , وقـــــال :
- هل لي بطلب أخير لديكم ؟

اللجنة :
- نعــم .. ما تريد ؟

العجوز :
- هل تسمحون لي بألغاء قصيدة واحدة .. وبعدها أعدكم بأنني سأرحل من هنــــا ..!

كان الحكام يفكرون ويتشاورن فيما بينهم حتى أستقروا نهاية الأمر أن يسمحوا له بذلك . فأقترب منهم العجوز الذي بدا يحمل شيئا مــــا بداخله , وقال لــــهم ونبراته قد امتلئت بالشجن :
- دعوني أولا أخبركم بقصة هذه القصيدة ! لقد كتبتهـــا قبل 15 سنة .. في الليلة التي توفيت فيها والدتي .. بعدما وعدتها بأنني سأكون شاعر كبيرا يتغنى الجميع بقصائدي .. وسأصبح مشهورا وغنيا .. وسأنشد فيها شعرا وكيف حملت بي وربتني وسهرت علي وبكت لأجلـــي .. وسأسكِنُها قصورا بدل الغرفة المهلهلة التي نعيش فيهــا .. وسأجعلها سعيدة أكثر من بقية الأمهات , ألا أن لا شيء من ذاك حدث .. بل ماتت فقيرة متحسرة علي وعلى حالــها .. تندب حظها النحس وتشتم حظي السيء بعدما اُغلقت كل الأبواب أمامي .. تبكي لأن حلم أبنهـــا الساذج قد ضاع ومات وأندفـــن .. وبات مشرد يجــر أذيال الخيبة معه .. ولم يستطع أن يقدم لــها شيئا مما وعد , فأنظروا إلي الآن .. عجوز بائس .. عاجز يائس .. تائهٌ خائف .. وحيدا فزع .. منبوذ محطم .. مثير للشفقة .. محط سخرية .. فاقد الحلم .. ويبحث عن ما تبقى من أمــل .

قصته تلك جعلت من اعضاء لجنة التحكيم يختنقون في عبرتــهم ويتعاطفون معه , فقال له أحدهم :
- أسمعنا قصيدتك إذا ؟!

وقف أمامهم ينظر إليهم كأنه ينظر إلى والدته تلتقط أنفاســـها الأخيرة .. أقترب منهم كمن يريد أن يلمس يدي أمه يطلب حنان منهـــا .. يشتكي لــها شعرا .. يعاتب زمان صفعه يمينا وشمالا .. يبكي حسرة وألــم , وراح يردحُ القصيدة التي أختلطت بين الشعر والنثر والشكوى والقسوة وضعف الحيلة وكأنه يستمع لسمفوانية حزينة تقرقع أضلاع القلب بصوته المتحشرج ودموعه المتساقطة من عينيه :

حلمي ضاع يا أمــاه ..!
حبري اشتكى يا أمــاه ..!
خيالي مُتعب يا أمــاه ..!
همسي ندم يا أمــاه ..!
ليلي موحش يا أمــاه ..!
قلبي أنجرح يا أمــاه ..!
صمتي حسرة يا أمــاه ..!
بيتي أنهدم يا أمــاه ..!
دربي صعب يا أمــاه ..!
سري أنفضح يا أمــاه ..!
حزني وجع يا أمــاه ..!
نومي أرق يا أمــاه ..!
ذنبي ألـــم يا أمــاه ..!
دمعي قهــر يا أمــاه ..!
صوتي سكت يا أمــاه ..!
خطي أنمسح يا أمــاه ..!
لحني شجن يا أمــاه ..!
واقعي خجل يا أمــاه ..!
فرحي أمل يا أمــاه ..!
عقلي أضطرب يا أمــاه ..!
حظي صخر يا أمــاه ..!
فتاتي ورق يا أمــاه ..!
قصتي ذكرى يا أمــاه ..!
غربتي وطن يا أمــاه ..!
عدوي عزيز يا أمــاه ..!
سؤالي أسف يا أمــاه ..!
صراخي أنحبس يا أمــاه ..!
برجي نحــس يا أمــاه ..!
نثري تشتت يا أمــاه ..!
حاسدي وغد يا أمــاه ..!
سلاحي أنكسر يا أمــاه ..!
صبري نفذ يا أمــاه ..!
عمري قضى يا أمـاه ..!
مكاني مُظلم يا أمــاه ..!
طيفي رحل يا أمــاه ..!
شعري بكى يا أمــاه ..!
حلمي ضاع يا أمــاه ..!

وبعدما أنهى قصيدته خرج من المقـــر تحت أنظار لجنة التحكيم الذين تأثروا به وبشعره والشكوى والحزن التي غلبت على معظم النص , وبعدما عُرضت تلك الحلقة على شاشة التلفزيون طغت قصيدة العجوز وقصته على كل الأحداث ولفتت أنظـــار المشاهدين الذين راحوا يتسابقون ويراسلون المسؤولين عن المسابقة برسائل تخطت أعدادها الملايين لأشراك العجوز وجعله استثناء عن بقية الشروط , ورغم أن اللجنة المشرفة كانت قد رفضت طلب الجماهير بشدة ألا أنــهم رضخوا لذلك نهاية الأمــر بعدما تعرضوا لخسائر كبيرة لقلة رسائل المشاهدين ومشاركاتهم .

وبالفعــل أدخل العجوز إلى المسابقة .. ووصل إلى التصفيات النهائية وتأهــل إلى الحلقة الأخيرة والتي فـــاز بــها وظفر باللقب , وحاز على مسمى أفضل شاعر في العالــم العربي .. وأخذ مبلغ المليون دولار .. وأهدى الفوز إلى روح والدته .


قلم مضطرب
 
رد: حلمي ضاع يا أماه

السلآم عليكُم
لي عودة للقراءة بالتفصيِل​
 
رد: حلمي ضاع يا أماه

جزاك الرحمان كل الخير على القصه الرائعة
الجميل فيها أن العجوز لم يفقد الأمل مطلقات
شكرا على الطرح الراقي و أن شاء الله ماتحرمناش من المزيد
 
رد: حلمي ضاع يا أماه

جزاك الله خيرا والله هالقصة مؤثرة وفيها عبيرة مميزة وهي عدم فقدان الامل
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top