الدعوة السلفية السنِّيَّة وعقباتٌ في طريق النهوض بها

الطيب الجزائري84

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
14 جوان 2011
المشاركات
4,115
نقاط التفاعل
4,668
النقاط
191
العمر
39
الجنس
ذكر
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ دِينَ الإسلامِ الذي رَضِيَ اللهُ لخَلْقِه يُثْبِتُ ـ في باب الاعتقاد ـ دعوةَ التوحيدِ وينفي الكفرَ والشركَ والإلحادَ والنفاق، كما ينفي ـ في باب الاتِّباع ـ الأهواءَ والبِدَعَ والحوادث، ويأمر باتِّباعِ السنَّة والْتزامِ مَضامينِها؛ فذاك مقتضى الشهادتين، والناظرُ في التسلسل التاريخيِّ للأحداث وعوامِلِ ظهور الاتِّجاه السنِّيِّ السلفيِّ يُدْرِكُ أنَّ اللهَ تعالى لمَّا أَكْمَلَ دِينَه ببعثة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم الذي أَرْسَله بالهدى ودِينِ الحقِّ بين يدَيِ الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، تَرَكَ أمَّتَه على مثلِ البيضاء ليلُها كنهارها لا يَزيغُ عنها إلَّا هالكٌ، ثمَّ قامَ بالدِّين ـ بَعْدَه ـ أصحابُه رضي الله عنهم؛ فكانوا يسمعون القرآنَ ويَتْلُونَه ويفهمون معناهُ ويعملون بشرائعه؛ فكانوا ـ حقًّا ـ أَصْدَقَ الأمَّةِ إيمانًا، وأَبَرَّها قلوبًا، وأَعْظَمَها عقولًا، وأَعْمَقَها علمًا، وأَحْسَنَها بيانًا، وأَحَدَّها أذهانًا، وأَكْثَرَها فهومًا، وأَلْطَفَها إدراكًا، وأَقَلَّها تكلُّفًا، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ بعد أَنْ ذَكَرَ قولَ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه: «إنما تُنْقَضُ عُرَى الإسلامِ عُرْوةً عُرْوةً إذا نَشَأَ في الإسلام مَنْ لا يعرف الجاهليةَ»(١): «ولهذا كان الصحابةُ أَعْرَفَ الأمَّةِ بالإسلام وتفاصيلِه وأبوابِه وطُرُقِه، وأَشَدَّ الناسِ رغبةً فيه، ومَحَبَّةً له، وجهادًا لأعدائه، وتكلُّمًا بأعلامه، وتحذيرًا مِنْ خلافه؛ لكمالِ عِلْمِهم بضدِّه؛ فجاءهم الإسلامُ وكُلُّ خصلةٍ منه مُضادَّةٌ لكُلِّ خصلةٍ ممَّا كانوا عليه، فازدادوا له معرفةً وحُبًّا، وفيه جهادًا بمعرفتهم بضِدِّه»(٢)؛ فنَشَرُوا الإسلامَ، وبيَّنوا عقيدتَه وأحكامَه أَحْسَنَ بيانٍ، وأيَّدوا قواعدَ الإسلامِ وأُسُسَ الإيمانِ بالدليل والبرهان، ومَضَوْا على المَحَجَّةِ البيضاء التي تَرَكَهم عليها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأَلْقَوْا إلى التابعين لهم بإحسانٍ ما تلقَّوْهُ مِنْ مشكاة النبوَّة مِنْ نصوص القرآن والسنَّة والإيمان، فاقتفى صراطَهم المستقيمَ الرعيلُ الأوَّلُ مِنْ أتباعهم؛ فأقاموا الحقَّ وأشادوا ركائزَه؛ فأضاءُوا نورَه، فسارَتْ به ركائبُه، دون تقديسٍ للرجال، أو تعصُّبٍ للآباء، أو تشبُّهٍ بالأعداء، أو اتِّباعٍ للبِدَعِ والأهواء؛ فشَرْعُ اللهِ أَعْظَمُ وأَحَبُّ إليهم مِنْ أَنْفُسِهم، وأجَلُّ مِنْ أَنْ يُقدَّمَ عليه قولُ كائنٍ مَنْ كان مِنَ البشر، وأَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُعارِضَه رأيٌ أو قياسٌ أو نظرٌ أو استدلالٌ؛ فهُدُوا ـ بفضل الله ـ إلى الطيِّب مِنَ القول وهُدُوا إلى صراط الحميد.
هذا، وكان لدخولِ كثيرٍ مِنَ الأعاجم مِنْ أهل الدياناتِ الأخرى الإسلامَ، واختلاطِهم بالمسلمين بعد الفتوحات الإسلامية، واتِّساعِ رقعة العالَمِ الإسلاميِّ الأثرُ السلبيُّ البالغُ في ضعفِ اللغة العربية والجهلِ بمُصْطلَحاتها وأسرارِها بسبب العجمة المُهْلِكة(٣)؛ فنَتَجَ عن سوءِ فهمِ اللسان العربيِّ اضطرابٌ في فهمِ معاني نصوص الكتاب والسنَّة والمسائلِ المتعلِّقة بها مِنْ جهةٍ، وسهَّل ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ انتشارَ ما كانوا عليه قبل إسلامهم مِنْ مُعْتَقَداتٍ وتشريعاتٍ ومَذاهِبَ مُخالِفةٍ ـ في مفاهيمها ومَناهِجِها ـ للإسلام ومَقاصِدِه الشرعية، ثمَّ جَدَّ في المجتمع المسلم الفسيحِ فِتَنٌ عظيمةٌ ومِحَنٌ مَقِيتةٌ وأحداثٌ سياسيةٌ كبرى هزَّتْ كيانَه وصدَّعَتْ صفوفَه، وتَبَلْوَرَ فيها الجدلُ العقديُّ والسياسيُّ العقيم، وانقلب ـ فيما بعدُ ـ إلى تفرُّقٍ عَقَديٍّ وصراعٍ دمويٍّ عكَّرَ صفوَ حياةِ المسلمين ولبَّس عليهم أَمْرَ دِينِهم، كان مِنْ ورائِه خُلُوفٌ ظَهَرَتْ فيهم البِدَعُ والضلالات؛ ﻓ ﴿فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢﴾ [الروم]، ويأتي في طليعةِ الضلالات التي ظهَرَتِ:
الغُلُوُّ في الدِّين الذي يُمثِّلُه مذهبُ الخوارج والشيعة والمرجئة.
فالخوارج بفِرَقِهم المتعدِّدة غَلَوْا في فهمِ آيات الوعيد وأَعْرَضوا عن آيات الرجاء والوعدِ بالمغفرة والتوبة، وكان مِنْ نتيجةِ غُلُوِّ الخوارج: اجتماعُهم على تكفيرِ عثمان وعليٍّ رضي الله عنهما، وأصحابِ الجَمَل والحَكَمَين، ومَنْ رَضِيَ بالتحكيم وصوَّبَ الحَكَمين أو أحَدَهما، وظهورُ مبدإ الخروج على السلطان الجائر، وإجماعُهم على أنَّ كُلَّ كبيرةٍ كفرٌ إلَّا النَّجَدَاتِ(٤) فإنها لا تقول بذلك(٥).
وبالمُقابِلِ فقَدْ كان الغُلُوُّ ـ أيضًا ـ أحَدَ الأسبابِ في ظهور الشيعة الروافض، تَجَسَّدَ ـ ابتداءً ـ في حامِلِ لواءِ الغُلُوِّ فيها: عبدِ الله بنِ سَبَإٍ اليهوديِّ، فقَدْ غَالَى في عليٍّ رضي الله عنه وادَّعى له الوصيَّةَ بالخلافة، ثمَّ غَالَى فيه حتَّى رَفَعَه إلى مرتبة الألوهية، ثمَّ تعدَّدَتْ ـ فيما بَعْدُ ـ فِرَقُ الشيعةِ وإِنِ اختلفَتْ مَقالاتُهم المُحْدَثةُ إلَّا أنها وَرِثَتْ مُخلَّفاتِ ابنِ سَبَإٍ في القول بإمامةِ عليٍّ رضي الله عنه وخلافتِه نصًّا ووصيةً، ثمَّ راجَتْ بدعةُ الشيعة ـ بعدها ـ في القول بالوصيَّة والرجعة والغَيْبة، وهكذا بَقِيَ خطُّ التشيُّع مُسْتمِرًّا في الانحراف عن الجادَّة حتَّى بَلَغَ الغُلُوُّ فيهم ذروتَه في رفعِ الأئمَّة إلى درجة النبوَّة، بل إلى مَقام الألوهية(٦).
ثمَّ تَلَا ذلك غُلُوُّ المُرْجِئةِ في الظهور كرَدِّ فعلٍ مُقابِلٍ لغُلُوِّ الخوارج في تكفيرِ مُرْتَكِبِ الكبيرة؛ ففَصَلُوا بين الإيمان والعمل، وأخَّروا العملَ عن الإيمان، وقالوا: لا تضرُّ مع الإيمان معصيةٌ ولا ينفع مع الكفر طاعةٌ؛ فكان غُلُوُّهم في فهمِ آيات الوعد والرجاء والبشارة والعمل بها، والإعراضِ عن آيات الوعيد والإنذار بالتأويل والردِّ.
ومِنْ أسباب ظهورِ الضلالات ـ أيضًا ـ وما انجرَّ عنها مِنَ الفتن:
تعريبُ كُتُبِ الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية مِنْ كُتُبِ العقائد الوثنية وغيرِها؛ فاشتغلَتْ بها طائفةٌ مِنْ عُقَلاءِ المسلمين قراءةً وتحليلًا ومُناقَشةً؛ فانخدعوا بمَناهِجِها ومُقرَّراتِها في البحث، ووَلِعُوا بالعلوم الكلامية والمنطقية اليونانية، وأُشْرِبَتْ قلوبُهم حُبَّها؛ فانعكسَتْ آثارُها السَّلبيةُ في إقحام الفلسفة في الحياة الفكرية للعالَمِ الإسلاميِّ، والاشتغالِ بها عن التبصُّر في نصوص الوحيين وما عليه السلفُ الصالح، واتِّخاذِها ميزانًا للحقائق الشرعية؛ الأمرُ الذي أدَّى إلى إضعافِ أثرِ العقيدة الإسلامية في النفوس إلى حَدٍّ كبيرٍ، وانحرافٍ ظاهرٍ في مسائل الاعتقاد بما لاقَتِ الآياتُ القرآنية المُعارِضةُ للكُتُبِ المُتَرْجَمةِ مِنْ شحنةٍ عارمةٍ مِنَ التبديل والتأويل والتحريف، كما تعرَّضَتِ السنَّةُ النبويةُ ـ هي الأخرى ـ لأنواعِ الانتحال والوضع والردِّ والإبطال؛ حتَّى يتمَّ لهم التوافقُ بينها وبين المقرَّرات الفلسفية والقواعدِ المنطقية المُسْتَحْدَثة.
فأَفْرَطوا في تحكيمِ العقل في قضايَا العقيدة، وبنَوْا إثباتَ المَطالِبِ الإلهية على الأقيسة وإعمالِ البراهين المنطقية، وقدَّموا العقلَ على الشرع، وأوَّلوا النصوصَ الشرعية بأنواع المَجازات، وما أعقب ذلك مِنَ المُؤثِّرات الأخرى؛ فكان أَنْ تَمَيَّزَ الخلفُ بهذه القواعد الكبرى التي تَنَكَّروا فيها لسَلَفِهم الصالح، ودنَّسُوا عقائدَهم بأدرانِ عِلْمِ الكلام اليونانيِّ وتُرَّهاتِ الفلاسفة التائهين، وانحرفوا بها عن سواء السبيل، سواءٌ مِنْ أنصار العقل كالجهمية والمعتزلة والأشعرية والرافضة والخوارج، أو مِنْ أرباب العاطفة ونحوِهم ممَّنْ دلَّتْ نصوصُ الوحيين وإجماعُ سَلَفِ الأمَّةِ على ذَمِّ طرائِقِهم ومسالِكِهم العَقَدية والسلوكية، وقد جاءَ التحذيرُ القرآنيُّ مِنْ مُخالَفةِ سبيلِ الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾ [النساء].
هذا، وأمامَ تفرُّقِ الأمَّةِ الإسلامية، وتعدُّدِ الاتِّجاهات العَقَدية والفكرية فيها، وخاصَّةً بعد فتنة القول بخَلْقِ القرآن، بَدَأَ الشعورُ بالخطر على دِينِ الله الحقِّ يَقْوَى تُجاهَ المَذاهب الضالَّة، وظهرَتِ الحاجةُ مُلِحَّةً إلى استعادةِ المسلك الذي كان عليه السلفُ الصالح وما كانَتْ عليه عقائدُهم، والانتسابِ إليهم، والعودةِ بالإسلام إلى صَفائِهِ الأوَّل؛ الأمرُ الذي دَعَا علماءَ السنَّةِ الأثباتَ وأساطينَها الأعلامَ لنصرة الحقِّ ورَفْعِ رايتِه وتحذيرِ الأمَّةِ مِنْ ضلالاتِ أرباب الأهواء والابتداعِ وانحرافاتهم في مقالاتهم العَقَدية على اختلافِ مَراتِبِ حُكْمِها. ولقَطْعِ باب الحوادث والضلال على كُلِّ مَنِ ابتدع بدعةً يَتوصَّلُ بها إلى القَدْح في سلامة المَفاهيم العَقَدية، فقَدْ شمَّر لذلك أئمَّةُ الإسلامِ العدولُ عن ساعِدِ الجِدِّ لتلخيصِ الأصول العُظْمى وترتيبِ القواعد الكبرى للمذهب السنِّيِّ السلفيِّ؛ حيث تَمَيَّزَ منهجُهم في تقرير الأمور الاعتقادية بمنهجِ عَرْضِ العقيدة الصحيحة مِنَ الكتاب والسنَّة وأقوالِ الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ مِنْ جهةٍ، وبمنهج الردِّ على المُنْحَرِفين عنها ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ صيانةً للدِّين وحفظًا للسنَّة؛ وذلك بعَرْضِ شُبَهِ الخصوم وبيانِ الحقِّ فيها مُدعَّمًا بالأدلَّةِ النقلية مِنَ الوحيين وأقوال الصحابة والتابعين؛ فاجتهدوا في إنقاذِ عقائِدِ الإسلام مِنَ الديانات الضالَّةِ ذاتِ الأصول الوثنية، وانبرَوْا لنَقْدِ كُلِّ جوانِبِ التيَّاراتِ الفلسفية ومُعْتقَداتِ الصوفية المُتَفَلْسِفَةِ، والتيَّاراتِ الباطنية مِنْ أرباب الفِرَقِ الغالية، والديانات المُحرَّفة، ومُعْتقَداتِ المُتكلِّمين مِنَ الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرِهم، كما عَمِلوا على تصفيةِ عقائِدِ الإسلام مِنْ مَظاهِرِ التعقيد العَقَديِّ، ومِنْ كُلِّ دخيلٍ فيها يُؤدِّي ـ بطريقٍ أو بآخَرَ ـ إلى زعزعةِ عقائدِ المسلمين.
وامتازَ المذهبُ السلفيُّ ـ في تقرير العقيدة عَرْضًا ورَدًّا على الخصوم ـ بقواعِدَ سليمةٍ وخواصَّ شريفةٍ؛ فمِنْ قواعِدِه الكبرى المُميِّزةِ له:
ـ الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والاسترشادُ بفهم السلف الصالح مِنَ الصحابة والتابعين وتابِعِيهم ومَنِ الْتزَمَ بنهجهم واقتفى آثارَهم، ويظهر ذلك في العناية بالكتاب والسنَّة حفظًا وتدوينًا ودراسةً وتفسيرًا وتجويدًا واستنباطًا لأحكام الشرع منهما، والردِّ عند التنازع إليهما، ومُراعاةِ ألفاظهما عند بيانِ العقيدة، وتركِ الألفاظ المُجْمَلة والمُصْطلَحات المُوهِمةِ غيرِ الشرعية.
ـ ومِنْ قواعدهم: اتِّخاذُ الكتاب والسنَّةِ ميزانًا للقَبول والردِّ، وأخذُ مَطالِبِ الدِّين مِنْ قِبَلِهما؛ لأنَّ بهما يتجلَّى الهدى مِنَ الضلال، والحقُّ مِنَ الباطل، والصوابُ مِنَ الخطإ، وما سِواهُمَا مِنْ أقوالِ الرجال وأعمالِهِم وآرائهم واجتهاداتهم ومُعْتقَداتهم تُعْرَضُ عليهما؛ فما وافَقَ الكتابَ والسنَّةَ قُبِلَ وعُمِلَ به، وما خالَفَهما رُدَّ على أصحابه مهما كانَتْ منزلتُهم، قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «جِماعُ الفرقانِ بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغيِّ، وطريقِ السعادة والنجاة وطريق الشقاوة والهلاك: أَنْ يُجْعَلَ ما بَعَثَ اللهُ به رُسُلَه وأَنْزَلَ به كُتُبَه هو الحقَّ الذي يجب اتِّباعُه، وبه يحصل الفرقانُ والهدى والعلمُ والإيمان؛ فيُصَدَّقُ بأنه حقٌّ وصِدْقٌ، وما سِواهُ مِنْ كلامِ سائرِ الناس يُعْرَضُ عليه؛ فإِنْ وافَقَهُ فهو حقٌّ، وإِنْ خالَفَهُ فهو باطلٌ»(٧).
ـ تقديم الشرع على العقل مع أنَّ العقل الصحيح لا يُنافي النصَّ الصحيح ولا يُعارِضُه، بل هو مُوافِقٌ له، قال الشاطبيُّ ـ رحمه الله ـ: «لا ينبغي للعقل أَنْ يتقدَّمَ بين يدَيِ الشرع؛ فإنه مِنَ التقدُّم بين يدَيِ اللهِ ورسوله، بل يكون مُلبِّيًا مِنْ وراءَ وراءَ، ثمَّ نقول: إنَّ هذا هو المذهبُ للصحابةِ رضي الله عنهم وعليه دَأَبُوا، وإيَّاهُ اتَّخذوا طريقًا إلى الجنَّة فوَصَلوا»(٨)، وقال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «قد ثَبَتَ أنَّ الله ـ سبحانه ـ قد أَنْزَلَ الكتابَ والميزان؛ فكلاهما في الإنزال أخَوانِ، وفي معرفة الأحكام شقيقان، وكما لا يَتناقَضُ الكتابُ في نَفْسِه فالميزانُ الصحيحُ لا يَتناقضُ في نَفْسِه، ولا يَتناقضُ الكتابُ والميزانُ؛ فلا تَتناقضُ دلالةُ النصوصِ الصحيحة، ولا دلالةُ الأقيسة الصحيحة، ولا دلالةُ النصِّ الصريحِ والقياسِ الصحيح، بل كُلُّها مُتصادِقةٌ مُتعاضِدةٌ مُتناصِرةٌ يُصدِّقُ بعضُها بعضًا، ويشهد بعضُها لبعضٍ؛ فلا يُناقِضُ القياسُ الصحيحُ النصَّ الصحيحَ أبدًا»(٩).
ـ ويدخل في مَعْنَى هذه القاعدةِ والتي قبلها: الاعتمادُ على الكتاب والسنَّة، وعدمُ مُعارَضتِهما بما دونهما مِنْ رأيٍ أو ذَوْقٍ أو عقلٍ أو وَجْدٍ أو قياسٍ، ورَفْضُ الأوهام والخُرافات ونَبْذُ البِدَعِ والشركيات، كما تقتضيه الفِطَرُ القويمةُ والعقول السليمة؛ تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ١﴾ [الحُجُرات]؛ فأهلُ السنَّةِ لم يُهْمِلوا ـ بمَنْهَجِهم ـ العقلَ ولم يُعطِّلوا وظيفتَه، بل أَعْمَلوه في مَجالِه فاستخدموا الأدلَّةَ العقلية والأقيسة الشرعيةَ مُسْتنبَطةً مِنْ نصوصِ الكتاب والسنَّة، كما أَعْمَلوا التفكُّرَ والتدبُّرَ في دلائلِ الهداية وبواعِثِ الإيمان، والتدبُّرَ والنظرَ في الآيات الكونية والمسموعة، هذا مِنْ جهةٍ، ولانتفاءِ التعارُضِ بين النصوصِ الشرعيةِ مِنْ جهةٍ ثانيةٍ؛ لأنَّ الشارع حكيمٌ، والتناقض يُنافي الحكمة، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «وأمَّا حديثان صحيحان صريحان مُتناقِضان مِنْ كُلِّ وجهٍ، ليس أحَدُهما ناسخًا للآخَر؛ فهذا لا يُوجَدُ أصلًا، ومَعاذَ اللهِ أَنْ يُوجَدَ في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج مِنْ بين شفتَيْهِ إلَّا الحقُّ، والآفةُ مِنَ التقصير في معرفة المنقول والتمييزِ بين صحيحه ومعلوله، أو مِنَ القصور في فهمِ مُراده صلَّى الله عليه وسلَّم، وحملِ كلامِه على غيرِ ما عَناهُ به، أو منهما معًا»(١٠)، وقال الشاطبيُّ ـ رحمه الله ـ: «بعد أَنْ نُقدِّمَ مُقدِّمةً لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِها، وهي: أنَّ كُلَّ مَنْ تَحقَّقَ بأصول الشريعةِ فأَدِلَّتُها عنده لا تكاد تَتعارَضُ، كما أنَّ كُلَّ مَنْ حقَّقَ مَناطَ المسائل فلا يكاد يَقِفُ في مُتشابِهٍ؛ لأنَّ الشريعة لا تَعارُضَ فيها ألبتَّةَ؛ فالمتحقِّقُ بها متحقِّقٌ بما في نَفْسِ الأمر؛ فيَلْزَمُ أَنْ لا يكون عنده تعارُضٌ؛ ولذلك لا تجد ألبتَّةَ دليلين أَجْمَعَ المسلمون على تَعارُضِهما بحيث وَجَبَ عليهم الوقوفُ؛ لكِنْ لمَّا كان أفرادُ المجتهدين غيرَ معصومين مِنَ الخطإ أَمْكَنَ التعارضُ بين الأدلَّة عندهم»(١١).
ـ ومنها: قَبولُ أخبارِ الآحاد التي رواها عدلٌ ضابطٌ ـ واحدًا كان أو أَكْثَرَ ما لم يبلغ حَدَّ التواتر ـ عن مِثْلِه بسندٍ مُتَّصِلٍ إلى منتهاهُ وسَلِمَ مِنَ الشذوذ والعِلَّةِ القادحة، ووجوبُ العمل بها، قال ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ: «وأَجْمَعَ أهلُ العلم مِنْ أهل الفقه والأثر في جميعِ الأمصار ـ فيما عَلِمْتُ ـ على قَبولِ خبرِ الواحد العدل وإيجابِ العمل به إذا ثَبَتَ ولم ينسخه غيرُه مِنْ أثرٍ أو إجماعٍ، على هذا جميعُ الفُقَهاءِ في كُلِّ عصرٍ مِنْ لَدُنِ الصحابةِ إلى يومِنا هذا إلَّا الخوارجَ وطوائفَ مِنْ أهل البِدَع»(١٢)، كما يُحْتَجُّ بأخبار الآحاد في مسائل العقيدة وغيرِها مِنْ مسائلِ الدِّين، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «ولم يَزَلِ الصحابةُ والتابعون وتابِعُوهم وأهلُ الحديثِ والسنَّة يحتجُّون بهذه الأخبارِ في مسائل الصفات والقَدَرِ والأسماء والأحكام، لم يُنْقَلْ عن أحَدٍ منهم ألبتَّةَ أنه جوَّزَ الاحتجاجَ بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته»(١٣).
ـ ومِنْ قواعدهم: رَفْضُ التأويل الكلاميِّ المذموم، وهو تأويلُ المتكلِّمين للنصوص الشرعية بما يقتضي التحريفَ والتغيير، حيث يُؤوِّلُ أهلُ الباطلِ نصوصَ الكتابِ والسنَّةِ على غيرِ تأويلها، ويدَّعُونَ صَرْفَ اللفظِ عن مدلوله إلى غيرِ مدلوله بغيرِ دليلٍ يُوجِبُ ذلك؛ لأنَّ الحقَّ ـ عندهم ـ ما عَرَفوهُ بعقولهم ووصلوا إليه بأقيستهم، فإذا ما حَصَلَ تعارُضٌ بين النصوص الشرعية ومُقرَّراتِهم العقلية صَرَفُوا النصوصَ عن ظاهِرِها على وجه الباطل لتُسايِرَ أهواءَهم وتُوافِقَ عقولَهُم، وسَمَّوُا التحريفَ تأويلًا تزيينًا له وزخرفةً، وقد ذَمَّ اللهُ تعالى الذين زخرفوا الباطلَ في قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗا﴾ [الأنعام: ١١٢].
ولا يخفى خطورةُ التأويلِ المذمومِ وما يُخلِّفُه مِنْ عظيمِ الآفاتِ والفِتَنِ والجنايات على الإسلام وأهلِه؛ فهو أصلُ كُلِّ فسادٍ ومَضَرَّةٍ، وقد أَفْصَحَ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ عن الآثار السيِّئة الناجمة عن التأويل الفاسد بما نصُّه: «إذا تَأمَّلَ المُتأمِّلُ فسادَ العالَمِ وما وَقَعَ فيه مِنَ التفرُّق والاختلاف وما دفع إليه أهل الإسلام وَجَدَهُ ناشئًا مِنْ جهةِ التأويلات المُخْتلِفةِ المُسْتعمَلةِ في آيات القرآن وأخبارِ الرسول التي تَعلَّقَ بها المُخْتلِفون على اختلافِ أصنافهم في أصول الدِّين وفروعه؛ فإنها أَوْجَبَتْ ما أَوْجَبَتْ مِنَ التباين والتحارُبِ، وتفرُّقِ الكلمة، وتشتُّتِ الأهواء، وتصدُّع الشمل، وانقطاعِ الحبل، وفسادِ ذاتِ البَيْنِ؛ حتَّى صارَ يُكفِّرُ ويلعن بعضُهم بعضًا، وترى طوائفَ منهم تسفك دماءَ الآخَرِين وتَسْتحِلُّ منهم أَنْفُسَهم وحُرَمَهم وأموالَهُم ما هو أَعْظَمُ ممَّا يرصدهم به أهلُ دار الحرب مِنَ المُنابِذين لهم؛ فالآفاتُ التي جَنَتْها ويَجْنِيها ـ كُلَّ وقتٍ ـ أصحابُها على المِلَّةِ والأمَّةِ مِنَ التأويلات الفاسدة أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى أو يبلغها وصفُ واصفٍ أو يُحيطَ بها ذِكْرُ ذاكرٍ، ولكنَّها في جملةِ القول أصلُ كُلِّ فسادٍ وفتنةٍ، وأساسُ كُلِّ ضلالٍ وبدعةٍ»(١٤)، ثمَّ يزيد ـ رحمه الله ـ القولَ وضوحًا عند ذِكْرِ بعضِ وجوه الفِتَنِ والمِحَنِ التي لَحِقَتْ دارَ الإسلامِ مِنْ وراءِ التأويل الفاسد بقوله: «ومِنْ جناياتِ التأويلِ ما وَقَعَ في الإسلام مِنَ الحوادث بعد موت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وإلى يومِنا هذا، بل في حياته صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه؛ فإنَّ خالد بنَ الوليد قَتَلَ بني جَذيمةَ بالتأويل، ولهذا تَبرَّأَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ صُنْعِه وقال: «اللهم إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ»(١٥)، ومَنَعَ الزكاةَ مَنْ مَنَعَها مِنَ العرب بعد موت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالتأويل وقالوا: «إنما قال اللهُ لرسوله: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡ﴾ [التوبة: ١٠٣]، وهذا لا يكون لغيره»؛ فجَرَى بسببِ هذا التأويلِ الباطلِ على الإسلام وأهلِه ما جَرَى، ثمَّ جَرَتِ الفتنةُ التي جَرَّتْ قَتْلَ عثمانَ بالتأويل، ولم يَزَلِ التأويلُ يأخذ مَأْخَذَهُ حتَّى قُتِلَ به عثمانُ؛ فأخَذَ بالزيادة والتولُّدِ حتَّى قَتَلَ به بين عليٍّ ومُعاويةَ بصِفِّينَ سبعين ألفًا أو أَكْثَرَ مِنَ المسلمين، وقُتِلَ أهلُ الحَرَّةِ بالتأويل، وقُتِلَ يومَ الجملِ بالتأويل مَنْ قُتِلَ، ثمَّ كان قَتْلُ ابنِ الزبير ونَصْبُ المنجنيق على البيت بالتأويل، ثمَّ كانَتْ فتنةُ ابنِ الأشعث وقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنَ المسلمين بدِيرِ الجماجم بالتأويل، ثمَّ كانَتْ فتنةُ الخوارجِ وما لَقِيَ المسلمون مِنْ حروبهم وأذاهم بالتأويل، ثمَّ خروجُ أبي مسلمٍ وقَتْلُه بني أُمَيَّةَ وتلك الحروبُ العِظامُ بالتأويل، ثمَّ خروج العلويِّين وقَتْلُهم وحَبْسُهم ونفيُهم بالتأويل، إلى أضعافِ أضعافِ ما ذَكَرْنا مِنْ حوادثِ الإسلام التي جرَّها التأويلُ، وما ضُرِبَ مالكٌ بالسياط وطِيفَ به إلَّا بالتأويل، ولا ضُرِبَ الإمامُ أحمدُ بالسياط وطُلِبَ قَتْلُه إلَّا بالتأويل، ولا قُتِلَ أحمد بنُ نصرٍ الخُزَاعيُّ إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على نُعَيْمِ بنِ حمَّادٍ الخُزاعيِّ ما جَرَى وتَوجَّعَ أهلُ الإسلام لمُصابِه إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على محمَّد بنِ إسماعيل البخاريِّ ما جَرَى ونُفِيَ وأُخْرِجَ مِنْ بلدِه إلَّا بالتأويل، ولا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ خُلَفاءِ الإسلام وملوكه إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على شيخ الإسلام عبد الله أبي إسماعيل الأنصاريِّ ما جَرَى وطُلِبَ قَتْلُه بضعةً وعشرين مرَّةً إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على أئمَّةِ السنَّةِ والحديثِ ما جَرَى حين حُبِسوا وشُرِّدُوا وأُخْرِجُوا مِنْ ديارهم إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على شيخ الإسلام ابنِ تيمية ما جَرَى مِنْ خصومه بالسَّجْنِ وطَلَبِ قَتْلِه أَكْثَرَ مِنْ عشرين مرَّةً إلَّا بالتأويل؛ فقاتَلَ اللهُ التأويلَ الباطلَ وأهلَه، وأخَذَ حَقَّ دِينِه وكتابِه ورسولِه وأنصارِه منهم»(١٦).
هكذا أقامَ السلفُ دِينَ اللهِ بالحفظ والتعظيم والعمل دون تحريفٍ أو تأويلٍ، وكان فَضْلُهم على الخلف كبيرًا، وضِمْنَ هذا المنظورِ قال الشيخ محمَّد البشير الإبراهيميُّ(١٧) ـ رحمه الله ـ: «أقامَ سَلَفُنا الصالحُ دِينَ اللهِ كما يجب أَنْ يُقامَ، واستقاموا على طريقته أَتَمَّ استقامةٍ، وكانوا يَقِفُون عند نصوصه مِنَ الكتاب والسنَّة، لا يتعدَّوْنَها ولا يتناولونها بالتأويل، وكانَتْ أدواتُهم لفَهْمِ القرآن: روحَ القرآن، وبيانَ السنَّة، ودلالةَ اللغة، والاعتباراتِ الدينيةَ العامَّة، ومِنْ وراءِ ذلك فطرةٌ سليمةٌ، وذوقٌ متمكِّنٌ، ونظرٌ سديدٌ، وإخلاصٌ غيرُ مدخولٍ، واستبراءٌ للدِّينِ قد بَلَغَ مِنْ نفوسهم غايتَه، وعزوفٌ عن فتنة الرأي وفتنةِ التأويل، أدَّبهم قولُه تعالى: ﴿أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣]، وقولُه تعالى: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩]؛ فكانوا أَحْرَصَ الناسِ على وفاقٍ، وكانوا كُلَّما طافَ بهم طائفُ الخلافِ في مسألةٍ دينيةٍ بادَرُوهُ بالردِّ إلى كتاب الله وإلى سنَّةِ رسوله؛ فانحسم الداءُ وانجابَتِ الحيرةُ»(١٨).
تلك هي بعضُ نماذِجِ قواعدِ المنهج السلفيِّ القائم على خاصِّيةِ الشمول، وفَتْحِ باب الاجتهاد، وذَمِّ الهوى، ونبذِ الجمود الفكريِّ والتعصُّبِ للمذاهب وآراءِ الرجال، وذَمِّ التشبُّه بالكُفَّار.
والمنهج السلفيُّ مُؤسَّسٌ ـ أيضًا ـ على التوسُّط والاعتدال بين المَناهج الأخرى في الاعتقاد والقول والعمل؛ لذلك كان الانتسابُ إلى السلف رمزًا للافتخار؛ لأنَّ منهجهم يُمثِّلُ الإسلامَ في ذاته الذي كان عليه الرعيلُ الأوَّلُ، مِنْ غيرِ تحريفٍ أو تبديلٍ، وعلامةً على العدالة في الاعتقاد؛ لأنَّ منهجهم يعكس ـ بوضوحٍ ـ الإشعاعَ العلميَّ قديمًا وحديثًا، ويُجسِّدُ أصالةَ الفكر الإسلاميِّ وعقيدةِ الإسلام.
هذا، وإذا كان أبناءُ الأمَّةِ المُخْلِصون وعُلَماؤُها العاملون أَنْفَقُوا أوقاتَهم وكرَّسوا جهودَهم عبر المَراحِلِ التاريخية المُتَسَلْسِلَةِ في مسيرتهم الدعويةِ لإحياء المنهج السلفيِّ السنِّيِّ، واستعادةِ مسلك الرعيل الأوَّل، والنهوضِ بالدعوة للعودة بالإسلام إلى صفائه الأوَّل ـ قديمًا وحديثًا ـ إلَّا أنَّ عَقَباتٍ عائقةً تعتري طريقَهم اليومَ وتعوق مسيرةَ الدعوةِ وانتشارَها، وتحول دون النهوضِ بالمسلمين وانبعاثِ حضارتهم مِنْ جديدٍ، وخاصَّةً في هذا العصرِ الذي استفحل فيه الصراعُ بين المَذاهب الفكرية والمناهجِ العَقَدية المُخْتلفةِ والإيديولوجيات الغربية المُتبايِنة، ومِنْ هذه العَقَبات والعوائق ما يأتي:
أوَّلًا: هيمنة العلمانيةِ المُنْتشِرة في العالَمِ الإسلاميِّ بمَظاهِرِ الحضارة المادِّيَّةِ ذاتِ المفاهيمِ المُناهِضةِ لعقيدة المسلمين، والمناهِجِ المُناوِئةِ لأحكام الدِّين، تلك العلمانيةُ المفروضةُ على أبناءِ أمَّةِ الإسلامِ قائمةٌ على الإلحاد بوجهه الصريحِ وإبعادِ الدِّينِ عن الدولة والحياة(١٩)، بل تسعى إلى هدمِ صَرْحِ الدِّينِ في المجتمع أو إخراجه إخراجًا كاملًا مِنْ مَضامِينِه وقِيَمِهِ، وتعمل على تحطيمِ سدودِ قِيَمِه الأخلاقية التي تحول دون استشراءِ الإباحيَّة والإلحاد؛ فكان هدفُ العلمانيةِ الأوَّلُ هو احتواءَ التربيةِ والتعليمِ مِنْ أجلِ بَعْثِ أجيالٍ لا تعرف الدِّينَ ولا الأخلاق، وساعَدَ سريانَ العلمانيةِ في العالَمِ الإسلاميِّ انحرافُ كثيرٍ مِنَ المسلمين عن العقيدة السليمة، وانتشارُ البِدَعِ والأهواء، وضآلةُ الفقهِ في الدِّين، وانبهارُ المسلمين بتقدُّمِ الغرب الواسع في ميدانِ العلم المادِّيِّ والقُوَّة العسكرية، خاصَّةً بعد ضعفِ شوكة المسلمين واحتلالِ الغرب الغاشم لأراضيه وأوطانِه التي عَمِلَ فيها على إقصاء الإسلام وإبعاده مِنْ واقعِ الحياة وسياسةِ الدولة والحكم، وترسيخِ الركائز العلمانية، وإحلالِ المناهج الإلحادية مَحَلَّها، وتَمكَّنَ الغربُ مِنْ دَعْمِ المخدوعين مِنْ ذوي الثقافات الغربية وأصحابِ الاتِّجاهات المُنْحرِفةِ بمَزاعِمِ الكُفَّارِ بأنَّ الدِّينَ مُعيقٌ للعلم، وأنَّ تَقدُّمَ بلادهم مُتوقِّفٌ على فصلِ الدِّين عن الدولة والحياة، وغالبيةُ المسلمين يجهلون حقيقةَ العلمانية لتَسَتُّرِها بأَقْنِعةٍ مُخْتَلِفةٍ كالوطنية والاشتراكية والقومية وغيرِها مِنَ الأفكار والإيديولوجيات السياسية، كما تختفي العلمانيةُ وراءَ النظريات الهدَّامة كالفرويدية والداروينية التطوُّرية؛ فالعلمانية تجعل القِيَمَ الروحية قِيَمًا سلبيةً، وتفتح المجالَ لانتشارِ الإلحاد والاغتراب، وإشاعةِ الفواحش والشذوذ والإباحية والفوضى الأخلاقية، ومُحارَبةِ الحدود الشرعية، والاستهانةِ بالسنن، وتدعو إلى تحريرِ المرأةِ تماشيًا مع الأسلوب الغربيِّ الذي لا يُدِينُ العلاقاتِ المحرَّمةَ بين الجنسين؛ الأمرُ الذي ساعَدَ على فَتْحِ الأبواب على مِصْرَاعَيْها للمُمارَساتِ الدنيئة التي أَفْضَتْ إلى هَدْمِ كيان الأسرة وتشتيتِ شَمْلِها، وبهذا النَّمَطِ والأسلوب تُرَبَّى الأجيالُ تربيةً لا دِينيةً في مُجْتمَعٍ يغيب فيه الوازعُ الدِّينيُّ ويعدم فيه صوتُ الضمير الحيِّ، ويَحِلُّ مَحَلَّه هيجانُ الغرائز الدنيويةِ كالمنفعة والطمع والتَّنَازُعِ على البقاء وغيرِها مِنَ المَطالِب المادِّيةِ دون اعتبارٍ للقِيَمِ الروحية، تلك هي العلمانيةُ التي انتشرَتْ في العالَمِ الإسلاميِّ والعربيِّ بتأثير الاستعمار وحَمَلاتِ التنصير والتبشير، وبغفلةٍ مِنَ المغرورين مِنْ بني جِلْدَتِنا الذين رَفَعُوا شِعارَها، ونفَّذُوا مخطَّطاتِ واضِعِيها ومُؤيِّدِيها، الذين لبَّسوا على العوامِّ شُبُهاتٍ ودَعَاوَى غايةً في الضلال.
ثانيًا: اعتمادُ مُعْظَمِ الدراسات والبحوثِ الإسلامية على آراء المُسْتَشْرِقين الذين كان لهم السَّبْقُ في العناية الماكرة بالفِرَقِ المُخالِفَةِ لأهل السنَّةِ وإيجادِ الصِّلَاتِ بين مُخْتَلَفِ مُعْتَقَداتِها مِنْ جهةٍ، وإبرازِ المقالات العَقَدية الخلافية لهذه الفِرَقِ الغالية المنشقَّة كالخوارج والشيعة الروافض والقَدَريةِ والجبرية والجهمية والمعتزلة والأشاعرة وفِرَقهم، وبيانِ أنَّ مَصادِرَ مقالاتِها خارجيةٌ مُسْتمَدَّةٌ مِنْ عقائدَ ودياناتٍ قائمةٍ على فلسفاتٍ يونانيةٍ وفارسيةٍ وهندوسيةٍ وغيرِها، ثمَّ تصوير التاريخ الإسلاميِّ مِنْ خلالِ تلك المُعْتقَداتِ الفاسدةِ والآثارِ السلبيةِ مُتمثِّلةً في الجدل والخلاف العقيم، وما تُخلِّفُه مِنِ انقسامٍ وشقاقٍ عريضٍ.
ولم تَحْظَ المدرسةُ السنِّيَّةُ السلفيةُ بالقَدْرِ الكافي في دراسةِ منهجها في الاستدلال على أصول الدِّين، ولم تُعْطَ الوجهَ الصافيَ في بيانِ خصائص المنهج السنِّيِّ السلفيِّ ومميِّزاته وطريقته في عَرْضِ العقيدة والنقاش والردِّ على المُخالِفين، بل أظهرَتْ تلك الدراساتُ المَدارسَ السنِّيَّةَ والمنهجَ السلفيَّ بصُوَرٍ مُضلِّلةٍ بعيدةٍ عن الحقِّ والإنصاف.
وكثيرٌ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنا سَلَكوا في دراساتهم وبحوثِهم مَسْلَكَ الدراسات الاستشراقية، وتَعمَّقُوا في دراسة المَدارِسِ الفكرية للمُتكلِّمين مِنَ المعتزلة والأشعرية، وكذا مُعْتقَدات الصوفية المُتَفَلْسِفَة وغيرها:
ـ إمَّا ظنًّا أنَّها دِينُ اللهِ الإسلامُ، وعَمِيَ عليهم المنهجُ الربَّانيُّ الحقُّ وَسَطَ خُزَعْبلات المَناطقة وتُرَّهات الفلاسفة وتَمَحُّلات المُتكلِّمين وشَطَحات الصوفية.
ـ وإمَّا أَنْ تكون الدراساتُ الإسلاميةُ مُتأثِّرةً بالدراسات الاستشراقية، فتعكس ـ في جوهرها ـ تطبيقَ العلمنة على التعليم ومَناهِجِه، وعدَمَ تصفيةِ مَصادِرِه ومَوارِدِه؛ الأمرُ الذي تَبَلْوَرَ في سلوكياتِ بني جِلْدَتِنا في تنشئتهم الجامعية، مُتشبِّعين في ذلك بزخمِ ثقافة القويِّ المتبوع.
ثالثًا: تَقمُّصُ بعضِ الحركات التكفيرية والأحزابِ المشبوهةِ ثوبَ أهل السنَّة والجماعة وتَغَلْغُلُها في الساحة الدعويَّة باسْمِ السلفية الجهادية أو السلفية الحزبية ـ زَعَمُوا ـ وغيرِهما مِنَ الأسماء؛ ليُعْطوا المصداقيةَ لحركاتهم الثورية القائمةِ على نَزْعِ يد الطاعة عن الحاكم، وترويعِ الآمنين، وسَفْكِ الدماء وقَتْلِ الأبرياء، وإتلافِ المُنْشآت وتخريبِ المُمْتلَكات، وإحداثِ الفوضى الاجتماعية والاضطرابات الأمنية لزعزعةِ كيان الدولة المسلمة، ثمَّ نِسْبتها إلى السلفية؛ تشويهًا للحقِّ وتضليلًا للناس، وترسًا للتعمية في مُخادَعةٍ خطَّافةٍ مِنْ أعداء أهل السنَّة لمُغالَطةِ ضُعَفاءِ البصيرة أو القلوب غيرِ الواعية، الفاقدةِ لمَعاييرِ التمييز بين الحقِّ والباطل(٢٠).
رابعًا: تَسلُّلُ تقسيماتٍ اصطلاحيةٍ باطلةٍ ابتدعها المُغْرِضُونَ للدعوة السلفية والمُناوِئون لها، وأهلُ أحزاب المَناهِجِ الدعوية وشِيعَتُهم يعملون على تفعيلها في وسط الساحة الدعوية: كتقسيم السلفية إلى: سلفيةٍ وطنيةٍ، أي: المُوالِية للسلطة، وتُقابِلها: السلفية الجهادية، أي: المُعادِية لها؛ وسلفيةٍ تجديديةٍ أي: الداخلة في مُعْترَكِ السياسة والأحزاب، وتُقابِلُها: سلفيةٌ تقليديةٌ وهي السلفية العلمية، ناهيك عن الألقاب والنعوت والمَعايِبِ الكاذبة التي ما أَنْزَلَ اللهُ بها مِنْ سلطانٍ، وأَكْثَرُها انتشارًا كلمةُ: «الوهَّابية»؛ بغيةَ إضعافِ تأثيرِ الدعوة السلفية في نفوس المَدْعُوِّينَ، وتنفيرِ العامَّة وإبعادِهم عنها، وشَقِّ الصفِّ السلفيِّ؛ جريًا على القاعدة الاستعمارية: «فَرِّقْ تَسُدْ»، قال محمَّد البشير الإبراهيميُّ ـ رحمه الله ـ فاضحًا هذا الأسلوبَ في مُحارَبةِ دعوة الحقِّ بما نصُّه: «يقولون عنَّا: إنَّنا وهَّابيون، كلمةٌ كَثُرَ تَرْدادُها في هذه الأيَّام الأخيرة حتَّى أَنْسَتْ ما قبلها مِنْ كلماتٍ: عبداويِّين وإباضيِّين وخوارج، فنحن ـ بحمد الله ـ ثابتون في مكانٍ واحدٍ وهو مُسْتقَرُّ الحقِّ، ولكنَّ القومَ يصبغوننا في كُلِّ يومٍ بصبغةٍ، ويَسِمُونَنَا في كُلِّ لحظةٍ بِسِمَةٍ، وهُمْ يتَّخِذون مِنْ هذه الأسماء المُخْتلِفةِ أدواتٍ لتنفير العامَّة منَّا وإبعادِها عنَّا، وأسلحةً يُقاتلوننا بها، وكُلَّما كَلَّتْ أداةٌ جاءوا بأداةٍ، ومِنْ طبيعة هذه الأسلحة الكَلالُ وعدمُ الغَناء، وقد كان آخِرُ طرازٍ مِنْ هذه الأسلحة المفلولةِ التي عَرَضوها في هذه الأيَّام كلمةُ: «وهَّابيٍّ»، ولعلَّهم حَشَدوا لها ما لم يحشدوا لغيرها، وحَفَلوا بها ما لم يحفلوا بسواها، ولعلَّهم كافَأوا مُبْتدِعَها بلقبِ: «مُبْدعٍ كبيرٍ»»(٢١)، وقال رحمه الله ـ أيضًا ـ: «يا قومِ!! إنَّ الحقَّ فوق الأشخاص، وإنَّ السنَّةَ لا تُسمَّى باسْمِ مَنْ أحياها، وإنَّ الوهَّابيِّين قومٌ مسلمون يشاركونكم في الانتساب إلى الإسلام، ويفوقونكم في إقامة شعائره وحدوده، ويفوقون جميعَ المسلمين في هذا العصرِ بواحدةٍ، وهي: أنهم لا يُقِرُّون البدعة، وما ذَنْبُهم إذا أنكروا ما أَنْكَرَهُ كتابُ اللهِ وسنَّةُ رسوله وتَيسَّرَ لهم مِنْ وسائل الاستطاعة ما قَدَرُوا به على تغيير المُنْكَر؟ أإذا وافَقْنا طائفةً مِنَ المسلمين في شيءٍ معلومٍ مِنَ الدِّينِ بالضرورة وفي تغييرِ المُنْكَرات الفاشيةِ عندنا وعندهم ـ والمُنْكَرُ لا يختلف حكمُه بحكم الأوطان ـ تنسبوننا إليهم تحقيرًا لنا ولهم، وازدراءً بنا وبهم، وإِنْ فرَّقَتْ بيننا وبينهم الاعتباراتُ؛ فنحن مالكيُّون برغم أنوفكم، وهُمْ حنبليون برغم أنوفكم، ونحن في الجزائر وهُمْ في الجزيرة، ونحن نُعْمِلُ في طريق الإصلاح الأقلامَ وهُمْ يُعْمِلون فيها الأقدام، وهُمْ يُعْمِلون في الأضرحة المَعاوِلَ ونحن نُعْمِلُ في بانيها المَقاوِلَ»(٢٢).
علمًا أنَّ: «أهل السنَّة السلفيِّين ـ والحمدُ لله ـ لا يُداهِنُون وُلَاةَ الأمر بباطلٍ، ولا يمدحونهم على معصيةٍ بنفاقٍ، ولا يُزيِّنون لهم الباطلَ، ولا يُتاجِرُون بعلمهم، وإنما عُرِفوا بالصدق في مُناصَحةِ الحُكَّام؛ لأنَّ مُناصَحتَهم مُنافِيةٌ للغِلِّ والغِشِّ، كما عُرِفُوا بالصدع بالحقِّ وبيانِه بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة مِنْ غيرِ تعنيفٍ ولا تحريضٍ على الخروج ولا اغتيالٍ ولا تفجيرٍ، ولا يرضَوْن بهذه الأمور إلَّا ما كانَتِ الشدَّةُ والغلظةُ في مجالها الحقِّ الصحيح وبالوجه المشروع»(٢٣).
كما يَتجاسرُ أهلُ المَناهِجِ الدعويةِ المُخالِفةِ للدعوة السلفية والمُوالون لهم مِنَ الأحزاب وأصحاب الصُّحُفِ وغيرِها على اصطناعِ أخبارٍ مُلفَّقةٍ كاذبةٍ وبياناتٍ مُغْرِضةٍ ونقاشٍ للحقائق هزيلٍ: ﴿يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡ﴾ [التوبة: ٤٧]، وهذا أمرٌ جَرَتْ عليه سُنَّةُ المُبْطِلين الطاعنين في أهل السنَّة السلفيِّين، قال الصابونيُّ ـ رحمه الله ـ: «وأصحابُ الحديثِ عِصَامةٌ مِنْ هذه المَعايب، وليسوا إلَّا أهلَ السيرة المَرْضيَّة، والسُّبُلِ السويَّة، والحُجَجِ البالغة القويَّة، قد وفَّقهم اللهُ جَلَّ جلالُه لاتِّباع كتابه، ووحيِه وخطابِه، والاقتداءِ برسوله صلَّى الله عليه وسلَّم في أخباره التي أَمَرَ فيها أُمَّتَه بالمعروف مِنَ القول والعمل، وزَجَرَهم فيها عن المُنْكَرِ منهما، وأعانَهم على التمسُّك بسيرته، والاهتداءِ بمُلازَمةِ سُنَّته»(٢٤).
خامسًا: ومِنَ العَقَبات العائقةِ عن النهوض بالدعوة إلى الله على وجه التمام: تصلُّبُ بعضِ الدُّعاةِ المُنْتَسِبين للسلفية على مَواقِفَ وآراءٍ مُجانِبةٍ للصواب يقضي الشرعُ ببطلانها، ومع ذلك لا يرجعون إلى الحقِّ ولو أَمْدَدْتَهم بألفِ دليلٍ، بل يَتعصَّبون لآرائهم ويَسْتميتون عليها، ويُحرِّكون أنصارَهم المُوالِينَ لهم للدفاع عنها بما أَنْكَرَهُ السلفُ مِنَ الجدل المذموم والخوضِ في المِراءِ والخصومات المُشْتمِلةِ على تأسيساتٍ كاذبةٍ وإيحاءاتٍ وظنونٍ وهميةٍ وقراءاتٍ ما بين السطور ـ زَعَموا ـ وأخرى بلا سطورٍ، وغالبًا ما تكون مُخالِفةً للحقِّ والواقع، واللهُ المستعانُ.
وآخَرُون مِنْ طلبةِ العلم لم يَلْتَزِموا بقواعدِ العُلَماء، ولم يَتقيَّدُوا بمنهجهم في بيانِ أحوال الرجال؛ لذلك لم يسلكوا سبيلَ النزاهة والأمانة في الحكم، ولا سبيلَ الحيطة والأدب في نَقْدِهم، وهذا ما يجري في مَناطِقَ عِدَّةٍ مِنْ بلادنا؛ فأَشْبَهَ الوقيعةَ بغير حقٍّ في مَقامِ التجريح، وهو أَقْرَبُ إلى التشنيع المدفوع بِدَاءِ الحسد والغَيْرة، أو بِدَاءِ الهوى والبغي، ونحوِ ذلك مِنَ العداوات الدنيوية.
وقد اتَّسَعَ الخَرْقُ في هذا المَجال بما أَسْهَمَ به ـ بشكلٍ مُلاحَظٍ ـ كثيرٌ مِنَ المُشارِكين في المُنْتَدَيَات الإسلامية ـ في عالَمِ الإنترنت ـ في تأجيجِ الوضع على الساحة الدعوية بالجدل والخصومات والتحدِّي، وفَتْحِ مجالاتها للنَّيْل مِنْ رجالِ الدعوة إلى الله مِنْ هذه الأمَّةِ، ورَمْيِ عُلَمائها وخِيارِها وصفوتها بالجهل والنقص وسوء الظنِّ، وتقزيمِ رسالتهم الدعوية ومَهَمَّتِهم التربوية؛ الأمرُ الذي أَحْدَثَ ضغائنَ وعداواتٍ وبَغْضاءَ، وخلَّف تقاطعًا وتدابرًا، وفَتَحَ بابَ فتنةٍ وهَلَكةٍ، وأعداءُ الإسلامِ يسعدون في كُلِّ مكانٍ بما آلَتْ إليه الدعوةُ السُّنِّيَّةُ السلفيةُ بسببهم.
وهذه المنتدياتُ ـ بمُخْتلَفِ عناصرِها وأشكالِهَا ـ تَتحمَّلُ المسئوليةَ المُلْقاةَ على عاتِقِها وأوزارَ حصيلةِ جِنايتِها في تصدُّعِ أركان الصفِّ السلفيِّ وتمزيقِ وحدته، وإعاقةِ الدعوة وتَقَهْقُرِها.
وقد ظَنَّ أهلُ المنتديات أنَّ كثرةَ المَقال والجدال، والكلامِ والخصام، والتوسُّعَ في القِيلِ والقال، ونحو ذلك يدلُّ على الأحَقِّية والأعلمية؛ فهذا ـ بلا شكٍّ ـ جهلٌ مُبينٌ، وقد وضَّح ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ حقيقةَ العلمِ المطلوب بقوله: «فليس العلمُ بكثرة النقل والبحثِ والكلام، ولكِنْ نورٌ يُميَّزُ به صحيحُ الأقوالِ مِنْ سقيمها، وحَقُّها مِنْ باطِلِها، وما هو مِنْ مشكاة النبوَّةِ ممَّا هو مِنْ آراء الرجال»(٢٥)، وزاد ابنُ رجبٍ ـ رحمه الله ـ تأكيدًا لهذا المعنى بقوله: «وقَدْ فُتِنَ كثيرٌ مِنَ المُتأخِّرِين بهذا فظنُّوا أنَّ مَنْ كَثُرَ كلامُه وجِدالُه وخِصامُه في مَسائلِ الدِّينِ فهو أَعْلَمُ ممَّنْ ليس كذلك، وهذا جهلٌ محضٌ، وانْظُرْ إلى أكابِرِ الصحابةِ وعُلَمائِهم كأبي بكرٍ وعمر وعليٍّ ومُعاذٍ وابنِ مسعودٍ وزيد بنِ ثابتٍ: كيف كانوا؟ كلامُهم أَقَلُّ مِنْ كلام ابنِ عبَّاسٍ وهُمْ أَعْلَمُ منه، وكذلك كلام التابعين أَكْثَرُ مِنْ كلام الصحابة والصحابةُ أَعْلَمُ منهم، وكذلك تابِعُو التابعين كلامُهم أَكْثَرُ مِنْ كلام التابعين والتابعون أَعْلَمُ منهم؛ فليس العلمُ بكثرة الرواية ولا بكثرة المَقال، ولكنَّه نورٌ يُقْذَفُ في القلب يَفْهَمُ به العبدُ الحقَّ ويُميِّزُ به بينه وبين الباطل، ويُعبِّرُ عن ذلك بعباراتٍ وجيزةٍ مُحصِّلةٍ للمَقاصد»(٢٦)، وقال ـ أيضًا ـ: «فما سَكَتَ مَنْ سَكَتَ عن كثرة الخصام والجِدال مِنْ سَلَفِ الأمَّةِ جهلًا ولا عجزًا، ولكِنْ سَكَتوا عن علمٍ وخشيةٍ لله، وما تَكلَّمَ مَنْ تَكلَّمَ وتَوسَّعَ مَنْ تَوسَّعَ بَعْدَهم لاختصاصه بعلمٍ دونَهم، ولكِنْ حبًّا للكلام وقِلَّةَ وَرَعٍ»(٢٧).
تِلْكُمْ هي أَهَمُّ التنبيهات الأَخَوية المُسْتحضَرة، ضمَّنْتُها هذه الكلمةَ على وجه النصيحة قَصْدَ الاعتبار وبُغْيةَ التغيير إلى ما هو أَحْسَنُ؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ﴾ [الرعد: ١١]؛ فإِنْ وُفِّقْتُ فذلك بفضل الله وكَرَمِه، وإِنْ كانَتِ الأخرى فعزائي أنِّي نصحتُ، وحَسْبي ـ في ذلك ـ قولُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ»(٢٨).
وأخيرًا، نسأل اللهَ تعالى أَنْ يَهْدِيَنَا للحقِّ ويُقيمَنا عليه، ويَرْزُقَنا الإخلاصَ في السرِّ والعَلَن، والاتِّباعَ في العمل، والسدادَ في القول، وأَنْ يُعيذَنا مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ، وأَنْ يُصْلِحَ أَمْرَ آخِرِ هذه الأمَّةِ كما أَصْلَحَ أوَّلَها، وأَخْتِمُ بكلام اللَّالَكائيِّ ـ رحمه الله ـ وهو يَصِفُ أهلَ السنَّةِ والحديثِ في ثباتهم على الحقِّ المُبين وسلامةِ اعتقادهم ووحدةِ منهجهم بما نصُّه: «والحمد لله الذي كمَّل لهذه الطائفةِ سهامَ الإسلام، وشرَّفهم بجوامعِ هذه الأقسام، وميَّزَهم مِنْ جميع الأنام؛ حيث أعَزَّهم اللهُ بدِينِه، ورَفَعَهم بكتابه، وأعلى ذِكْرَهم بسُنَّتِه، وهداهم إلى طريقته وطريقةِ رسوله؛ فهي الطائفةُ المنصورة، والفِرْقةُ الناجية، والعُصْبةُ الهادية، والجماعةُ العادلة المتمسِّكةُ بالسنَّة، التي لا تُريدُ برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بديلًا، ولا عن قوله تبديلًا، ولا عن سُنَّتِه تحويلًا، ولا يَثْنِيهم عنها تَقلُّبُ الأعصار والزمان، ولا يَلْوِيهم عن سَمْتِها تغيُّرُ الحدثان، ولا يصرفهم عن سَمْتِها ابتداعُ مَنْ كادَ الإسلامَ ليَصُدَّ عن سبيل الله ويَبْغِيَها عِوَجًا، ويَصْرِفَ عن طُرُقِها جدلًا ولجاجًا، ظنًّا منه كاذبًا، وتَمَنِّيًا باطلًا أنه يُطْفِئُ نورَ الله، ﴿وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨﴾ [الصف: ٨]»(٢٩).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٦ مِنْ ذي القعدة ١٤٣٦
المـوافق ﻟ: ٣١ أوت ٢٠١٥م

(١) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (٣٢٤٧٢)، والحاكم في «المستدرك» (٨٣١٨) وصحَّحه ووافقه الذهبيُّ، ولفظُه: «قَدْ عَلِمْتُ ـ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ـ مَتَى تَهْلِكُ الْعَرَبُ»، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: «مَتَى يَهْلِكُونَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟» قَالَ: «حِينَ يَسُوسُ أَمْرَهُمْ مَنْ لَمْ يُعَالِجْ أَمْرَ الجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَصْحَبِ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».

(٢) «مفتاح دار السعادة» لابن القيِّم (٢/ ٢٨٨).

(٣) قال الحسن البصريُّ ـ رحمه الله ـ: «إِنَّمَا أَهْلَكَتْكُمُ العُجْمَةُ» [انظر: «صون المنطق» للسيوطي (١/ ٤٢)].

(٤) هُمْ أتباعُ نَجْدَةَ بنِ عامرٍ الحنفيِّ الحَرُوريِّ، مِنْ فِرَقِ الخوارج، [انظر: «مقالات الإسلاميِّين» للأشعري (١/ ١٦٢)، «المِلَل والنِّحَل» للشهرستاني (١/ ١٦٤)، «الفَرْق بين الفِرَق» للبغدادي (٦٥)].

(٥) انظر: «مقالات الإسلاميِّين» للأشعري (١/ ١٥٦)، «الفَرْق بين الفِرَق» للبغدادي (٧٣).

(٦) انظر: «مقالات الإسلاميِّين» للأشعري (١/ ٨٥)، «المِلَل والنِّحَل» للشهرستاني (٢/ ٩).

(٧) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٣/ ١٣٥).

(٨) «الاعتصام» للشاطبي (٢/ ٣٣١).

(٩) «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (١/ ٣٣١).

(١٠) «زاد المَعاد» لابن القيِّم (٤/ ١٤٩).

(١١) «المُوافَقات» للشاطبي (٤/ ٢٩٤).

(١٢) «التمهيد» لابن عبد البرِّ (١/ ٢).

(١٣) «الصواعق المُرْسَلة» لابن القيِّم ـ باختصار الموصلي ـ (٢/ ٥٠٩).

(١٤) «الصواعق المُرْسَلة» لابن القيِّم (١/ ٣٤٨).

(١٥) أخرجه البخاريُّ في «المغازي» بابُ بَعْثِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم خالدَ بنَ الوليد إلى بني جَذيمة (٤٣٣٩)، وفي «الدعوات» ـ معلَّقًا ـ باب رفعِ الأيدي في الدعاء، وفي «الأحكام» باب: إذا قضى الحاكم بجَوْرٍ أو خلاف أهل العلم فهو ردٌّ (٧١٨٩)، مِنْ حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(١٦) «الصواعق المُرْسَلة» لابن القيِّم (١/ ٣٧٦).

(١٧) هو محمَّد البشير بنُ محمَّد السعدي بنِ عمر بنِ عبد الله بنِ عمر الإبراهيميُّ، أحَدُ أعضاء جمعية العُلَماء المسلمين الجزائريِّين، يَرْتفِعُ نَسَبُه إلى إدريس بنِ عبد الله مُؤسِّسِ دولةِ الأدارسة بالمغرب الأقصى، كان ـ رحمه الله ـ عالِمًا فذًّا وإمامًا مِنْ أئمَّةِ السلفية وأديبًا مُرَبِّيًا، ومُجاهِدًا مُصْلِحًا، شَمِلَتْ كتاباتُه قضايَا الوطنِ العربيِّ، وهمومَ العالَمِ الإسلاميِّ. تُوُفِّيَ بالجزائر سنة: (١٣٨٥ﻫ).
انظر ترجمته في: مقالة الإبراهيمي تحت عنوان: «أنا» في: «مجلَّة مَجْمَع اللغة العربية» (٢١/ ١٣٥)، مقالة الهاشمي التيجاني نَشَرَها بمجلَّة: «التهذيب الإسلامي» (ع: ٥، ٦ س/ ١)، «البشير الإبراهيمي، نضالُه وأدَبُه» لمحمَّد المهداوي، رسالة ماجستير بعنوان: «البشير الإبراهيمي أديبًا» قدَّمها السيِّد عبَّاس محمَّد بكُلِّيَّة الآداب ـ جامعة بغداد سنة: (١٩٨٣)، «الأعلام» للزركلي (٧/ ٥٤).

(١٨) «آثار الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي» (١/ ١٦٤).

(١٩) انظر: رسالة: «العلمانية، حقيقتُها وخطورتُها» للمؤلِّف.

(٢٠) سَبَقَ أَنْ بيَّنْتُ ـ في مقالةِ: «شرف الانتساب إلى مذهب السلف» ـ: جوانبَ الافتراق والتقاطع مع ما يُسمَّى بالسلفية الجهادية والحزبية مِنْ حيثياتٍ عديدةٍ.

(٢١) «آثار الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي» (١/ ١٢٣).

(٢٢) «آثار الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي» (١/ ١٢٤).

(٢٣) «شرف الانتساب إلى مذهب السلف» للمؤلِّف (٢٦ ـ ٢٧).

(٢٤) «عقيدة السلف» للصابوني (١٠٧).

(٢٥) «اجتماع الجيوش الإسلامية» لابن القيِّم (٨٠).

(٢٦) «بيان فضل علم السلف» لابن رجب (٦٢).

(٢٧) المصدر السابق (٦٠).

(٢٨) أخرجه الترمذيُّ في «الفتن» بابُ ما جاء ما أَخْبَرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أصحابَه بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة (٢١٩١)، وابنُ ماجه في «الفتن» باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٤٠٠٧)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١٦٨).

(٢٩) «شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة» للَّالَكائي (١/ ٢٥ ـ ٢٦).


المصدر ..موقع الشيخ فركوس حفظه الله
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top