شهر الله المحرَّم - سنن ومحدثـات -

الطيب الجزائري84

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
14 جوان 2011
المشاركات
4,115
نقاط التفاعل
4,668
النقاط
191
العمر
39
الجنس
ذكر
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإنَّ من شرف الشهر الأوَّل من شهور السنة القمرية أن نسبه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى ربِّه، ونعته بالشهر الحرام في قوله صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ»(١)، والمعلوم أنه لا يضيف الله إليه إلاَّ خواصَّ مخلوقاته على سبيل التشريف والتفضيل، قال السيوطي -رحمه الله-: «سُئلتُ: لم خُصَّ المحرَّمُ بقولهم: «شهر الله» -تبارك وتعالى- دون سائر الشهور، مع أنَّ فيها ما يساويه في الفضل أو يزيد عليه كرمضان؟ ووجدتُ ما يجاب به: أنَّ هذا الاسمَ إسلاميٌّ دون سائر الشهور، فإنَّ أسماءها كلَّها على ما كانت عليه في الجاهلية، وكان اسم «المحرَّم» في الجاهلية: «صفرَ الأوَّل»، والذي بعده «صفر الثاني»، فلمَّا جاء الإسلام سمَّاه الله -عزَّ وجلَّ- «المحرَّمَ»، فأضيف إلى الله عزَّ وجلَّ بهذا الاعتبار، وهذه فائدةٌ لطيفةٌ رأيتُها في «الجمهرة»»(٢)، «ويُكْرَهُ أن يُسمَّى المحرَّمُ صفرًا؛ لأنَّ ذلك من عادة الجاهلية» كما ذكر النووي(٣)، ولعلَّ من عادتهم أنهم يُطْلِقون على شهرَيِ المحرَّمِ وصفرٍ لفظَ «الصفرين» من باب التغليب لا لكون المحرَّم اسمًا جديدًا حادثًا، قال الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-: «إنَّ اسم «شهر المحرَّم» كان في الجاهلية يُسمَّى «صَفَرَ الأوَّلَ» وأنَّ تسميته محرَّمًا من اصطلاح الإسلام، وقد ذهب إلى هذا بعض أئمَّة اللغة، وأحسب أنه اشتباهٌ؛ لأنَّ تغيير الأسماء في الأمور العامَّة يُدْخِلُ على الناس تلبيسًا لا يقصده الشارع، ألا ترى أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا خطب حَجَّةَ الوداع، فقال: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قال الراوي (الصحابيُّ نُفَيْعُ بن الحارث رضي الله عنه): «فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ»، فَقَالَ: «أَلَيْسَ بِذِي الحِجَّةِ؟» قُلْنَا: «بَلَى»، قَالَ: «..فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ …»(٤)، ثمَّ ذكر أثناءَ الخطبة الأشهُرَ الحُرُم فقال: «ذُو القَعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»، فلو كان اسمُ المحرَّمِ اسمًا جديدًا لوضَّحه للحاضرين الواردين من الآفاق القاصية، على أنَّ حادِثًا مِثْلَ هذا لو حدث لتناقَلَه الناسُ، وإنما كانوا يُطْلِقُون عليه وصفر لفْظَ «الصفرين» تغليبًا»(٥) بتصرُّفٍ.
هذا، وليس لأوَّل شهر الله المحرَّم نصٌّ شرعيٌّ صحيحٌ يُثبت تخصيصَه بالذِّكر والدعاء والعمرة والصيام لأوَّل يومٍ من السنة بنيَّة افتتاح السنة الهجرية بالصيام، ولا اختتامِها بالصيام عند نهاية السنة بنيَّة توديع العام الهجري، فما ورد من أحاديثَ في هذا الشأن فموضوعةٌ ومختلَقَةٌ على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم(٦)، كما لم يثبتْ في الشرع إحياءُ ليلة أوَّل يومِ المحرَّم بالصلاة والذِّكر والدعاء ونحو ذلك، قال أبو شامة -رحمه الله-: «ولم يأتِ شيءٌ في أوَّل ليلة المحرَّم، وقد فتَّشتُ فيما نُقِلَ من الآثار صحيحًا وضعيفًا، وفي الأحاديث الموضوعة فلم أرَ أحدًا ذكر فيها شيئًا، وإنِّي لأتخوَّف -والعياذ بالله- من مُفترٍ يختلق فيها»(٧).
ويقع في شهر الله المحرَّم يومٌ جليلُ القدر هو يوم عاشوراءَ المباركُ، وحُرمتُه قديمةٌ، إذ فيه نجَّى اللهُ تعالى موسى عليه السلام وبني إسرائيل مِن ظلم فرعون وجنوده، وأغرقه اللهُ وقومَه، فَقَدْ ورد في الصحيحين من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا اليَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فَقَالُوا: «هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ»(٨).
ومن فضائلِه أنَّ صيامَه يُكفِّر السنةَ الماضية، لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ»(٩).
ويُستحبُّ أن يُصامَ معه التاسعُ؛ لأنَّ هذا آخرُ أمره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حيث قال: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ»(١٠)، مخالفةً لليهود الذين كانوا يُفرِدونه بالصوم.
ومن أحكامه نسخُ وجوب صيام عاشوراء إلى الاستحباب بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «صَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ»(١١)، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «..فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ»(١٢)، قال الحافظ ابن حجرٍ –رحمه الله-: «مع العلم بأنه ما تُرِكَ استحبابُه، بل هو باقٍ، فدلَّ على أنَّ المتروكَ وجوبُه.. بل تأكُّدُ استحبابه باقٍ ولا سيَّما مع استمرار الاهتمام به حتَّى في عام وفاته صلَّى الله عليه وسلَّم حيث يقول: «لَئِنْ عِشْتُ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ وَالعَاشِرَ»، ولترغيبه في صومه، وأنه يكفِّرُ سَنَةً، وأيُّ تأكيدٍ أبلغُ من هذا؟»(١٣).
لذلك لا يصحُّ اعتقاد وجوب صيام يوم عاشوراء، ولا اعتقادُ وجوبِ أو استحباب قضائه لمن فاتَه صيامُه، ولا تخصيصُ صوم التاسع فقط دون العاشر، كما لم يرِدْ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابِه رضي الله عنهم في هذا اليوم إلاَّ صيامُه، إذ ليس في يوم عاشوراء شيءٌ من شعائر الأعياد، ولا من شعائر الأحزان، ولا التوسعة على العيال، ولا ضرب الصدور ونتف الشعور، ولا شقِّ الجيوب وإراقة الدماء، فكلُّ ذلك مخالفٌ للسنَّة النبوية المطهَّرة، قال الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-: «والمعتمد عند أهل الإسلام أنه لا يصحُّ في يوم عاشوراء حديثٌ، لا فيه ولا في ليلته، وكلُّ حديثٍ يروى في ذلك وفي التوسعة على العيال في يوم عاشوراء فهو موضوعٌ لا يصحُّ، ولا يثبت فيه سوى صيامه ويومٍ قبلَه؛ لأنه يومٌ نجَّى الله -عزَّ وجلَّ- فيه نبيَّه موسى عليه السلام»(١٤).
قلت: وقد ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»(١٥)، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «..وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ»(١٦).
ومن المؤسف -حقًّا- أن لا يلتزم المسلمون باتِّباع المشروع، وأن يبادروا إلى اتِّخاذ أوَّل شهر الله المحرَّم عيدًا متعلِّقًا بدخول السنة الهجرية على غرار السنة الميلادية، ويجعلوا من ذلك وسيلةً للاحتفال بالتاريخ السنوي وإحيائه -تعظيمًا له- بالذِّكر والذكريات، والخُطَب والدروس والمحاضرات، والشِّعر والأمسيات: فنِّيَّةً وموسيقيةً وثقافيةً، وتبادلِ الأمانيِّ والتهاني، وغيرِ ذلك ممَّا أحدثه الناس فيه مع ظهور بصمات التشبُّه بأهل الكتاب.
ومن زاويةٍ أخرى، فإنَّ الوقائع الجليلة والأحداث الشريفة التي جمعتْها سيرة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم العطرةُ، كبعثته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى الناس بشيرًا ونذيرًا، ونزولِ الوحي عليه، ومعجزةِ القرآن الكريم وسائر معجزاته، وليلةِ الإسراء والمعراج، وهجرتِه من مكَّة إلى المدينة، وحصولِ المعارك والغزوات، وإقامةِ دولة الإسلام، وعلوِّ راية الجهاد في سبيل الله، وانتشار الدعوة إلى الله في الآفاق وغيرها من الحوادث العظيمة الواقعة في زمانه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لا تُضْفِي الصبغةَ الشرعية على الاحتفال بذكرى الهجرة النبوية في الأوَّل من شهر الله المحرَّم من كلِّ عامٍ جديدٍ على أنه عيدٌ وعطلةٌ للمسلمين بالاعتياد والتكرار؛ ذلك لأنَّ المعلوم -شرعًا- أنَّ الأعياد والمواسم الدينية معدودةٌ من مسائل العبادة، والعباداتُ -من حيث حكمُها- توقيفيةٌ تحتاج إلى دليلٍ يشرعها كما هو مقرَّرٌ في القواعد الشرعية؛ لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: ١٨]، وقولِه تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: ٢١]، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(١٧)، ولا يشفع للاحتفال بأوَّل شهر المحرَّم أصلٌ من كتاب الله ولا سنَّة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولم يُؤْثَرْ ذلك عن صحابته الكرام، ولا عن التابعين لهم بإحسانٍ.
ولا مجالَ لإدخال الأعياد والاحتفالات بمثل هذه المناسبات في باب شكر الله تعالى أو تعظيم نبيِّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؛ لأنَّ شُكْرَ الله ليس بالاشتراك معه في التشريع والحكم، وقد قال تعالى: ﴿وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ٢٦]، وإنما شكرُ الله بطاعته وعبادته على وَفْقِ شرعه، وتعظيمُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في اتِّباع سُنَّته، وطاعتِه فيما أمر به وزجر عنه، والتسليمِ لأحكامه، والتأسِّي به في مظهره ومخبره، وعدمِ الابتداع في الدِّين، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١]، وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: ٣١]، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: «هذه الآية الكريمة حاكمةٌ على كُلِّ من ادَّعى محبَّةَ الله وليس هو على الطريقة المحمَّدية، فإنه كاذبٌ في دعواه في نفس الأمر حتى يتَّبع الشرعَ المحمَّديَّ والدِّين النبويَّ في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»... وقال الحسنُ البصريُّ وغيرُه من السلف: زعم قومٌ أنهم يحبُّون اللهَ فابتلاهم الله بهذه الآية فقال: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾»(١٨).
ثمَّ إنه -من زاويةٍ ثالثةٍ- لا يخفى أنَّ الأوَّل من شهر الله المحرَّم هو بداية التقويم السنويِّ الإسلاميِّ من التاريخ الهجريِّ، كذا أرَّخه الصحابة الكرام رضي الله عنهم بالإجماع في الدولة العُمَرِية(١٩)، مخالفين في ذلك بدايةَ التقويم السنويِّ للنصارى حيث أرَّخوه من يوم ولادة المسيح عيسى عليه السلام، ومع ذلك لم تكن هجرة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في شهر المحرَّم، وإنما بدأتْ هجرتُه من مكَّة إلى المدينة في أوائل شهر ربيعٍ الأوَّل من السنة الثالثةَ عَشَرَ لبعثته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ووصل إلى قُباءٍ لاثنتيْ عشْرَةَ ليلةً خلتْ من ربيعٍ الأوَّل يومَ الإثنين كما صرَّح به أهل الحديث والسيرة(٢٠).
ومنه يتبيَّن أنَّ شهر المحرَّم لم يكن موعدَ هجرته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وإنما كان ابتداءُ العزم على الهجرة في ذلك الشهر على أقوى الأقوال كما صرَّح بذلك الحافظ ابن حجرٍ -رحمه الله- بقوله: «وإنما أخَّرُوه من ربيعٍ الأوَّل إلى المحرَّم لأنَّ ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرَّم، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجَّة وهي مقدِّمة الهجرة فكان أوَّل هلالٍ استهلَّ بعد البيعة والعزم على الهجرة هلالَ المحرَّم، فناسب أن يُجْعَلَ مبتدأً، وهذا أقوى ما وقفتُ عليه من مناسبة الابتداء بالمحرَّم»(٢١).
ومن زاويةٍ رابعةٍ فإنَّ من الحقِّ والعدل أن يقتدِيَ المسلمون بالرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويتَّعظوا بسيرته، وينتفعوا بما جرى في زمانه من وقائعَ عظيمةٍ وحوادثَ شريفةٍ، ويستخرجوا منها الدروسَ والعِبَرَ على مدار السنة، تتجسَّد معانيها الروحية في قوالبَ صادقةٍ تقوِّم سيرةَ المسلم وسلوكَه وخُلُقه باستنارته من مشكاة النبوَّة، لا أن تُحْصَرَ سيرتُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والانتفاعُ بأحداثها في الاحتفالات والخُطَب في أيَّامٍ محدَّدة الوقت في السنة تمرُّ مجرَّدَ ذكرياتٍ، وتتكرَّر كلَّ عامٍ على وجه الاعتياد، وسرعان ما تدخل في طيِّ النسيان مع مرور تلك الأيَّام من غير ملاحظة الأثر الإيمانيِّ والخُلُقيِّ على سلوك المسلمين وسيرتهم، بل بالعكس ترى الكثيرَ يتدافعون للانتقال من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر طلبًا لمساكنة أهل الكفر والاسترزاق على وَفْقهم والعيش في ديارهم بحُرِّيَّةٍ بهيميةٍ، ومشاكلتِهم في عاداتهم وتقاليدهم وأعيادهم وأنماط حياتهم، فأين -يا تُرَى- الأثرُ الإيمانيُّ والعمليُّ لذكرى هجرة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الذي هاجر من بلاد الشرك إلى بلاد الإيمان والإسلام؟!!
إنَّ اهتمام السلف الصالح والتابعين لهم بإحسانٍ بسيرة المصطفى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم العطرةِ وحوادثِها العظيمة إنما كان بدراستها واستخراج الدروس والعِبَرِ منها، ويتجلَّى الانتفاع والاتِّعاظ بها طِوَالَ أيَّام السنة ولياليها، وتتجسَّد معانيها العاليةُ -تكريسًا– في سلوكهم وسيرتهم اقتداءً به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في قِيَمِه، والسَّيْرِ على منواله، والتأسِّي به في دعوته إلى توحيد المرسِل وتوحيد متابعة الرسول، وفعلِ ما أمر الشرعُ به وتركِ ما نهى عنه عملاً بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ»(٢٢)، وفي حديثٍ آخَرَ: «المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ»(٢٣)، مع موافقة الشرع فيما يُحِبُّه ويرضاه، وفيما يسخطه ويكرهه ويُبْغِضُه ولا يرضاه من الأقوال والأفعال والاعتقادات والذوات كما هو معلومٌ من عقيدة الولاء والبراء، وهي من لوازم الشهادتين وشرطٌ من شروطها، قال تعالى: ﴿لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران: ٢٨]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٥١]، وقال تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: ٢٢]، وغيرُها من الآيات.
تلك هي الهجرة الباطنية القلبية التي تُلازِمُ المسلمَ في حياته ولا تنفكُّ عنه وتليها -عملاً- هجرةٌ بدنيةٌ ظاهرةٌ محتويةٌ للهجرة القلبية، وهي هجرة المسلم من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام وجوبًا على غير القادر على إظهار شعائر الإسلام في بلاد الكفر ولا الولاء والبراء، ولا هو من المستضعفين الذين لا تسعُهم الهجرة أو كان ممَّن تحول دون هجرته الظروف السياسية والجغرافية.
فهُمَا هجرتان إلى الله ورسوله لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «..فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ»(٢٤)، قال ابن القيِّم -رحمه الله- في الهجرة: إنها «هجرتان:
- هجرةٌ إلى الله بالطلب والمحبَّة والعبودية والتوكُّل والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدْق اللَّجَإِ والافتقار في كلِّ نَفَسٍ إليه.
- وهجرةٌ إلى رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافِقةً لشرعه الذي هو تفصيل محابِّ الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أحدٍ دينًا سواه»(٢٥).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٢ من ذي الحجة ١٤٣٠ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٩ ديسمبر ٢٠٠٩م

(١) أخرجه مسلم في «الصيام» (١١٦٣) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٢) «الديباج شرح صحيح مسلم بن الحجَّاج» للسيوطي (٣/ ٢٥١).

(٣) «الأذكار» للنووي (٣٦٤).

(٤) أخرجه البخاري في «العلم» باب قول النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (٦٧)، ومسلم في «القسامة والمحاربين والقصاص» (١٦٧٩)، من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه.

(٥) «معجم المناهي اللفظية» لبكر بن عبد الله أبو زيد (٣٤١-٣٤٢).

(٦) فمن ذلك حديثٌ موضوعٌ: «مَنْ صَامَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ فَقَدْ خَتَمَ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَافْتَتَحَ السَّنَةَ الْمُقْبِلَةَ بِصَوْمٍ، جَعَلَ اللهُ لَهُ كَفَّارَةَ خَمْسِينَ سَنَةً» [انظر: «اللآلي المصنوعة» للسيوطي (٢/ ١٠٨)، «تنزيه الشريعة» للكناني (٢/ ١٤٨)، «الفوائد المجموعة» للشوكاني (٩٦)].

(٧) «الباعث على إنكار البدع والحوادث» لأبي شامة (٢٣٩).

(٨) أخرجه البخاري في «الصوم» باب صيام يوم عاشوراء (٢٠٠٤)، ومسلم في «الصيام» (١١٣٠)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(٩) أخرجه مسلم في «الصيام» (١١٦٢) من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه.

(١٠) أخرجه مسلم في «الصيام» (١١٣٤) من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(١١) أخرجه البخاري في «الصوم» باب وجوب صوم رمضان (١٨٩٢) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(١٢) أخرجه البخاري في «الصوم» باب صيام يوم عاشوراء (٢٠٠٢)، ومسلم في «الصيام» (١١٢٥)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(١٣) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٢٤٧).

(١٤) «تصحيح الدعاء» لبكر أبو زيد (١٠٩).

(١٥) متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري في «الصلح» باب إذا اصطلحوا على صلحِ جَوْرٍ فالصلح مردودٌ (٢٦٩٧)، ومسلم في «الأقضية» (١٧١٨)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(١٦) أخرجه أبو داود في «السنَّة» باب في لزوم السنَّة (٤٦٠٧)، والترمذي في «العلم» باب ما جاء في الأخذ بالسنَّة واجتناب البدع (٢٦٧٦)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وصحَّحه ابن الملقِّن في «البدر المنير» (٩/ ٥٨٢)، وابن حجر في «موافقة الخُبْر الخَبَر» (١/ ١٣٦)، والألباني في «السلسلة الصحيحة» (٢٧٣٥)، وحسَّنه الوادعي في «الصحيح المسند» (٩٣٨).

(١٧) أخرجه مسلم في «الأقضية» (١٧١٨) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(١٨) «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (١/ ٣٥٨).

(١٩) انظر: «البداية والنهاية» لابن كثير (٣/ ١٧٧).

(٢٠) انظر: «البداية والنهاية» (٣/ ١٧٧، ١٩٠) و«الفصول في سيرة الرسول» (٨٠) كلاهما لابن كثير، «مختصر سيرة الرسول» لمحمَّد بن عبد الوهَّاب (٢/ ١٦٦).

(٢١) «فتح الباري» لابن حجر (٧/ ٢٦٨).

(٢٢) أخرجه البخاري في «الإيمان» باب «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» (١٠) من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما.

(٢٣) أخرجه ابن حبَّان في «صحيحه» (١٩٦)، وعبد بن حُميدٍ في «مسنده» (٣٣٨)، والعدَني في «الإيمان» (٢٦)، وابن منده في «الإيمان» (٣١٨)، والمروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (٥٤٥)، من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما، وصحَّحه الألباني في تحقيق كتاب «الإيمان» لابن تيمية (٣).

(٢٤) أخرجه البخاري في «بدء الوحي» باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (١)، ومسلم في «الإمارة» (١٩٠٧)، من حديث عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.

(٢٥) «طريق الهجرتين» لابن القيِّم (٢٠).


المصدر..موقع الشيخ فركوس حفظه الله
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top