ليس في الإنشاد أنغام ولا ألحان إنما هو قراءة الشعر بصوت مرتفع ، أمّا إذا صار فيه ألحان وأوزان فهو غناء . قال في القاموس المحيط : شَدَا الإبِلَ : ساقَها والشِعْرَ : غَنَّى به أو تَرَنَّمَ وأنْشَدَ بَيْتاً أو بَيْتَيْن بالغِناءِ . انتهى
فحقيقة الأمر أنّ هذا الذي يسمّي نفسه مُنشداً إنّما هو مُغَنِّ ، وما يفعله هو غناء وليس إنشاداً . لذلك نجد في كتب الفقه أنّ الفقهاء يسمّون مجالس السماع عند بعض الصوفية بمجالس الغناء والرقص ، وحتى الصوفيّة أنفسهم كانوا في السابق يُسمّونه غناءً ويظنونَ أنه جائز ومباح . وقد آخذهم العلماء على ذلك .
وقد جمعتُ بعض فتاوى العلماء من المذاهب المعتمدة في بلادنا من الشافعيّة والحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وكذلك عرضتُ كلام بعض كبار الصوفيّة الأوائل في خصوص الغناء والرقص ، ليَتَبّيَّن للقارئ حقيقة موقف فقهاء الإسلام من هذا الأمر .
وغرضي مِنْ ذلك أن يتنبّه المسلمون للخطأ الذي يرت****ه ، وللإساءة للدِّين التي يمارسونها من دون قصد منهم ، والله أعلم . و هذه الفتاوى هي لكبار علماء المذاهب ومن أشهر كتبهم وعليها العمل . وهم يستعملون عدّة مسمّيات لمسمّىً واحد وهو ما يَفْعلُه الصوفيّة من الغناء في المساجد أو المجامع تحت اسم مجلس ذكر أو احتفال بالمولد ! فقد يسمّونه السماع أو التَّغْبِِير أوالغناء وكلّه غير جائز عندهم . وطبعاً كلام العلماء هنا إنما هو على مسألة تلحين الشعر والغناء به والرقص والتّواجد ، وسترى شدّة فتاويهم في منعه وإنكاره ، فما بالك إذا كان هذا الشعر فيه إشكال لما يتضمَّنه من ألفاظ غير شرعية ؟!
· أولاً المذهب الحنفي
1ـ قال البزازي الحنفي في الفتاوى البزازية 4/ 349 الطبعة الثالثة التركيّة
(( ....و غرضُه استماع الدف والمزمار واللعب بالرقص الذي أحدثه أولاً السامري حين أخرج لهم عجلاً جسداً له خوار ، وقد نقلَ صاحبُ الهداية (المرغيناني) فيها : أنّ المغنّي للناس ، إنما لا يَقْبَل شهادَتَه لأنّه يجمَعُهم على كبيرة ، والقرطبي : على أنّ هذا الغناء وضرب القضيب والرقص حرام بالإجماع عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. في مواضعَ من كتابه .
وسيّد الطائفة الشيخ أحمد اليَسوي صرّحَ بحرمته . ورأيتُ فتوى شيخ الإسلام جلال الملّة والدين الكرماني أنّ مُستَحلّ هذا الرقص كافرٌ . ولما عُلِمَ أنّ حرمَتَهُ بالإجماع لزم أن يكفِّر مُسْتَحِلَّه . وللشيخ الزمخشري في " كشافه " كلماتٌ فيهم ، تقوم بها عليهم الطّامة ، ولصاحب " النهاية " و الإمام المحبوبي أيضاً كلام أشدّ من ذلك . انتهى
2ـ وقال في " شرح الكنز للنسفي " بعد ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( كلُّ لَعِبِ ابن آدم حرامٌ إلا ثلاثة : ملاعبة الرجل أهله ، وتأديبه لفَرَسه ، ومُناضَلَته لقوسه ))
: وهذا نصٌّ صريحٌ في تحريم الرقص الذي يسمّيه المتصوفة الوقت وسماع الطيب ، وإنّما هو سماعٌ فيه أنواعُ الفسق وأنواعُ العذاب في الآخرة . انتهى
3ـ وفي حاشية الطحاوي على المراقي 2/311 : (( وأما الرقص والتصفيق والصريخ وضرب الأوتار والصنج والبوق الذي يفعله بعض من يدعي التصوف فإنه حرام بالإجماع لأنها زيُّ الكفار )) . انتهى
4ـ وفي الفتاوى البزازية 4/338 : " قرَأَ القرآن على ضرب الدفّ والقضيب يكفر لاستخفافه . وأدبُ القرآن أن لا يُقرَأ في مثل هذه المجالس . والمجلس الذي اجتمعوا فيه للغناء والرقص لا يُقرأُ فيه القرآن كما لا يُقرأ في البِيَع والكنائس لأنّه مجمَعُ الشيطان ". انتهى
5ـ وقال في "اليتيمة " : سُئل الحلواني عمَّن سَمّوا أنفسهم الصوفيّة ، واختصّوا بنوع لِبْسةٍ ، واشتغلوا باللهو والرقص ، وادّعوا لأنفسهم المنزلَةَ ، فقال : أَفْتَرَوا على الله كذباً أم بهم جِنَّةٌ ؟! .
6ـ وجاء في " التتارخانيّة " عن الخصاف : هل يجوز الرقص والسماع ؟
الجواب : لا يجوز ، وذَكَرَ في " الذخيرة " أنّه كبيرة ، ومَنْ أباحه منَ المشايخ فذلك للذي حركاته كحركات المرتعش . انتهى
7ـ وفي " تحفة الملوك " 1/284 تحت عنوان ( تصرفات الصوفية )
ويجبُ منعُ الصوفية الذين يدَّعون الوَجْدَ والمحبَّة عن رفع الصوت وتمزيق الثياب عند سماع الغناء لأن ذلك حرامٌ عند سماع القرآن فكيف عند سماع الغناء الذي هو حرام خصوصا في هذا الزمان . انتهى
· ثانياً المذهب الشافعي
1ـ روى البيهقي في مناقب الشافعي 2 /208 : عن يونس بن عبد الله الأعلى يقول : سمعت الشافعي يقول :
( لو أن رجلاً تصوَّف من أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمقَ ).
2ـ قال الإمام الشافعي رحمه الله:
((تركت بالعراق شيئاً يقال له (التغبير)(1) ، أحدثه الزنادقة ليصدُّوا الناس عن القرآن))
روى ذلك أبو نعيم في الحلية 9/146 والزبيدي في شرح إحياء علوم الدين 6/458 والخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صـ36، وابن الجوزي 244-249
4ـ وقد سُئلَ الإمام أبو إبراهيم المُزَني رحمه الله ، وكان من كبار أصحاب الإمام الشافعي رحمه الله ، فقيل له : ما تقول في الرقص على الطار والشبّابة ؟ فقال : هذا لا يجوز في الدين . فقالوا أَمَا جوّزه الإمام الشافعي ؟ فأنشد رحمه الله تعالى :
حاشا الإمامَ الشافعي النّبيه أن يرتقي غير مـعاني نبيه
أو يتركَ السنّةَ في نُسـكه أو يبتَدِعَ في الدِّين ما ليس فيه
أو يبتدع طـاراً وشـبابة لناسـك فـي الدِّين يقتديه
الضربُ بالطارات في ليلة والرقصُ والتصفيقُ فِعْلُ السّفيه
هذا ابتداعٌ وضلالٌ في الورى وليس في التنزيل مـا يقتضيه
ولا حديث عن نبيّ الهدى ولا صـحابي ولا تـابعـيه
بل جاهلٌ يلعبُ في ديـنه قـد ضيّعَ العـمرَ بلهوٍ وتيه
إيّـاك تغـتر بأفعال مـن لا يَعـرفُ العـلمَ ولا يبتغيه
جهلٌ وطيشٌ فعلُـهم كله وكلُّ مَـنْ دانَ بـه تزدريه
أنكر عليهم إن تكن قادراً فهـم رجال ابليس لاشكّ فيه
ولا تخف في الله من لائمٍ وفّقـك الله لمـا يرتَـضيه . انتهى
انظر المدخل لابن الحاج 3/97
5ـ وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام في كتابه : " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " 2 / 186 : " وأما الرقص و التصفيق فَخِفَّةٌ ورعونة ، مُشْبِهَةٌ لرعونة الإناث لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذّاب ، كيف يتأتى الرقص المتَّزن بأوزان الغناء ، ممن طاش لُبُّه وذهب قلبه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ((خير الناس قرني ، ثمّ الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم )) ـ متفق عليه ـ ولم يكن واحد من هؤلاء الذين يقلّدونهم يفعل شيئاً من ذلك". انتهى
ـ وقال أيضاً في كتابه قواعد الأحكام ص 679 بتحقيق الشيخ عبد الغني الدقر : " الرقص لا يتعاطاه إلا ناقص العقل ، ولا يصلُح إلا للنساء " . انتهى
6ـ و من شعر الإمام العز بن عبد السلام في وصف المتصوِّفة:
ذهبَ الرجالُ وحالَ دون مَجَالهم زُمَرٌ مـن الأوبـاش والأنذالِ
زَعموا بأنهم علـى آثارهـم سـاروا ولـكنْ سِيرة البَطَّالِ
لَبسوا الدَّلوق مرقعاً وتقشَّفوا كتقشّف الأٌقطـاب والأبـدالِ
قطعوا طريق السالكين وأظلموا سُبُلَ الهدى بجَهـالةٍ وضَـلالِ
عَمروا ظَواهرهم بأثواب التقى وحشوا بواطنهم مـن الأدغالِ
إنْ قلتَ : قال اللهُ قـال رسولهُ همزوكَ همزَ المنـكرِ المتغالـي
ويقول قال قلبي لي عن خاطري عـن سرِّ سري عن صفا أفعالي
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوَتي عن جَلْوَتي عن شاهدي عن حالي
عن صفْوِ وقتي عن حقيقة حكمتي عن ذات ذاتي عـن صفا أفعالي
دعوى إذا حققتهـا أَلْفَيْتَهـا ألقـاب زور لُفِّقَت بمحـالِ
تركوا الشرائع والحقائق واقتدوا بطرائق الجهَّـال والضـلالِ
جعلوا المِرَا فتحاً ، وألفاظ الخَنَا شطحاً وصالوا صَوْلَةَ الإدلالِ
انظر الفكر السامي للشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي 3/69
7ـ وقال الشربيني الشافعي في مغني المحتاج 4/426 :
قال السبكي ( وهو من كبار الأئمّة الشافعية ) السماعُ على الصورة المعهودة منكرٌ وضلالة وهو من أفعال الجهلة والشياطين ومَنْ زعم أن ذلك قُربة فقد كذب وافترى على الله ومن قال إنه يزيد في الذوق فهو جاهل أو شيطان ومن نسبَ السماع إلى رسول الله يُؤدَّب أدباً شديداً ويدخل في زمرة الكاذبين عليه صلى الله عليه وسلم ومن كذب عليه متعمداً فليتبوأ مقعده من النار وليس هذا طريقة أولياء الله تعالى وحزبه وأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بل طريقة أهل اللهو واللعب والباطل وينكر على هذا باللسان واليد والقلب . انتهى
وذَكَرَه أيضاً الدَّمِيري الشافعي في " شرح المنهاج " .
8ـ وجاء في مغني المحتاج 4/426
(( ويُكره الغناء وهو بالمد وقد يقصر وبكسر المعجمة رفعُ الصوت بالشعر لقوله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} قال ابن مسعود هو واللهِ الغناء . رواه الحاكم ورواه البيهقي عن ابن عباس وجماعة من التابعين . هذا إذا كان "بلا آلة" من الملاهي المحرَّمة ، ويكره " سماعه " كذلك ، والمراد استماعه ولو عبّر به كان أولى ، أما مع الآلة فحرامان )).
9 ـ وقال الإمام شرف الدين إسماعيل بن المقري اليمني الشافعي صاحب " روض الطالب " و " إرشاد الحاوي " في الفقه الشافعي ، في قصيدته في ذمّ الرقص :
قالوا : رَقصْنا كما الأُحْبوشُ قد رقصوا بمسجد المصطفى ، قُلنا : بلا كَذِبِ
الحُبْشُ مـا رقصوا ، لكنهم لَعِبـوا مِنْ آلـة الحَرْبِ بالآلات واليَلـَبِ
وذلك اللـعبُ منـدوبٌ تَعلُّمُــه في الشرع للحرب تدريباً لكلّ غبي (2)
10ـ يقول الإمام أبو الطيب طاهر الطبري شيخ الشافعية ( 348-450هـ ) في آخر كتابه في ذمِّ السماع : ((فمن حظّه من التصوف الإلحاح في الطلب ، وكثرة الأكل ، وسهر الليل ، وسماع الغناء ، والفرقعة بالأصابع ، ودق الرجل والطقطقة بالقضيب ، فإنّما هو راكب ظلماء ، وخابط عشواء قد أسرته شهوته ، و أهلكه هواه ، وغلبته نفسه ، وقطعته الغفلة عن الاهتمام بالدين وسياسة النفس ، وكان من الهالكين إلا أن يتوب الله عليه)). انتهى
11ـ وقال الشيخ تقي الدين الحصني الشافعي في كتابه " كفاية الأخيار " 1/ 159 وهو من الكتب المعتمدة في المذهب ، في كتاب الزكاة ؛ عند بيان الأصناف التي تُدفع إليهم الزكاة :
" ... الأراذل من المتصوّفة الذين قد اشتهر عنهم أنهم من أهل الصلاح المنقطعين لعبادة ربّهم ، قد اتخذ كل منهم زاوية أو مكاناً يُظهر فيه نوعاً من الذكر ، وقد لفَّ عليهم من له زي القوم وربّما انتمى أحدهم إلى أحد رجال القوم كالأحمدية والقادرية ، وقد كذبوا في الانتماء ، فهؤلاء لا يستحقّون شيئاً من الزكوات ، و لا يحلُّ دفع الزكاة إليهم ، ومَنْ دفعها إليهم لم يقع الموقع وهي باقية في ذمّته ، ..... ويجب على كل من يقدر على الإنكار أن يُنكر عليهم ، وإثمهم متعلّق بالحكام الذين جعلهم الله تعالى في مناصبهم لإظهار الحق ، وقمع الباطل وإماتة ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإماتته والله أعلم " .انتهى
9ـ وقال الشيخ الحصني أيضاً في كفاية الأخيار 2/225 كتاب الأقضية عند ذكر من لا تُقبَل شهادتهم :
" ... فلا تُقبل شهادة القمّام ، وهو الذي يجمع القمامة أي الكناسة ويحملها ، وكذا القيّم في الحمّام ، ومَنْ يلْعب بالحمام يعني يُطيّرها لينظر تقلّبها في الجو ، وكذا المغنّي سواء أتى الناس أو أتوه ، وكذا الرّقاص كهذه الصوفيّة الذين يسعون إلى ولائم الظلمة والمكسة ، ويُظهرون التواجد عند رقصهم ، وتحريك رؤوسهم ، وتلويح لحاهم الخسيسة كصنع المجانين ، وإذا قُرئ القرآن لا يستمعون له ، ولا يُنصتون ، وإذا نعق مزمار الشيطان صاح بعضهم على بعض بالوسواس قاتلهم الله ما أفسقهم وأزهدهم في كتاب الله ، وأرغبَهم في مزمار الشيطان وقرن الشيطان ، عافانا الله من ذلك " . انتهى (3)
· ثالثاً المذهب المالكي
1ـ جاء في كتاب " ترتيب المدارك " للقاضي عياض 2/54 : " قال التِّنيسيُّ : كنا عند مالك وأصحابه حوله ، فقال رجلٌ مِنْ أهلِ نَصيبين : عندنا قوم يُقال لهم الصوفيّة ، يأكلون كثيراً ، ثمّ يأخذون في القصائد ، ثمّ يقومون فيرقصون ؟ فقال مالك : أَصبيانٌ هم ؟ قال : لا ، قال : أمجانينُ هم ؟ قال : لا ، هم قومٌ مشايخ ، وغيرُ ذلك عقلاء ، فقال مالك : ما سمعتُ أنّ أحداً من أهل الإسلام يفعلُ هذا !!
فقال له الرجل : بل يأكلون ، ثمّ يقومون ويرقصون دَوَائبَ ، ويلطم بعضُهم رأسه ، وبعضهم وجهه ، فضحك مالك ثم قام فدخل منزله ، فقال أصحابُ مالك للرجل : لقد كنتَ يا هذا مشؤوماً على صاحبنا ، لقد جالسناه نيِّفاً وثلاثين سنة ، ما رأيناه ضحك إلا في هذا اليوم ! " انتهى
2ـ وقال أبو العبّاس القرطبي المحدّث صاحب " المفهم في شرح صحيح مسلم " عند كلامه على الغناء عند الصوفيّة : " .. وأمّا ما ابتدعته الصوفيّة في ذلك ، فمِن قَبيل ما لا يُخْتَلفُ في تحريمه ، لكنّ النفوس الشهوانيّة غلَبَت على كثيرٍ ممن يُنسَبُ إلى الخير ، حتى لقد ظهَرَتْ من كثير منهم فَعَلاتُ المجانين والصبيان ، حتى رَقَصوا بحركاتٍ متطابقة ، وتقطيعاتٍ متلاحقة ، وانتهى التَّواقُحُ بقومٍ منهم إلى أن جعلوها مِنْ بابِ القُرَب وصالحِ الأعمال ، وأنَّ ذلك يُثمِرُ سَنِيَّ الأحوال ، وهذا على التحقيق : مِنْ آثار الزندقة ، وقول أهل المَخْرَقَة ، والله المُستعان " انتهى
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي عقِبَه : " وينبغي أن يُعْكَسَ مُرادهم ، ويُقرأ : ( يُثمرُ سَيِّءَ الأحوال عوض سنيَّ الأحوال ) . انتهى انظر فتح الباري 2/368
3ـ وجاء في المدخل لابن الحاج المالكي الصوفي 3/98 :
(فصلٌ) وأشدُّ من فعلهم السّماع كونُ بعضهم يتعاطونه في المساجد ؛ وقد تقدّم توقير السلف رضي الله عنهم للمساجد ؛ كيف لا يكون ذلك وقد كانوا يكرهون رفع الصوت فيه ذكراً كان أوغيره . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت بالقراءة فيه ، ........ وبعضُ هؤلاء يفعلون السماع على ما هو عليه اليوم في المساجد ويرقصون فيها وعلى حُصُرِ الوقف ! انتهى
4ـ وقال القاضي أبو بكر الطرطوشي في كتابه المسمى بكتاب " النهي عن الأغاني " :.. وبلغنا أنّ طائفة من إخواننا المسلمين ؛ وفّقنا الله وإيّاهم ؛ قد استزلّهم الشيطان واستهوى عقولهم في حبِّ الأغاني وسماع الطقطقة واعتَقَدَتْه مِنَ الدِّين الذي يُقرّبهم من الله تعالى وجاهرَت به جماعة المسلمين وشاقّت به سبيل المؤمنين وخالفت العلماء والفقهاء وحمَلَةَ الدين {ومن يُشاقق الرسول من بعد ما تبيّنَ له الهُدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين ، نولّه ما تولّى ونُصْله جهنّم وساءت مصيراً} وقد سُئلَ مالك رحمه الله عمّا رخّص فيه أهلُ المدينة منَ الغناء . فقال : إنّما يفعله عندنا الفسّاق ، ونهى عن الغناء واستماعه . وأمّا أبو حنيفة رحمه الله فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب ، وكلّ ذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحمّاد وإبراهيم والشعبي لا اختلاف بينهم في ذلك ، و لا نعلم أيضاً بين أهل البصرة خلافاً في كراهيّة ذلك والمنع منه . وأمّا الشافعي رحمه الله فقال في كتاب القضاء : إنّ الغناء لهوٌ مكروه ويشبه الباطل والمحال . وكان الشافعي يكره الطقطقة بالقضيب ويقول وضعته الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن القرآن . ... وهذه الطائفة (يعني الصوفية) مخالفة لجماعة المسلمين لأنهم جعلوا الغناء ديناً ورأت إعلانه في المساجد والجوامع . انتهى المدخل 3/101
5ـ وقال الحسن : " ليس الدفّ من سنّة المسلمين " ، وقد سأَلَ إنسانٌ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن الغناء .فقال : أنهاك عنه وأكرهه لك ، قال أحرامٌ هو ، قال : انظر يا ابن أخي إذا ميّزَ الله بين الحقّ والباطل منْ أيّهما يحصل الغناء ؟
وقال الحكم بن عيينة رحمه الله : السماع يورث النفاق كما ينبت الماء الزرع .
وقال الفضيل بن عياض : الغناء رقية الزنا .
وقال الضحاك : الغناء مفسدة للقلب مسخطة للربّ .
وقال ابن الكاتب : إيّاك والغناء .
وقال المُحاسبي في رسالة الإرشاد : الغناء حرام كالميتة .
وقال بعض الزهاد : الغناء يُورث العناد في قوم ، ويورث التكذيب في قوم ، ويورث الفساد في قوم .
قال ابن الحاج : ((ونحنُ لا نذمّ إنشاد الشعر ولا نحرّمه ، وإنما يصير الشعرُ غناءً مذموماً إذا لُحّنَ وصُنعَ صَنْعَةً تورثُ الطرب وتزعج القلب وهي الشهوة الطبيعية )) . انتهى المدخل 3/105
6ـ وقال ابن الحاج المالكي : فإن قيل : أليس قد روي عن جماعة من الصالحين أنهم سمعوه ؟ قُلنا : ما بلغنا أنّ أحداً من السلف الصالح سمعه ولا فعله ، وهذه مصنّفات أئمة الدين وعلماء المسلمين مثل مصنّف مالك بن أنس وصحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود وكتاب النسائي رضي الله عنهم إلى غيرها خالية من دعواكم وهذه تصانيف فقهاء المسلمين التي تدور عليها الفتوى قديماً وحديثاً في شرق البلاد وغربها ، فقد صنّف المسلمون على مذهب مالك بن أنس تصانيفَ لا تحصى وكذلك مصنّفات علماء المسلمين على مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من فقهاء المسلمين ، وكلّها مشحونة بالذبّ عن الغناء وتفسيق أهله ! فإن كان فعله أحدُ من المتأخّرين فقد أخطأ ولا يلزمنا الاقتداء بقوله ونترك الاقتداء بالأئمة الراشدين . انتهى المدخل 3/108
7ـ فإن سألوا عن معنى قراءة القرآن بالألحان . فالجواب : أنّ مالكاً قال : لا تعجبني القراءة بالألحان ولا أحبه في رمضان ولا غيره لأنّه يُشبه الغناء ، ويُضحك بالقرآن فيُقال فلان أقرأ من فلان .
وقال مالك : لم تكن القراءة في المصحف في المسجد من أمرِ الناس القديم ، وأوّل منْ أحْدَثَه الحجّاج . وقال : وأكره أن يُقرأ في المصحف في المسجد .
وقال بعض الصالحين : مَنْ تلذّذَ بألحان القرآن حُرِمَ فَهْمَ القرآن .
وقال ابن الحاج : وأمّا الدفّ والرقص بالرجل وكشفُ الرأس وتخريق الثياب فلا يخفى على ذي لبٍّ أنه لعبٌ وسُخْفٌ ونبذٌ للمروءة والوقار ولِما كان عليه الأنبياء والصالحون .... ولو لم يكن في السماع والرقص شيء يُذمّ إلا أنه أول من أحدَثَه بنو إسرائيل حين اتخذوا العجلَ إلهاً من دون الله تعالى فجعلوا يغنّون بين يديه ويُصفّقون ويرقصون ... فهم أصلٌ لما ذُكر وما كان هذا أصله فينبغي بل يتعيّن على كلّ عاقل أن يهربَ منه ويولّي الظهر عنه إنْ كان عاجزاً عن تغييره ، وأمّا إن كان له قدرة على ذلك فيتعين عليه والله الموفّق .
وقال القاسم بن محمد : الغناء باطل والباطل في النار .
وقال ابن القاسم : سألتُ عنه مالكاً فقال : قال تعالى ( فماذا بعد الحقّ إلا الضلال ) أفحقٌّ هو؟! انتهى
المدخل 3/ 110ـ118
8ـ وسُئل الإمام القاضي أبو بكر الطرطوشي رحمه الله : ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصُّوفية ؟ وأُعْلِمَ - حرس اللهُ مُدَّتَه - أنه اجتمع جماعة من الرجال , فيكثرون من ذكر الله تعالى , وذكر محمد صلى الله عليه وسلم ثمَّ إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيَّاً عليه , ويحضرون شيئاً يأكلونه . هل الحضور معهم جائز أم لا ؟ أفتونا مأجورين يرحمكم الله .
الجواب : - يرحمك الله - مذهبُ الصوفية بطالة وجهالة وضلالة , وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وأما الرقص والتواجد فأوَّل من أحدثه أصحاب السامري , لمّا اتّخَذَ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون فهو دينُ الكفار وعبّاد العجل , وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى , وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار , فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور قي المساجد وغيرها , ولا يحلُّ لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم , ولا يعينهم على باطلهم وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق . انتهى من تفسير القرطبي (11/237- 238 ) .
9ـ وقد ذُكرَ أنّ بعض الناس عمَلَ فتوى وكان ذلك في سنة إحدى وستين وستمئة ومشى بها على الأربع مذاهب ولفظها : ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين وعلماء المسلمين وفّقهم الله لطاعته وأعانهم على مرضاته ، في جماعة من المسلمين وردوا إلى بلدٍ فقصدوا إلى المسجد وشَرَعوا يصفّقون ويُغنّون ويرقصون تارةً بالكفّ ، وتارةً بالدّفوف والشبابة فهل يجوز ذلك في المسجد شرعاً أفتونا مأجورين يرحمكم الله تعالى .
فقالت الشافعيّة : السماع مكروه يشبه الباطل مَنْ قال به تُرَدُّ شهادته والله أعلم .
وقال المالكيّة : يجبُ على ولاة الأمور زجرهم وردعهم وإخراجهم من المساجد حتى يتوبوا ويرجعوا ، والله أعلم .
وقالت الحنابلة : فاعلُ ذلك لا يُصلّى خلفه ولا تُقبل شهادته ولا يُقبل حكمه وإنْ كان حاكماً . وإنْ عُقِدَ النكاح على يده فهو فاسد ، والله أعلم .
وقالت الحنفيّة : الحُصُرُ التي يُرقص عليها لا يُصلّى عليها حتى تُغسل والأرضُ التي يُرقصُ عليها لا يُصلّى عليها حتى يحفر ترابها ويُرمى ، والله أعلم . انتهى المدخل 3/99
10ـ وقال القرطبي المُفسِّر الصوفي في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " 7/348 عند تفسيره لقوله تعالى :
{إنما المؤمنون الذين إذا ذُكرَ الله وَجِلَت قلوبهم وإذا تُلِيَت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربّهم يتوكّلون}
فقال رحمه الله : " وصَفَ الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوَجَل عند ذكره . وذلك لقوّة إيمانهم ومراعاتهم لربّهم ، وكأنّهم بين يديه . ونظير هذه الآية{وبشّر المُخبتين ، الذين إذا ذُكرَ الله وجلت قلوبهم} وقال:{ وتطمئنّ قلوبهم بذكر الله} فهذا يرجِعُ إلى كمال المعرفة وثقة القلب . والوَجَل : الفزع من عذاب الله ؛ فلا تناقض . وقد جمعَ الله بين المعنيين في قوله {الله أنزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مَثَانيَ تقشعرُّ منه جلود الذين يخشون ربهم ثمّ تلينُ جلودُهم وقلوبهم إلى ذكر الله} أي تسكن نفوسهم من حيث اليقين إلى الله وإن كانوا يخافون الله . فهذه حالة العارفين بالله ، الخائفين من سطوته وعقوبته ؛ لاكما يفعله جُهّال العوامّ والمبتدعة الطَّغام مِنَ الزعيق والزّئير، ومِنَ النُّهاق الذي يُشبه نُهاق الحمير . فيُقال لمن تعاطى ذلك وزعم أنّ ذلك وجدٌ وخشوع : لم تبلغ أنْ تساوي حالَ الرسول ولا حال أصحابه في المعرفة بالله ، والخوف منه ، والتعظيم لجلاله ؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهْمَ عن الله والبكاء خوفاً من الله . ولذلك وصفَ الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال : {وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعيُنَهُم تفيضُ من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربّنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}
فهذا وصفُ حالهم وحكايةُ مقالهم . ومنْ لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم ؛ فمن كان مُستنَّاً فليستنّ بهم ، ومَنْ تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو أخسّهم حالاً ؛ والجنون فنون . انتهى
11ـ وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره 14/58 :
قال أبو الفرج : وقال القفّال من أصحابنا : لا تقبلُ شهادة المغنّي والرقاص .
قلتُ : وإذا ثبتَ أنّ هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا يجوز . وقد ادعى أبو عمر بن عبد البرّ الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك . انتهى
(1) جاء في لسان العرب : قال الأَزهري وقد سَمَّوْا ما يُطَرِّبون فيه من الشِّعْر في ذكر الله تَغْبيراً كأَنهم إذا تنَاشَدُوهُ بالأَلحان طَرَّبوا فَرَقَّصوا وأَرْهَجوا فسُمّوا مُغَبِّرة لهذا المعنى قال الأَزهري وروينا عن الشافعي رضي الله عنه أَنه قال أَرى الزَّنادِقة وَضَعوا هذا التَّغْبِير ليَصُدّوا عن ذكر الله وقراءة القرآن .
(1) انظر رسالة الرّهص والوقص لمستحلّ الرقص (حُكم الحضرة في الإسلام) للعلاّمة إبراهيم بن محمد الحلبي الحنفي 956هـ
صاحب كتاب (ملتقى الأبحر) ص42 بتحقيق الأستاذ حسن السماحي سويدان . واليَلَب : هو سيور تلبس بمنزلة الدرع ، وهو من أسماء الترس .
(3) وهناك أيضاً فتوى الإمام البدر ابن جماعة الشافعي ستأتي في آخر الرسالة ضمن أقوال الصوفية ، حيث يستشهدون بها .
12ـ وسُئل الشيخ الصالح عبد العزيز بن محمد القيرواني المالكي عن قومٍ تسمّوا بالفقراء يجتمعون على الرقص والغناء ، فإذا فرغوا من ذلك أكلوا طعاماً كانوا أعدّوه للمبيت عليه ، ثمّ يَصِلُونَ ذلك بقراءة عشْرٍ من القرآن والذكر ، ثمّ يُغنّون ويرقصون ويبكون ، ويزعمون في ذلك كلّه أنهم على قُربة وطاعة ويدعون الناس إلى ذلك ... فما الحكم فيهم وفيمن رأى رأيهم هل تجوزُ إمامتهم وتقبلُ شهادتهم أم لا ؟ بيّنوا لنا ذلك .
فأجاب : بأن قال : ..... ولم يكن أحدٌ في مغربنا من هذه الطوائف فيما سلف ، إلى أن ظهرت هذه الطائفة الأميّة الجاهلة الغبيّة الذين وَلَعوا بجمع أقوام جهّال فتصدّوا إلى العوام الذين صدورهم سالمة ، وعقولهم قاصرة ، فدخلوا عليهم من طريق الدّين ، وأنهم لهم من الناصحين وأنّ هذه الطريق التي هم عليها هي طريق المحبّين ، فصاروا يحضّونهم على التوبة والإيثار والمحبّة وصدق الأخوّة ، وإماتة الحظوظ والشهوة وتفريغ القلب إلى الله بالكلّية ، وصرفه إليه بالقصد والنيّة . وهذه الخصال محمودة في الدّين فاضلة ، إلا أنّ الذي في ضمنه على مذاهب القوم سموم قاتلة ، وطامّاتٌ هائلة . وهذه الطائفة أشدُّ ضرراً على المسلمين ، منْ مرَدَةِ الشياطين ، وهي أصعبُ الطوائف للعلاج ، وأبعدها عن فهم طُرُقِ الاحتجاج ، لأنهم أول أصلٍ أصّلوه في مذهبهم ، بُغضُ العلماء والتنفير عنهم ، ويزعمون أنهم عندهم قطّاع الطريق المحجوبون بعلمهم عن رتبة التحقيق ، فمن كانت هذه حالته ، سقطت مكالمته ، وبعدت معالجته ، فليس للكلام معه فائدة ، والمتكلّم معه يَضْرِبُ في حديدٍ بارد ، وإنما كلامنا مع من لم ينغمس في خابيتهم، ولم يسقط في مهواتهم ، لعلّه يسلم من عاديتهم ، وينجو من غاويتهم .
واعلموا أنّ هذه البدعة في فساد عقائد العوام ، أسرع من سريان السمّ في الأجسام ، وأنها أضرّ في الدين من الزنى والسرقة وسائر المعاصي والآثام ، فإنّ هذه المعاصي كلها معلوم قبحها ، عند من يرتكبها ويجتلبها ، فلا يُلَبِّس مُرْتَكِبُها على أحد ، وتُرجى له التوبة والإقلاع عنها . وصاحبُ هذه البدعة يرى أنها أفضل الطاعات ، وأعلى القربات ، فبابُ التوبة عنه مسدود ، وهو عنه شرودٌ مطرود ، فكيف ترجى له منها التوبة ، وهو يعتقد أنها طاعة وقربة ، بل هو ممن قال الله فيهم :
{قل هل أُنبّئُكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعا ً} ، وممن قال فيهم : {أفَمَنْ زُيِّنَ له سوءُ عمَلِه فَرَآهُ حَسَناً}.
ثمَّ ضررُ المعاصي إنما هي في أعمال الجوارح الظاهرة ، وضررُ هذه البدع إنما هي في الأصول التي هي العقائد الباطنة ، فإذا أُفسد الأصل ، ذهب الفرع والأصل ، وإذا فسد الفرعُ بقي الأصل و يُرجى أن ينجبر الفرع وإن لم ينجبر الفرع لم تذهب منفعة الأصل . ثمَّ إنّ الذي يُغوي الناس ويدعوهم إلى بدعته ، يكونُ عليه وزره ووزر من استنّ بسنّته . قال الله العظيم : {لِيَحْمِلُوا أوزارهم كاملةً يومَ القيامة وَ مِنْ أوزار الذين يُضِلُّونهم بغير عِلْمٍ ، ألا ساء ما يَزِرون} ...
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من سنّ سُنّةً حسنة كان له أجرُها وأجرُ من عمِل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنَّ سُنّةً سيّئةً كان عليه وِزرُها ووِزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة )) ولا تنشأ هذه العلل إلاّ مِنْ مَرَضٍ في القلب خفيّ ، أو حُمْقٍ جليّ ، فاحذروها واحذروا أهلها . ولا تغترّوا بهم ولو أنّهم يطيرون في الهواء ، ويمشون على الماء . فإنّ ذلك فتنةٌ لِمَنْ أراد الله فتنَتَه ، وعَلِمَ شِقوَته . قال الله تعالى :{ومَنْ يُرِد الله فِتْنَتَه فَلَنْ تَملك له من الله شيئاً}.فلا يغترّ أحدُكم بما يَظْهَرُ منَ الأوهام والخيالات مِنْ أهل البدع والضلالات ، ويعتقد بأنّها كرامات ، بل هي شُرُكٌ وحِبالات ، نصَبَها الشيطان لِيَقتَنِصَ بها مُعْتَقِدَ البدع ومرتكبَ الشهوات ،وإنّما تكون من الله الكرامة لِمَنْ ظهرت منه الاستقامة ، وإنما تكون الاستقامة باتّباع الكتاب والسنّة ، والعمل بما كان عليه سلَفُ هذه الأمّة ، فمن لم يسلُك طريقهم ، ولم يتّبع سبيلهم ، فهو ممن قال الله فيهم :{وَمَنْ يُشاققِ الرسول مِنْ بعد ما تَبَيَّنَ له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين ، نولّه ما تولّى ونُصْله جهنّم وساءت مصيراً} .
فمَنْ حرَّفَ كتابَ الله أو تركَ العمل به أو عطّله ، فقد افترى على الله كذباً ، واتّخذ آيات الله هزواً ولعباً ، فإذا رأيتم مَنْ يُعظّم القرآن فعظّموه ، وإذا رأيتم من يُكرم العلماء وأهل الدين فأكرموه . قال الله العظيم :{ومن يُعظّم حُرُمات الله فهو خيرٌ له عند ربّه} . ومن رأيتموه خالفَ القرآن فارْفُضُوه واهجروه في الله وأبغضوه . ومن رأيتموه يُجانب العلماء فجانبوه ، فإنّه لا يُجَانِبُهم إلا ضالٌ مبتدع ، غير مقتدٍ بالشرع ولا متّبع ، فإنّ الشرائع لا تُؤخذُ إلا عن العلماء ، الذين هم ورَثَة الأنبياء ، كيف وقد جعل الله شَهَادَتَه وشهادة ملائكته كشهادة أُولي العلم . قال الله تعالى :{شَهِدَ اللهُ أنّه لا إله إلا هوَ والملائكةُ و أُلوا العلم ، قائماً بالقسط} . ولَسْتُ أعني بالعلماء المشتغلين في زماننا هذا بعلوم الجدال والمماراة ، ولا المُعْتنين بدَرْسِ مسائل الأقضية والشهادات ، فيتقرّبون بذلك إلى جمع الحُطام ، والتّقرّب من الوُلات والحكّام ، ونَيْلِ الرِّياسة عند العوام ، وإنّما نعني بالعلماء الذين يعملون بعلمهم وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( يَحْمِلُ هذا الدّين من كُلّ خَلَفٍ عُدُولُه ، ينفونَ عنه تحريفَ الغالين ، وانتحال المبطلين )) فأولئك وَرَثَةُ النّبيين وأئمّة المتّقين الذين يجب أن يُقتَدى بهم ويتأدّب بآدابهم ، ويُقتفى آثارهم ، وتحفظ أخبارهم ، ولكنّهم ضمّهم لحودهم ، وقلَّ على بسيط الأرض وجودهم فما يورد من آثارهم أثر ، فهم الكبريتُ الأحمر ، وإنْ كان عجز عن بلوغ رتبتهم وقصّر ، لكنّه يعرفُ الحقّ فلا يغلط في نفسه ولا يغترّ ، فهذه النّصيحة لِمَنْ وَقَفَ عليها مِنَ الإخوان الصّادقين والمريدين ، والعامّة المسلمين المصحِّحين ، لِيُميِّزوا بها بين المُحِقِّين والمُبطلين مِنَ المنتمين إلى الدّين ولا يغْتَرّوا بالملْبَس منْ أجل حُسن الظنّ ومحبّتهم للصالحين ، ويدخل عليهم الخلل في عقائدهم ، ويميلون بها إلى عوائدهم .
وأمّا ما ذكَرْتُموه مِنْ أفعالهم واشتغالهم بالرقص والغنا والنّوح فممنوعٌ غيرُ جائزٍ ، قال الله تعالى :{ومِنَ النّاس منْ يَشْتَري لهْوَ الحديث لِيُضلَّ عن سبيل الله} .
قال مالك في المدوّنة : " وأكره الإجارة على تعليم الشعر والنوح وعلى كتابة ذلك ".
قال عياض : معناه نوحُ المُتَصوِّفة وإنشادهم على طريق النوح والبكاء ، فمن اعتقد في ذلك أنّه قُرْبة لله تعالى فهو ضالٌ مُضِلّ ، وَلا يعْلَمُ المسكين أنّ الجنّة حُفّت بالمكاره ، وأنّ النار حُفّت بالشهوات ، والله تعالى لم يَبعَث أحداً منَ الأنبياء باللهو والرّاحة والغِناء ، وإنّما بُعِثوا بالبِرِّ والتقوى وما يُخالف الهوى . قال تعالى :{وأمّا مَنْ خَافَ مقامَ رَبِّهِ ونهى النَّفْسَ عنِ الهوى فإنَّ الجنّة هي المأوى}. فالباطل خفيفٌ على النفوس ، ولذلك خفّ في الميزان ، والحقُّ ثقيلٌ ، ولذلك ثَقُلَ في الميزان ، قال تعالى :{إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قوْلاً ثَقيلاً}...............
وأمّا ما ذكرتموه منْ قراءة القرآن والاستماع إليه فإنه جائز . وفيه قربة وطاعة لله عزّ وجل قال تعالى :{وإذا قُرِىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون}. وإن كان بعضٌ أوّل ذلك في الصلاة . وهذا إذا كان على الوجه المأذون فيه ؛ لا يقصد به رياءً ولا سُمعة.
قال أبو محمد في رسالته : "ويبجّل كتاب الله العزيز فلا يُتلى إلا بسكينة ووقار" . والنساء فيما ذكرنا كالرجال فالمنعُ في حقّهن أشدُّ .
وكتب عبد العزيز بن محمد القيرواني حامداً الله ومصلٍ على نبيّه المصطفى . انتهى
ـ وسُئلَ فقيهُ بجاية وصالحها أبو زيد سيّدي عبد الرحمن الواغليسي عن مثل هذا السؤال .
فأجابَ عنه بما نصّه :
" قد نصَّ أهلُ العلم فيما ذكرتَ منْ أحوال بعض الناس منَ الرقص والتصفيق ، على أنّ ذلك بدعةٌ وضلال . وقد أنكره مالك وتعجّب ممن يفعل ذلك لمّا ذُكر له أنّ أقواماً يفعلون ذلك فقال : أصبيانٌ هم أم مجانين ؟! ما سمِعْنا أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا . انتهى المعيار ج11/29
13ـ وجاء في المدونة الكبرى 3 / 432
قلتُ : أكان مالك يكره الغناء ؟ قال : كره مالك قراءة القرآن بالألحان فكيف لا يكره الغناء !!
14ـ وسُئل الشيخ أبو إسحاق الشاطبي (من أئمة المالكية والمرجع في علم الأصول) عن حال طائفة ينتمون إلى التّصوّف والفقر ، يجتمعون في كثير من الليالي عند واحد من الناس ، فيفتتحون المجلس بشيء من الذكر على صوت واحد ثمّ ينتقلون بعد ذلك إلى الغناء والضرب بالأكفّ والشطح ، هكذا إلى آخر الليل ويأكلون في أثناء ذلك طعاماً يَعُدُّه لهم صاحبُ المنزل ، ويحضر معهم بعض الفقهاء ، فإذا تُكُلِّمَ معهم في أفعالهم تلك يقولون : لو كانت هذه الأفعال مذمومة أو محرّمة شرعاً لما حضرها الفقهاء .
فأجابَ ما نصّه : الحمد لله كما يجب لجلاله ، والصلاة على محمّدٍ وآله . سَألتَ وفّقني الله وإيّاك عن قومٍ يتسمّون بالفقراء ، يجتمعون في بعض الليالي ، ويأخذون في الذكر ثم في الغناء والضرب بالأكفّ والشطح إلى آخر الليل ، وأنّ اجتماعهم على إمامين من أئمّة ذلك الموضع يتوسّمان بوسم الشيوخ في تلك الطريقة ، وذكرتَ أنّ كل منْ يُزْجَر عن ذلك الفعل ، يحتجُّ بحضور الفقهاء معهم ولو كان حراماً أو مكروهاً لم يحضروا معهم .
والجواب والله الموفّق للصواب : إنّ اجتماعهم للذكر على صوت واحد إحدى البدع المحدثات التي لم تكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الصحابة ولا من بعدهم ، ولا عُرِفَ ذلك قطُّ في شريعة محمدٍ عليه السلام ، بل هو من البدع التي سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلالة ، وهي مردودة . ففي الصحيح أنه عليه السلام قال : (( مَنْ أحْدَثَ في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ )) يعني فهو مردود وغير مقبول، فذلك الذكر الذي يذكرونه غير مقبول . وفي رواية (( مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمْرُنا فهو مردود )) . وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : أما بعد فإن خيرَ الحديث كتابُ الله وخيرَ الهدي هَدْيُ محمدٍ ، وشرَّ الامور مُحدثاتُها وكلَّ بدعةٍ ضلالة . وفي رواية وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة في النار . وهذا الحديث يدُلُّ على أنّ صاحب البدعة في النار . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
وعن الحسن البصري أنه سُئلَ وقيل له : ما ترى في مجلسنا هذا ؟ قومٌ من أهل السنّة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمعُ في بيت هذا يوماً فنقرأ كتاب الله وندعو الله ربّنا ، ونصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وندعو لأنفسنا ولعامّة المسلمين . قال : فنهى الحسنُ عن ذلك أشدَّ النهي ، لأنه لم يكن من عمل الصحابة ولا التابعين . وكل ما لم يكن عليه عمل السلف الصالح ، فليس من الدين ، فقد كانوا أحرصَ على الخير مِنْ هؤلاء ولو كان فيه خير لفعلوه . وقد قال تعالى :{اليومَ أكملتُ لكم دينَكُم} .
قال مالك بن أنس : فما لم يكن يومئذٍ ديناً لم يكن اليوم ديناً . وإنّما يُعبدُ الله بما شَرَع .
وهذا الاجتماع لم يكن مشروعاً قط فلا يصحّ أن يُعبدَ الله به .
وأمّا الغناء والشطح فمذمومان على ألسنة السلف الصالح . فعن الضّحاك : الغنا مفسدةٌ للقلب مسخطةٌ للربّ . وقال المحاسبي : الغنا حرامٌ كالميتة . وسُئلَ مالك بن أنس عن الغنا الذي يُفْعل بالمدينة فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . و هذا محمول على غنا النساء و أما الرجال فغناؤهم مذمومٌ أيضاً ، بحيث إذا داوم أحدٌ على فعله أو سماعه سقطت عدالته ، لما فيه من إسقاط المروءة ومخالفة السلف . وحَكَى عياض عن التنيسي أنه قال : كنا عند مالك وأصحابه حوله ، فقال رجل من أهل نصيبين يا أبا عبد الله عندنا قوم يُقال لهم الصوفيّة ، يأكلون كثيراً ، ثمّ يأخذون في القصائد ، ثمّ يقومون فيرقصون ؟ فقال مالك : أَصبيانٌ هم ؟ قال : لا ، قال : أمجانينُ هم ؟ قال : لا ، هم قومٌ مشايخ ، وغيرُ ذلك عقلاء ، فقال مالك : ما سمعتُ أنّ أحداً من أهل الإسلام يفعلُ هذا !! اُنظُر كيف أنكر مالك و هو إمام السنة أن يكون في أهل الإسلام من يفعل هذا إلا أن يكون مجنوناً وصبياً . فهذا بيّنٌ أنه ليس من شأن الإسلام . ثم يقال ولو فعلوه على جهة اللعب كما يفعله الصبيان لكان أخف عليهم مع ما فيه من إسقاط الحشمة وإذهاب المروءة ، وترك هدي أهل الإسلام و أرباب العقول ، لكنهم يفعلونه على جهة التقرب إلى الله والتَّعبُّد به ، وأن فاعله أفضل من تاركه ، وهذا أدهى و أمرّ، حيث يعتقدون أن اللهو واللعب عبادة ، وذلك من أعظم البدع المحرمات الموقعة في الضلالة الموجبة للنار والعياذ بالله .
وأمّا ما ذكرتم من شأن الفقيهين الإمامين ، فليسا بفقيهين إذا كانا يحضران شيئا ًمن ذلك وحضورهما ذلك على الانتصاب إلى المشيخة قادحٌ في عدالتهما فلا يُصلّى خلف واحدٍ منهما حتى يتوبا إلى الله من ذلك ، ويَظْهَرَ عليهما أثر التوبة ، فإنه لا تجوز الصلاة خلف أهل البدع نص على ذلك العلماء . و على الجملة فواجب على من كان قادراً على تغيير ذلك المنكر الفاحش ، القيام بتغييره وإخماد نار الفتنة ، فإن البدع في الدين هلاك ، و هي في الدين أعظم من السم في الأبدان والله الواقي بفضله . والسلام على من يقف على هذا من كاتبه : إبراهيم الشاطبي . انتهى وتقيد بعقبه بخط المجيب رحمه الله ما نصه : ما كُتِب فوق هذا ويمنته صحيح عني حسبما كتب ، فليروه عني من شاء على حسب ما وقع هنا والله الموفّق للصواب . و كتب ذلك بخطه العبد الفقير إلى رحمة ربه إبراهيم الشاطبي المذكور في العشر الأواخر لذي قعدة عام 786 هـ .
15ـ و أجاب عن السؤال السابق أيضاً الفقيه الصالح أبو عبد الله الحفار المالكي بما نصه ( الحمد لله والصلاة على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . الجواب مستعيناً بالله : إن هذه الطائفة المنتمية للتصوف في هذا الزمان وفي هذه الأقطار ، قد عظُم الضرر بهم في الدين ، وفشت مفسدتهم في بلاد المسلمين ولا سيما في الحصون والقرى البعيدة عن الحضرة هنالك ، يُظهرون ما انطوى عليه باطنهم من الضلال ، من تحليل ما حرم الله ، والافتراء عليه وعلى رسوله . وبالجملة فهم قوم استخلفهم الشيطان على حَلِّ عُرى الإسلام و إبطاله ، وهدم قواعده ولسنا لبيان حال هؤلاء ، فهم أعظم ضرراً على الإسلام من الكفار ، و إنما يقع الجواب على حال من ذكر في السؤال على تقدير سلامة عقيدته ، لكنهم قوم جهلة ، ليس لديهم شيء من المعارف ولا يحسن واحد منهم أن يستنجي ولا يتوضأ دعْ ما سوى ذلك ، لا يعرف ما فرض الله عليه . بهيمة من البهائم في دينه ، و ما أوجب الله عليه في يومه وليلته ، ليس عنده من الدين إلا الغنا والشطح ، و آكل أموال الناس بالباطل ، واعتقاد أنه على شيء . وهذا كله ضلال من وجوه :أعظمها أنهم يوهمون على عوام المسلمين و من لا عقل له من النساء ، ومن يشبههن في قلة العقل من الرجال أن هذه الطريقة التي يرت****ها هي طريقة أولياء الله وهي من أعظم ما يتقرب به إلى الله فيضلون ويضلون ، وفي ذلك افتراء على الله وعلى أوليائه وعلى شريعته و أوليائه . قال عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ( أيها الناس قد سُنَّت لكم السنن ، وفُرِضت لكم الفرائض ، وتركتم على الجادة ، إلا أن تميلوا بالناس يميناً وشمالاً)) . فليس في دين الله ولا فيما شرع أن يُتقرب إليه بغناءٍ ولا شطح ، والذكر الذي أمر به وحث عليه ومدح الذاكرين له به ، هو على الوجه الذي كان يفعله صلى الله عليه وسلم ولم يكن على تلك الطريقة من الجمع ورفع الصوت على لسان واحد (....) فلا يُتقرب إلى الله إلا بما شرع وعلى الوجه الذي شرع ، فمِن كلام السلف : لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها . وسُئِلَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الصراط المستقيم فقال : ((تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد و عن شماله جوادّ (جمع جادّة) وعليها رجال يدعون من مرّ بهم ، هلم لك ، هلم لك . فمن أخذ منهم في تلك الطرق سُلك به إلى النار ، ومن استقام على الطريق الأعظم انتهى به إلى الجنة)) ثم تلا ابن مسعود هذه الآية : {وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّقَ بكم عن سبيله} . وحين ذَكَرَ عليه السلام أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، قيل من هي يا رسول الله ؟ قال : ((ما أنا عليه وأصحابي )) . أو كما قال عليه السلام إلى غير ذلك مما جاء في هذا الباب ولا يُحصى كثرةً .
و إنما حمل هذه الطائفة على ارتكاب هذه الطرق المهلكة في الدين أنهم لمّا احتاجوا إلى ما يحتاج إليه الناس من المأكل والمشرب والملبس وسائر المآرب التي يحتاج الإنسان إليها ، ولم تكن لهم لا صناعة ولا حرفة يتعيشون بها ، أو كانت و صَعُب عليهم الكدّ في طلب المعاش ، وتكلُّف الخدمة لخسّة همتهم بركونهم إلى الدَّعة والراحة ، فسوَّل لهم الشيطان و زيَّن لهم هذه الطريقة التي هي لهو ولعب ، ولبَّسوا فيها على الجُهَّال بالذِّكْر الذي يفتتحون به مجالسهم ، ولَبِسوا المرقّعات و نَصَبوها شبكةً إذ كانت لباسَ الخِيَار من أهل هذه الطريقة قبل أن تدخلها البدع و الضلالات . وقالوا لهم : هذه طريقة الأولياء ، وهي أقرب الطرق إلى الله و إلى نيل رضاه والكونِ في جواره في الآخرة ، فتهافت الجهّال عليهم وأوصلوهم إلى ما شاءوا من نيل شهواتهم إلى أقصى الغايات ؛ فالإنسان إذا قيل له كُل واشرب واشطح وتلذذ بالغنا والْهُ والعب طول عمرك ولا تتعب في عبادة ولا غيرها ثم مصيرك في الآخرة إلى أعلى الدرجات مع الأولياء والصالحين ، فيرى أن هذه الجنة معجلة قبل الموعود بها ، وأنه قد حصل على ما لا غاية بعده من السعادة .
فأيُّ مصيبة أعظم من هذه في إضلال عباد الله ؟ فالواجب على من قدر على هؤلاء ـ الذين هم كالأَكَلَة في جَنْبِ الدين ـ أن يمنعهم ويحول بينهم وبين ما هم بسبيله وأن يُجليهم عن موضعه ، فهو في ذلك مجاهد مأجور ، فمفاسدُهم متعددة ديناً ودنيا . قال بعض الحكماء لتلامذته : كونوا كالنحل في الخلايا , قالوا كيف النحلُ في الخلايا ؟ قال : إنها لاتترك عندها بطالاً إلا نفته و أقصته عن الخلية لأنه يُضيّق عليهم المكان ويأكلُ العسل ويعلّمُ الكسل . فهؤلاء القوم هذه صفتهم ، لأنه لا نفْعَ بهم ، فهم يُضيّقون على الناس في المساكن ، ويَأكلون أرزاقهم بغير حق ، ويعلّمونهم الكسل ، وتَرْكَ الحِرَف ، والاتِّكال على ما في أيدي الناس ، وهم بمنزلة الربيع في أثناء الزرع يُضيّقُ المكان ، ويستبدُّ بالماء ، ويفسد الزرع ، فلذلك يُقلع ويرمى به . (...)
وأمّا حضور الفقهاء معهم وقولهم لو كنّا على غير طريقة مرْضيّة لما حضرها الفقهاء معنا . فيُقال : إنّ حضور الفقهاء معهم ليس بدليل على الجواز ، ولا عدمه دليلٌ على المنع ، ولا يُعرفُ الحقُّ بالرجال ، بل الرجالُ يُعرفون بالحق ، فالفقيه إذا حضَرَ معهم ووافق واستحسَنَ فِعْلَهم فهو مثلهم بل هو شرٌّ منهم وهو باسم الفسق أولى منه باسم الفقه . وإنْ حضرَ ليرى تلك الطريقة وما تنطوي عليه حتى يحكُمَ بما يشاهد من أحوال أهلها ، ثمّ بعد ذلك يحكم عليها بما يقتضيه الفقه ، فحضوره حسن . وإنْ كان حضوره على جهة تفريج النفس ، كما يحضُر الإنسان مجالس اللهو واللعب ، فإنْ تكرر ذلك منه على هذا الوجه ، فذلك مسقطٌ لعدالته . وإن كانت فلتة فلْتُقَل عثرته ولا يَعُدْ للحضور معهم فيكون مثلهم على ما أشار إليه قوله تعالى : {فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره إنّكم إذاً مثلهم} . فمن كثَّرَ سواد قومٍ فهو منهم .
هذا ما حضرَ تقييدُه في هذا الوقت والسائل يستحث في التعجيل . فهذا القدر كافٍ في الغرض المطلوب . والله يُوفّقنا إلى الاقتداء بسلفنا ، ويعصمنا من الابتداع في الدِّين ، والسلام على منْ يقف على هذا والرحمة والبركة من كاتبه محمد الحفّار. انتهى المعيار 11/42.
16ـ وجاء في المنظومة الطويلة البديعة للعلاّمة عبد الرحمن بن سعيد الأخضري المغربي (وكان شاذلياً) رحمه الله ، هذه الأبيات التي يصفُ فيها الصوفية وغناءهم ورقصهم :
والرقصُ والصراخ والتصفيق عمـداً بـذكر الله لا يليق
وإنما المطلوبُ في الأذكـارِ الذكرُ بالخُشوع والوقـارِ
فقد رأينـا فرقةً إنْ ذَكَروا تَبَدَّعوا وربّما قـد كفروا
وفعلوا في الذكر فعلاً منكراً صعباً فجاهدهم جهاداً أكبرا
خلّوا من اسم الله حرف الهاء فألحدوا في أعظـم الأسماء
لقـد أتوا واللهِ شـيئاً إدّاً تخرّ منـه الشامخات هـداً
والألف المحذوف قبل الهاء قـد أسقطوه وهو ذو إخفاء
وزعموا أن لهـم أحوالا وأنهم قـد بلـغوا الكمالا
والقوم لا يدرون ما الأحوال فـكونهـا لمثلهـم محال
حاشا بساط القدس والكمال تـطؤه حوافر الجهـال
والجاهلون كالحمير الموكفة والعارفون سـادة مشرفة
وقـال بعض السادة المتّبَعة في رجز يهجو بـه المبتدعة
ويذكـرون اللهَ بالتَّغْبِيـر ويشْطَحون الشَّطح كالحمير
وينبحون النبح كالـكلاب طَريقُهم ليست على الصَّواب
وليس فيهم من فتىً مطيع فلعنة الله علـى الجـميع
قد ادَّعوا مراتبـاً جليلـة والشرع قـد تجنَّبوا سـبيله
لم يدخلوا دائرة الحـقيقة كلا ولا دائرة الطريقـة
لم يقتدوا بسيد الأنـام فخرجوا عـن ملَّة الإسلام
لم يدخلوا دائرة الشريعـة وأولـعوا ببدعٍ شـنيعة
لم يعملوا بمقتضى الكتاب وسـنَّةِ الهادي إلى الصَّواب
قد مَلَكَت قلوبَهم أوهام فالقوم إبليـس لهم إمـام
17ـ وسُئل القاضي أبو عمرو بنُ منظور عن إمام قرية يؤمُّ الناس ، وهو يُحب طريقة الفقراء ، وفي القرية زاوية يجتمع فيها بعضٌ من أصحاب القرية ليلة الجمعة وليلة الإثنين والإمام المذكور معهم ، يستفتحون بعشْرٍ من القرآن ويبدؤون بالذكر الموصوف لهم ، فإذا فرغوا منه يستفتحُ المَدَّاحُ وأصحابه دائرون عليه يضربون الكفّ ويقولون معه ، والإمام المذكور يمدَحُ مع المدّاحين ويَضْرب الكفَّ معهم ويرقص مع الذي رقص منهم ، فإذا كان ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم يمشي الإمام معهم إلى قرية أخرى بنحو عشرين ميلاً من قريتهم ويبقى المسجد بلا خطبة ولا إمام ولا أذان حتى يرجعون ، وتكون غيبتهم أربعة أيّام أو ثلاثة أيام . فقيل إنّ الإمام الذي يعمل هذا لا تجوز إمامته ، والذي يسمع العريف خيرٌ منَ الفقراء ، والإمام المذكور يعلَمُ أنّ طريقةَ الفقراء بدعةٌ لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد التابعين بعده ، ويعلمُ أنّ أفضل الذكر ما خفي ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . ولكن حمَلَهُ على هذا محبّته في الذكر وفي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبّته في مُجَامعة الإخوان ، هل يلزم من اغتاب هذه الطريقة شيء أم لا ؟
فأجَابَ : تأمّلتُ السؤال بمحوله ، وقد سُئل عن مثله العلماء الفقهاء الذين يُقتَدى بهم ويُعْمَلُ على قولهم ، والكلُّ منعوا تلك الطريقة وقالوا بتبديع مرتكبها ، والسنّةُ بخلاف ذلك ، والرقصُ لا يجوز ، وهو تلاعبٌ بالدِّين ، وليس من أفعال عباد الله المهتدين . وإمامة مَنْ يرى هذا المذهب ويسلك طريقهم لا تجوز ، لاسيما وقد انضاف إليه مع عمله هذا تعطيل المسجد وتركه دون مؤذّن ولا إمام .{ومَنْ أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكرَ فيها اسمه وسعى في خرابها} وهذا يدخل تحت الوعيد . وقولُ من قال إنّ مَنْ يسمع العريف خيرٌ من الفقراء فهذا يظهر أنه صحيح ، ووجهه أنّ الذي يسمعُ العريف عاصٍ ويعلمُ أنه على غير شيء . وهذا الذي يشطح ويرقص يعتقد أنه على شيء وهو على غير شيء أو متلاعب ، وما خُلقنا للعب ، وهو بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . ويكون للإمام حظّه من هذه الطريقة ، وحضوره كافٍ في منع إمامته ، لأنه مكثّر سوادهم ، ومنْ كثّر سواد نوعٍ منهم عُدَّ منهم . وأمّا محبّة الرسول والصّحابة فيُتَوَصَّلُ إليها بغير هذا ، وهي ساكنة في القلب ، والإكثار من الصلاة والسلام عليه والرضى عن أصحابه في نفسه وفي بيته هو وجهُ العبادة . والطّاعنُ في هذا الإمام وإنْ كان من قرية أخرى قامَ على وجه الحُسْبة وتغيير المنكر ، فلا عتابَ عليه إن شاء الله تعالى . فهذا وجه الجواب عن السؤال بمحوله . انتهى
18ـ وأجابَ : الشيخ أبو الحسن العامري : الاجتماعُ على الذكرِ إذا كان يَذْكر كلُّ واحد وحدَه ، وأمّا على صوتٍ واحد فكرهه مالك . وأمّا القيامُ والشطح فمَنْ ظنَّ أنه عبادة فهو جاهل تجب عليه التوبة من ذلك ، فإنْ ناظرَ على ذلك وقال إنّه عبادة فقد خالف الإجماع ، ومُخالفَةُ الإجماع كُفْرٌ فيُسْتَتاب فإنْ تابَ وإلا قُتِلَ .
وكيفَ يعتقدُ أن يُعْبَدَ اللهُ بشطحٍ وهو لهوٌ ولعب ؟!! انتهى
19ـ وأجَابَ : سيدي أبو عبد الله السرقسطي عن نظيرتها بما نصّه : جوابُ السؤال بمحوله أنّ طريقة الفقراء في الذكر الجهري على صوتٍ واحد والرقص والغناء بدعةٌ مُحدثة لم تكن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلُّ بدعة ضلالة ، وكلُّ ضلالة في النّار . فمن أرادَ اتباع السُنّة واجتناب البدعة في ذكر الله والصلاة على رسوله فلْيَفْعَل ذلك منفرِداً بنفسه غير قارن ذكره بذكر غيره ، ولْيُخْفِ ذكْرَهُ فهو أفضل له ، وخير الذكر الخفي ، وعمل السرّ يفضل عمل العلانية في النّوافل بسبعين ضِعْفاً . انتهى المعيار المُعْرب للونشريسي 1/160 .
· رابعاً مذهب الحنابلة :
1ـ جاء في كتاب المغني لابن قُدامة المقدسي الحنبلي 14 / 159-160
فصلٌ في الملاهي : وهي على ثلاثة أَضْرُبٍ ؛ محرّم ..... و ضربٌ مباح وهو الدُّف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف)) أخرجه مسلم وذكر أصحابنا وأصحاب الشافعي أنه مكروه في غير النكاح لأنه يُروى عن عمر ((أنه كان إذا سمع الدف بعث فنظر فإن كان في وليمة سكت وإن كان في غيرها عمد بالدِّرَّة))(3) وأمّا الضرب به (أي بالدف) للرجال فمكروه على كل حال لأنه إنما كان يَضْرِبُ به النساء والمخنثون المتشبهون بهن ففي ضرب الرجال تشبه بالنساء وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء . انتهى
ـ وقد سُئل الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى :
ما تقول السادة الفقهاء - أحسن الله توفيقهم - فيمن يسمع الدف والشبابة والغناء ويتواجد ، حتى إنه يرقص . هل يحل ذلك أم لا ؟ مع اعتقاده أنه محب لله ، وأن سماعه وتواجده ورقصه في الله ؟. وفي أي حال يحل الضرب بالدف ؟ هل هو مطلق ؟ أو في حالة مخصوصة ؟. وهل يحل سماع الشعر بالألحان في الأماكن الشريفة ، مثل المساجد وغيرها ؟
فقال الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله : إن فاعل هذا مخطئ ساقط المروءة ، والدائم على هذا الفعل مردود الشهادة في الشرع ، غير مقبول القول ، ومقتضى هذا : أنه لا تقبل روايته لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شهادته برؤية هلال رمضان ، ولا أخباره الدينية .
وأما اعتقاده محبة الله عز وجـل ، فإنه يمكن أن يكون محباً لله سبحانه ، مطيعاً له في غير هذا ، ويجوز أن يكون له معامـلة مع الله سبحـانه ، وأعمال صالحة في غير هذا المقام . وأمّا هذا فمعصية ولعب ، ذمّهُ الله تعالى ورسوله ، وكرِهَهُ أهـلُ العلم ، وسّموه: بدعة ، ونهوا عن فعله ، ولا يُتقرب إلى الله سبحانه بمعاصيه ، ولا يُطـاع بارتكاب مناهيـه ، ومن جعل وسيلته إلى الله سبحانه معصيته ، كان حظه الطرد والإبعاد ، ومن اتخذ اللهو واللعب ديناً ، كان كمن سعى في الأرض فساداً ، ومن طلب الوصول إلى الله سبحانه من غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته فهو بعيد من الوصول إلى المراد .
وقد روى أبو بكر الأثرم قال : سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول : " التغبير محدث " ـ ومنه قوم يغبّرون بذكر الله ، أي يهللون ويرددون الصوت بالقراءة ونحوها ـ .
وقال أبو الحارث : سألت أبا عبد الله عن التغبير وقلت: إنه تَرِقُّ عليه القلوب . فقال: "هو بدعة" وروى غيره أنه كرهه ، ونهى عن إسماعه .
وقال الحسن بن عبد العزيز الجروي: سمعت الشافعي محمد بن إدريس يقول: " تركت بالعراق شيئاً يقال له التغبير، أحدثته الزنادقة ، يصدون الناس به عن القرآن" .
وقال يزيد بن هارون : " ما يُغَبِّر إلا فاسق ، ومتى كان التغبــير ؟ " . وقال عبد الله بن داود : " أرى أن يُضْرب صاحب التغبير " . والتغبيرُ: اسم لهذا السماع ، وقد كرهه الأئمة كما ترى . ولم ينضم إليه هـذه المكـروهات من الدفوف والشبابات ، فكيف به إذا انضمت إليه واتخذوه ديناً ؟ فما أشبههم بالذين عابهم الله تعالى بقوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية} قيل المُكاء التصفير ، والتصدية : التصفيق . وقال الله سبحانه لنبيه: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا} .
فأمـا تفصيل هذه المسموعات من الدف والشبابة وسماع كل واحد منهما منفرداً: فإن هذه جميعها من اللعب ، فمن جعلـها دأبه، أو اشتهر بفعلها أو استماعها ، أو قصدها في مواضعها ، أو قصد من أجلها فهو ساقط المروءة ، ولا تقبل شهادته ، ولا يعد من أهل العدالة ، وكذلك الرقّاص .انتهى
· خامساً مذهب الصوفيّة
1ـ عقدَ الشهاب السهروردي في " العوارف " أبواباً في حكم السماع منها الباب الثالث والعشرون في القولِ فيه رداً وإنكاراً قال فيه : ".... وحيث كثُرت الفتنة بطريقِه وزالت العصمة فيه وتصدى للحرص عليه أقوامٌ قلَّت أعمالهم وانفسدت أحوالهم وأكثروا الاجتماع للسماع ..... وتكون الرّغبة في الاجتماع طلباً لتناول الشهوة واسترواحاً إلى الطرب واللهو والعشرة ، ولا يخفى أنّ هذا الاجتماع مردودٌ عند أهل الصدق .
.... ويتّفقُ لهم ذلك اتفاقاً في بعض الأحايين لا أن يجعلوه دأباً وديدناً حتى يتركوا لأجله الأوراد، وقد نُقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال في كتاب آداب القضاء .. وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن .
ثمّ يتابع السهروردي فيقول : .. وإن أنصف المنصف وتفكّر في اجتماع أهل الزمان وقعود المغنّي بدفّه ، والمشبب بشبّابته وتصوّرَ في نفسه هل وقع مثل هذا الجلوس والهيئة بحضرته صلى الله عليه وسلم ؟ وهل استحضروا قوّالاً وقعدوا مجتمعين لاستماعه ؟ لا شكَّ بأن يُنكر ذلك من حاله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولو كان في ذلك فضيلة تُطلب ما أهملوها .
وكثيراً ما يغلط الناس في هذا كلّما احتُجَّ عليهم بالسلف الماضين ، يحتجُّ بالمتأخّرين ! فكان السلف أقرب عهداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديُهم أشبه بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثمّ ذَكَرَ عن عبد الله بن عروة بن الزبير عن جدّته أسماء وعن ابن عمر في الإنكار على من يتساقط عند قراءة القرآن ، وكذا عن ابن سيرين في الإنكار على مثلهم .... فقد تعيّنَ على طائفة الصوفيّة الاجتناب عن مثل هذه الاجتماعات واتقاء مواضع التهم فهذه الآثار دلّت على اجتناب السماع وأخذ الحذر منه . انتهى كلام السهروردي ملخصاً من كتاب " إتحاف السادة المتّقين بشرح إحياء علوم الدين " للزبيدي 6/ 457ـ458
2ـ ونقلَ الشيخ الزبيدي وهو من كبار الصوفية المتأخرين في كتابه"إتحاف السادة المتّقين بشرح إحياء علوم الدين" كلامَ العلاّمة الشافعي الفقيه (البدر ابن جماعة) ، في جواب فتوى رُفِعَت إليه في السماع فقال: ((هذه مسألة خلافيّة .... فلنقتصر على حكاية المذاهب الأربعة : فأمّا أبو حنيفة رحمه الله فمذهبُه فيه أشدُّ المذاهب ، وقوله فيه أغلظُ الأقوال ، وقد صرَّح أصحابُه بأنّ استماعه فسقٌ ، والتلذّذَ به كُفْرٌ ، وليس بعد الكفر غاية . وأمّا مالك رحمه الله فإنه لمّا سُئلَ عنه قال : إنّما يفعله عندنا الفسّاق ، وفي كتُبِ أصحابه إذا اشترى جاريةً فوجدها مغنّية فله أن يردّها بالعيب . وأمّا أحمد بن حنبل رحمه الله فإنّ ابنه عبد الله سأَلَهُ عنه فقال : يا بنيّ الغناءُ يُنبِتُ النفاقَ في القلب، ثم ذكَرَ قولَ مالك إنما يفعله عندنا الفساق . وأمّا الشافعي رحمه الله فقد قال في كتاب القضاء : إن الغناء لهوٌ مكروه يُشبِه الباطل ؛ وقال لأصحابه بمصر :خلَّفتُ ببغداد شيئاً أحدَثَتْهُ الزنادقة يُسمّونه التغبير ، يصدّون به الناس عن القرآن. فإن كان قوله في التّغْبير ـ وهو عبارة عن شعرٍ مُزَهِّدٍ في الدنيا إذا غنّى المغني به ضَرَبَ الحاضرون بقُضُبٍ على نِطع أو مخدّة ضرْباً موافقاً للأوزان الشعريّة ـ فَلَيْتَ شِعْري ماذا يقول في السماع الواقع في زماننا ؟ فمن قال بإباحة هذا النوع فقد أحدَثَ في دين الله ما ليس منه)). انتهى كلام ابن جماعة باختصار من "إتحاف السادة المتّقين" للزبيدي 6/458
3ـ وقال الإمام الجُنيد رحمه الله :
" رأيتُ إبليس في النوم فقلتُ له هل تظْفُر منْ أصحابنا بشيء أو تنال منهم نصيباً ؟
فقال : إنه ليعسر عليَّ شأنهم ويعظم عليَّ أنْ أُصيبَ منهم شيئاً إلا في وقتين ، وقتِ السماع ، و عند النظر(4)، فإني أنال منهم فتنة وأدخُلُ عليهم به ".
4ـ وسُئل أبو علي الروذباري عن السماع ، وكان من شيوخ الصوفيّة ، فقال : ليتنا تخلّصنا منه رأساً برأس .
5ـ وقال الجُنيد : إذا رأيتَ المُريد يحبُّ السماع فاعلم أنّ فيه بقيّةً من البطالة .
6ـ وقال أبو الحارث الأولاسي ، وكان من الصوفية ، رأيتُ إبليس في المنام وكان على بعض السطوح في " أولاس " وعن يمينه جماعة وعن يساره جماعة وعليهم ثيابٌ نظيفة فقال لطائفة منهم قوموا وغنّوا فقاموا وغنّوا ، فاستفزعني طيبه حتى هممتُ أن أطرحَ نفسي من السطح ، ثمّ قال ارقصوا فرقصوا بأطيبَ ما يكون ، ثمّ قال : يا أبا الحارث ما أُصيبُ شيئاً أدخلُ به عليكم إلا هذا .
7ـ وقال الجريري : رأيتُ الجنيد رحمه الله في النوم فقلتُ كيف حالك يا أبا القاسم ؟ فقال : طاحت تلك الإشارات ، وبادت تلك العبارات ، وما نفعنا إلا تسبيحات كنّا نقولها بالغدوات . انتهى المدخل لابن الحاج 3/ 109 .
ـ فهذه فتاوى كبار العلماء من المذاهب الأربعة ومعها كلمات لبعض كبار رجالات التصوف وجميعهم متَّفِقُون على منع مجالس السماع (الإنشاد) ، وكذلك الرقص (الحضرة) وهي أشدُّ منعاً وبخاصّة في المساجد ، وقد وصفوا ذلك بأنّه باطلٌ ومُنكر وضلال وتلاعبٌ بالدِّين وحكموا عليه بالحُرْمة ، وحكموا على فاعل ذلك بأحكام منها فسْقُه وتبدِيعُه ، وسقوط عدالته ، ورفضُ شهادته ، والنهي عن الصلاة خلفه ، ثمّ أفتَوا بوجوب تدخُّل وليّ أمرِ المسلمين لمنع القائمين على هذه المجالس من فعلها وتأديبهم ومعاقبتهم ، وكذلك وجوب الإنكار عليهم من أهل العلم . وصدق القائل :
يا عُصْبَةً مـا ضَرَّ أُمَّةَ أحمد وسعى على إفسادها إلا هِي
طَارٌ ومِزْمارٌ ونغْمَةُ شـادِنٍ أرَأيتَ قَـطُّ عِبادَةً بملاهِي ؟!
ولله درُّ القائل :
أقـالَ اللهُ صَفِّقْ لي وغَنِّي وقُلْ نُكْرَاً وسَمِّ الرَّقْصَ ذِكْراً ؟!
أسألُ الله تعالى أن يهدينا إلى صراطه المستقيم ، ويُجنّبَنا الزلَلَ في الدِّين ، ويرْزُقَنا الصدق في النُّصح والتَّبيين ، والحمدُ لله ربِّ العالمين
فحقيقة الأمر أنّ هذا الذي يسمّي نفسه مُنشداً إنّما هو مُغَنِّ ، وما يفعله هو غناء وليس إنشاداً . لذلك نجد في كتب الفقه أنّ الفقهاء يسمّون مجالس السماع عند بعض الصوفية بمجالس الغناء والرقص ، وحتى الصوفيّة أنفسهم كانوا في السابق يُسمّونه غناءً ويظنونَ أنه جائز ومباح . وقد آخذهم العلماء على ذلك .
وقد جمعتُ بعض فتاوى العلماء من المذاهب المعتمدة في بلادنا من الشافعيّة والحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وكذلك عرضتُ كلام بعض كبار الصوفيّة الأوائل في خصوص الغناء والرقص ، ليَتَبّيَّن للقارئ حقيقة موقف فقهاء الإسلام من هذا الأمر .
وغرضي مِنْ ذلك أن يتنبّه المسلمون للخطأ الذي يرت****ه ، وللإساءة للدِّين التي يمارسونها من دون قصد منهم ، والله أعلم . و هذه الفتاوى هي لكبار علماء المذاهب ومن أشهر كتبهم وعليها العمل . وهم يستعملون عدّة مسمّيات لمسمّىً واحد وهو ما يَفْعلُه الصوفيّة من الغناء في المساجد أو المجامع تحت اسم مجلس ذكر أو احتفال بالمولد ! فقد يسمّونه السماع أو التَّغْبِِير أوالغناء وكلّه غير جائز عندهم . وطبعاً كلام العلماء هنا إنما هو على مسألة تلحين الشعر والغناء به والرقص والتّواجد ، وسترى شدّة فتاويهم في منعه وإنكاره ، فما بالك إذا كان هذا الشعر فيه إشكال لما يتضمَّنه من ألفاظ غير شرعية ؟!
· أولاً المذهب الحنفي
1ـ قال البزازي الحنفي في الفتاوى البزازية 4/ 349 الطبعة الثالثة التركيّة
(( ....و غرضُه استماع الدف والمزمار واللعب بالرقص الذي أحدثه أولاً السامري حين أخرج لهم عجلاً جسداً له خوار ، وقد نقلَ صاحبُ الهداية (المرغيناني) فيها : أنّ المغنّي للناس ، إنما لا يَقْبَل شهادَتَه لأنّه يجمَعُهم على كبيرة ، والقرطبي : على أنّ هذا الغناء وضرب القضيب والرقص حرام بالإجماع عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. في مواضعَ من كتابه .
وسيّد الطائفة الشيخ أحمد اليَسوي صرّحَ بحرمته . ورأيتُ فتوى شيخ الإسلام جلال الملّة والدين الكرماني أنّ مُستَحلّ هذا الرقص كافرٌ . ولما عُلِمَ أنّ حرمَتَهُ بالإجماع لزم أن يكفِّر مُسْتَحِلَّه . وللشيخ الزمخشري في " كشافه " كلماتٌ فيهم ، تقوم بها عليهم الطّامة ، ولصاحب " النهاية " و الإمام المحبوبي أيضاً كلام أشدّ من ذلك . انتهى
2ـ وقال في " شرح الكنز للنسفي " بعد ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( كلُّ لَعِبِ ابن آدم حرامٌ إلا ثلاثة : ملاعبة الرجل أهله ، وتأديبه لفَرَسه ، ومُناضَلَته لقوسه ))
: وهذا نصٌّ صريحٌ في تحريم الرقص الذي يسمّيه المتصوفة الوقت وسماع الطيب ، وإنّما هو سماعٌ فيه أنواعُ الفسق وأنواعُ العذاب في الآخرة . انتهى
3ـ وفي حاشية الطحاوي على المراقي 2/311 : (( وأما الرقص والتصفيق والصريخ وضرب الأوتار والصنج والبوق الذي يفعله بعض من يدعي التصوف فإنه حرام بالإجماع لأنها زيُّ الكفار )) . انتهى
4ـ وفي الفتاوى البزازية 4/338 : " قرَأَ القرآن على ضرب الدفّ والقضيب يكفر لاستخفافه . وأدبُ القرآن أن لا يُقرَأ في مثل هذه المجالس . والمجلس الذي اجتمعوا فيه للغناء والرقص لا يُقرأُ فيه القرآن كما لا يُقرأ في البِيَع والكنائس لأنّه مجمَعُ الشيطان ". انتهى
5ـ وقال في "اليتيمة " : سُئل الحلواني عمَّن سَمّوا أنفسهم الصوفيّة ، واختصّوا بنوع لِبْسةٍ ، واشتغلوا باللهو والرقص ، وادّعوا لأنفسهم المنزلَةَ ، فقال : أَفْتَرَوا على الله كذباً أم بهم جِنَّةٌ ؟! .
6ـ وجاء في " التتارخانيّة " عن الخصاف : هل يجوز الرقص والسماع ؟
الجواب : لا يجوز ، وذَكَرَ في " الذخيرة " أنّه كبيرة ، ومَنْ أباحه منَ المشايخ فذلك للذي حركاته كحركات المرتعش . انتهى
7ـ وفي " تحفة الملوك " 1/284 تحت عنوان ( تصرفات الصوفية )
ويجبُ منعُ الصوفية الذين يدَّعون الوَجْدَ والمحبَّة عن رفع الصوت وتمزيق الثياب عند سماع الغناء لأن ذلك حرامٌ عند سماع القرآن فكيف عند سماع الغناء الذي هو حرام خصوصا في هذا الزمان . انتهى
· ثانياً المذهب الشافعي
1ـ روى البيهقي في مناقب الشافعي 2 /208 : عن يونس بن عبد الله الأعلى يقول : سمعت الشافعي يقول :
( لو أن رجلاً تصوَّف من أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمقَ ).
2ـ قال الإمام الشافعي رحمه الله:
((تركت بالعراق شيئاً يقال له (التغبير)(1) ، أحدثه الزنادقة ليصدُّوا الناس عن القرآن))
روى ذلك أبو نعيم في الحلية 9/146 والزبيدي في شرح إحياء علوم الدين 6/458 والخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صـ36، وابن الجوزي 244-249
4ـ وقد سُئلَ الإمام أبو إبراهيم المُزَني رحمه الله ، وكان من كبار أصحاب الإمام الشافعي رحمه الله ، فقيل له : ما تقول في الرقص على الطار والشبّابة ؟ فقال : هذا لا يجوز في الدين . فقالوا أَمَا جوّزه الإمام الشافعي ؟ فأنشد رحمه الله تعالى :
حاشا الإمامَ الشافعي النّبيه أن يرتقي غير مـعاني نبيه
أو يتركَ السنّةَ في نُسـكه أو يبتَدِعَ في الدِّين ما ليس فيه
أو يبتدع طـاراً وشـبابة لناسـك فـي الدِّين يقتديه
الضربُ بالطارات في ليلة والرقصُ والتصفيقُ فِعْلُ السّفيه
هذا ابتداعٌ وضلالٌ في الورى وليس في التنزيل مـا يقتضيه
ولا حديث عن نبيّ الهدى ولا صـحابي ولا تـابعـيه
بل جاهلٌ يلعبُ في ديـنه قـد ضيّعَ العـمرَ بلهوٍ وتيه
إيّـاك تغـتر بأفعال مـن لا يَعـرفُ العـلمَ ولا يبتغيه
جهلٌ وطيشٌ فعلُـهم كله وكلُّ مَـنْ دانَ بـه تزدريه
أنكر عليهم إن تكن قادراً فهـم رجال ابليس لاشكّ فيه
ولا تخف في الله من لائمٍ وفّقـك الله لمـا يرتَـضيه . انتهى
انظر المدخل لابن الحاج 3/97
5ـ وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام في كتابه : " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " 2 / 186 : " وأما الرقص و التصفيق فَخِفَّةٌ ورعونة ، مُشْبِهَةٌ لرعونة الإناث لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذّاب ، كيف يتأتى الرقص المتَّزن بأوزان الغناء ، ممن طاش لُبُّه وذهب قلبه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ((خير الناس قرني ، ثمّ الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم )) ـ متفق عليه ـ ولم يكن واحد من هؤلاء الذين يقلّدونهم يفعل شيئاً من ذلك". انتهى
ـ وقال أيضاً في كتابه قواعد الأحكام ص 679 بتحقيق الشيخ عبد الغني الدقر : " الرقص لا يتعاطاه إلا ناقص العقل ، ولا يصلُح إلا للنساء " . انتهى
6ـ و من شعر الإمام العز بن عبد السلام في وصف المتصوِّفة:
ذهبَ الرجالُ وحالَ دون مَجَالهم زُمَرٌ مـن الأوبـاش والأنذالِ
زَعموا بأنهم علـى آثارهـم سـاروا ولـكنْ سِيرة البَطَّالِ
لَبسوا الدَّلوق مرقعاً وتقشَّفوا كتقشّف الأٌقطـاب والأبـدالِ
قطعوا طريق السالكين وأظلموا سُبُلَ الهدى بجَهـالةٍ وضَـلالِ
عَمروا ظَواهرهم بأثواب التقى وحشوا بواطنهم مـن الأدغالِ
إنْ قلتَ : قال اللهُ قـال رسولهُ همزوكَ همزَ المنـكرِ المتغالـي
ويقول قال قلبي لي عن خاطري عـن سرِّ سري عن صفا أفعالي
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوَتي عن جَلْوَتي عن شاهدي عن حالي
عن صفْوِ وقتي عن حقيقة حكمتي عن ذات ذاتي عـن صفا أفعالي
دعوى إذا حققتهـا أَلْفَيْتَهـا ألقـاب زور لُفِّقَت بمحـالِ
تركوا الشرائع والحقائق واقتدوا بطرائق الجهَّـال والضـلالِ
جعلوا المِرَا فتحاً ، وألفاظ الخَنَا شطحاً وصالوا صَوْلَةَ الإدلالِ
انظر الفكر السامي للشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي 3/69
7ـ وقال الشربيني الشافعي في مغني المحتاج 4/426 :
قال السبكي ( وهو من كبار الأئمّة الشافعية ) السماعُ على الصورة المعهودة منكرٌ وضلالة وهو من أفعال الجهلة والشياطين ومَنْ زعم أن ذلك قُربة فقد كذب وافترى على الله ومن قال إنه يزيد في الذوق فهو جاهل أو شيطان ومن نسبَ السماع إلى رسول الله يُؤدَّب أدباً شديداً ويدخل في زمرة الكاذبين عليه صلى الله عليه وسلم ومن كذب عليه متعمداً فليتبوأ مقعده من النار وليس هذا طريقة أولياء الله تعالى وحزبه وأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بل طريقة أهل اللهو واللعب والباطل وينكر على هذا باللسان واليد والقلب . انتهى
وذَكَرَه أيضاً الدَّمِيري الشافعي في " شرح المنهاج " .
8ـ وجاء في مغني المحتاج 4/426
(( ويُكره الغناء وهو بالمد وقد يقصر وبكسر المعجمة رفعُ الصوت بالشعر لقوله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} قال ابن مسعود هو واللهِ الغناء . رواه الحاكم ورواه البيهقي عن ابن عباس وجماعة من التابعين . هذا إذا كان "بلا آلة" من الملاهي المحرَّمة ، ويكره " سماعه " كذلك ، والمراد استماعه ولو عبّر به كان أولى ، أما مع الآلة فحرامان )).
9 ـ وقال الإمام شرف الدين إسماعيل بن المقري اليمني الشافعي صاحب " روض الطالب " و " إرشاد الحاوي " في الفقه الشافعي ، في قصيدته في ذمّ الرقص :
قالوا : رَقصْنا كما الأُحْبوشُ قد رقصوا بمسجد المصطفى ، قُلنا : بلا كَذِبِ
الحُبْشُ مـا رقصوا ، لكنهم لَعِبـوا مِنْ آلـة الحَرْبِ بالآلات واليَلـَبِ
وذلك اللـعبُ منـدوبٌ تَعلُّمُــه في الشرع للحرب تدريباً لكلّ غبي (2)
10ـ يقول الإمام أبو الطيب طاهر الطبري شيخ الشافعية ( 348-450هـ ) في آخر كتابه في ذمِّ السماع : ((فمن حظّه من التصوف الإلحاح في الطلب ، وكثرة الأكل ، وسهر الليل ، وسماع الغناء ، والفرقعة بالأصابع ، ودق الرجل والطقطقة بالقضيب ، فإنّما هو راكب ظلماء ، وخابط عشواء قد أسرته شهوته ، و أهلكه هواه ، وغلبته نفسه ، وقطعته الغفلة عن الاهتمام بالدين وسياسة النفس ، وكان من الهالكين إلا أن يتوب الله عليه)). انتهى
11ـ وقال الشيخ تقي الدين الحصني الشافعي في كتابه " كفاية الأخيار " 1/ 159 وهو من الكتب المعتمدة في المذهب ، في كتاب الزكاة ؛ عند بيان الأصناف التي تُدفع إليهم الزكاة :
" ... الأراذل من المتصوّفة الذين قد اشتهر عنهم أنهم من أهل الصلاح المنقطعين لعبادة ربّهم ، قد اتخذ كل منهم زاوية أو مكاناً يُظهر فيه نوعاً من الذكر ، وقد لفَّ عليهم من له زي القوم وربّما انتمى أحدهم إلى أحد رجال القوم كالأحمدية والقادرية ، وقد كذبوا في الانتماء ، فهؤلاء لا يستحقّون شيئاً من الزكوات ، و لا يحلُّ دفع الزكاة إليهم ، ومَنْ دفعها إليهم لم يقع الموقع وهي باقية في ذمّته ، ..... ويجب على كل من يقدر على الإنكار أن يُنكر عليهم ، وإثمهم متعلّق بالحكام الذين جعلهم الله تعالى في مناصبهم لإظهار الحق ، وقمع الباطل وإماتة ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإماتته والله أعلم " .انتهى
9ـ وقال الشيخ الحصني أيضاً في كفاية الأخيار 2/225 كتاب الأقضية عند ذكر من لا تُقبَل شهادتهم :
" ... فلا تُقبل شهادة القمّام ، وهو الذي يجمع القمامة أي الكناسة ويحملها ، وكذا القيّم في الحمّام ، ومَنْ يلْعب بالحمام يعني يُطيّرها لينظر تقلّبها في الجو ، وكذا المغنّي سواء أتى الناس أو أتوه ، وكذا الرّقاص كهذه الصوفيّة الذين يسعون إلى ولائم الظلمة والمكسة ، ويُظهرون التواجد عند رقصهم ، وتحريك رؤوسهم ، وتلويح لحاهم الخسيسة كصنع المجانين ، وإذا قُرئ القرآن لا يستمعون له ، ولا يُنصتون ، وإذا نعق مزمار الشيطان صاح بعضهم على بعض بالوسواس قاتلهم الله ما أفسقهم وأزهدهم في كتاب الله ، وأرغبَهم في مزمار الشيطان وقرن الشيطان ، عافانا الله من ذلك " . انتهى (3)
· ثالثاً المذهب المالكي
1ـ جاء في كتاب " ترتيب المدارك " للقاضي عياض 2/54 : " قال التِّنيسيُّ : كنا عند مالك وأصحابه حوله ، فقال رجلٌ مِنْ أهلِ نَصيبين : عندنا قوم يُقال لهم الصوفيّة ، يأكلون كثيراً ، ثمّ يأخذون في القصائد ، ثمّ يقومون فيرقصون ؟ فقال مالك : أَصبيانٌ هم ؟ قال : لا ، قال : أمجانينُ هم ؟ قال : لا ، هم قومٌ مشايخ ، وغيرُ ذلك عقلاء ، فقال مالك : ما سمعتُ أنّ أحداً من أهل الإسلام يفعلُ هذا !!
فقال له الرجل : بل يأكلون ، ثمّ يقومون ويرقصون دَوَائبَ ، ويلطم بعضُهم رأسه ، وبعضهم وجهه ، فضحك مالك ثم قام فدخل منزله ، فقال أصحابُ مالك للرجل : لقد كنتَ يا هذا مشؤوماً على صاحبنا ، لقد جالسناه نيِّفاً وثلاثين سنة ، ما رأيناه ضحك إلا في هذا اليوم ! " انتهى
2ـ وقال أبو العبّاس القرطبي المحدّث صاحب " المفهم في شرح صحيح مسلم " عند كلامه على الغناء عند الصوفيّة : " .. وأمّا ما ابتدعته الصوفيّة في ذلك ، فمِن قَبيل ما لا يُخْتَلفُ في تحريمه ، لكنّ النفوس الشهوانيّة غلَبَت على كثيرٍ ممن يُنسَبُ إلى الخير ، حتى لقد ظهَرَتْ من كثير منهم فَعَلاتُ المجانين والصبيان ، حتى رَقَصوا بحركاتٍ متطابقة ، وتقطيعاتٍ متلاحقة ، وانتهى التَّواقُحُ بقومٍ منهم إلى أن جعلوها مِنْ بابِ القُرَب وصالحِ الأعمال ، وأنَّ ذلك يُثمِرُ سَنِيَّ الأحوال ، وهذا على التحقيق : مِنْ آثار الزندقة ، وقول أهل المَخْرَقَة ، والله المُستعان " انتهى
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي عقِبَه : " وينبغي أن يُعْكَسَ مُرادهم ، ويُقرأ : ( يُثمرُ سَيِّءَ الأحوال عوض سنيَّ الأحوال ) . انتهى انظر فتح الباري 2/368
3ـ وجاء في المدخل لابن الحاج المالكي الصوفي 3/98 :
(فصلٌ) وأشدُّ من فعلهم السّماع كونُ بعضهم يتعاطونه في المساجد ؛ وقد تقدّم توقير السلف رضي الله عنهم للمساجد ؛ كيف لا يكون ذلك وقد كانوا يكرهون رفع الصوت فيه ذكراً كان أوغيره . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت بالقراءة فيه ، ........ وبعضُ هؤلاء يفعلون السماع على ما هو عليه اليوم في المساجد ويرقصون فيها وعلى حُصُرِ الوقف ! انتهى
4ـ وقال القاضي أبو بكر الطرطوشي في كتابه المسمى بكتاب " النهي عن الأغاني " :.. وبلغنا أنّ طائفة من إخواننا المسلمين ؛ وفّقنا الله وإيّاهم ؛ قد استزلّهم الشيطان واستهوى عقولهم في حبِّ الأغاني وسماع الطقطقة واعتَقَدَتْه مِنَ الدِّين الذي يُقرّبهم من الله تعالى وجاهرَت به جماعة المسلمين وشاقّت به سبيل المؤمنين وخالفت العلماء والفقهاء وحمَلَةَ الدين {ومن يُشاقق الرسول من بعد ما تبيّنَ له الهُدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين ، نولّه ما تولّى ونُصْله جهنّم وساءت مصيراً} وقد سُئلَ مالك رحمه الله عمّا رخّص فيه أهلُ المدينة منَ الغناء . فقال : إنّما يفعله عندنا الفسّاق ، ونهى عن الغناء واستماعه . وأمّا أبو حنيفة رحمه الله فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب ، وكلّ ذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحمّاد وإبراهيم والشعبي لا اختلاف بينهم في ذلك ، و لا نعلم أيضاً بين أهل البصرة خلافاً في كراهيّة ذلك والمنع منه . وأمّا الشافعي رحمه الله فقال في كتاب القضاء : إنّ الغناء لهوٌ مكروه ويشبه الباطل والمحال . وكان الشافعي يكره الطقطقة بالقضيب ويقول وضعته الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن القرآن . ... وهذه الطائفة (يعني الصوفية) مخالفة لجماعة المسلمين لأنهم جعلوا الغناء ديناً ورأت إعلانه في المساجد والجوامع . انتهى المدخل 3/101
5ـ وقال الحسن : " ليس الدفّ من سنّة المسلمين " ، وقد سأَلَ إنسانٌ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن الغناء .فقال : أنهاك عنه وأكرهه لك ، قال أحرامٌ هو ، قال : انظر يا ابن أخي إذا ميّزَ الله بين الحقّ والباطل منْ أيّهما يحصل الغناء ؟
وقال الحكم بن عيينة رحمه الله : السماع يورث النفاق كما ينبت الماء الزرع .
وقال الفضيل بن عياض : الغناء رقية الزنا .
وقال الضحاك : الغناء مفسدة للقلب مسخطة للربّ .
وقال ابن الكاتب : إيّاك والغناء .
وقال المُحاسبي في رسالة الإرشاد : الغناء حرام كالميتة .
وقال بعض الزهاد : الغناء يُورث العناد في قوم ، ويورث التكذيب في قوم ، ويورث الفساد في قوم .
قال ابن الحاج : ((ونحنُ لا نذمّ إنشاد الشعر ولا نحرّمه ، وإنما يصير الشعرُ غناءً مذموماً إذا لُحّنَ وصُنعَ صَنْعَةً تورثُ الطرب وتزعج القلب وهي الشهوة الطبيعية )) . انتهى المدخل 3/105
6ـ وقال ابن الحاج المالكي : فإن قيل : أليس قد روي عن جماعة من الصالحين أنهم سمعوه ؟ قُلنا : ما بلغنا أنّ أحداً من السلف الصالح سمعه ولا فعله ، وهذه مصنّفات أئمة الدين وعلماء المسلمين مثل مصنّف مالك بن أنس وصحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود وكتاب النسائي رضي الله عنهم إلى غيرها خالية من دعواكم وهذه تصانيف فقهاء المسلمين التي تدور عليها الفتوى قديماً وحديثاً في شرق البلاد وغربها ، فقد صنّف المسلمون على مذهب مالك بن أنس تصانيفَ لا تحصى وكذلك مصنّفات علماء المسلمين على مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من فقهاء المسلمين ، وكلّها مشحونة بالذبّ عن الغناء وتفسيق أهله ! فإن كان فعله أحدُ من المتأخّرين فقد أخطأ ولا يلزمنا الاقتداء بقوله ونترك الاقتداء بالأئمة الراشدين . انتهى المدخل 3/108
7ـ فإن سألوا عن معنى قراءة القرآن بالألحان . فالجواب : أنّ مالكاً قال : لا تعجبني القراءة بالألحان ولا أحبه في رمضان ولا غيره لأنّه يُشبه الغناء ، ويُضحك بالقرآن فيُقال فلان أقرأ من فلان .
وقال مالك : لم تكن القراءة في المصحف في المسجد من أمرِ الناس القديم ، وأوّل منْ أحْدَثَه الحجّاج . وقال : وأكره أن يُقرأ في المصحف في المسجد .
وقال بعض الصالحين : مَنْ تلذّذَ بألحان القرآن حُرِمَ فَهْمَ القرآن .
وقال ابن الحاج : وأمّا الدفّ والرقص بالرجل وكشفُ الرأس وتخريق الثياب فلا يخفى على ذي لبٍّ أنه لعبٌ وسُخْفٌ ونبذٌ للمروءة والوقار ولِما كان عليه الأنبياء والصالحون .... ولو لم يكن في السماع والرقص شيء يُذمّ إلا أنه أول من أحدَثَه بنو إسرائيل حين اتخذوا العجلَ إلهاً من دون الله تعالى فجعلوا يغنّون بين يديه ويُصفّقون ويرقصون ... فهم أصلٌ لما ذُكر وما كان هذا أصله فينبغي بل يتعيّن على كلّ عاقل أن يهربَ منه ويولّي الظهر عنه إنْ كان عاجزاً عن تغييره ، وأمّا إن كان له قدرة على ذلك فيتعين عليه والله الموفّق .
وقال القاسم بن محمد : الغناء باطل والباطل في النار .
وقال ابن القاسم : سألتُ عنه مالكاً فقال : قال تعالى ( فماذا بعد الحقّ إلا الضلال ) أفحقٌّ هو؟! انتهى
المدخل 3/ 110ـ118
8ـ وسُئل الإمام القاضي أبو بكر الطرطوشي رحمه الله : ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصُّوفية ؟ وأُعْلِمَ - حرس اللهُ مُدَّتَه - أنه اجتمع جماعة من الرجال , فيكثرون من ذكر الله تعالى , وذكر محمد صلى الله عليه وسلم ثمَّ إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيَّاً عليه , ويحضرون شيئاً يأكلونه . هل الحضور معهم جائز أم لا ؟ أفتونا مأجورين يرحمكم الله .
الجواب : - يرحمك الله - مذهبُ الصوفية بطالة وجهالة وضلالة , وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وأما الرقص والتواجد فأوَّل من أحدثه أصحاب السامري , لمّا اتّخَذَ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون فهو دينُ الكفار وعبّاد العجل , وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى , وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار , فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور قي المساجد وغيرها , ولا يحلُّ لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم , ولا يعينهم على باطلهم وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق . انتهى من تفسير القرطبي (11/237- 238 ) .
9ـ وقد ذُكرَ أنّ بعض الناس عمَلَ فتوى وكان ذلك في سنة إحدى وستين وستمئة ومشى بها على الأربع مذاهب ولفظها : ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين وعلماء المسلمين وفّقهم الله لطاعته وأعانهم على مرضاته ، في جماعة من المسلمين وردوا إلى بلدٍ فقصدوا إلى المسجد وشَرَعوا يصفّقون ويُغنّون ويرقصون تارةً بالكفّ ، وتارةً بالدّفوف والشبابة فهل يجوز ذلك في المسجد شرعاً أفتونا مأجورين يرحمكم الله تعالى .
فقالت الشافعيّة : السماع مكروه يشبه الباطل مَنْ قال به تُرَدُّ شهادته والله أعلم .
وقال المالكيّة : يجبُ على ولاة الأمور زجرهم وردعهم وإخراجهم من المساجد حتى يتوبوا ويرجعوا ، والله أعلم .
وقالت الحنابلة : فاعلُ ذلك لا يُصلّى خلفه ولا تُقبل شهادته ولا يُقبل حكمه وإنْ كان حاكماً . وإنْ عُقِدَ النكاح على يده فهو فاسد ، والله أعلم .
وقالت الحنفيّة : الحُصُرُ التي يُرقص عليها لا يُصلّى عليها حتى تُغسل والأرضُ التي يُرقصُ عليها لا يُصلّى عليها حتى يحفر ترابها ويُرمى ، والله أعلم . انتهى المدخل 3/99
10ـ وقال القرطبي المُفسِّر الصوفي في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " 7/348 عند تفسيره لقوله تعالى :
{إنما المؤمنون الذين إذا ذُكرَ الله وَجِلَت قلوبهم وإذا تُلِيَت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربّهم يتوكّلون}
فقال رحمه الله : " وصَفَ الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوَجَل عند ذكره . وذلك لقوّة إيمانهم ومراعاتهم لربّهم ، وكأنّهم بين يديه . ونظير هذه الآية{وبشّر المُخبتين ، الذين إذا ذُكرَ الله وجلت قلوبهم} وقال:{ وتطمئنّ قلوبهم بذكر الله} فهذا يرجِعُ إلى كمال المعرفة وثقة القلب . والوَجَل : الفزع من عذاب الله ؛ فلا تناقض . وقد جمعَ الله بين المعنيين في قوله {الله أنزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مَثَانيَ تقشعرُّ منه جلود الذين يخشون ربهم ثمّ تلينُ جلودُهم وقلوبهم إلى ذكر الله} أي تسكن نفوسهم من حيث اليقين إلى الله وإن كانوا يخافون الله . فهذه حالة العارفين بالله ، الخائفين من سطوته وعقوبته ؛ لاكما يفعله جُهّال العوامّ والمبتدعة الطَّغام مِنَ الزعيق والزّئير، ومِنَ النُّهاق الذي يُشبه نُهاق الحمير . فيُقال لمن تعاطى ذلك وزعم أنّ ذلك وجدٌ وخشوع : لم تبلغ أنْ تساوي حالَ الرسول ولا حال أصحابه في المعرفة بالله ، والخوف منه ، والتعظيم لجلاله ؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهْمَ عن الله والبكاء خوفاً من الله . ولذلك وصفَ الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال : {وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعيُنَهُم تفيضُ من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربّنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}
فهذا وصفُ حالهم وحكايةُ مقالهم . ومنْ لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم ؛ فمن كان مُستنَّاً فليستنّ بهم ، ومَنْ تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو أخسّهم حالاً ؛ والجنون فنون . انتهى
11ـ وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره 14/58 :
قال أبو الفرج : وقال القفّال من أصحابنا : لا تقبلُ شهادة المغنّي والرقاص .
قلتُ : وإذا ثبتَ أنّ هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا يجوز . وقد ادعى أبو عمر بن عبد البرّ الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك . انتهى
(1) جاء في لسان العرب : قال الأَزهري وقد سَمَّوْا ما يُطَرِّبون فيه من الشِّعْر في ذكر الله تَغْبيراً كأَنهم إذا تنَاشَدُوهُ بالأَلحان طَرَّبوا فَرَقَّصوا وأَرْهَجوا فسُمّوا مُغَبِّرة لهذا المعنى قال الأَزهري وروينا عن الشافعي رضي الله عنه أَنه قال أَرى الزَّنادِقة وَضَعوا هذا التَّغْبِير ليَصُدّوا عن ذكر الله وقراءة القرآن .
(1) انظر رسالة الرّهص والوقص لمستحلّ الرقص (حُكم الحضرة في الإسلام) للعلاّمة إبراهيم بن محمد الحلبي الحنفي 956هـ
صاحب كتاب (ملتقى الأبحر) ص42 بتحقيق الأستاذ حسن السماحي سويدان . واليَلَب : هو سيور تلبس بمنزلة الدرع ، وهو من أسماء الترس .
(3) وهناك أيضاً فتوى الإمام البدر ابن جماعة الشافعي ستأتي في آخر الرسالة ضمن أقوال الصوفية ، حيث يستشهدون بها .
12ـ وسُئل الشيخ الصالح عبد العزيز بن محمد القيرواني المالكي عن قومٍ تسمّوا بالفقراء يجتمعون على الرقص والغناء ، فإذا فرغوا من ذلك أكلوا طعاماً كانوا أعدّوه للمبيت عليه ، ثمّ يَصِلُونَ ذلك بقراءة عشْرٍ من القرآن والذكر ، ثمّ يُغنّون ويرقصون ويبكون ، ويزعمون في ذلك كلّه أنهم على قُربة وطاعة ويدعون الناس إلى ذلك ... فما الحكم فيهم وفيمن رأى رأيهم هل تجوزُ إمامتهم وتقبلُ شهادتهم أم لا ؟ بيّنوا لنا ذلك .
فأجاب : بأن قال : ..... ولم يكن أحدٌ في مغربنا من هذه الطوائف فيما سلف ، إلى أن ظهرت هذه الطائفة الأميّة الجاهلة الغبيّة الذين وَلَعوا بجمع أقوام جهّال فتصدّوا إلى العوام الذين صدورهم سالمة ، وعقولهم قاصرة ، فدخلوا عليهم من طريق الدّين ، وأنهم لهم من الناصحين وأنّ هذه الطريق التي هم عليها هي طريق المحبّين ، فصاروا يحضّونهم على التوبة والإيثار والمحبّة وصدق الأخوّة ، وإماتة الحظوظ والشهوة وتفريغ القلب إلى الله بالكلّية ، وصرفه إليه بالقصد والنيّة . وهذه الخصال محمودة في الدّين فاضلة ، إلا أنّ الذي في ضمنه على مذاهب القوم سموم قاتلة ، وطامّاتٌ هائلة . وهذه الطائفة أشدُّ ضرراً على المسلمين ، منْ مرَدَةِ الشياطين ، وهي أصعبُ الطوائف للعلاج ، وأبعدها عن فهم طُرُقِ الاحتجاج ، لأنهم أول أصلٍ أصّلوه في مذهبهم ، بُغضُ العلماء والتنفير عنهم ، ويزعمون أنهم عندهم قطّاع الطريق المحجوبون بعلمهم عن رتبة التحقيق ، فمن كانت هذه حالته ، سقطت مكالمته ، وبعدت معالجته ، فليس للكلام معه فائدة ، والمتكلّم معه يَضْرِبُ في حديدٍ بارد ، وإنما كلامنا مع من لم ينغمس في خابيتهم، ولم يسقط في مهواتهم ، لعلّه يسلم من عاديتهم ، وينجو من غاويتهم .
واعلموا أنّ هذه البدعة في فساد عقائد العوام ، أسرع من سريان السمّ في الأجسام ، وأنها أضرّ في الدين من الزنى والسرقة وسائر المعاصي والآثام ، فإنّ هذه المعاصي كلها معلوم قبحها ، عند من يرتكبها ويجتلبها ، فلا يُلَبِّس مُرْتَكِبُها على أحد ، وتُرجى له التوبة والإقلاع عنها . وصاحبُ هذه البدعة يرى أنها أفضل الطاعات ، وأعلى القربات ، فبابُ التوبة عنه مسدود ، وهو عنه شرودٌ مطرود ، فكيف ترجى له منها التوبة ، وهو يعتقد أنها طاعة وقربة ، بل هو ممن قال الله فيهم :
{قل هل أُنبّئُكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعا ً} ، وممن قال فيهم : {أفَمَنْ زُيِّنَ له سوءُ عمَلِه فَرَآهُ حَسَناً}.
ثمَّ ضررُ المعاصي إنما هي في أعمال الجوارح الظاهرة ، وضررُ هذه البدع إنما هي في الأصول التي هي العقائد الباطنة ، فإذا أُفسد الأصل ، ذهب الفرع والأصل ، وإذا فسد الفرعُ بقي الأصل و يُرجى أن ينجبر الفرع وإن لم ينجبر الفرع لم تذهب منفعة الأصل . ثمَّ إنّ الذي يُغوي الناس ويدعوهم إلى بدعته ، يكونُ عليه وزره ووزر من استنّ بسنّته . قال الله العظيم : {لِيَحْمِلُوا أوزارهم كاملةً يومَ القيامة وَ مِنْ أوزار الذين يُضِلُّونهم بغير عِلْمٍ ، ألا ساء ما يَزِرون} ...
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من سنّ سُنّةً حسنة كان له أجرُها وأجرُ من عمِل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنَّ سُنّةً سيّئةً كان عليه وِزرُها ووِزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة )) ولا تنشأ هذه العلل إلاّ مِنْ مَرَضٍ في القلب خفيّ ، أو حُمْقٍ جليّ ، فاحذروها واحذروا أهلها . ولا تغترّوا بهم ولو أنّهم يطيرون في الهواء ، ويمشون على الماء . فإنّ ذلك فتنةٌ لِمَنْ أراد الله فتنَتَه ، وعَلِمَ شِقوَته . قال الله تعالى :{ومَنْ يُرِد الله فِتْنَتَه فَلَنْ تَملك له من الله شيئاً}.فلا يغترّ أحدُكم بما يَظْهَرُ منَ الأوهام والخيالات مِنْ أهل البدع والضلالات ، ويعتقد بأنّها كرامات ، بل هي شُرُكٌ وحِبالات ، نصَبَها الشيطان لِيَقتَنِصَ بها مُعْتَقِدَ البدع ومرتكبَ الشهوات ،وإنّما تكون من الله الكرامة لِمَنْ ظهرت منه الاستقامة ، وإنما تكون الاستقامة باتّباع الكتاب والسنّة ، والعمل بما كان عليه سلَفُ هذه الأمّة ، فمن لم يسلُك طريقهم ، ولم يتّبع سبيلهم ، فهو ممن قال الله فيهم :{وَمَنْ يُشاققِ الرسول مِنْ بعد ما تَبَيَّنَ له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين ، نولّه ما تولّى ونُصْله جهنّم وساءت مصيراً} .
فمَنْ حرَّفَ كتابَ الله أو تركَ العمل به أو عطّله ، فقد افترى على الله كذباً ، واتّخذ آيات الله هزواً ولعباً ، فإذا رأيتم مَنْ يُعظّم القرآن فعظّموه ، وإذا رأيتم من يُكرم العلماء وأهل الدين فأكرموه . قال الله العظيم :{ومن يُعظّم حُرُمات الله فهو خيرٌ له عند ربّه} . ومن رأيتموه خالفَ القرآن فارْفُضُوه واهجروه في الله وأبغضوه . ومن رأيتموه يُجانب العلماء فجانبوه ، فإنّه لا يُجَانِبُهم إلا ضالٌ مبتدع ، غير مقتدٍ بالشرع ولا متّبع ، فإنّ الشرائع لا تُؤخذُ إلا عن العلماء ، الذين هم ورَثَة الأنبياء ، كيف وقد جعل الله شَهَادَتَه وشهادة ملائكته كشهادة أُولي العلم . قال الله تعالى :{شَهِدَ اللهُ أنّه لا إله إلا هوَ والملائكةُ و أُلوا العلم ، قائماً بالقسط} . ولَسْتُ أعني بالعلماء المشتغلين في زماننا هذا بعلوم الجدال والمماراة ، ولا المُعْتنين بدَرْسِ مسائل الأقضية والشهادات ، فيتقرّبون بذلك إلى جمع الحُطام ، والتّقرّب من الوُلات والحكّام ، ونَيْلِ الرِّياسة عند العوام ، وإنّما نعني بالعلماء الذين يعملون بعلمهم وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( يَحْمِلُ هذا الدّين من كُلّ خَلَفٍ عُدُولُه ، ينفونَ عنه تحريفَ الغالين ، وانتحال المبطلين )) فأولئك وَرَثَةُ النّبيين وأئمّة المتّقين الذين يجب أن يُقتَدى بهم ويتأدّب بآدابهم ، ويُقتفى آثارهم ، وتحفظ أخبارهم ، ولكنّهم ضمّهم لحودهم ، وقلَّ على بسيط الأرض وجودهم فما يورد من آثارهم أثر ، فهم الكبريتُ الأحمر ، وإنْ كان عجز عن بلوغ رتبتهم وقصّر ، لكنّه يعرفُ الحقّ فلا يغلط في نفسه ولا يغترّ ، فهذه النّصيحة لِمَنْ وَقَفَ عليها مِنَ الإخوان الصّادقين والمريدين ، والعامّة المسلمين المصحِّحين ، لِيُميِّزوا بها بين المُحِقِّين والمُبطلين مِنَ المنتمين إلى الدّين ولا يغْتَرّوا بالملْبَس منْ أجل حُسن الظنّ ومحبّتهم للصالحين ، ويدخل عليهم الخلل في عقائدهم ، ويميلون بها إلى عوائدهم .
وأمّا ما ذكَرْتُموه مِنْ أفعالهم واشتغالهم بالرقص والغنا والنّوح فممنوعٌ غيرُ جائزٍ ، قال الله تعالى :{ومِنَ النّاس منْ يَشْتَري لهْوَ الحديث لِيُضلَّ عن سبيل الله} .
قال مالك في المدوّنة : " وأكره الإجارة على تعليم الشعر والنوح وعلى كتابة ذلك ".
قال عياض : معناه نوحُ المُتَصوِّفة وإنشادهم على طريق النوح والبكاء ، فمن اعتقد في ذلك أنّه قُرْبة لله تعالى فهو ضالٌ مُضِلّ ، وَلا يعْلَمُ المسكين أنّ الجنّة حُفّت بالمكاره ، وأنّ النار حُفّت بالشهوات ، والله تعالى لم يَبعَث أحداً منَ الأنبياء باللهو والرّاحة والغِناء ، وإنّما بُعِثوا بالبِرِّ والتقوى وما يُخالف الهوى . قال تعالى :{وأمّا مَنْ خَافَ مقامَ رَبِّهِ ونهى النَّفْسَ عنِ الهوى فإنَّ الجنّة هي المأوى}. فالباطل خفيفٌ على النفوس ، ولذلك خفّ في الميزان ، والحقُّ ثقيلٌ ، ولذلك ثَقُلَ في الميزان ، قال تعالى :{إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قوْلاً ثَقيلاً}...............
وأمّا ما ذكرتموه منْ قراءة القرآن والاستماع إليه فإنه جائز . وفيه قربة وطاعة لله عزّ وجل قال تعالى :{وإذا قُرِىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون}. وإن كان بعضٌ أوّل ذلك في الصلاة . وهذا إذا كان على الوجه المأذون فيه ؛ لا يقصد به رياءً ولا سُمعة.
قال أبو محمد في رسالته : "ويبجّل كتاب الله العزيز فلا يُتلى إلا بسكينة ووقار" . والنساء فيما ذكرنا كالرجال فالمنعُ في حقّهن أشدُّ .
وكتب عبد العزيز بن محمد القيرواني حامداً الله ومصلٍ على نبيّه المصطفى . انتهى
ـ وسُئلَ فقيهُ بجاية وصالحها أبو زيد سيّدي عبد الرحمن الواغليسي عن مثل هذا السؤال .
فأجابَ عنه بما نصّه :
" قد نصَّ أهلُ العلم فيما ذكرتَ منْ أحوال بعض الناس منَ الرقص والتصفيق ، على أنّ ذلك بدعةٌ وضلال . وقد أنكره مالك وتعجّب ممن يفعل ذلك لمّا ذُكر له أنّ أقواماً يفعلون ذلك فقال : أصبيانٌ هم أم مجانين ؟! ما سمِعْنا أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا . انتهى المعيار ج11/29
13ـ وجاء في المدونة الكبرى 3 / 432
قلتُ : أكان مالك يكره الغناء ؟ قال : كره مالك قراءة القرآن بالألحان فكيف لا يكره الغناء !!
14ـ وسُئل الشيخ أبو إسحاق الشاطبي (من أئمة المالكية والمرجع في علم الأصول) عن حال طائفة ينتمون إلى التّصوّف والفقر ، يجتمعون في كثير من الليالي عند واحد من الناس ، فيفتتحون المجلس بشيء من الذكر على صوت واحد ثمّ ينتقلون بعد ذلك إلى الغناء والضرب بالأكفّ والشطح ، هكذا إلى آخر الليل ويأكلون في أثناء ذلك طعاماً يَعُدُّه لهم صاحبُ المنزل ، ويحضر معهم بعض الفقهاء ، فإذا تُكُلِّمَ معهم في أفعالهم تلك يقولون : لو كانت هذه الأفعال مذمومة أو محرّمة شرعاً لما حضرها الفقهاء .
فأجابَ ما نصّه : الحمد لله كما يجب لجلاله ، والصلاة على محمّدٍ وآله . سَألتَ وفّقني الله وإيّاك عن قومٍ يتسمّون بالفقراء ، يجتمعون في بعض الليالي ، ويأخذون في الذكر ثم في الغناء والضرب بالأكفّ والشطح إلى آخر الليل ، وأنّ اجتماعهم على إمامين من أئمّة ذلك الموضع يتوسّمان بوسم الشيوخ في تلك الطريقة ، وذكرتَ أنّ كل منْ يُزْجَر عن ذلك الفعل ، يحتجُّ بحضور الفقهاء معهم ولو كان حراماً أو مكروهاً لم يحضروا معهم .
والجواب والله الموفّق للصواب : إنّ اجتماعهم للذكر على صوت واحد إحدى البدع المحدثات التي لم تكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الصحابة ولا من بعدهم ، ولا عُرِفَ ذلك قطُّ في شريعة محمدٍ عليه السلام ، بل هو من البدع التي سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلالة ، وهي مردودة . ففي الصحيح أنه عليه السلام قال : (( مَنْ أحْدَثَ في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ )) يعني فهو مردود وغير مقبول، فذلك الذكر الذي يذكرونه غير مقبول . وفي رواية (( مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمْرُنا فهو مردود )) . وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : أما بعد فإن خيرَ الحديث كتابُ الله وخيرَ الهدي هَدْيُ محمدٍ ، وشرَّ الامور مُحدثاتُها وكلَّ بدعةٍ ضلالة . وفي رواية وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة في النار . وهذا الحديث يدُلُّ على أنّ صاحب البدعة في النار . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
وعن الحسن البصري أنه سُئلَ وقيل له : ما ترى في مجلسنا هذا ؟ قومٌ من أهل السنّة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمعُ في بيت هذا يوماً فنقرأ كتاب الله وندعو الله ربّنا ، ونصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وندعو لأنفسنا ولعامّة المسلمين . قال : فنهى الحسنُ عن ذلك أشدَّ النهي ، لأنه لم يكن من عمل الصحابة ولا التابعين . وكل ما لم يكن عليه عمل السلف الصالح ، فليس من الدين ، فقد كانوا أحرصَ على الخير مِنْ هؤلاء ولو كان فيه خير لفعلوه . وقد قال تعالى :{اليومَ أكملتُ لكم دينَكُم} .
قال مالك بن أنس : فما لم يكن يومئذٍ ديناً لم يكن اليوم ديناً . وإنّما يُعبدُ الله بما شَرَع .
وهذا الاجتماع لم يكن مشروعاً قط فلا يصحّ أن يُعبدَ الله به .
وأمّا الغناء والشطح فمذمومان على ألسنة السلف الصالح . فعن الضّحاك : الغنا مفسدةٌ للقلب مسخطةٌ للربّ . وقال المحاسبي : الغنا حرامٌ كالميتة . وسُئلَ مالك بن أنس عن الغنا الذي يُفْعل بالمدينة فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . و هذا محمول على غنا النساء و أما الرجال فغناؤهم مذمومٌ أيضاً ، بحيث إذا داوم أحدٌ على فعله أو سماعه سقطت عدالته ، لما فيه من إسقاط المروءة ومخالفة السلف . وحَكَى عياض عن التنيسي أنه قال : كنا عند مالك وأصحابه حوله ، فقال رجل من أهل نصيبين يا أبا عبد الله عندنا قوم يُقال لهم الصوفيّة ، يأكلون كثيراً ، ثمّ يأخذون في القصائد ، ثمّ يقومون فيرقصون ؟ فقال مالك : أَصبيانٌ هم ؟ قال : لا ، قال : أمجانينُ هم ؟ قال : لا ، هم قومٌ مشايخ ، وغيرُ ذلك عقلاء ، فقال مالك : ما سمعتُ أنّ أحداً من أهل الإسلام يفعلُ هذا !! اُنظُر كيف أنكر مالك و هو إمام السنة أن يكون في أهل الإسلام من يفعل هذا إلا أن يكون مجنوناً وصبياً . فهذا بيّنٌ أنه ليس من شأن الإسلام . ثم يقال ولو فعلوه على جهة اللعب كما يفعله الصبيان لكان أخف عليهم مع ما فيه من إسقاط الحشمة وإذهاب المروءة ، وترك هدي أهل الإسلام و أرباب العقول ، لكنهم يفعلونه على جهة التقرب إلى الله والتَّعبُّد به ، وأن فاعله أفضل من تاركه ، وهذا أدهى و أمرّ، حيث يعتقدون أن اللهو واللعب عبادة ، وذلك من أعظم البدع المحرمات الموقعة في الضلالة الموجبة للنار والعياذ بالله .
وأمّا ما ذكرتم من شأن الفقيهين الإمامين ، فليسا بفقيهين إذا كانا يحضران شيئا ًمن ذلك وحضورهما ذلك على الانتصاب إلى المشيخة قادحٌ في عدالتهما فلا يُصلّى خلف واحدٍ منهما حتى يتوبا إلى الله من ذلك ، ويَظْهَرَ عليهما أثر التوبة ، فإنه لا تجوز الصلاة خلف أهل البدع نص على ذلك العلماء . و على الجملة فواجب على من كان قادراً على تغيير ذلك المنكر الفاحش ، القيام بتغييره وإخماد نار الفتنة ، فإن البدع في الدين هلاك ، و هي في الدين أعظم من السم في الأبدان والله الواقي بفضله . والسلام على من يقف على هذا من كاتبه : إبراهيم الشاطبي . انتهى وتقيد بعقبه بخط المجيب رحمه الله ما نصه : ما كُتِب فوق هذا ويمنته صحيح عني حسبما كتب ، فليروه عني من شاء على حسب ما وقع هنا والله الموفّق للصواب . و كتب ذلك بخطه العبد الفقير إلى رحمة ربه إبراهيم الشاطبي المذكور في العشر الأواخر لذي قعدة عام 786 هـ .
15ـ و أجاب عن السؤال السابق أيضاً الفقيه الصالح أبو عبد الله الحفار المالكي بما نصه ( الحمد لله والصلاة على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . الجواب مستعيناً بالله : إن هذه الطائفة المنتمية للتصوف في هذا الزمان وفي هذه الأقطار ، قد عظُم الضرر بهم في الدين ، وفشت مفسدتهم في بلاد المسلمين ولا سيما في الحصون والقرى البعيدة عن الحضرة هنالك ، يُظهرون ما انطوى عليه باطنهم من الضلال ، من تحليل ما حرم الله ، والافتراء عليه وعلى رسوله . وبالجملة فهم قوم استخلفهم الشيطان على حَلِّ عُرى الإسلام و إبطاله ، وهدم قواعده ولسنا لبيان حال هؤلاء ، فهم أعظم ضرراً على الإسلام من الكفار ، و إنما يقع الجواب على حال من ذكر في السؤال على تقدير سلامة عقيدته ، لكنهم قوم جهلة ، ليس لديهم شيء من المعارف ولا يحسن واحد منهم أن يستنجي ولا يتوضأ دعْ ما سوى ذلك ، لا يعرف ما فرض الله عليه . بهيمة من البهائم في دينه ، و ما أوجب الله عليه في يومه وليلته ، ليس عنده من الدين إلا الغنا والشطح ، و آكل أموال الناس بالباطل ، واعتقاد أنه على شيء . وهذا كله ضلال من وجوه :أعظمها أنهم يوهمون على عوام المسلمين و من لا عقل له من النساء ، ومن يشبههن في قلة العقل من الرجال أن هذه الطريقة التي يرت****ها هي طريقة أولياء الله وهي من أعظم ما يتقرب به إلى الله فيضلون ويضلون ، وفي ذلك افتراء على الله وعلى أوليائه وعلى شريعته و أوليائه . قال عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ( أيها الناس قد سُنَّت لكم السنن ، وفُرِضت لكم الفرائض ، وتركتم على الجادة ، إلا أن تميلوا بالناس يميناً وشمالاً)) . فليس في دين الله ولا فيما شرع أن يُتقرب إليه بغناءٍ ولا شطح ، والذكر الذي أمر به وحث عليه ومدح الذاكرين له به ، هو على الوجه الذي كان يفعله صلى الله عليه وسلم ولم يكن على تلك الطريقة من الجمع ورفع الصوت على لسان واحد (....) فلا يُتقرب إلى الله إلا بما شرع وعلى الوجه الذي شرع ، فمِن كلام السلف : لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها . وسُئِلَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الصراط المستقيم فقال : ((تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد و عن شماله جوادّ (جمع جادّة) وعليها رجال يدعون من مرّ بهم ، هلم لك ، هلم لك . فمن أخذ منهم في تلك الطرق سُلك به إلى النار ، ومن استقام على الطريق الأعظم انتهى به إلى الجنة)) ثم تلا ابن مسعود هذه الآية : {وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّقَ بكم عن سبيله} . وحين ذَكَرَ عليه السلام أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، قيل من هي يا رسول الله ؟ قال : ((ما أنا عليه وأصحابي )) . أو كما قال عليه السلام إلى غير ذلك مما جاء في هذا الباب ولا يُحصى كثرةً .
و إنما حمل هذه الطائفة على ارتكاب هذه الطرق المهلكة في الدين أنهم لمّا احتاجوا إلى ما يحتاج إليه الناس من المأكل والمشرب والملبس وسائر المآرب التي يحتاج الإنسان إليها ، ولم تكن لهم لا صناعة ولا حرفة يتعيشون بها ، أو كانت و صَعُب عليهم الكدّ في طلب المعاش ، وتكلُّف الخدمة لخسّة همتهم بركونهم إلى الدَّعة والراحة ، فسوَّل لهم الشيطان و زيَّن لهم هذه الطريقة التي هي لهو ولعب ، ولبَّسوا فيها على الجُهَّال بالذِّكْر الذي يفتتحون به مجالسهم ، ولَبِسوا المرقّعات و نَصَبوها شبكةً إذ كانت لباسَ الخِيَار من أهل هذه الطريقة قبل أن تدخلها البدع و الضلالات . وقالوا لهم : هذه طريقة الأولياء ، وهي أقرب الطرق إلى الله و إلى نيل رضاه والكونِ في جواره في الآخرة ، فتهافت الجهّال عليهم وأوصلوهم إلى ما شاءوا من نيل شهواتهم إلى أقصى الغايات ؛ فالإنسان إذا قيل له كُل واشرب واشطح وتلذذ بالغنا والْهُ والعب طول عمرك ولا تتعب في عبادة ولا غيرها ثم مصيرك في الآخرة إلى أعلى الدرجات مع الأولياء والصالحين ، فيرى أن هذه الجنة معجلة قبل الموعود بها ، وأنه قد حصل على ما لا غاية بعده من السعادة .
فأيُّ مصيبة أعظم من هذه في إضلال عباد الله ؟ فالواجب على من قدر على هؤلاء ـ الذين هم كالأَكَلَة في جَنْبِ الدين ـ أن يمنعهم ويحول بينهم وبين ما هم بسبيله وأن يُجليهم عن موضعه ، فهو في ذلك مجاهد مأجور ، فمفاسدُهم متعددة ديناً ودنيا . قال بعض الحكماء لتلامذته : كونوا كالنحل في الخلايا , قالوا كيف النحلُ في الخلايا ؟ قال : إنها لاتترك عندها بطالاً إلا نفته و أقصته عن الخلية لأنه يُضيّق عليهم المكان ويأكلُ العسل ويعلّمُ الكسل . فهؤلاء القوم هذه صفتهم ، لأنه لا نفْعَ بهم ، فهم يُضيّقون على الناس في المساكن ، ويَأكلون أرزاقهم بغير حق ، ويعلّمونهم الكسل ، وتَرْكَ الحِرَف ، والاتِّكال على ما في أيدي الناس ، وهم بمنزلة الربيع في أثناء الزرع يُضيّقُ المكان ، ويستبدُّ بالماء ، ويفسد الزرع ، فلذلك يُقلع ويرمى به . (...)
وأمّا حضور الفقهاء معهم وقولهم لو كنّا على غير طريقة مرْضيّة لما حضرها الفقهاء معنا . فيُقال : إنّ حضور الفقهاء معهم ليس بدليل على الجواز ، ولا عدمه دليلٌ على المنع ، ولا يُعرفُ الحقُّ بالرجال ، بل الرجالُ يُعرفون بالحق ، فالفقيه إذا حضَرَ معهم ووافق واستحسَنَ فِعْلَهم فهو مثلهم بل هو شرٌّ منهم وهو باسم الفسق أولى منه باسم الفقه . وإنْ حضرَ ليرى تلك الطريقة وما تنطوي عليه حتى يحكُمَ بما يشاهد من أحوال أهلها ، ثمّ بعد ذلك يحكم عليها بما يقتضيه الفقه ، فحضوره حسن . وإنْ كان حضوره على جهة تفريج النفس ، كما يحضُر الإنسان مجالس اللهو واللعب ، فإنْ تكرر ذلك منه على هذا الوجه ، فذلك مسقطٌ لعدالته . وإن كانت فلتة فلْتُقَل عثرته ولا يَعُدْ للحضور معهم فيكون مثلهم على ما أشار إليه قوله تعالى : {فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره إنّكم إذاً مثلهم} . فمن كثَّرَ سواد قومٍ فهو منهم .
هذا ما حضرَ تقييدُه في هذا الوقت والسائل يستحث في التعجيل . فهذا القدر كافٍ في الغرض المطلوب . والله يُوفّقنا إلى الاقتداء بسلفنا ، ويعصمنا من الابتداع في الدِّين ، والسلام على منْ يقف على هذا والرحمة والبركة من كاتبه محمد الحفّار. انتهى المعيار 11/42.
16ـ وجاء في المنظومة الطويلة البديعة للعلاّمة عبد الرحمن بن سعيد الأخضري المغربي (وكان شاذلياً) رحمه الله ، هذه الأبيات التي يصفُ فيها الصوفية وغناءهم ورقصهم :
والرقصُ والصراخ والتصفيق عمـداً بـذكر الله لا يليق
وإنما المطلوبُ في الأذكـارِ الذكرُ بالخُشوع والوقـارِ
فقد رأينـا فرقةً إنْ ذَكَروا تَبَدَّعوا وربّما قـد كفروا
وفعلوا في الذكر فعلاً منكراً صعباً فجاهدهم جهاداً أكبرا
خلّوا من اسم الله حرف الهاء فألحدوا في أعظـم الأسماء
لقـد أتوا واللهِ شـيئاً إدّاً تخرّ منـه الشامخات هـداً
والألف المحذوف قبل الهاء قـد أسقطوه وهو ذو إخفاء
وزعموا أن لهـم أحوالا وأنهم قـد بلـغوا الكمالا
والقوم لا يدرون ما الأحوال فـكونهـا لمثلهـم محال
حاشا بساط القدس والكمال تـطؤه حوافر الجهـال
والجاهلون كالحمير الموكفة والعارفون سـادة مشرفة
وقـال بعض السادة المتّبَعة في رجز يهجو بـه المبتدعة
ويذكـرون اللهَ بالتَّغْبِيـر ويشْطَحون الشَّطح كالحمير
وينبحون النبح كالـكلاب طَريقُهم ليست على الصَّواب
وليس فيهم من فتىً مطيع فلعنة الله علـى الجـميع
قد ادَّعوا مراتبـاً جليلـة والشرع قـد تجنَّبوا سـبيله
لم يدخلوا دائرة الحـقيقة كلا ولا دائرة الطريقـة
لم يقتدوا بسيد الأنـام فخرجوا عـن ملَّة الإسلام
لم يدخلوا دائرة الشريعـة وأولـعوا ببدعٍ شـنيعة
لم يعملوا بمقتضى الكتاب وسـنَّةِ الهادي إلى الصَّواب
قد مَلَكَت قلوبَهم أوهام فالقوم إبليـس لهم إمـام
17ـ وسُئل القاضي أبو عمرو بنُ منظور عن إمام قرية يؤمُّ الناس ، وهو يُحب طريقة الفقراء ، وفي القرية زاوية يجتمع فيها بعضٌ من أصحاب القرية ليلة الجمعة وليلة الإثنين والإمام المذكور معهم ، يستفتحون بعشْرٍ من القرآن ويبدؤون بالذكر الموصوف لهم ، فإذا فرغوا منه يستفتحُ المَدَّاحُ وأصحابه دائرون عليه يضربون الكفّ ويقولون معه ، والإمام المذكور يمدَحُ مع المدّاحين ويَضْرب الكفَّ معهم ويرقص مع الذي رقص منهم ، فإذا كان ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم يمشي الإمام معهم إلى قرية أخرى بنحو عشرين ميلاً من قريتهم ويبقى المسجد بلا خطبة ولا إمام ولا أذان حتى يرجعون ، وتكون غيبتهم أربعة أيّام أو ثلاثة أيام . فقيل إنّ الإمام الذي يعمل هذا لا تجوز إمامته ، والذي يسمع العريف خيرٌ منَ الفقراء ، والإمام المذكور يعلَمُ أنّ طريقةَ الفقراء بدعةٌ لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد التابعين بعده ، ويعلمُ أنّ أفضل الذكر ما خفي ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . ولكن حمَلَهُ على هذا محبّته في الذكر وفي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبّته في مُجَامعة الإخوان ، هل يلزم من اغتاب هذه الطريقة شيء أم لا ؟
فأجَابَ : تأمّلتُ السؤال بمحوله ، وقد سُئل عن مثله العلماء الفقهاء الذين يُقتَدى بهم ويُعْمَلُ على قولهم ، والكلُّ منعوا تلك الطريقة وقالوا بتبديع مرتكبها ، والسنّةُ بخلاف ذلك ، والرقصُ لا يجوز ، وهو تلاعبٌ بالدِّين ، وليس من أفعال عباد الله المهتدين . وإمامة مَنْ يرى هذا المذهب ويسلك طريقهم لا تجوز ، لاسيما وقد انضاف إليه مع عمله هذا تعطيل المسجد وتركه دون مؤذّن ولا إمام .{ومَنْ أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكرَ فيها اسمه وسعى في خرابها} وهذا يدخل تحت الوعيد . وقولُ من قال إنّ مَنْ يسمع العريف خيرٌ من الفقراء فهذا يظهر أنه صحيح ، ووجهه أنّ الذي يسمعُ العريف عاصٍ ويعلمُ أنه على غير شيء . وهذا الذي يشطح ويرقص يعتقد أنه على شيء وهو على غير شيء أو متلاعب ، وما خُلقنا للعب ، وهو بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . ويكون للإمام حظّه من هذه الطريقة ، وحضوره كافٍ في منع إمامته ، لأنه مكثّر سوادهم ، ومنْ كثّر سواد نوعٍ منهم عُدَّ منهم . وأمّا محبّة الرسول والصّحابة فيُتَوَصَّلُ إليها بغير هذا ، وهي ساكنة في القلب ، والإكثار من الصلاة والسلام عليه والرضى عن أصحابه في نفسه وفي بيته هو وجهُ العبادة . والطّاعنُ في هذا الإمام وإنْ كان من قرية أخرى قامَ على وجه الحُسْبة وتغيير المنكر ، فلا عتابَ عليه إن شاء الله تعالى . فهذا وجه الجواب عن السؤال بمحوله . انتهى
18ـ وأجابَ : الشيخ أبو الحسن العامري : الاجتماعُ على الذكرِ إذا كان يَذْكر كلُّ واحد وحدَه ، وأمّا على صوتٍ واحد فكرهه مالك . وأمّا القيامُ والشطح فمَنْ ظنَّ أنه عبادة فهو جاهل تجب عليه التوبة من ذلك ، فإنْ ناظرَ على ذلك وقال إنّه عبادة فقد خالف الإجماع ، ومُخالفَةُ الإجماع كُفْرٌ فيُسْتَتاب فإنْ تابَ وإلا قُتِلَ .
وكيفَ يعتقدُ أن يُعْبَدَ اللهُ بشطحٍ وهو لهوٌ ولعب ؟!! انتهى
19ـ وأجَابَ : سيدي أبو عبد الله السرقسطي عن نظيرتها بما نصّه : جوابُ السؤال بمحوله أنّ طريقة الفقراء في الذكر الجهري على صوتٍ واحد والرقص والغناء بدعةٌ مُحدثة لم تكن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلُّ بدعة ضلالة ، وكلُّ ضلالة في النّار . فمن أرادَ اتباع السُنّة واجتناب البدعة في ذكر الله والصلاة على رسوله فلْيَفْعَل ذلك منفرِداً بنفسه غير قارن ذكره بذكر غيره ، ولْيُخْفِ ذكْرَهُ فهو أفضل له ، وخير الذكر الخفي ، وعمل السرّ يفضل عمل العلانية في النّوافل بسبعين ضِعْفاً . انتهى المعيار المُعْرب للونشريسي 1/160 .
· رابعاً مذهب الحنابلة :
1ـ جاء في كتاب المغني لابن قُدامة المقدسي الحنبلي 14 / 159-160
فصلٌ في الملاهي : وهي على ثلاثة أَضْرُبٍ ؛ محرّم ..... و ضربٌ مباح وهو الدُّف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف)) أخرجه مسلم وذكر أصحابنا وأصحاب الشافعي أنه مكروه في غير النكاح لأنه يُروى عن عمر ((أنه كان إذا سمع الدف بعث فنظر فإن كان في وليمة سكت وإن كان في غيرها عمد بالدِّرَّة))(3) وأمّا الضرب به (أي بالدف) للرجال فمكروه على كل حال لأنه إنما كان يَضْرِبُ به النساء والمخنثون المتشبهون بهن ففي ضرب الرجال تشبه بالنساء وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء . انتهى
ـ وقد سُئل الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى :
ما تقول السادة الفقهاء - أحسن الله توفيقهم - فيمن يسمع الدف والشبابة والغناء ويتواجد ، حتى إنه يرقص . هل يحل ذلك أم لا ؟ مع اعتقاده أنه محب لله ، وأن سماعه وتواجده ورقصه في الله ؟. وفي أي حال يحل الضرب بالدف ؟ هل هو مطلق ؟ أو في حالة مخصوصة ؟. وهل يحل سماع الشعر بالألحان في الأماكن الشريفة ، مثل المساجد وغيرها ؟
فقال الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله : إن فاعل هذا مخطئ ساقط المروءة ، والدائم على هذا الفعل مردود الشهادة في الشرع ، غير مقبول القول ، ومقتضى هذا : أنه لا تقبل روايته لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شهادته برؤية هلال رمضان ، ولا أخباره الدينية .
وأما اعتقاده محبة الله عز وجـل ، فإنه يمكن أن يكون محباً لله سبحانه ، مطيعاً له في غير هذا ، ويجوز أن يكون له معامـلة مع الله سبحـانه ، وأعمال صالحة في غير هذا المقام . وأمّا هذا فمعصية ولعب ، ذمّهُ الله تعالى ورسوله ، وكرِهَهُ أهـلُ العلم ، وسّموه: بدعة ، ونهوا عن فعله ، ولا يُتقرب إلى الله سبحانه بمعاصيه ، ولا يُطـاع بارتكاب مناهيـه ، ومن جعل وسيلته إلى الله سبحانه معصيته ، كان حظه الطرد والإبعاد ، ومن اتخذ اللهو واللعب ديناً ، كان كمن سعى في الأرض فساداً ، ومن طلب الوصول إلى الله سبحانه من غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته فهو بعيد من الوصول إلى المراد .
وقد روى أبو بكر الأثرم قال : سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول : " التغبير محدث " ـ ومنه قوم يغبّرون بذكر الله ، أي يهللون ويرددون الصوت بالقراءة ونحوها ـ .
وقال أبو الحارث : سألت أبا عبد الله عن التغبير وقلت: إنه تَرِقُّ عليه القلوب . فقال: "هو بدعة" وروى غيره أنه كرهه ، ونهى عن إسماعه .
وقال الحسن بن عبد العزيز الجروي: سمعت الشافعي محمد بن إدريس يقول: " تركت بالعراق شيئاً يقال له التغبير، أحدثته الزنادقة ، يصدون الناس به عن القرآن" .
وقال يزيد بن هارون : " ما يُغَبِّر إلا فاسق ، ومتى كان التغبــير ؟ " . وقال عبد الله بن داود : " أرى أن يُضْرب صاحب التغبير " . والتغبيرُ: اسم لهذا السماع ، وقد كرهه الأئمة كما ترى . ولم ينضم إليه هـذه المكـروهات من الدفوف والشبابات ، فكيف به إذا انضمت إليه واتخذوه ديناً ؟ فما أشبههم بالذين عابهم الله تعالى بقوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية} قيل المُكاء التصفير ، والتصدية : التصفيق . وقال الله سبحانه لنبيه: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا} .
فأمـا تفصيل هذه المسموعات من الدف والشبابة وسماع كل واحد منهما منفرداً: فإن هذه جميعها من اللعب ، فمن جعلـها دأبه، أو اشتهر بفعلها أو استماعها ، أو قصدها في مواضعها ، أو قصد من أجلها فهو ساقط المروءة ، ولا تقبل شهادته ، ولا يعد من أهل العدالة ، وكذلك الرقّاص .انتهى
· خامساً مذهب الصوفيّة
1ـ عقدَ الشهاب السهروردي في " العوارف " أبواباً في حكم السماع منها الباب الثالث والعشرون في القولِ فيه رداً وإنكاراً قال فيه : ".... وحيث كثُرت الفتنة بطريقِه وزالت العصمة فيه وتصدى للحرص عليه أقوامٌ قلَّت أعمالهم وانفسدت أحوالهم وأكثروا الاجتماع للسماع ..... وتكون الرّغبة في الاجتماع طلباً لتناول الشهوة واسترواحاً إلى الطرب واللهو والعشرة ، ولا يخفى أنّ هذا الاجتماع مردودٌ عند أهل الصدق .
.... ويتّفقُ لهم ذلك اتفاقاً في بعض الأحايين لا أن يجعلوه دأباً وديدناً حتى يتركوا لأجله الأوراد، وقد نُقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال في كتاب آداب القضاء .. وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن .
ثمّ يتابع السهروردي فيقول : .. وإن أنصف المنصف وتفكّر في اجتماع أهل الزمان وقعود المغنّي بدفّه ، والمشبب بشبّابته وتصوّرَ في نفسه هل وقع مثل هذا الجلوس والهيئة بحضرته صلى الله عليه وسلم ؟ وهل استحضروا قوّالاً وقعدوا مجتمعين لاستماعه ؟ لا شكَّ بأن يُنكر ذلك من حاله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولو كان في ذلك فضيلة تُطلب ما أهملوها .
وكثيراً ما يغلط الناس في هذا كلّما احتُجَّ عليهم بالسلف الماضين ، يحتجُّ بالمتأخّرين ! فكان السلف أقرب عهداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديُهم أشبه بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثمّ ذَكَرَ عن عبد الله بن عروة بن الزبير عن جدّته أسماء وعن ابن عمر في الإنكار على من يتساقط عند قراءة القرآن ، وكذا عن ابن سيرين في الإنكار على مثلهم .... فقد تعيّنَ على طائفة الصوفيّة الاجتناب عن مثل هذه الاجتماعات واتقاء مواضع التهم فهذه الآثار دلّت على اجتناب السماع وأخذ الحذر منه . انتهى كلام السهروردي ملخصاً من كتاب " إتحاف السادة المتّقين بشرح إحياء علوم الدين " للزبيدي 6/ 457ـ458
2ـ ونقلَ الشيخ الزبيدي وهو من كبار الصوفية المتأخرين في كتابه"إتحاف السادة المتّقين بشرح إحياء علوم الدين" كلامَ العلاّمة الشافعي الفقيه (البدر ابن جماعة) ، في جواب فتوى رُفِعَت إليه في السماع فقال: ((هذه مسألة خلافيّة .... فلنقتصر على حكاية المذاهب الأربعة : فأمّا أبو حنيفة رحمه الله فمذهبُه فيه أشدُّ المذاهب ، وقوله فيه أغلظُ الأقوال ، وقد صرَّح أصحابُه بأنّ استماعه فسقٌ ، والتلذّذَ به كُفْرٌ ، وليس بعد الكفر غاية . وأمّا مالك رحمه الله فإنه لمّا سُئلَ عنه قال : إنّما يفعله عندنا الفسّاق ، وفي كتُبِ أصحابه إذا اشترى جاريةً فوجدها مغنّية فله أن يردّها بالعيب . وأمّا أحمد بن حنبل رحمه الله فإنّ ابنه عبد الله سأَلَهُ عنه فقال : يا بنيّ الغناءُ يُنبِتُ النفاقَ في القلب، ثم ذكَرَ قولَ مالك إنما يفعله عندنا الفساق . وأمّا الشافعي رحمه الله فقد قال في كتاب القضاء : إن الغناء لهوٌ مكروه يُشبِه الباطل ؛ وقال لأصحابه بمصر :خلَّفتُ ببغداد شيئاً أحدَثَتْهُ الزنادقة يُسمّونه التغبير ، يصدّون به الناس عن القرآن. فإن كان قوله في التّغْبير ـ وهو عبارة عن شعرٍ مُزَهِّدٍ في الدنيا إذا غنّى المغني به ضَرَبَ الحاضرون بقُضُبٍ على نِطع أو مخدّة ضرْباً موافقاً للأوزان الشعريّة ـ فَلَيْتَ شِعْري ماذا يقول في السماع الواقع في زماننا ؟ فمن قال بإباحة هذا النوع فقد أحدَثَ في دين الله ما ليس منه)). انتهى كلام ابن جماعة باختصار من "إتحاف السادة المتّقين" للزبيدي 6/458
3ـ وقال الإمام الجُنيد رحمه الله :
" رأيتُ إبليس في النوم فقلتُ له هل تظْفُر منْ أصحابنا بشيء أو تنال منهم نصيباً ؟
فقال : إنه ليعسر عليَّ شأنهم ويعظم عليَّ أنْ أُصيبَ منهم شيئاً إلا في وقتين ، وقتِ السماع ، و عند النظر(4)، فإني أنال منهم فتنة وأدخُلُ عليهم به ".
4ـ وسُئل أبو علي الروذباري عن السماع ، وكان من شيوخ الصوفيّة ، فقال : ليتنا تخلّصنا منه رأساً برأس .
5ـ وقال الجُنيد : إذا رأيتَ المُريد يحبُّ السماع فاعلم أنّ فيه بقيّةً من البطالة .
6ـ وقال أبو الحارث الأولاسي ، وكان من الصوفية ، رأيتُ إبليس في المنام وكان على بعض السطوح في " أولاس " وعن يمينه جماعة وعن يساره جماعة وعليهم ثيابٌ نظيفة فقال لطائفة منهم قوموا وغنّوا فقاموا وغنّوا ، فاستفزعني طيبه حتى هممتُ أن أطرحَ نفسي من السطح ، ثمّ قال ارقصوا فرقصوا بأطيبَ ما يكون ، ثمّ قال : يا أبا الحارث ما أُصيبُ شيئاً أدخلُ به عليكم إلا هذا .
7ـ وقال الجريري : رأيتُ الجنيد رحمه الله في النوم فقلتُ كيف حالك يا أبا القاسم ؟ فقال : طاحت تلك الإشارات ، وبادت تلك العبارات ، وما نفعنا إلا تسبيحات كنّا نقولها بالغدوات . انتهى المدخل لابن الحاج 3/ 109 .
ـ فهذه فتاوى كبار العلماء من المذاهب الأربعة ومعها كلمات لبعض كبار رجالات التصوف وجميعهم متَّفِقُون على منع مجالس السماع (الإنشاد) ، وكذلك الرقص (الحضرة) وهي أشدُّ منعاً وبخاصّة في المساجد ، وقد وصفوا ذلك بأنّه باطلٌ ومُنكر وضلال وتلاعبٌ بالدِّين وحكموا عليه بالحُرْمة ، وحكموا على فاعل ذلك بأحكام منها فسْقُه وتبدِيعُه ، وسقوط عدالته ، ورفضُ شهادته ، والنهي عن الصلاة خلفه ، ثمّ أفتَوا بوجوب تدخُّل وليّ أمرِ المسلمين لمنع القائمين على هذه المجالس من فعلها وتأديبهم ومعاقبتهم ، وكذلك وجوب الإنكار عليهم من أهل العلم . وصدق القائل :
يا عُصْبَةً مـا ضَرَّ أُمَّةَ أحمد وسعى على إفسادها إلا هِي
طَارٌ ومِزْمارٌ ونغْمَةُ شـادِنٍ أرَأيتَ قَـطُّ عِبادَةً بملاهِي ؟!
ولله درُّ القائل :
أقـالَ اللهُ صَفِّقْ لي وغَنِّي وقُلْ نُكْرَاً وسَمِّ الرَّقْصَ ذِكْراً ؟!
أسألُ الله تعالى أن يهدينا إلى صراطه المستقيم ، ويُجنّبَنا الزلَلَ في الدِّين ، ويرْزُقَنا الصدق في النُّصح والتَّبيين ، والحمدُ لله ربِّ العالمين